الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه رضي الله عنهم
خير من تمثل مبدأ النصرة والانتصار، والدفاع عن حقوق الإنسان، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي أقام مبدأ النصرة والعدل فقال:(انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً)(1) وقال: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(2)
وهو عليه الصلاة والسلام مع كمال شفقته ورحمته بأمته، حيث قال جل شأنه:[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] التوبة 128، وقال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] الأنبياء 107. إلا أنه أشد الناس غضباً إذا انتهكت محارم الله، وطعن في دينه، وانتقص حملته - وعلى رأسهم - صحابته الكرام، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي
…
) دفاعاً عنهم، وقال:(الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي .. ) دفاعاً عنهم، وقال:(من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) دفاعًا عنهم.
وشواهد السيرة أكثر من أن تحصر في دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن صحابته رضي الله عنهم
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم بابن انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً (2444)
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه كتاب الحدود باب كراهية أن يشفع في الحدود (1430)
والذب عن أفضل وخير أمته.
ومن الشواهد:
[1]
في صحيح الإمام البخاري: أن النبي صعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(أوصيكم بالأنصار، فإنّهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)، وقال: الأنصار كرشي وعيبتي، والناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم). (1)
قال الإمام النووي: الأنصار كرشي وعيبتي: قال العلماء معناه: جماعتي وخاصتي الذي أثق بهم، وأعتمدهم في أموري. قال الخطابي: ضرب مثلاً بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، والعيبة: وعاء معروف أكبر من المخلاة، يحفظ الإنسان فيها ثيابه وفاخر متاعه ويصونها، ضربها مثلاً؛ لأنّهم أهل سره، وخفي أحواله (2)
ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)(3)
قال العلامة التوربشتي: الكرش لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " اقبلوا من محسنهم "(3799)
(2)
النووي: شرح مسلم: 16/ 302
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان (3783)
والعرب تستعمل الكرش في كلامهم موضع البطن والبطن مستودع مكتوم السر، والعيبة: مستودع مكنون المتاع، والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، ويحتمل أنه ضرب المثل بهما إرادة اختصاصهم به في أموره الظاهرة والباطنة (1).
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أبغضهم أبغضه الله): قال ابن التين: يريد حب جميعهم وبغض جميعهم، لأن ذلك إنما يكون للدين، ومن أبغض بعضهم لمعنى يسوغ له البغض فليس داخلاً في ذلك.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وهو تقرير حسن (2)
وتعقبه الإمام العيني وقال: وقال غيره: هذا مما لا يجوز، فهو إثم، قال الدراوردي: هو من الكبائر وليس من النفاق (3)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم):
فاقبلوا من محسنهم: أي إن أتوا بعذر مما صدر منهم.
وتجاوزوا عن مسيئهم: أي إن عجزوا عن عذر، والتجاوز عن المسيء مخصوص بغير الحدود وحقوق الناس (4)
قال الإمام ابن حزم: وكيف يتجاوز عن مسيء الأنصار، وقد قال
(1) المباركفوي: تحفة الأحوذي: 10/ 375
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 142
(3)
العيني: عمدة القاري: 11/ 501
(4)
المباركفوري: مرجع سابق: 10/ 375
النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره .. )؟
قال: إن جميعها كلها حق ممكن ظاهر، وذلك ما كان من إساءة لا تبلغ منكراً وجب أن يتجاوز فيها عن الأنصار في التعزير، ولم يخفف عن غيرهم، وما كان من حد خفف أيضاً عن الأنصار، ما لا يخفف عن غيرهم، مثل أن يجلد الأنصاري في الخمر بطرف الثوب، وغيره باليد أو بالجريد والنعال (1)
[2]
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: يا رسول الله، إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر (ثلاثاً) ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله: والله أنا كنت أظلم (مرتين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي (مرتين) فما أوذي بعدها (2)
(1) ابن حزم: المحلى: 13/ 232
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة بابن قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليلاً"(3661).
قال الحافظ ابن حجر: قوله (فما أوذي بعدها): أي لما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه.
ويظهر من سياق هذه القصة ظهوراً واضحاً دفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه - والكل أصحابه - ولذا جاء في بعض الروايات: فجلس عمر فأعرض عنه، ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر، فأعرض عنه، ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه، فقال: يا رسول الله ما أدرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ فقال: أنت الذي اعتذر أبو بكر فلم تقبل منه.
وقال الحافظ ابن حجر: ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني في نحو هذه القصة: يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل، فقال: والذي بعثك بالحق ما من مرة يسألني إلا وأنا استغفر له، وما خلق الله من أحد أحب إليّ منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك (1)
فالشيخان لهما منزلة عظيمة في قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك لما سأله عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة، فقلت: من الرجال؟ فقال: أبوها، قلت ثم من؟ فقال: عمر بن الخطاب (2)
فهما كعيني الرأس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه رضي الله عنهم على حفظ
(1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 31، العيني: عمدة القاري: 11/ 397.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلاً "(3662)
حقوق بعضهم بعضاً، وعلى بيان منزلة كل واحد منهم، وخاصة أهل السبق والإيمان منهم.
ولأبي بكر الصديق رضي الله عنه السبق، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: هل قلت في أبي بكر؟ قال: نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال حسان:
وثاني اثنين في الغار وقد
…
طاف العدو بهم إذا صعدوا الجبلا
…
وكان حب رسول الله قد علموا
…
من البرية لم يعدل به رجلا
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: صدقت يا حسان.
وروي عن أبي الدرداء قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر، فقال:
يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر (1)
وقال أبو بكر محمد بن عبد الخالق:
هما ضجيعاه معاً في حضرته
…
وخير من قام له في قبلته
…
وصليا من بعده لأمته
…
ووفيا من بعده بذمته
…
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1356، 1358
وسلكا في الحكم قصد سيرته (1)
وقال حسان رضي الله عنه في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:
ثلاثة برزوا بفضلهم
…
نضرهم ربهم إذا نشروا
…
فليس من مؤمن له بصر
…
ينكر تفضيلهم إذا ذكروا
…
عاشوا بلافرقة ثلاثتهم
…
واجتمعوا في الممات إذ قبروا
ولذا استفاد عمر رضي الله عنه من هذا الدرس، فها هو يبلغه الخبر على رد رجل على الحبر عالم القرآن والسنة ابن مسعود رضي الله عنه، فيضربه عمر إجلالاً وإعظاماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الذهبي: حدثنا سيار عن أبي وائل: أن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، قال: إن بساقي حموشة، وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل ويقول: أترد على ابن مسعود (2)
وهذا هو ما استفاده وتعلمه الصحابة رضي الله عنهم: فكان حذيفة رضي الله عنه يذكر أشياء قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك فيأتون سلمان رضي الله عنه فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون لحذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1454 - 7/ 1408
(2)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 216
ولا كذبك فأتي حذيفة سلمان فقال: يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال، ورجالاً بغض رجال، وحتى توقع اختلافاً وفرقه، ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال:(أيما رجل من أمتي سببته سبة، أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة العالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة)، والله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر.
قال العلامة السندي: والحاصل: أن سلمان ما رضي بإظهار ما صدر في شأن الصحابة: لأنه ربما يخل بالتعظيم الواجب في شأنهم بما لهم من الصحبة.
