الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: فضائل الصحابة في القرآن الكريم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو ذكرنا ما روى في حقوق القرآبة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثير من الكتاب والسنة.
قال العلامة محمد بن عمر بحرق: وقد ورد في فضلهم رضي الله عنهم من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ما لا يحصى.
وقال الإمام الغزالي: وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة، وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه، المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل، فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك، إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عن الحق صارف (1).
1) إثبات الخيرية في أمة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وخير من يدخل تحت لوائها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى:[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران 110.
واختلف أهل العلم بالقرآن الكريم في توجه الخطاب في هذه الآية
(1) بحرق: محمد: العلامة: حدائق الأنوار ومطالع الأٍسرار في سيرة النبي المختار: دار المنهاج ط 3/ 1424هـ (417)، ابن تيمية: مجموع الفتاوى 28/ 492، الغزالي: إحياء علوم الدين: 1/ 115
على رأيين:
الأول: أن الخطاب في هذه الآية موجه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذا لا شك يدل على فضلهم ومكانتهم، قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] قال: هم الذي هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وشهدوا بدراً والحديبية (1).
قال الإمام أبو حيان: والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولا وهم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الإشارة بقوله: أمة - إلى أمة معينة وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالصحابة هم خيرها (2).
ويقول رحمه الله: والمعنى: أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها، وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي: سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدارهم إلى نصرته، ونقلهم عنه علم الشريعة، وافتتاحهم البلاد. وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل، وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها؛ لأنهم سبب في إيجادها، إذ هم الذين سنوها وأوضحوا طريقها (من سن في الإسلام سنة
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 166، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 399، المنصوري: مصطفى: العلامة: المقتطف من عيون التفاسير: دار القلم، دمشق ط 2/ 1417هـ، (1/ 357)
(2)
أبو حيان: محمد: الإمام: البحر المحيط في التفسير: دار الفكر 1412هـ (3/ 399)
حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا) (1).
وقال الإمام القرطبي: وقيل: هذه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(خير الناس قرني): أي الذي بعثت فيهم (2).
وقال الإمام ابن الصلاح: وقيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
قلت: الخلاف وارد، ولكن هم أولى من يدخل في مضمون هذه الآية.
الثاني: أن الخطاب في الآية عام، يشمل جميع الأمة، كل قرن بحسبه. قالوا: ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم).
قال الإمام ابن كثير: تفرد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسن (4).
(1) أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 301
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 4/ 166
(3)
العراقي: عبد الرحيم: الحافظ: التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح: مؤسسة الكتب العلمية ط 2/ 1413هـ، (286)
(4)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 399 - 400، المنصوري: المقتطف: 1/ 398
قلت: فعلى كلا القولين، فإن الآية تدل دلالة واضحة على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(خير أمتي قرني .. )، ولذا قال الإمام السيوطي: واستدل بهذه الآية على أن الصحابة أفضل الأمة؛ لأنهم المخاطبون بها حال النزول، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء؛ لأن شرف الأمة بشرف نبيها (1).
2) وأنهم رضي الله عنهم خير من يدخل في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] آل عمران 104، وأن (من) في الآية وإن كانت للتبعيض، وكون المقصود منها: أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء، فإن الصحابة رضي الله عنهم في مقدمتهم، وعلى رأس هرمهم.
قال الإمام الضحاك: هم خاصة الصحابة رضي الله عنهم، وخاصة الرواة، يعني: المجاهدين والعلماء (2).
قال الإمام أبو حيان: والأمر يتوجه لمن يتوجه الخطاب عليهم، قيل: وهم الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور، وأمره لهم بذلك أمر لجميع المؤمنين، ومن تابعهم إلى يوم القيامة، قال: ويحتمل أن يكون الخطاب عاماً
(1) السيوطي: عبد الرحمن " الإمام: الإكليل في استنباط التنزيل ":دار الأندلس الخضراء ط / 1422هـ (2/ 486)
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 162، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 398
فيدخل فيه الأوس والخزرج (1).
