المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: دفاع الله سبحانه وتعالى عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم - الإصابة في الذب عن الصحابة - رضي الله عنهم -

[عبد الهادي العمري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع

- ‌الباب الأولفضائل الصحابة، وخطورة سبهم رضي الله عنهم

- ‌الفصل الأولفضل الصحابة رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأول: فضائل الصحابة في القرآن الكريم:

- ‌المبحث الثانيفضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة النبوية المطهرة

- ‌الفصل الثانيسبّ الصحابة رضي الله عنهم

- ‌المبحث الأولحكم سب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين

- ‌المبحث الثانيسبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفصل الثالثمسائل متممة (شبهات وردود)

- ‌المبحث الأول: في حقيقة مسمى الصحبة:

- ‌المبحث الثاني: عدالة الصحابة:

- ‌المبحث الثالث: التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم:

- ‌المبحث الرابع: حكم الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي، أو قدح في عدالته، أو مضيفة إليه ما لا يليق:

- ‌الباب الثانيالدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: دفاع الله سبحانه وتعالى عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثانيدفاع النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه رضي الله عنهم

- ‌المبحث الثالثدفاع الصحابة عن أعراض بعضهم البعض

- ‌المبحث الرابعبعض المخلوقات المسخرة للدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الخاتمة

- ‌التوصيات:

- ‌المراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: دفاع الله سبحانه وتعالى عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم

وقيل: يوفقهم.

قال الإمام الشوكاني: والجملة مستأنفة؛ لبيان هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين، وأنه المتولي للمدافعة عنهم (1)

وللدفاع عن الصحابة أوجه متعددة، منتظمة في المباحث التالية:

‌المبحث الأول: دفاع الله سبحانه وتعالى عن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم

.

تمهيد: الله جل وعلا، هو الولي الناصر، استنصر به الأولون والسابقون، والآخرون واللاحقون والأنبياء والصالحون، فجاء نصره، وأُنجز وعده، وصُدّق عبده، قال عن نبيه نوح عليه السلام:[فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ] القمر 10 - 14

[قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] المؤمنون 26 - 27

[وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ

(1) الشوكاني: فتح القدير: 3/ 131، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 235، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 65، أبو حيان: البحر المحيط: 7/ 514، المنصوري: المقتطف: 3/ 436، الشنقيطي: أضواء البيان: 1232

ص: 236

الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ] يونس 88 - 89، وكان سبحانه وتعالى معهما الناصر والمؤيد، فقال لهما [لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى] طه 46، وقال سبحانه:[إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ] غافر 51. فنصرة الله تعالى للمؤمنين سنة جارية، ومنة باقية [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المؤمنين، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ] الصافات 171 - 173. [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ] الأنبياء 105 - 106. [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] آل عمران 123. [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] التوبة 25 - 26.

ومتى انتهك حق أولياء الله تعالى جاء النصر من عند الله [وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] آل عمران 126. [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] البقرة 214. [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا

ص: 237

وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ] الأنعام 34. [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ]

يوسف 110.

وهذا النبي الكريم الأكرم ينادي ربه يوم بدر: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك)(1)

فقال سبحانه [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ] الأنفال 9. فهو سبحانه [نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] الأنفال 40.

(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 3/ 308

ص: 238

المبحث الأول

دفاع الله تعالى عن الصحابة رضي الله عنهم

أ / الدفاع العام عن الصحابة رضي الله عنهم:

ما فتئ المنافقون والمغرضون يكيلون التهم، ويسددون سهام الطعن والازدراء، لأشرف الخلق بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، الصحابة الكرام العظام رضي الله عنهم، ولكن الله تعالى لهم بالمرصاد [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً] الطارق 16،15. [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] الأنفال 30.

قال المنافقون المغرضون: نافق الصحابة رضي الله عنهم.

قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] الأحزاب 23.

قال المنافقون المغرضون: بدّل الصحابة رضي الله عنهم.

قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] الأحزاب 23.

قال المنافقون المغرضون: ارتد الصحابة رضي الله عنهم.

قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]

التوبة 100.