يُنبه إلى أنه قد ورد في الدفاع ما لا يصح، كما روي: أنه قدمت جنازة رجل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: فقال: إن كان يبغض عثمان فأبغضه الله. أخرجه الترمذي في جامعه، وفي سنده محمد بن زياد وهو ضعيف جداً (1) وفي الصحيح غنية عن الضعيف.
[4]
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك خلف علياً بالمدينة، فقالوا: كره صحبته، فبلغ ذلك علياً فشق عليه، قال: فتبع النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحقه فقال: يا رسول الله خلفتني مع الذراري والنساء حتى قالوا: ملّه وكره
(1) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 194
صحبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة موسى من هارون، إلا أنه لا نبي بعدي فقال على: رضيت رضيت (1)
فهنا رد النبي صلى الله عليه وسلم عن علي وطيّب خاطرة وبيّن منزلته ومكانته وفضله رضي الله عنه، ومعنى قوله: أن تكون مني بمنزله موسى من هارون: أي نازلاً مني منزله هارون من موسى.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استدل بهذا الحديث على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة، فإن هارون كان خليفة موسى.
وأجيب: بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لا بعد موته؛ لأنه مات قبل موسى باتفاق، أشار إلى ذلك الخطاّبي (2)
وكذا جرت للإمام علي رضي الله عنه حادثة، فدفع عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إذا لقينا رسول الله أخبرناه بما صنع علي،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب مناقب علي بن أبي طالب (3706)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل النبي الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب (2404)، وانظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 4156، النووي: شرح مسلم: 15/ 184، العيني: عمدة القاري: 11/ 441، المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 220.
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 93
وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر بدءوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله ألم تر إلى ما صنع علي صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم والغضب يُعرف في وجهه فقال: ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن علياً مني وأنا منه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان (1)
ومعنى قوله: علي مني وأنا منه: أي في النسب والصهر والمسابقة والمحبة، وغير ذلك من المزايا، ولم يرد محض القرابة، وإلا فجعفر شريكه فيها (2).
يُنبه إلى أنه جاء في هذا الحديث زيادة لا تصح وهي قوله (وهو ولى كل مؤمن من بعدي)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن، وكل مؤمن وليه في المحيا والممات. ثم قال: وقول القائل: علي ولي كل مؤمن بعدي كلام يمتنع نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه
(1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب في مناقب علي بن أبي طالب (3721)
(2)
المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 198
إن أراد الموالاة لم يحتج أن يقول: بعدي، وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول: وال على كل مؤمن (1)
وعن البراء قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشين، وأمر على أحدهما علي وعلى الآخر خالد بن الوليد، وقال: إذا كان القتال فعليّ، قال: فافتتح علي حصناً فأخذ منه جارية، فكتب معي خالد كتاباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشي به، قال: فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ الكتاب فتغير لونه ثم قال: ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله؟ قال: قلت أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، إنما أنا رسول فسكت. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (2)
وهنا حديث يحتاج إلى نوع بيان:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خالد ليقبض الخمس، - خمس الغنيمة - وكنت أبغض علياً، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا بريدة أتبغض علياً؟ قلت: نعم. قال: لا
(1) المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 200
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب (3734)، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: مرجع سابق: 8/ 1458
تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك (1)
وفي رواية عند الإمام أحمد: قلت يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تر إلى هذه الوصيفة، فإنّها صارت في الخمس، ثم صارت في آل محمد، ثم صارت في آل علي فوقعت بِها. وفي رواية: فإذا النبي قد أحمر وجهه يقول: (من كنت وليه فعلي وليه).
وهنا لماذا أبغض بريدة علياً؟ قال الحافظ ابن حجر: قال أبو ذر الهروي: إنما أبغض الصحابي علياً لأنه رآه أخذ من المغنم، فظن أنه غلّ، فلما أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنّه أخذ أقل من حقه أحبه.
قال الحافظ: وهو تأويل حسن، ولكن يبعده صدر الحديث الذي أخرج أحمد، فلعل سبب البغض كان لمعنى آخر، وزال بنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن بغضه (2)
وأخرج الإمام اللالكائي بسنده: أنه وقع بين أسامة بن زيد وعلي تنازع قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكرت ذلك له فقال: يا علي: - يقول هذا لأسامة - فو الله إني لأحبه، وقال لأسامة: - يقول هذا لعلي - فمن كنت
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب بعث علي بن أبي طالب (3734)، اللالكائي: مرجع سابق: 8/ 1458
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 665، العيني: عمدة القاري: 12/ 319، انظر: القرطبي: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 122
مولاه فعلي مولاه (1) وكذا أخرج الإمام أحمد شيئاً من هذا.
قلت: وهذا كله يدل على تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، لحفظ حقوق بعضهم بعضاً، وأن الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم، بشر غير معصومين، وما جرى منهم من سيئات فهي مغمورة في بحار حسناتهم.
[4]
ومن إنصاف النبي صلى الله عليه وسلم وعدله، ودفعه عن أصحابه رضي الله عنهم وإعطاء كل ذي حق حقه:
ما ورد أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)(2)
والسب الذي ورد في الحديث هو قول خالد رضي الله عنه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بِها، فلما بلغ النبي ذلك، قال ما قال عليه الصلاة والسلام (3)
كلاهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له من الفضل والمنزلة والمكانة ماله، ولكن لما كان عبد الرحمن بن عوف له السبق بالهجرة، الذين قال الله تعالى عنهم [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] الحديد 10. كان
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: شرح 8/ 1453
(2)
انظر: النووي: شرح مسلم: 16/ 327، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 42
(3)
انظر: الشوكاني: فتح القدير: 4/ 232
وجه الدفع عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أسبق، ولذا جاء في رواية: كان بين خالد وابن عوف شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(دعوا لي أصحابي أو أصيحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً لم يدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه).
وعن ابن أبي أوفى قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله، فقال: يقعون فيّ فأرد عليهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تؤذوا خالداً، فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار)(1)
والخطاب في الحديث للجماعة فقال: (لا تسبوا أصحابي .. ) ولذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث لا يدل على أن المخاطب خالد، ولا يبعد أن يكون الخطاب لغير الصحابة، ويدخل فيه خالد، لأنه ممن سب (2)
قال الحافظ ابن حجر معقباً: وغفل من قال: إن الخطاب بذلك لغير (من) الصحابة، وإنما المراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلاً لمن سيوجد، منزلة الموجود للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه: وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد، وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق.
وقال: ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بذلك عن
(1) انظر: ابن كثير: البداية والنهاية: 77/ 154، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 127، العيني: عمدة القاري: 11/ 406
(2)
العيني: مرجع سابق: 11/ 406
سب من سبقه، يقتضي زجر من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب أولى (1)
ومن أوجه الدفاع عن خالد: ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما ينتقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، قد احتبس أدراعه واعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها (2).
قال العلامة العيني: ومن فوائد الحديث: الاعتذار بما يسوغ الاعتذار به (3).
ففي الحديث ذكر بعض من منع الصدقة وهم (ابن جميل وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب).
واختلف العلماء في المقصود والمراد من الصدقة:
فقيل: هي الصدقة الواجبة، وقيل: هي صدقة التطوع، وهذا رجحه جماعة من العلماء؛ تحسيناً للظن بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يظن بهم منع الواجب.