3) من القواعد المقررة في علم أصول التفسير: أن غالب ما يصح من الخلاف بين السلف في التفسير يرجع إلى اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد، وذلك إما:
أ) أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، فالسلف كثيرا ً ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر.
ب) وإما أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل ما نقل في تفسير قوله تعالى:[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ](2) فاطر 32
وعليه فمن الآيات التي تبين فضل الصحابة رضي الله عنهمبناء على ما ذكر:
وقال جل شأنه في سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} الفاتحة 5، قال الإمام ابن كثير: ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في
(1) أبو حيان: البحر المحيط في التفسير: 3/ 289
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 13/ 333 - 337 " بتصرف ".
تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو: المتابعة لله وللرسول. فروي أنه (كتاب الله، وقيل: الإسلام).
ثم قال: وعن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهدنا الصراط المستقيم) قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده، قال عاصم: فذكرنا ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح. وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا ولله الحمد (1).
وفي هذا يقول الإمام الهمام ابن القيم: وقال أبو العالية والحسن البصري، وهما من أجل التابعين:(الصراط المستقيم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه)، وقال أبو العالية أيضا في قوله (صراط الذين أنعمت عليهم: هم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر) ،هذا حق. فإن
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 29، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1/ 192.
آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة، ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا، ومسالمة من سالما: معلومة عند الأمة، خاصها وعامها. وقال زيد بن أسلم:(الذين أنعم الله عليهم: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر).ولا ريب أن المنعم عليهم: هم اتباعه، والمغضوب عليهم: هم الخارجون عن اتباعه. وأتبع الأمة له وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته، وأتبع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر، وأشد مخالفة له: هم الرافضة، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة، ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها. فهم أعداء سنته صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته وأتباعهم من بنيهم أكمل ميراثا؟ بل هم ورثته حقا (1).
قوله سبحانه وتعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ] آل عمران 106، والاستدلال من هذه الآية على وجهين:
الأول: على وجه العموم، حيث قال الإمام ابن عباس رضي الله عنه في معنى الآية: يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه
(1) ابن القيم: مدارج السالكين: 1/ 94
أهل البدعة والفرقة.
من يشك أن أصحاب النبي رضي الله عنه هم أهل السنة والجماعة، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .. )(1).
قال الإمام ابن قدامة: وأبو بكر هو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته، وتقديم النبي صلى الله عليه وسلمله في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله يجمعهم على ضلالة، ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله، وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه، لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه، لفضله وإجماع أهل عصره عليه.
وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) وقال: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة) فكان أخرها خلافة علي رضي الله عنه (2).
فالصحابة رضي الله عنهم خير من يطلق عليهم وصف السنة وإتباعها، والسير على منهاجها والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى.
(1) أخرج الترمذي في كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4596)
(2)
ابن قدامة: عبد الله: الإمام: لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: مكتبة دار طبرية، الرياض ط 3، 1415هـ، (139).
وأما أنهم رأس الجماعة وهرمها فالله تعالى شهد لهم بذلك فقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] آل عمران 103، وقال سبحانه:[هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] الأنفال 63.
الثاني / على وجه الخصوص، حيث أُثر عن الإمام عطاء قوله: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسودّ وجوه بني قريظة والنضير.
فأي شرف أعظم من هذا الشرف: [وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]،أي: في دار كرامته وجنته خالدون باقون (1).
4) أن الله تبارك وتعالى شهد لهم بالإيمان في مثل ضربه جل في علاه فقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] آل عمران 103
وذكر أهل التفسير أن هذه الآيات نزلت في شأن الأوس الخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الإسلام فدخل فيه من
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 165، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 398، أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 296
دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى (1).
وهذه نعمة الله عليهم في الدنيا، وأما نعمته عليهم في الآخرة ففي إنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها فأي نعمة أفضل من هذه النعمة.
قال المهدوي: وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان (2).
وقد وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز المجيد بوصف الإيمان في أكثر من موضع منها قوله جل شأنه:
[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]
آل عمران 121، والجمهور على أنها غزو أحد (3).
[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ] آل عمران 123 - 124.
[وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] آل عمران
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 397
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 162، أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 287
(3)
ابن كثير: مرجع سابق: 1/ 408، القرطبي: مرجع سابق: 4/ 180، أبو حيان: مرجع سابق: 3/ 126
139، قال الإمام ابن كثير: أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون (1).
وقيل: إن معنى (إن) في الآية: إذ. وقيل: إن قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] إما لها تعلق:
أ. بالنهي في الآية، فيكون ذلك هزاً للنفوس بما يوجب قوة القلب، والثقة بصنع الله تعالى، وقلة المبالاة بالأعداء.
ب. بالجملة الخبرية، فيكون المعنى، أي: إن صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة (2).
وقد وصف الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بوصف الإيمان في موضع تحرج فيه الصحابة رضي الله عنهم، إذ نزل تحريم الخمر، ومات أناس من الصحابة رضي الله عنهم وهم يشربونها، فقالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها فنزلت [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] المائدة 93.
وقال الله سبحانه وتعالى في موضع آخر، واصفاً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بوصف الإيمان أيضاً [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] الأنفال 62، قال الإمام ابن كثير: ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين من المهاجرين
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 1/ 417
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 213، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 417
والأنصار (1).
قلت: والناظر في سورة الأنفال التي انفردت بالحديث عن غزوة بدر الكبرى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والمتأمل في آياتها يجزم يقيناً لا ريب فيه، وصدقاً لا شك فيه إيمان القوم وصدقهم وإخلاصهم رضي الله عنهم، إذ ذكر المولى عز وجل وصف الإيمان في هذه السورة عشرون مرة.
ووجه الربط - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت في بدر، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأهل بدر من أهل الإيمان الصادق، بل هم خير المؤمنين، فقد سأل جبريل عليه السلام نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام عمن شهد بدرا من المسلمين؟ فقال: هم من خير المسلمين فقال جبريل: وكذلك من شهدها من الملائكة (2).
وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من النار، فقال:(لا يلج النار رجل شهد بدراً والحديبية)(3).
[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] آل عمران 185
ومن شواهد الإيمان وطلائع الإحسان عند الصحابة رضي الله عنهم ما قصه الله جل وعلا عنهم في سورة الأحزاب، إذ وصفهم بوصف الإيمان فقال
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 2/ 336، المنصوري: مرجع سابق: 2/ 352
(2)
أخرج البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب شهود الملائكة (3992)
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أهل بدر (2495) - (2196)
سبحانه وتعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] الأحزاب 9
يقول الإمام ابن كثير: يقول الله تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق (1).
وأعاد جل وعلا ووصفهم بوصف الإيمان فقال سبحانه [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] الأحزاب 11.
فعوملوا معاملة من يُختبر، فظهر الراسخ من المتزلزل، وحينئذ ظهر النفاق وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم:[وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً] فهنا ظهر شاهد من شواهد الإيمان فقال سبحانه مخبراً عن عباده المؤمنين الصادقين بوعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة فقال سبحانه [وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً] الأحزاب 22. قال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة رحمه الله: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] البقرة 214، أي: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى [وَصَدَقَ اللَّهُ
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 478
وَرَسُولُهُ]: أي ظهر صدق خبر الله ورسوله (1).
ولما ذكر الله جل شأنه حال المنافقين وأنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف سبحانه المؤمنين أنهم استمروا على العهد والميثاق فقال سبحانه [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] الأحزاب 23. قسمهم الله تعالى قسمين فقال [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] قال الإمام الشوكاني: ومعنى الآية: أن المؤمنين رجالاً أدركوا أمنيتهم وقضوا حاجتهم، ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر؛ [وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ] قضاء نحبه يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم، فإنّهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم، وحصول أمنيتهم بالقتل، وإدراك فضل الشهادة (2).