ص: 239

قال المنافقون المغرضون: الصحابة أهل دنيا.

قلنا: لكن الله جل وعلا يقول: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 111. وقال سبحانه وتعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ] البقرة 207. قال أنس رضي الله عنه: نزلت في صهيب رضي الله عنه. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار (1)

قال المنافقون المغرضون: الصحابة في النار.

قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ] الأنبياء 101،102. قال النعمان بن بشير رضي الله عنه: قرأ على بن أبي طالب رضي الله عنه [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] ثم قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم، أو قال: وسعد منهم. وروي عنه أنه قال في الآية: عثمان وأصحابة (2)

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 254، الشوكاني: فتح القدير: 1/ 186

(2)

ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 206، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 11/ 302، أبو حيان: البحر المحيط: 7/ 470

ص: 240

قال المنافقون المغرضون: كذب الصحابة رضي الله عنهم.

قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] الحجرات 15. وقال سبحانه وتعالى [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] وقال سبحانه وتعالى [ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] التوبة 119. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في قوله [اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] قال: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رضي الله عنهم (1)

قال المنافقون المغرضون: الصحابة خاسرون.

قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ

الْعَظِيمُ] التوبة 88 - 89.

قال المنافقون المغرضون: الصحابة كفار، غير مؤمنين.

قلنا: ولكن الله جل وعلا يقول: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا

آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 414

ص: 241

لا يَعْلَمُونَ] البقرة 13. قال أهل التفسير: المقصود بالناس: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (1) فقد شهد الله لهم بالإيمان، وهم أهله وخاصته.

ب / الدفاع الخاص عن الصحابة رضي الله عنهم.

1 -

دفاع الله سبحانه وتعالى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

اتهمت الطاهرة العفيفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عرضها الشريف، فجرت أحداث شهر كامل لم ينزل فيها الوحي من السماء، خاض فيها الخائضون، وسرت مقولة المنافقين، فتألم قلب النبي الأمين، وانفطر فؤاد أم المؤمنين، وبعدها نزل كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لكم .. ] النور - 29.

قال الإمام ابن كثير: هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله عز وجل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه فأنزل الله براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)

ومن مجموع آيات البراءة نستخلص بعض أوجه الدفاع من الله

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 52، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 251، أبو حيان: البحر المحيط: 1/ 111، الشوكاني: فتح القدير: 1/ 37

(2)

ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 279

ص: 242

سبحانه وتعالى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

(1)

التشديد على من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه، فقال سبحانه:[وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ] والمقصود به: رأس المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول، قالته عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.

[وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ]: قيل: ابتدأ به، وقيل: الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه. وقيل: الذي تولى إثمه [لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ]: على ذلك، وقيل: العذاب العظيم، عذاب يوم القيامة (1)

ومعنى الآية: [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ]: أي تفشوا، وهذا فيه إشارة إلى عبد الله بن أبي ومن أشبهه [فِي الَّذِينَ آمَنُوا]: أي المحصنين والمحصنات، والمراد بهذا اللفظ العام: عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة: هي القول السيئ. [لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا]: بالحد [وَالْآخِرَةِ]: عذاب النار، أي: للمنافقين، وأن الحد للمؤمنين كفارة (2)

وقال سبحانه وتعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] النور 23.

يقول أهل التفسير: الآية وإن كانت عامة في كل محصن إلا أن أولاها

(1) ابن: تفسير القرآن العظيم: 3/ 283، ابن حجر: فتح الباري: 8/ 319

(2)

ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 285، ابن حجر: مرجع سابق: 8/ 346، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 184، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 23

ص: 243

بالدخول أمهات المؤمنين، وأولاها منهن عائشة التي كانت سبباً لنزول هذه الآيات.

قالوا: إن كان المراد بهذه الآية، من قذف عائشة رضي الله عنها خاصة، كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين، وإن كان المراد بهم: المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة: الإبعاد وضرب الحد، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين.

وسئل سعيد بن جبير عمن قذف مؤمنة، هل يلعنه الله في الدنيا والآخرة؟ قال: ذاك لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (1)

وقال سبحانه وتعالى: [الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] النور 26

قال أهل التفسير: ومعنى الآية: لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجل والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيبات من الرجل النساء.