(1) ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 42
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله (1468)
(3)
العيني: عمدة القاري: 6/ 492
فعلى هذا القول:
فعذر خالد ظاهر؛ لأنه أخرج ماله في سبيل الله، فما بقي له مال يحتمل المواساة.
والعباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هي علي " وفيه تنبيه على سبب ذلك وهو قوله (إن العم صنو أبيه) تفضيلاً وتشريفاً.
وقيل: معنى: (علي): أي هي عند قرض؛ لأنني استسلفت منه صدقة عامين.
وأما ابن جميل: فقيل: كان منافقاً ثم تاب بعد ذلك، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله ورسوله).
قال الحافظ ابن حجر: وإنما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنه كان سبباً لدخوله في الإسلام فأصبح غنياً بعد فقره، بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته الغنائم (1).
ولذا فالمعنى: أنه لم يكن له عذر في منعها.
وأما على القول الأول: وهو الذي رجحه المحققون من أهل العلم: أن المقصود بالصدقة في الحديث، هي الصدقة الواجبة، ويدل عليها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لها السعاة ولم يكن يبعث السعاة إلا في الصدقة الواجبة.
ومن هنا يتبين وجه الدفاع من النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه وهو بيّن في
(1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 390
قوله: (فإنكم تظلمون خالداً) أي: بنسبتكم إياه للمنع، إذ كيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله في سبيل الله تعالى.
وقد بيّن العلماء وأفاضوا في سبب منع خالد، واعتذروا له رضي الله عنه وأرضاه (1).
[5]
ومن شواهد دفاع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ودفعه عن أصحابه وأهل بيته، دفعه عن زوجه وحبيبته أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق الطاهرة العفيفة المبرأة من فوق سبع سماوات، ووجوه الدفاع والدفع متعددة:
أ/ أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث ما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليّ ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ
(1) انظر: مراجع سابقة: النووي: شرح مسلم: 7/ 61، الفاكهاني: رياض الأفهام: 3/ 330، ابن الملقن: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: 5/ 78، ابن دقيق: إحكام الإحكام: 2/ 193، السفاريني: كشف اللثام: 3/ 434، العثيمين: تنبيه الأفهام: 3/ 398، البسام: تيسير العلام: 1/ 388
الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها (1)
وفي رواية: فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة، فقلت: أتوب إلى الله تعالى.
وفي المسند: فقالت أم سلمة: أعوذ بالله أن أسوءك في عائشة. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها (2)
وفي روايات هذا الحديث في الصحيح:
ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر، فكلمته فقال: يا بُنية: ألا تحبين من أحب؟ قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن: ارجعي إليه، فأبت أن ترجع، فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تكلمه، قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنّها بنت أبي بكر (3)
والمقصود من قولهن رضي الله عنهن: ينشدنك العدل: أي يسألنك
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (3775)
(2)
أخرجه أحمد في المسند: انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 115، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 136
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الهبة باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض (2581)
العدل، والمراد به: التسوية بينهن في كل شيء من المحبة وغيرها (1)
قال العلماء: يستفاد من الحديث، أنه لا حرج على المرء في إيثار بعض نسائه بالتحف، وإنما اللازم العدل في المبيت والنفقة، ونحو ذلك من الأمور اللازمة، كذا قرره ابن بطال عن المهلب، وتعقبه ابن المنير، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك وإنما فعله الذين أهدوا له، وهم باختيارهم في ذلك، وإنما لم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس من كمال الأخلاق التعرض لمثل هذا، على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بأنه كان يشركهن في ذلك، ولم تقع المنافسة إلا لكون العطية تصل إليهن من بيت عائشة (2)
وفي رواية الإمام مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: فأحبي هذه، فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في عائشة (إنّها ابنة أبي بكر) فيه الإشارة إلى كمال فهمها، وحسن نظرها. وقيل: أي إنّها شريفة عاقلة عارفة كأبيها. وقيل: هي أجود فهماً وأدق نظراً منها.
(1) قال الإمام النووي: وأما محبة القلب فكان يحب عائشة أكثر منهن، وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكلف فيها، ولا يلزمه التسوية فيها، لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال. النووي: شرح مسلم: 15/ 216
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 5/ 246، العيني: عمدة القاري: 9/ 396
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (2442)، انظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1512
وفي الحديث (فسبتها) تقول عائشة: وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن انتصر (1).
قال الإمام النووي: اعلم أنه ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه، ولا غيرها، ولا يحل اعتقاد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين، وإنما فيه أنّها انتصرت لنفسها (2).
قال الحافظ ابن حجر: لكن روى النسائي وابن ماجه مختصراً من طريق عبد الله البهي عن عروة عن عائشة قالت: دخلت علي زينب بنت جحش فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها. قال: فيمكن أن يحمل على التعدد. وقال العلامة العيني: يحتمل أن تكون هذه قضية أخرى (3).
وروى الإمام أحمد في مسنده: قالت عائشة: ما علمت حتى دخلت عليّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبك إذا أقلبت لك بنية أبي بكر ذريعتيها، ثم أقبلت إليّ فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فمها
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة (2442).
(2)
النووي: شرح مسلم: 15/ 218، ابن حجر: فتح الباري: 5/ 246
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 5/ 246، العيني: عمدة القاري: 9/ 395
ما ترد علىّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه (1).
ومعنى قولها: أحسبك إذا أقلبت لك ذريعتيها، أي ساعديها، والمعنى: أنك تسمع لقولها، وتعمل بإشارتها.
قال العلماء: وإنما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتصار من زينب لكونه رآها زادت في الاعتداء، وعائشة ساكنة لا ترد عليها (2).
وقال الإمام الخطابي: في حديث أبي داود (فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت فقال لعائشة: سبيها فسبتها فغلبتها: فيه من العلم إباحة الانتصار، بالقول ممن سبك من غير عدوان في الجواب (3).
ومع كل مجريات القصة فإن عائشة أنصفت أم المؤمنين زينب رضي الله عنهن، فقالت مظهرة مزيتها وفضلها: ولم أر امرأة خيرا منها، وأكثر صدقة، وأوصل للرحم، وأبذل لنفسها في كل شيء يتقرب به إلى الله عز وجل من زينب، ما عدا سورة من غرب حد كان فيها توشك منها الفيئة.
والغرب: الحدة، والمعنى: أن جميع خصالها محمودة ما عدا سورة من غرب، والسورة: الثوران وعجلة الغضب، وأما الحدة: فهي شدة الخلق وثورانه، والمعنى: أنّها كانت كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب تسرع منها الفيئة، أي الرجوع، أي: إذا وقع منها ذلك رجعت منه
(1) أخرجه أحمد في المسند، انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 114
(2)
البنا: الفتح الرباني: 22/ 114
(3)
الخطابي: معالم السنن: 4/ 113
سريعاً ولا تصرُّ عليه (1).
ب: ومن أعلى أوجه الدفع والدفاع عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وسلم: ما وقع في حادثة الإفك، وأنه لما خاض في عرضها الخائضون، قام النبي صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر، فقال:(يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما يدخل على أهلي إلا معي)(2).
وجاء في رواية: (أشيروا علىّ في أناس أبنوا أهلي). ومعناه: عابوا أهلي، أو اتّهموا أهلي. قال الإمام ابن الجوزي: أي رموا أهلي بالقبيح.
وقال في رواية: (في قوم يسبون أهلي)، وزاد:(ما علمت عليهم من سوء قط).