وشهد الله تعالى لهم بالثبات وعدم التبديل فقال [وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] أي: وما غيروا عهد الله تعالى ولا نقضوه ولا بدلوه، لا المستشهدون الذين قضوا، ولا من ينتظر، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وثبتوا ثبوتاً
(1) ابن كثير: مرجع سابق، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 143، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 468، الشوكاني: فتح القدير 3/ 422
(2)
الشوكاني: فتح القدير: 3/ 421
مستمراً.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: " فمنهم من قضى نحبه ومنهم ينتظر ومنهم من بدل تبديلاً " ولكن قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود؛ لخلافه الإجماع؛ ولأن فيه طعناً على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله تعالى وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يُعرف فيهم مغيّر، وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم (1).
ومن أعظم الدلائل على فضائل القوم وكمال إيمانهم رضي الله عنهم، أن الله سبحانه وتعالى حبب إليهم الإيمان فقال سبحانه [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] الحجرات7 أي: حببه إلى نفوسكم وحسّنة في قلوبكم حتى رسخ حبه فيها، وأصبح طبيعة وسجية.
ثم قال سبحانه [وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار، والعصيان: هي جميع المعاصي، وهذا تدريج لكمال النعمة (2).
قال الإمام القرطبي: وهذا خطاب المؤمنين المخلصين الذين لا
(1) مراجع سابقة، المنصوري: المقتطف: 4/ 258، السعدي: عبد الرحمن: العلامة: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: مؤسسة الرسالة بيروت ط 2/ 1417هـ (609)، الشنقيطي: محمد الأمين: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، دار الأندلس الخضراء ط 1/ 1423هـ (1500)
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 225
يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخبرون بالباطل أي: جعل الإيمان أحب الأديان إليكم (1).
ثم قال سبحانه [أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ]: أي: الموصوفون بما ذكرهم، هم الراشدون: الذين صلحت علومهم وأعمالهم، واستقاموا على الدين القويم والصراط المستقيم (2).
ثم قال سبحانه [فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]: قال الإمام الشوكاني: أنه حبب إليكم ما حبب، وكره إليكم ما كرّه، لأجل فضله وإنعامه، أو جعلكم راشدين لأجل ذلك (3).
ويكفي القوم شرفاً رضي الله عنهم أن الله جل وعلا أخبر عن شهدائهم بالمكانة العظيمة والفوز الكريم، فقال سبحانه:[وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ] آل عمران 169 _ 170.
وعلى كل الأقوال في تعيين الشهداء في هذه الآية، فهي فضيلة ومنقبة عظيمة لهم رضي الله عنهم فقد قيل: إن المراد من الشهداء في الآية:
شهداء أحد، وقيل: شهداء بدر، وقيل: شهداء بئر معونة، وقيل:
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 266
(2)
السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 744
(3)
الشوكاني: فتح القدير: 4/ 130، أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 515
عامة في كل الشهداء (1).
وأراد الله سبحانه وتعالى أن يتم لهم الأجر العظيم فقال: [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] آل عمران 172.
فقيل: الاستجابة كانت إثر الانصراف من أحد، وكان يوم حمراء الأسد، فعن عروة قال قالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن أختي كان أبواك _ تعني: الزبير وأبا بكر _ من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابَهم القرح. وقالت: لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أصابَهم، خاف أن يرجعوا فقال: من ينتدب لهؤلاء حتى يعلموا أن بنا قوة، قال: فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين فخرجوا في أثار القوم، فسمعوا بهم، وانصرفوا بنعمة من الله وفضل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يذهب في إثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلاً، قال: كان فيهم أبو بكر والزبير، حتى بلغ حمراء الأسد، مرهباً للعدو، فربما كان فيهم المثقل بالجراح لا يستطيع المشي، ولا يجد مركوباً، فربما يحمل على الأعناق وكل ذلك امتثالاً لأمر رسول الله، ورغبة في الجهاد (2).
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 435، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 260، أبو حيان: البحر المحيط: 3/ 427
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 1/ 437، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/ 270، أبو حيان: البحر المحيط: 435، المنصوري: المقتطف: 1/ 391
بل حتى من آمن من أحبار أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأسد بن عبيد، وثعلبة بن شعبة وغيرهم فمن اتصفوا بصفات المؤمنين من تلاوة القرآن والصلاة والإيمان بالله واليوم الآمر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة إلى الخيرات، فقد شهد الله تعالى لهم بأنهم من الصالحين فقال سبحانه [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ] آل عمران 113، 114، 115.