قال ابن عباس: نزلت في عائشة وأهل الإفك (2)

(2)

أن الله جل وعلا شدد على المؤمنين في التعجل لرميهم أم المؤمنين

(1) القرطبي: مرجع سابق: 12/ 188، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 186، المنصوري: المقتطف: 3/ 507

(2)

ابن كثير: مرجع سابق: سابق: 3/ 288

ص: 244

عائشة، رضي الله عنها، فقال:[لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] النور 12. أي: لولا: - وهذه التحضيضية تأكيداً للتوبيخ والتقريع، ومبالغة في عتابهم، أي: كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد منهم، فهو في أم المؤمنين أبعد، فعائشة أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى.

وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك: أنه دخل عليها فقالت: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذب، أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ قالت: لا والله، فقال: عائشة والله أفضل منك، قالت: أم أيوب نعم.

قال ابن الزبير: ذلك معاتبة للمؤمنين، إذ المؤمن لا يفجر بأمه؛ وعائشة أم المؤمنين فكيف بالصديقة بنت الصديق حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] أي: قال المؤمنون عند سماع الإفك، هذا إفك ظاهر مكشوف، فيقولون بألسنتهم أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت والقول الزور، والرعونة الفاحشة الفاجرة، والصفقة الخاسرة (1) ثم قال المولى سبحانه وتعالى في حق الخائضين:[لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] وهذا توبيخ لأهل الإفك،

(1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 284، القرطبي: مرجع سابق: 12/ 181، أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 21، الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 182، المنصوري: مرجع سابق: 3/ 105

ص: 245

أي: هلاّ جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ]: أي في حكم الله كاذبون فاجرون، قال الإمام أبو حيان: جعل الله فصلاً بين الرمي الكاذب والرمي الصادق ثبوت أربعة شهداء وانتفاؤها. [فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا]: فهم في حكم الله وشريعته كاذبون، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك، ولم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بيّنة والتنكيل (1)

وكذا فإن استحقاق العذاب الأليم قد تعلق بآثام حادثة الإفك: تلقي الإفك بألسنتهم، والتحدث به من غير تحقق، واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم، ولكن ما سبق من فضل الله عليهم ورحمته في الدنيا والآخرة، بأن قبل توبتهم في الدنيا وعفا عنهم لإيمانهم في الآخرة. [لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ](2)

ثم عاتب جل وعلا المؤمنين فقال: [وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ] النور 16: أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، فلولا إذ سمعتموه من المخترعين المشيعين للإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه، والمفترين له: ما ينبغي لنا، ولا يمكننا أن نتكلم بهذا

(1) أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 22

(2)

مراجع سابقة.

ص: 246

الحديث. [سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ]: تعجب ممن تفوه به، وتنزيه له تعالى من أن يقع هذا من زوج نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأن تحكوا على هذه المقالة بأنها بهتان، وهو الكذب العظيم، لكونه قيل في أم المؤمنين عائشة، وصدوره مستحيل شرعاً من مثلها (1)

(3)

إظهار البراءة للطاهرة المطهرة العفيفة صراحة، فقال جل شأنه:[إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ] فسماه الله تعالى إفكاً، وهو أسوأ الحديث وأقبحه. قال الإمام الشوكاني: للإفك: هو الحديث المقلوب، وقيل: هو البهتان. وإنما وصفه الله بأنه إفك؛ لأن المعروف من حالها خلاف ذلك. قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر: أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف النسب والسبب لا القذف فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح وكذب ظاهر (2)

وقال سبحانه وتعالى [وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] قال أهل التفسير: الإشارة فيه إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة وصفوان. وقيل: عائشة وصفوان (3)

(1) مراجع سابقة.

(2)

الشوكاني: فتح القدير: 3/ 181

(3)

الشوكاني: فتح القدير: 3/ 187

ص: 247

أولئك: إشارة إلى الطيبين والطيبات، مبرءون مما يقول الخبيث من خبيثات الكلم أو القاذفون الرامون المحصنات.