يقول الحافظ ابن حجر: ومن فوائد الحديث: استصحاب حال من اتّهم بسوء، إذا كان قبل ذلك معروفاً بالخير، إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك (3).
ولاشك أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حق عائشة: (ما علمت عن أهلي إلا خيراً)، أن فيه تزكية لعائشة.
(1) البنا: الفتح الرباني: 22/ 114
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي: باب حديث الإفك (4141)
(3)
ابن حجر: فتح الباري:7/ 498، 8/ 327 - 337
قال الحافظ ابن حجر: وفيه استعمال (لا نعلم إلا خيراً) في التزكية (1)
فالخيرية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)(2)، تقتضي الوقوف في وجه من يطعن في عرض أهله، والذب والدفاع، وبذل الطاقة والوسع لتبرئتهم.
ولذا تجد في ثنايا قصة الإفك، أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار وسأل، فاستشار علياً وأسامة، وسأل الجارية وسأل زينب:
فأما أسامة فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيراً.
وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك فقالت الجارية لما سئلت، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه غير أنّها جارية حديثة السن تنام من عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.
وفي رواية قالت: ما علمت عنها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر، أي: كما لا يعلم الصائغ من الذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب.
وفي رواية قالت: والله لعائشة أطيب من الذهب، ولئن كانت صنعت ليخبرنك الله.
يا لها من جارية، أنوار الحكمة فيها سارية، وأقوال الحق والصدق
(1) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 337
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه كتاب فضائل الصحابة المناقب باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3904)
على لسانها جارية رضي الله عنك إذ قلت ما قلت ورفع الله قدرك إذ لأم المؤمنين نصرت، ولكرب النبي صلى الله عليه وسلم فرجت، ولقلوب أبنائها بعده أرحت.
وأما زينب بنت جحش فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً (1)
قال الإمام ابن القيم: فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها، وسأل عنها وبحث واستشار، وهو أعرف بالله، وبمنْزلته عنده، وبما يليق به، وهلاّ قال: سبحانك هذا بُهتان عظيم، كما قال فضلاء الصحابة؟
فالجواب: أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سبباً لها، وامتحاناً وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بِهذه القصة أقواماً ويضع بِها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيماناً، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي شهراً في شأنها، لا يوحى إليه في ذلك شيء، لتتم حكمته التي قدرها وقضاها، وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحسن الظن بالله ورسوله، وأهل بيته والصديقين من عباده، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم منها ومن أبويها، والافتقار إلى الله والذلة له، وحسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من
(1) انظر: ابن حجر: فتح الباري: 7/ 498، 8327 وما بعده، العيني: عمدة القاري: 9/ 396، النووي: شرح مسلم: 15/ 218 وما بعده.
حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفت هذا المقام حقه، لما قال لها أبويها: قومي إليه، وقد أنزل الله عليه براءتها، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.
وقال رحمه الله: وأيضاً فكان من حكمة حبس الوحي شهراً، أن القضية محّصت وتمحضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله فيها، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه، وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء.
وأيضاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى، والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بِها سوءاً قط، وحاشاه وحاشاها فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه وثقته به وفى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه، حتى جاء الوحي بما أقر عينه، وسر قلبه، وعظم قدره، وظهر لأمته احتفال ربه به، واعتناؤه بشأنه (1).
وما جاء عن علي رضي الله عنه حينما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لم يضيق الله
(1) ابن القيم: زاد المعاد: 3/ 261 - 263
عليك والنساء سواها كثير، لم يكن هذا عداوة ولا بغضاء، ولكن لما رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وتعلقه به، أراد إراحة خاطره، وتسهيل الأمر عليه. قاله العلامة العيني (1).
وقال الإمام ابن أبي جمرة: ولم يقل ذلك علي كراهية في عائشة، وإنما قصد الأخذ بخاطره صلى الله عليه وسلم فإنه كان شديد الغيرة واعتراه من القلق ماأوجبه أن يشير عليه براحته عنه إما بالطلاق، وإما بالبحث، حتى تتحقق البراءة، ولعلمه أن بريرة لا تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة أحال عليها بقوله (وأسال) وفي رواية: وسل الجارية تصدقك: أي: تخبرك بالصدق (2)
وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبد الملك، أبلغك أن علياً كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك - أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - أن عائشة قالت لهما: كان علي مسلماً في شأنها فراجعوه فلم يرجع، وقال: مسلماً بلا شك، وعليه كان في أصل العتيق كذلك (3)
روي قول أم المؤمنين عائشة: " كان علي مسلماً في شأنها " على ثلاثة أوجه:
(1) عمدة القاري: 12/ 177
(2)
ابن أبي جمرة: مختصر صحيح البخاري ِ: 158
(3)
أخرجه البخاري في صحيح كتاب المغازي باب حديث الإفك (4142)
1 -
مسلِّما: بالكسر.
2 -
مسلَّما: بالفتح. قال الإمام العيني: والمعنى متقارب، وتعقبه الحافظ ابن حجر وقال: وفيه نظر، فرواية الفتح، تقتضي سلامته من ذلك، وراية الكسر، تقتضي تسليمه لذلك (1).
3 -
مسيئاً: يعني من الإساءة: قال الإمام ابن التين: وفيه بُعد.
قال الحافظ ابن حجر: بل هو الأقرب من حيث نقل الرواية. وقال: ويقويه ما رواه ابن مردويه المذكورة بلفظ: " إن علياً أساء في شأني والله يغفر له "، وإنما نسبته إلى الإساءة؛ لأنه لم يقل كما قال أسامة (أهلك ولا نعلم إلا خيراً).
وقال رحمه الله: وقد حرّف بعض من لا خير فيه من الناصبة قول عائشة، تقرباً لبني أمية فبيّن الزهري أن الحق خلاف ذلك، فأخرج يعقوب بن شيبة في مسندة عن الحسن بن علي الحلواني عن الشافعي قال: حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبت هو علي، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أبي، قال: كذبت هو علي، فقال: أنا أكذب لا أبا لك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره: عبد الله بن أبي،
(1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 501
فقال: نحن هيجنا الشيخ (1).
قال الإمام البخاري: فراجعوه فلم يرجع وقال: مسلما بلا شك فيه.
قيل: المراجعة في ذلك وقعت من هشام بن يوسف، وهو الذي أملى من حفظه، ورجحه الحافظ ابن حجر.
وقيل: المراجعة وقعت من الزهري، أي: فراجعوا الزهري، في هذه المسألة فلم يرجع، أي فلم يجب بغير ذلك، وهو قول الكرماني، رجحه العلامة العنيني.
وقول الإمام الزهري، مسلماً لا فيه: أي قال الزهري: قالت عائشة: قال علي بلفظ مسلماً، لا بلفظ مسيئاً (2)
ومع أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، هي المتهمة إلا أن أحداث القصة أظهرت أوجهاً عظيمة لأم المؤمنين في الذب والدفع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:
قالت رضي الله عنها: فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت: أتسبين رجلاً شهد بدراً.
وفي رواية: أن أم مسطح عثرت ثلاث مرات كل ذلك تقول: تعس
(1) ابن حجر: مرجع سابق: 7/ 502
(2)
مراجع سابقة.
مسطح، وإن عائشة تقول لها " أي أم تسبين ابنك " وأنها انتهرتها في الثالثة، فقالت: والله ما أسبه إلا فيك.