قال الإمام القرطبي: [وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]: أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة (1).
وذكر الإمام سعيد بن منصور: أنهم هم المقصودون بقوله تعالى
[الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] الرعد 28.
فأخرج في سننه عن سفيان، قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2).
قال الإمام ابن القيم: إن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها، فهم
(1) القرطبي: مرجع سابق: 4/ 173، ابن كثير، مرجع سابق: 1/ 406، المنصوري: مرجع سابق: 1/ 359
(2)
أخرجه سعد بن منصور في سننه: 5/ 435، ط1 1414هـ، متفقة مع طبعة دار الصميعي.
سادات المفتين العلماء، قال الليث عن مجاهد: العلماء: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ] سبأ 6، قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (1).
5) أن الله سبحانه وتعالى قسم المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين وفريقين:
الأول): وهم المهاجرون: الذي هجروا أوطانهم وأموالهم وفارقوها طلباً لما عند الله تعالى وإجابة لداعيه، وإقامة لدينه.
قال الإمام أبو حيان: فبدأ بالمهاجرين؛ لأنهم أصل الإسلام، وأول من استجاب لله، فهاجر قوم إلى المدينة، وقوم إلى الحبشة، وقوم إلى ابن ذي يزن، ثم هاجروا إلى المدينة، وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان، وسبب تقوية الدين (ومن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)(2).
وقال الإمام ابن كثير: وأحسن ما قيل في قوله تعالى [وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] الحشر 9، أي: لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار، وهذا أمر مجمع عليه بين
(1) ابن القيم: إعلام الموقعين: 1/ 14
(2)
أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 357
العلماء لا يختلفون في ذلك (1).
الثاني): وهم الأنصار: المسلمون من أهل المدينة، الذي آووا إخوانهم المهاجرين، وأنزلوهم منازلهم، وبذلوا لهم أموالهم وأثروهم على أنفسهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم.
قال الإمام أبو حيان: ثم ثنى بالأنصار؛ لأنهم ساووهم في الإيمان، وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل الهجرة: الإيواء والنصر، وانفرد المهاجرون بالسبق (2).
وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] الأنفال 72.
قال أهل التفسير: وهذه الآية تضمنت ولاية بعضهم بعضاً، فهي واردة في إيجاب الولاية والنصرة.
ولما ذكر سبحانه وتعالى حكم المؤمنين في الدنيا، عطف بذكر ما لهم في الآخرة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] الأنفال 74. ففي هذه الآية الكريمة: تعظيم للمهاجرين والأنصار، وثناء عليهم
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 342
(2)
مراجع سابقة، القرطبي الجامع لأحكام القرآن: 8/ 57، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 211
وتشريف واختصاص لهم، حكم لهم بالإيمان الحق الكامل، مع ما آل إليه حالهم رضي الله عنهم من المغفرة والرزق الكريم. قال العلامة المنصوري: وهو كلام مسوق للثناء عليهم، والشهادة بفوزهم بالقدح المعلى من الإيمان (1).
6) في سورة الفاضحة والبحوث والمبعثرة والمخزية والمثيرة والحافرة والمنكلة والمدمدمة التي فضحت المنافقين، وبحثت عن أسرارهم وآثارتها ونكلت بهم ودمدمت عليهم، أنزل الله جل وعلا فيها توبته على المؤمنين، لتكون مخرسة لكل متكلم بالبهتان فاضح لسان النفاق فقال سبحانه:[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] التوبة 117 (2).
وجاءت آيات هذه السورة في سياقاتِها فاضحة للمنافقين، وفي صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(في أصحابي اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم)(3).
وبعد أن ذكر الله جل شأنه حال المنافقين في تخلفهم عن الجهاد مع
(1) المنصوري: المقتطف: 2/ 359
(2)
الشوكاني: فتح القدير: 2/ 214
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (2779)
الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ذكر حال المؤمنين الصادقين في المثابرة على الجهاد، وأثنى عليهم فقال سبحانه [لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 88 - 89.
فأؤلئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم الخيرات - وهي منافع الدين والدنيا والآخرة - وهم الفائزون المفلحون الذين ظفروا بأعلى المطالب وأكمل الرغائب (1).
7) إحلال رضى الله جل وعلا على أولئك القوم، ومن رضي الله عنه فقد فاز، قال سبحانه:[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ]
البينة 7 - 8.
قال العلامة السعدي: ورضاه تعالى أكبر من نعيم الجنة (2). وليس بعد الرضا سخط. قال الإمام ابن كثير: في قوله تعالى {يبتغون فضلا من الله
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 205، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 395، أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 80، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 266، المنصوري: المقتطف 2/ 419، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 360
(2)
السعدي: مرجع سابق: 308
ورضوانا}، وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا
[وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ](1).
قال الله جل شأنه [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] التوبة 100، وقال سبحانه [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] الفتح 18
أخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد، قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي، أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما أريد الفتن، قال: إن الله تعالى قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أي موضع أوجب الله تعالى لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرؤون قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ..... ] الآية، أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم، قلت: وما اشترط عليهم، قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدون بهم في
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 218
أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك، قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ ابن كعب (1).
يقول الإمام ابن كثير: فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولاسيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخيرهم وأفضلهم، أعني: الصديق الأكبر والخلفية الأعظم: أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونَهم ويسبونَهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبَهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون من رضي الله عنهم، وأما أهل السنة فإنّهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله، ويعادون من عادى الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون (2).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل النار أحداً شهد بدراً والحديبية)، ولذا فقد رضي الله عنهم ووصفهم بوصف الإيمان، فقال سبحانه [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ .... ] الفتح 18.
قال الإمام أبو حيان: والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم، ولذا
(1) الشوكاني: فتح القدير: 2/ 275، المنصوري: المقتطف: 2/ 426
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 398، وانظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 11/ 56
سميت بيعة الرضوان، وكانوا فيما روي: ألفاً وخمسمائة وعشرين. وقال ابن أبي أوفى: وثلاثمائة (1).
8) ومن الأدلة على فضل الصحابة رضي الله عنه:
ما أثنى الله تعالى به عليهم في كتابه، وضرب بهم مثلاً في التوراة وفي الإنجيل، فقال سبحانه:[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] الفتح 29
أخرج ابن جرير وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس:[ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ] يعني: نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله تعالى السموات والأرض (2).
واختلف المفسرون في هذه الآية، وكم مثل ضُرب فيها؟
فقيل: هما مثلان، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه أحدهما في التوراة، والآخر في الإنجيل.
(1) أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 492، وانظر: السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 737
(2)
الشوكاني: فتح القدير: 4/ 127
وعليه فيوقف في القراءة على قوله: [التَّوْرَاةِ].
وقيل: هما مثل واحد، وهو قول مجاهد، يعني: أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل.
ويكون الوقف على [الْأِنْجِيلِ]، ويبتدئ بقوله:[كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ] على معنى: وهم كزرع (1).
وعلى كلا القولين هو شرف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.
وقال الإمام مالك: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابةرضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا.
قال الإمام ابن كثير: وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوّه الله تعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة (2).
فذكر الله تعالى وصفهم الذي وصفوا به في التوراة، بأنهم في أكمل الصفات، وأجل الأحوال " والأولى حمل قوله تعالى [وَالَّذِينَ مَعَهُ] على عموم الصحابة، لا على أصحاب الحديبية فقط"(3)، ولذا قال الإمام
(1) مرجع سابق، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 16/ 250، أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 501
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219
(3)
الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 125
القرطبي: وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه (1).
فقال سبحانه وتعالى [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ]: أي غلاظ عليهم،
[رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]: أي يرحم بعضهم بعضاً، فهم متوادون متعاطفون كالجسد الواحد، وهذا فيما يتعلق في معاملتهم مع الخلق.