قال الإمام ابن كثير: فما نسبة أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولهذا قال:[أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ](1)

وقال الإمام القرطبي: قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله بالقرآن، فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله تعالى بكلامه من القذف والبهتان (2)

[لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] لهم مغفرة بسبب ما قيل فيهم من الكذب، ورزق كريم: أي عند الله في جنات النعيم.

2.

في مسيرة الجهاد، وفي آخر غزوات النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، انطلقت ألسنة المنافقين في الطعن واللمز في أهل اليقين فيقول قائلهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء. قال الإمام القرطبي: كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد (3)

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 289

(2)

القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 189

(3)

القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 181

ص: 248

إنّها كلمات تهز الوجدان، أغضبت الرحيم الرحمن، كيف لا، وقد جاء في لفظ أنه قال: يا معشر القراء، ما بالكم أجبن منا، وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لفحاً إذا أكلتم؟

نعم، إنه النفاق، فهنا يدفع الله سبحانه ويدافع عن عباده المؤمنين المخلصين فيقول سبحانه: [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ

إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ]

التوبة 65 - 66.

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه، وهو يقول: يارسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات، فاطلع الله نبيه على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: احبسوا على هؤلاء الركب، فأتاهم فقال: قلتم كذا، قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون.

قال الإمام الشوكاني: وقد روي نحو هذا من طرق عن جماعة من

ص: 249

الصحابة رضي الله عنهم.

3 -

وفي أحداث هذه الغزوة وثنايا هذه السورة العظيمة المباركة: يحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، ويقول: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً، فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله: عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت. وبات رجل من الأنصار، فأصاب صاعين من تمر، فقال يارسول الله: أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا.

يقول الإمام ابن كثير: وهذه من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم، ولمن هم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا (1)

فأنزل المولى سبحانه وتعالى دفاعاً عنهم قوله تعالى: [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ والذين لا يجدون إلا جهدهم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] التوبة 79.

ومعني يلمزون: أي يعيبون، والمطوعين: أي المتطوعون، والتطوع:

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 389

ص: 250

التبرع في الصدقات أي: يعيبوهم في شأنها، [وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ]: أي إلا وسعهم وطاقتهم، فإن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل من كفايتهم. فجاءت العاقبة المخزية، والعقاب المهلك. [فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ]: وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم، انتصاراً للمؤمنين في الدنيا وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليما؛ لأن الجزاء من جنس العمل (1).

4 -

ومن أوجه الدفاع: ما جاء في سورة الأحزاب في قوله جل شأنه: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً]58.

قال الإمام القرطبي: نزلت فيمن أذى عمر باللسان، وقيل: في علي، كان المنافقون يؤذونه ويكذبون عليه. وقال الإمام أبو حيان: وقيل نزلت في الذي أفكوا على عائشة.

وقال الإمام ابن كثير: [بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا]: أي ينسبون إليهم ما هم براء منه لم يعملوه ولم يفعلوه.

وقال الإمام أبو حيان: ومعنى [بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا]: أي بغير جناية

(1) مراجع سابقة: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 196، أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 486، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 262، المنصوري: المقتطف: 2/ 413 ابن حجر: فتح الباري: 8/ 181

ص: 251

واستحقاق أذى.

وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوماً لأُبَيّ: قرأت البارحة [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ففزعت منها، وإني لأضربهم وأنهرهم، فقال له: لست منهم، إنما أنت معلم ومقوّم.

وقال الإمام أبو حيان: وأطلق إيذاء الله ورسوله على إيذاء المؤمنين بقوله [بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا]: لأن إيذاءهما لا يكون إلا بغير حق، بخلاف إيذاء المؤمن فقد يكون بحق (1)

فقال سبحانه وتعالى لمن آذى المؤمنين وعلى رأسهم الصحابة الأطهار الكرام: [فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً] وهذا هو البهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذي ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن، ولا فعلوه أبداً، فهم في الحقيقة منكسو القلوب،

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 525، القرطبي: مرجع سابق: 14/ 215، أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 503، الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 449، المنصوري: مرجع سابق: 04/ 280

ص: 252

يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين (1)

5 -

والله جل وعلا، في أكثر من موضع يبين فضل الصحابة ومكانتهم، ويعاتب فيهم نبيه عليه الصلاة والسلام: فيقول في شأن ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديماً، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله ويلح عليه، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأعرض عنه، وأقبل إلى من كان يخاطبه من عظماء قريش ممن قد طمع في إسلامه فقال المولى جل شأنه [عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى] عبس 1 - 10.