وعند الطبراني: فقلت أتسبين ابنك وهو من المهاجرين الأولين. وفي رواية: فقلت: أتقولين هذا لابنك وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ففعلت مرتين، فاعدت عليها، فحدثتني بالخبر.
وفي هذه المقطوعة بيان فضيلة أهل بدر وشرفهم، ووجوب الذب عنهم، كما فعلت أم المؤمنين، رضي الله عنها، في ذبّها عن مسطح، وهذا هو المنهج النبوي الذي كان قائماً على حسن الظن والذب عن المؤمنين.
وكذا فإن أم مسطح لم تحاب ولدها في وقوعه في حق عائشة، بل تعمدت سبه على ذلك دفاعاً عن عائشة، وهي قالت ما قالته إما عمداً لتتوصل إلى إخبار عائشة بما قيل فيها، وهي غافلة، أو يكون قولها ذلك وقع اتفاقاً، أجراه الله تعالى على لسانِها، لتستيقظ عائشة من غفلتها عما قيل فيها، وهذا فيه فضيلة قوية لأم مسطح (1)
قال الإمام الذهبي: إياك يا جري أن تنظر إلى هذا البدري شزراً؛ لهفوة بدت منه، فإنّها قد غُفرت، وهو من أهل الجنة، وإياك يا رافضي أن تلوّح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتِها فتجب لك النار (2) لكن ما جرى من أم مسطح مع ابنها كان فعلاً طبيعياً، وردة فعل عادية، تأثراً مع
(1) ابن حجر: فتح الباري: 8/ 322 - 338، العيني: عمدة القاري: 9/ 529 - 530
(2)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 78
مجريات الحدث.
قال العلامة العيني: وفي الحديث كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا كان آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه (1).
وأما بعد أم مسطح، فلا وألف لا؛ لأن النبي الأكرم قال:" وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
ومن أوجه دفاعها رضي الله عنها، ما قالته في شأن حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي خاض مع الخائضين ثم حُدّ، والدليل على خوضه مع قالة الإفك، لما قال:
" حصان رزان ما تزن بريبة
…
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل) فقالت عائشة: لست منهم. تعني: لم تصبح غرثان من لحوم الغوافل، أشارت إلى أنه خاض في الأفك ولم يسلم من أكل لحوم الغوافل. ومع ذلك كانت تنافح عنه وتذب عن عرضه: فعن هشام عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عروة قال: ذهبت لأسب حسان عند عائشة فقالت: لا تسبه، فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناها: يدافع أو يرامي.
(1) العيني: عمدة القاري: 9/ 259
قال الحافظ ابن حجر: ووقع في رواية أبي سلمة المذكورة: قالت عائشة: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله) قالت وسمعته يقول: (هجاهم حسان فشفى وأشفى)(1).
وقال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال: (فإن أبي ووالدتي وعرضي
…
لعرض محمد منكم فداء)، وكانت تقول: كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)
- وأما صفوان بن المعطل السلمي الذكواني رضي الله عنه فكان صحابياً فاضلاً من سادات المسلمين، أسلم قبل المريسيع، وأول مشاهدة قيل: الخندق، وقيل: المريسيع، وقتل شهيداً، وكان شجاعاً خيراً شاعراً.
روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقالت: فبلغ الأمر ذلك الرجل فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف أنثى قط. والكنف: الثوب الساتر.
واختلف العلماء في حاله:
فقيل: كان حصوراً، لم يكشف كنف أنثى قط، ذكره الإمام ابن العربي، وقد سئل عنه فوجدوه لا يأتي النساء. ولكن قال الحافظ ابن حجر:
(1) ابن حجر: فتح الباري: 6/ 639 - 640
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 8/ 344
ما جاء عن ابن إسحاق: أنه كان حصوراً، لم يثبت.
وقيل: كان متزوجاً: كان له زوجة. أخرجه أبو داود والبزار، وقال البزار: هذا الحديث كلامه منكر، وليس للحديث عندي أصل.
وخالفه الحافظ ابن حجر وذكر متابعة للحديث وقال: وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلاً.
واختلف العلماء في الحديثين:
فمنهم من ضعف حديث أبي داود والبزار، لأنه مخالف لحديث عائشة في قوله:" والله ما كشفت كنف أنثى قط ".
ومنهم من أوّل قول صفوان " والله ما كشفت كنف أنثى قط " أي: بالزنا، ورد الحافظ ابن حجر وقال: وفي نظر؛ لأنه جاء في رواية: إن الرجل الذي قيل فيه ما قيل، لما بلغه الحديث، قال: والله ما أصبت امرأة قط حلالاً ولا حراماً.
ومنهم من حمل النفي المذكور، على ما قبل قصة الإفك، وأنه لا مانع أن يتزوج بعد ذلك (1).
ما أجملها من كلمات، وأشرفها من تزكيات:"ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عنه إلا خيرا ".
(1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 316، العيني: عمدة القاري: 9/ 251، الذهبي: سير أعلام النبلاء: أعلام النبلاء: 3/ 497، ابن كثير: البداية والنهاية: 8/ 139
وها هو النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام: يوصي عليا رضي الله عنه في حياته، بأم المؤمنين عائشة فيقول لعلي: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، فقال: أنا يا رسول الله، قال: نعم، قال: فأنا أشقاهم يا رسول الله، قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها (1).
وكان ما كان من أحداث معركة الجمل، ثم ردها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، إلى المدينة معززة مكرمة رضي الله عنها وأرضاها.
[6]
ومن أوجه الدفاع عن الصحابة من النبي الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام:
ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم عن علي، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير - وكلنا فارس - قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بِها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا الكتاب، فقالت: ما هنا كتاب، فأنخناها، فالتمسنا فلم نجد كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء فأخرجته، فانطلقنا بِها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني لأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله مالي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بِها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته ما يدفع
(1) أخرجه أحمد في المسند: انظر: البنا: الفتح الرباني: 23/ 137
الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً) فقال: إنه قد خان الله ورسوله، فدعني لأضرب عنقه، فقال: أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم (1)
وأخرج الإمام مسلم عن أبي الزبير عن جابر: أن عبداً لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية.
فحاطب بن أبي بلتعة من مشاهير المهاجرين، شهدا بدراً والمشاهد، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب مصر سنة ست من الهجرة فقال له المقوقس: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبياً؟ قال: بلى، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلدته؟ قال له حاطب: فعيسى بن مريم رسول الله حين أراد قومه صلبه لم يدع عليهم حتى رفعه الله، قال: أحسنت أنت حكيم جئت من عند حكيم، وبعث معه هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها: مارية القبطية وأختها شيرين وجارية أخرى، توفي سنة ثلاثين بالمدينة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنهم (2).
أهل بدر، أهل الفضل والمنزلة والقدر، أهل بدر مفضلون كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، رفع الله تعالى قدرهم في الأرض
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي باب فضل من شهد بدراً (3983)
(2)
أخرجه مسلم (2495)، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 267، النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 163، ابن كثير: البداية والنهاية: والنهاية: 3/ 351 - 361، 7/ 147، بحرق: حدائق الأنوار 348
والسماء، وعظم شأنهم. لحقوا بركب الأصفياء، فكان لهم من الله سبحانه جزيل العطاء (لن يدخل النار أحد شهد بدراً) فما أعظم الجزاء.