وفيما يتعلق في معاملتهم مع الخالق سبحانه وتعالى، يقول عنهم:
[تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً] فوصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة، والحامل لهم على ذلك طلب الرضوان والاحتساب عند الله تعالى، فقال سبحانه
[يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] فوصفهم بالإخلاص في الأعمال لله تعالى، فكان مقصودهم بلوغ رضا الله تعالى والوصول إلى ثوابه.
وقال سبحانه في وصفهم [سيماهم في وجوههم من أثر السجود]: فُسر بالخشوع وبالسمت الحسن. وقيل: تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة، وكثرة التعبد بالليل والنهار. وقيل: نور وبياض في وجوههم يوم القيامة من كثرة صلاتِهم وسجودهم (2). فتلك الأوصاف الجليلة، والأعمال العظيمة هي مثلهم في التوراة.
وقال سبحانه وتعالى: [وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ] أي لهم وصف آخر، وذلك أنّهم في تعاونِهم وكمالهم:[كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ] أي فراخه، وقيل:
(1) القرطبي: مرجع سابق: 16/ 248
(2)
مراجع سابقة، البغوي: الحسين: الإمام: شرح السنة: (دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2/ 1424هـ، (7/ 171)
سنبله، فنبت في جوانبه، {فآزره} أي: فقواه وأعانه وشده في النبات والاستواء، {فاستغلظ} أي: صار ذلك الزرع غليظاً بعد أن كان رقيقاً، وشب وطال [فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ] أي: فاستتم وتكامل على سوقه، أي: على قصبه وأصوله وأعواده، {يعجب الزراع} أي: يعحب هذا الزرع زارعه، لقوته وحسن منظره، وكماله واستوائه وحسنه واعتداله، وكثافته وغلظه (1).
قال أهل التفسير: وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: فكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه، كالشطء مع الزرع (2).
قال الإمام القرطبي: يعني: أنّهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفاً، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه، فكان هذه من أصح مثل وأقوى بيان (3).
وقال العلامة المنصوري: المثل ضربه الله تعالى لأصحابه، كانوا قلة في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوماً فيوماً بحيث أعجب الناس شأنَهم ودينهم وكامل قوتِهم.
(1) مراجع سابقة.
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 250
وجاء في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (1).
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: وما تضمنته الآية من المثل المذكور في الإنجيل المضروب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم يكونون في مبدأ أمرهم في قلة وضعف، ثم بعد ذلك يكثرون ويقوون، جاء موضحاً في آيات من كتاب الله تعالى كقوله:[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] وقوله: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] وقوله: [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ] إلى غير ذلك من الآيات (2).
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى علة تكثيره لأصحابه وتقويته لهم، فقال سبحانه:[لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ] أي حين يرون اجتماعهم وشدتهم على أعداء دينهم (3).
ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بوعده لهم بالمغفرة والأجر العظيم، فقال سبحانه:[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ] ومنهم هنا: لبيان الجنس، لا للتبعيض، [مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] أي ثواباً جزيلاً،
(1) المنصوري: المقتطف: 5/ 54، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 126
(2)
الشنقيطي: أضواء البيان: 1769
(3)
السعدي: تيسير الكريم المنان: 740
ورزقاً كريماً، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل (1).
قال الإمام القرطبي: وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة، تفضيلاً لهم، وإن كان وعد الله جميع المؤمنين بالمغفرة (2).
9) قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل (3).
وقد قسمهم الله تعالى في قوله سبحانه: [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] الحشر 8 - 10
فذكر الله جل وعلا بعض خصائصهم ومناقبهم، وقد جعل سبحانه
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219، أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 503، السيوطي: الإكليل 3/ 1192
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 251
(3)
القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30
الفيء خاصاً بهؤلاء الفقراء المهاجرين لحاجتهم واضطرارهم [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] يبتغون رزقاً في الدنيا ورضواناً في الآخرة.
قال العلامة المنصوري: وصفوا أولاً بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال.
وثانياً: بما يوجب تفخيم شأنِهم ويؤكده، وهو أن خروجهم لم يكن للدنيا، وإنما كان نصرة للدين وطلباً لمرضاته (1).
[أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] أي: في إيمانهم وجهدهم قولاً وفعلاً، وهؤلاء سادات المهاجرين (2).