قال الإمام القرطبي: الآية عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم، وكان قد تشاغل عنه برجل من عظماء المشركين.

وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام:(إني لأصل الرجل وغيره أحب إليّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه).

قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا أنزل الله في حقه

(1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 525

ص: 253

على نبيه صلى الله عليه وسلم {عَبَسَ وَتوَلّى .. } .

قال الإمام ابن كثير: ومن ههنا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يخص بالإنذار أحداً، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار.

قال الإمام الثوري: فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول: هل لك من حاجة؟ (1).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحترمه، ويستخلفه على المدينة، فيصلي ببقايا

الناس (2).

6 -

وهنا يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام: [وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] الأنعام 52. يقول سعد بن أبي وقاص: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست اسميهما، فوقع في

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 501، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 19/ 185، أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 407، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 432، المنصوري: المقتطف: 5/ 427.

(2)

الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 159

ص: 254

نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل [وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ](1)

وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يصبر نفسه معهم كما أمره الله تعالى في قوله [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ] الكهف 28. فكان لا يقوم حتى يكونوا هم الذين يبتدئون القيام.

فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: [مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ] أي: ما عليك من جزائهم ولا كفاية أرزاقهم، فجزاؤهم ورزقهم على الله، وجزاؤك ورزقك على الله لا على غيره، فإذا كان الأمر كذلك فأقبل عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل.

[فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] والمعنى: أن أولئك الفقراء يستحقون من التقريب، فبطردهم تضع الشيء في غير موضعه، فتكون من الظالمين، وحاشاه عن وقوع ذلك منه، وإنما هذا بيان للأحكام، وهو من باب التعريض؛ لئلا يفعل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، وهذا مثل قوله تعالى [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] الزمر 65. وقد علم الله منه أنه لا

(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل سعد بن أبي وقاص (2413)

ص: 255

يشرك ولا يحبط عمله (1)

7 -

قال سبحانه وتعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ

بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] الحجرات 6.

قال الإمام ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم في هذه الآية أنّها نزلت في الوليد بن عقبة.

قال الإمام الشوكاني: وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية، وأنه المراد بِها وإن اختلفت القصص. وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقاً - يجبي الصدقات - إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنّهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه فلما جاءوا وأخبروا خالداً أنّهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم التأني من الله والعجلة من

(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم القرآن العظيم: 2/ 139، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 6/ 394، أبو حيان: البحر المحيط: 4/ 520، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 25، المنصوري: المقتطف: 2/ 121، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 159.

ص: 256

الشيطان.

قال الإمام ابن كثير: وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده (1)

وهذه أمثلة ونماذج في دفاع المولى سبحانه وتعالى ودفعه عن المؤمنين، والمتأمل والناظر يجد الكثير والكثير، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولياء الله تعالى، بل أفضل الأولياء والأصفياء الأتقياء، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والواقع في أعراضهم والطاعن فيهم المعادي لهم قد آذنه الله بحرب (ومن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).

ولذا لما خاصمت أروى سعيد بن زيد بن نفيل في أرض، وقالت: إنه بنى ضيغرة في حقي، فلئن لم ينزع، لأصحين به في مسجد رسول الله فقيل لها: لا تؤذي صاحب رسول الله، ما كان ليظلمك وما كان ليأخذ لك حقاً، فلما كلم فيها قال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، بينما هي تمشي في الدار خرت في بئر الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (2)

(1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 223، القرطبي: مرجع سابق: 16/ 264، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 131

(2)

انظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1328، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 45 - 57

ص: 257