قال الإمام ابن حزم وهو يعتذر لبعض الصحابة رضي الله عنهم:
وأما قدامة بن مظعون وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وأبو بكرة رضي الله عنهم فأفاضل أئمة عدول.
أما قدامة فبدري مغفور بيقين مرضي عنه، وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه وأسقط عنه الملامة، ففرض علينا أن نرضى عنه، وأن لا نعدد عليه شيئاً، فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل، وعندنا وبقوله عليه الصلاة والسلام (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)
وأما المغيرة بن شعبة: فمن أهل بيعة الرضوان، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، فالقول فيه كالقول في قدامة.
وأما سمرة بن جندب فأحدي وشهد المشاهد بعد أحد، وهلم جرا، والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة (1)
(1) ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام: 1/ 218
وهذا كله يدل على فضل أهل بدر، ومن هنا دفع النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب بقوله (صدق، ولا تقولوا له إلا خيرا) وأردفه بقوله: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر. فدل ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة (1).
قال الإمام ابن القيم: وما فعله حاطب في ظاهره خيانة لله والرسول والمؤمنين كما قال عمر: إلا أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بشهوده بدراً، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها رضاه بِها وفرحه بِها ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات الوحيين لصحة القلب ومرضه.
ثم قال: فتأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر، وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره لله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته، وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم، ولم يثن ذلك عنان عزمه، ولا فلّ من حد
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 68
إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم، فلما جاء مرض الجس، برزت إليه هذه القوة، وكان البحران صالحاً، فاندفع المرض، وقام المريض كأن لم يكن به قَلَبَة، ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه، وقهرته قال الله تعالى لمن أراد قصده، لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وقد اختلف العلماء في توجيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم):
قال الإمام ابن القيم: أشكل على كثير من الناس معناه، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم، وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع (1)
تحرير محل النزاع: قال الحافظ ابن حجر: اتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها (2).
وقال الإمام النووي: قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا، ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد، وأقامه عمر على بعضهم، قال: وضرب
(1) ابن القيم: زاد المعاد: 3/ 423 - 426، ابن القيم: الفوائد: 34
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 356
النبي صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً (1).
وأما توجيه الحديث:
فذهب البعض: إلى أن مراد الحديث هو: أن الذنوب تقع منهم، لكنها مقرونة بالمغفرة؛ تفضيلاً لهم على غيرهم، بسبب ذلك المشهد العظيم وهو يوم بدر.
وذهب البعض الآخر: إلى أن الله تعالى عصمهم من الذنوب، فلا يقع منهم بعد بدر ذنباً.
وقال البعض: إن المراد بقوله " اعملوا ": متعلق بالماضي، لا بالاستقبال، وتقديره: أي عمل كان لكم فقد غفرته، وضُعف هذا الوجه بقصة حاطب، فإن ذنبه واقع بعد بدر، لا قبلها، وهو مغفور له (2)
والذي يترجح - والعلم عند الله تعالى -: ما قاله الإمام ابن القيم: فالذي نظن في ذلك - والله أعلم - أن هذا خطاب لقوم قد علم الله أنّهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار، وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم،
(1) النووي: شرح مسلم: 16/ 289
(2)
مراجع سابقة: العيني: عمدة القاري: 12/ 33
ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة (1)
[7]
وفي بيان الفضائل ووجه من أوجه الدفاع:
ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي، أنا أصغرهما، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال: بضعاً أو قال: ثلاثة وخمسين رجلاً من قومي، قال: فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأسهم لنا أو قال: أعطانا منها، وقسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر أصحابه، قسم لهم معهم، فكان ناس من الناس يقولون لنا، يعني: لأهل السفينة: نحن سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء فقال عمر حين رأى أسماء من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس قال عمر: الحبشية هذه البحرية هذه، فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: نحن سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت
(1) ابن القيم: الفوائد: 35
كلمة (كذبت يا عمر)(1)
كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بردة فقالت أسماء: فلقد، رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني (2)
[8]
ومن هذا الباب ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه:
أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ
(1) قال الإمام النووي: قولها عمر رضي الله عنه (كذبت أي أخطأت، وقد استعملوا كذب بمعنى أخطأ، قولها (وكنا في دار البعداء البغضاء) قال العلماء: البعداء في النسب، البغضاء في الدين، لأنّهم كفار إلا النجاشي، وكان يستخفي بإسلامه عن قومه، ويوري لهم .. النووي: شرح مسلم 16/ 298
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل جعفر وأسماء وأهل سفينتهم (2502 - 2503)
قريش وسيدهم، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه: اغضبتكم، قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي (1)
قال الإمام ابن تيمية: فمن أحب ما أحب الله وأبغض ما أبغض الله، ورضي بما رضي الله لما يرضي الله ويغضب لما يغضب، لكن هذا لا يكون للبشر على سبيل الدوام، بل لابد لأكمل الخلق أن يغضب أحياناً غضب البشر، ويرضى رضا البشر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر).
وقال رحمه الله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، في قضية معينة، لكون غضبه لأجل أبي سفيان، وهم كانوا يغضبون لله، وإلا فأبو بكر أفضل من ذلك (2)
[9]
ومن أوجه الدفع من النبي صلى الله عليه وسلم فرحه بدفع ما يسوء بعض أصحابه ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تري أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد) فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل سلمان وصهيب وبلال (2504)، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 58
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 10/ 58، 11/ 517
وفي رواية: قالت عائشة: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور فقال: يا عائشة ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيداً وعليهما من قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
كان مجزز قائفاً، وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد، والعرب تعترف لهم بذلك وليس ذلك خاصا بهم على الصحيح، فإن عمر بن الخطاب كان قائفاً، وعمر قرشي.
وقال الإمام ابن قدامة: كان أياس بن معاوية قائفاً، وكذا قيل في شريح القاضي. وقال الزبير بن بكار: قيل له: مجزز؛ لأنه كان إذا أخذ
أسيراً حلق لحيته، وقال غيره: جز ناصيته، ولم يكن اسمه مجززاً، وإنما غلب ذلك عليه.
وأما القيافة أحد علوم العرب الثلاثة: السياقة والعيافة والقيافة.
- فأما السياقة: فهي شم تراب الأرض فيعلم بها الاستقامة على الطريقة أو الخروج منها.
- وأما العيافة: فهي زجر الطير، والطيرة والتفاؤل بها وما قارب ذلك، وفي الحديث: العيافة والطرق من الجبت: والطرق: الرمي بالحصى.
- وأما القيافة: فهي اعتبار الاشباه لإلحاق الأنساب، فالقائف: هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر.
وقد أطال الإمام الهمام ابن القيم في ذكر خلاف العلماء في العمل
بقول القائف في كتاب الزاد (1)
والشاهد من إيراد الحديث: هو سرور النبي صلى الله عليه وسلم وسببه: أن العرب كانت تقدح في نسب أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسوءه منهم، لكونه أسود شديد السواد، وكان زيد أبوه أبيض من القطن، فلما قضى هذا القائف بإلحاق هذا النسب، سرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لكونه كافاً لهم عن الطعن فيه؛ لاعتقادهم ذلك، أي أنّهم كانوا في الجاهلية يعتمدون قول القائف (2)
قال الحافظ ابن حجر: وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين: أن أم أسامة، وهي أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سوداء، فلهذا جاء أسامة أسود، وقد تزوجت قبل زيد عبيد الحبيشي فولدت له أيمن فكنت به، واشتهرت بذلك.
قال عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة؛ لأن السوداء قد تلد الأبيض والأسود. قلت - الحافظ -: يحتمل أنّها كانت صافية فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك (3).
قال الإمام الذهبي: كانت من المهاجرات الأول، اسمها بركة، وقد
(1) ابن القيم: زاد المعاد: 5/ 418 - 423، ابن حجر: فتح الباري: 12/ 57،ابن الملقن: الإعلام: 8/ 482.
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 12/ 58، الفاكهي: رياض الأفهام: 5/ 175، النووي: شرح مسلم: 10/ 294.
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 12/ 58.
تزوجها عبيد بن الحارث الخزرجي، ثم تزوجها زيد بن حارثة ليالي بعث النبي صلى الله عليه وسلم فولدت له أسامة.
وقال: وكان أسامة شديد السواد، خفيف الروح شاطراً شجاعاً رباه النبي صلى الله عليه وسلم وأحبه كثيراً، وهو ابن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن، وكان أبوه أبيض، وقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول مجزز المدلجي: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (1).
وقال الإمام النووي: قال العلماء: سبب سروره عليه الصلاة والسلام: أن أسامة كان لونه أسود وكان طويلاً، خرج لأمه، وكان أبوه زيد قصيراً أبيض. وقيل: بين البياض السواد، وكان بعض المنافقين قصد المغايظة والإيذاء، فدفع الله ذلك وله الحمد (2)
[10]
وثبت في الصحيح عن عمر: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد جلده في الشراب، فأوتى به فأمر به فجلده، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله).
وعن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه، فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 473
(2)
النووي: تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 122
رجل: ماله أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)(1)
وعن عقبة بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالنعيمان أو بابن نعيمان وهو سكران، فشق عليه وأمر من معه في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، وكنت فيمن ضربه. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم، جلده أربعاً أو خمساً، فقال رجل: اللهم العنه ما أكثر ما يشرب، وأكثر ما يجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله). وفي لفظ قال: (لا تقولوا للنعيمان إلا خيراً، فإنه يحب الله ورسوله)(2).
فهذه الأحاديث تبيّن منافحة النبي صلى الله عليه وسلم عن النعيمان وابنه عبد الله، وأنه لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله (3).
ومع ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: بكّتوه، وهو أمر بالتبكيت، وهو: مواجهته بقبيح فعله، جاء في الخبر: أقبلوا عليه يقولون له: ما اتقيت
(1) أخرجهما البخاري في صحيح كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر: (6780 - 6781)
(2)
انظر: العيني: عمدة القاري: 16/ 56
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 12/ 80
الله، ما خشيت الله، ما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرسلوه (1).
قلت: عبد الله هذا كان يقلب بالحمار، وهو اسم الحيوان المشهور. قال العلامة العيني: لعله كان لا يكره ذلك اللقب، وكان قد اشتهر به (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، لما قال بعضهم:" أخزاه الله ": (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) وفي رواية (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم).
ووجه عونهم الشيطان بذلك: أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية أن يحصل له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان. وقيل: ربما توهم أنه مستحق لذلك فيوقع الشيطان في قلبه وساوس (3).
وجاء في الأثر: (ولكن قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)(4).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
(1) ابن حجر: فتح الباري: 12/ 68
(2)
العيني: مرجع سابق: 16/ 60، وانظر كلام الأئمة عند تفسيرهم قول الله تعالى {ولا تنابزوا بالألقاب} الحجرات 11
(3)
مراجع سابقة.
(4)
ابن حجر: مرجع سابق.
ونهى عن لعنه (1).
[11]
ومن أوجه الدفاع والتربية من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم:
ما أخرجه الشيخان عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذر بالربدة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك قال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم (2).
قال العلماء في الحديث النهي عن سب العبيد وتعييرهم بوالديهم، والحث على الإحسان إليهم، والرفق بهم، فلا يجوز لأحد تعيير أحد بشيء من المكروه يعرفه في آبائه وخاصة نفسه، كما نهى عن الفخر بالآباء، ويلحق بالعبيد في معناه من أجير وخادم وضعيف (3).
في الحديث يقول أبو ذر: (ساببت رجلا) وفي رواية (شاتمت)، وفي رواية:(كان بيني وبين رجل كلام): وفي صحيح مسلم (من إخواني).
قال الإمام النووي: والظاهر أنّه كان عبداً، وإنما قال (من إخواني)؛
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 484، 11/ 473
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب المعصية من أمر الجاهلية (30).
(3)
العيني: عمدة القاري: 1/ 311
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إخوانكم خولكم فمن كان أخوه تحت يده)(1).
قيل: الرجل المذكور هو بلال بن رباح (2).
وقول أبي ذر " فعيرته بأمه ": أي نسبته إلى العار، والظاهر: أنّه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير، وكان تعييره بأمه، أن قال:(يا ابن السوداء)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(إنك امرؤ فيك جاهلية).
فإن قيل: كيف جوّز أبو ذر ذلك وهو حرام؟ قيل: الظاهر أن هذا كان منه قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من الخصال باقية عنده، فلهذا قال: قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم، كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعاً، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الجلوس وغيره أخذاً بالأحوط (3).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أعيرته بأمه): استفهام لتوبيخ، ولذا وضع أبو ذر خده على الأرض فلم يرفع حتى وطئه بلال بقدمه (4).
- ومن أوجه الدفاع في هذا الباب: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: قال أبو مسعود البدري: كنت اضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من
(1) النووي: شرح مسلم: 11/ 143
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 1/ 108، العيني: مرجع سابق: 1/ 310
(3)
مراجع سابقة.
(4)
الجيلاني: فتح الله الصمد: 1/ 291.
الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود، قال: فألقيت السوط من يدي فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك على هذا الغلام. قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعدها أبداً.
وفي لفظ: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله: هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار. وفي لفظ: أنّه كان يضرب غلامه فجعل يقول: أعوذ بالله، قال: فجعل يضربه، فقال: أعوذ برسول الله، فتركه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: والله، لله أقدر عليك منك عليه. قال: فأعتقه (1).
قال الإمام النووي: قال العلماء: لعله لم يسمع استعاذته الأولى، لشدة غضبه، كما لم يسمع نداء النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون لما استعاذ برسول الله صلى الله عليه وسلم تنبه لمكانه.
وقال: وفي الحديث: الحث على الرفق بالمملوك، والوعظ والتنبيه على استعمال العفو وكظم الغيظ، والحكم كما يحكم الله عباده (2).
قال الإمام الذهبي: أبو مسعود، ممن شهد بيعة العقبة، وكان شابً من أقران جابر في السن، ولم يشهد بدراً على الصحيح، وإنما نزل ماء ببدر فشهد بذلك. وقال الحكم: كان بدرياً (3).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب صحبته المماليك وكفارة من لطم عبده (1659).
(2)
النووي: شرح مسلم: 11/ 141
(3)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 470
[12]
وأخرج الترمذي في جامعه عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه (1).
قوله (إنك لابنة نبي) أي هارون بن عمران. (وعمك نبي) أي موسى بن عمران (وإنك لتحت نبي) أي الآن. (ففيم تفخر): أي في أي شيء تفخر عليك حفصة.
والشاهد: دفاع النبي صلى الله عليه وسلم ودفعه وتطيب خاطر صفية رضي الله عنهم. وتربيته لزوجته حفصة حينما قال: (اتقي الله يا حفصة) أي مخافته وعقابه، بترك مثل الكلام الذي هو من عادات الجاهلية (2).
[13]
وأخرج أبو داود عن عائشة رضي الله عنها، أنّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية " كذا وكذا " يعني، قصيرة، قال:(لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) قالت: وحكيت له إنساناً فقال: ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا (3).
(1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3903)
(2)
المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 362
(3)
أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب في الغيبة (4867)
وجاء عند الترمذي: قال: فقلت: يا رسول الله " إن صفية امرأة، وقالت بيدها هكذا أنّها تعني قصير، فقال: لقد مزجت بكلمة لو مزج بِها ماء البحر لمزج (1).
قال العلماء: المعنى: أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته، فكيف بأعمال نزرة خلطت بها.
وقال العلامة ابن المنير: وجاء في بعض الحديث عن عائشة في المرأة التي دخلت عليها، فأشارت بيدها أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتيها. وذلك أنها لم تفعل هذا بيانا، وإنما قصدت الإخبار عن صفتها فكان كالاغتياب.
والشاهد: في دفع النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته وتعليمه ظاهر واضح، لذا لما حكت له إنساناً من المحاكاة: أي فعلت مثل فعله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحب أني حكيت إنساناً، وأن لي كذا وكذا، أي: إني ما أحب الجمع بين المحاكاة وحصول كذا وكذا من الدنيا، وما فيها بسبب المحاكاة، فإنها أمر مذموم (2)
[14]
ويستمر هذا النهج من الدفع عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خير الخلق وأكرمهم على الله سبحانه وتعالى النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2502)
(2)
المباركفوي: مرجع سابق: 7/ 248، ابن حجر: فتح الباري: 10/ 484
فأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً، وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمرة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده.
وقال في رواية: وأيم الله إن كان لأحبهم إليّ من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم (1) فقوله:(لخليقاً للإمارة): أي لجديرًا أو حقيقاً لها؛ لفضله وسبقه وقربه مني (2).
ما أجمله من دفع، وما أحلاها من كلمة (إنّه من صالحيكم).
[15]
وهذا سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز لموته عرش الرحمن، لما حملت جنازته، قال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: إن الملائكة كانت تحمله. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب (3).
هذه الجنازة التي حملتها الملائكة، خفت على أيدي المشيعين، فقال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك، استخفافًا واستحقاراً لسعد بن معاذ، لحكمه في بني قريظة: بأن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم فنسبه المنافقون إلى
(1) أخرجه مسلم في صحيحه فضائل الصحابة باب فضائل زيد وأسامة (2426)
(2)
النووي: شرح مسلم: 15/ 205، المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 296
(3)
أخرجه الترمذي في جامعه كتاب المناقب باب مناقب سعد بن معاذ (3858)
الجور والعدوان، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإصابة في حكمه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامهم، فدفع عنه وقال: إن الملائكة كانت تحمله. ولذا كانت جنازته خفيفة على الناس (1).
[16]
وهذه المرأة الحبلى من الزنا، يشتعل الإيمان في قلبها، ويقوى اليقين في فؤادها، فتأتي الرسول الأكرم، وهي ترجو تطهير نفسها، وتزكية جسدها، ونيل رضا ومغفرة ربها رضي الله عنها وأرضاها - وفي الحديث: (فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فو الله إني لحبلى، قال: إما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: اذهبي حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بِها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بِها فصلى ودفنت.
ولما أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على الجهنية، فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر: تصلى عليها يا نبي الله وقد زنت، فقال: لقد تابت توبة لو قسمت بين
(1) المباركفوي: تحفة الأحوذي: 10/ 321
سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى (1).
كلمة سارت بِها الآفاق، وجرت في النفوس والأعماق، (مهلاً لقد تابت)، فالرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، يخاطب خالداً موجها ًومربياً وناصحاً ومدافعاً، ونحن نخاطب من طعن في خالد وأمثاله: نقول مهلاً ومهلاً ومهلاً، لكل من تطاول على الذوات الطاهرة، لكل من طعن في النفوس الزاكية، مهلاً: أما علمت أن من تقع في أعراضهم قد حطوا رحالهم في الجنان، أما علمت أن من تزدريهم قد أرخصوا مهجهم في سبيل نصرة المنان، أما يكفيك فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم العدنان:(الله الله في أصحابي)!
وأختم هذا المبحث بما أخرجه الإمام اللالكائي: وهو شاهد يستأنس به فيما نحن بصدده: قال: حدثنا أبو علي بن خليل العنزي، قال: كنت جالساً مع قوم من الكتاب فتناولوا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقمت مغضباً فلما كان في الليلة رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، فقال لي: تعرف أم حبيبة مني؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقال لي: من أغضبها في أخيها فقد أغضبني (2).
ومما ورد أيضاً: أنّه كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل، وكان ممن يمارس المعاصي والقاذورات، فجاء يوماً مجلس أحمد حنبل، فسلم
(1) أخرجهما مسلم في صحيحه كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (1695 - 1696)
(2)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1532
عليه فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً، وانقبض منه فقال له: يا أبا عبد الله لم تنقبض مني؟ إني قد انتقلت عما كنت تعهده مني برؤية رأيتها، قال: وأي شيء رأيت تقدم؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض، وناس كثير أسفل جلوس قال: فتقدم رجل رجل منهم إليه فيقولون: ادع لنا حتى لم يبق من القوم غيري قال: فأردت أن أقدم فاستحييت من قبح ما كنت عليه، قال: يا فلان لم لا تقوم وتسألني أدعو لك؟ فكأني قلت، يا رسول الله يقطعني الحياء من قبح ما أنا عليه، قال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدعو لك، إنك لا تسب أحداً من أصحابي قال: فقمت فدعا لي قال: فانتبهت وقد بغّض الله إلى ما كنت عليه قال: فقال لنا: أبو عبد الله، يا جعفر يا فلان يا فلان حدثوا بهذا، واحفظوه فإنه ينفع (1).
والشواهد في الدفاع كثيرة، والمتأمل والناظر يظهر له حرص النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عن أصحابه قولاً وفعلاً، ويكفي شاهدا على ذلك " بيعة الرضوان " إنما هي انتصار لعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. قال العلامة السعدي: وكان سبب هذه البيعة التي يقال لها بيعة الرضوان، لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار ع بينه وبين المشركين يوم الحديبية، في شأن مجيئه وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1333
من معه من المؤمنين، وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيمينه على شماله لعثمان، فهو كمن شهدها رضي الله عنهم أجمعين (1) * وكان عليه الصلاة والسلام يدفع عنهم التهم المتوهمة، ومن ذلك: لما قال حنظلة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: نافق حنظلة، فقال: مه (2).
قال القاضي: معناه: الاستفهام أي ما تقول: قال: ويحتمل أنّها للكف والزجر والتعظيم لذلك، ثم قال: وما ذاك؟ قال: يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة [ثلاث مرات].
فخاف حنظلة أن يكون ذلك نفاقاً فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، وساعة وساعة، أي ساعة كذا وساعة كذا (3).
(1) ابن سعدي: تيسير الكريم الرحمن: 737، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 234، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 121، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 74.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب التوبة باب فضل دوام الفكر والذكر في أمور الآخرة: (2750)
(3)
النووي: شرح مسلم: 17/ 73