ثم امتدح الله جل علا الأنصار مبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال سبحانه [وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصية بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم (3).
(1) المنصوري: المقتطف: 5/ 219
(2)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 361، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 20، أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 142
(3)
ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 361
قال العلامة السعدي: فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان: هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام الذي حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم، وأدركوا من قبلهم، فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين، وقادات المتقين (1).
ثم ذكر سبحانه وتعالى الصنف الثالث: وهم التابعون، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة وهم التابعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، فهم يدعون قائلين:
[رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ](2).
قال الإمام القرطبي: قال بعضهم: كن شمساً، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع، ومعنى هذا: كن مهاجرياً، فإن قلت لا أجد، فكن أنصارياً فإن لم تجد، فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع، فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله تعالى (3).
ومن صفات التابعين أنهم يدعون الله تعالى ألا يجعل في قلوبهم غلاً ولا حسداً ولا بغضاً ولا غشاً للذين آمنوا.
قال الإمام السيوطي: وفي قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم}
(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 790
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 363
(3)
القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30
فيه: الحث على الدعاء والترضي عن الصحابة، وتصفية القلوب من بغض أحد منهم (1).
وقال الإمام القرطبي: وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم ومولاتِهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء. روي عن مالك وغيره (2).
وما أجمل ما سطرته بنان الإمام الشوكاني حيث قال:
أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار، أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبِهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونِهم أشرف المؤمنين ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم، فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية.
فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحلّ به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم، إن لم يتدارك نفسه باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والاستغاثة به، بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون، وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم
(1) السيوطي: الإكليل: 3/ 1243
(2)
القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30
فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بِهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسوله المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر، وما زال الشيطان ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط (1).
10) أن الله تعالى بفضله ورحمته، وعدهم الحسنى، وشهد لهم بِها، والله سبحانه لا يخلف الميعاد، فقال سبحانه:[وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] الحديد 10
قال العلامة السعدي: وهذا يدل على فضل الصحابة كلهم رضي الله عنهم حيث
(1) الشوكاني: فتح القدير: 4/ 261
شهد الله لهم بالإيمان ووعدهم الجنة (1).
فبيّن الله سبحانه في هذه الآية فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، فقال:[لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ]. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الناس كانت أكثر، لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النصب، وهؤلاء هم السابقون الأولون من المهاجرين (2). والأنصار الذي جاء في حقهم قوله عليه الصلاة والسلام:(لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)(3).
ولما كان التفضيل بين الأمور قد يتوهم منه نقص وقدح في المفضول، احترز تعالى من هذا بقوله [وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] أي الذين أسلموا وقاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح وبعده، والفتح على المشهور (فتح مكة)، وقيل: الحديبية، كلهم وعدهم الله تعالى الجنة مع تفاوت الدرجات.
قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها.
وقال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم،
(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن 779
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 205
(3)
أبو حيان: البحر المحيط: 10/ 103
وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ (1).
ولذا فقد أثنى المولى جل وعلا عليهم جميعاً، وسوّى بين من مات في سبيل الله أو مات حتف أنفه، فقال:[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ] الحج 59،58.
وقيل في سبب نزولها: أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة، قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فزلت هذه الآية مسوّية بينهم، وأن الله سبحانه يرزقهم جميعاً رزقاً حسناً (2).
11) أجزم أن كل أية شريفة في كتاب الله عز وجل فيها وصف حسن، وخُلق كريم، وفضل عظيم، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولى به وأسرع القوم إليه، والشواهد على ذلك كثيرة منها:
أ): قوله سبحانه وتعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 328، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 7/ 207،، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 231، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 779،.
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 242، القرطبي: مرجع سابق: 12/ 83، أبو حيان: مرجع سابق: 7/ 528
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] المجادلة 22
قال الإمام ابن كثير: قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية في أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الشورى بعده في أولئك الستة: ولو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته (1).
وقيل: قوله سبحانه [وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ] نزلت في أبي عبيدة، قتل أباه يوم بدر.
وقوله: [أَوْ أَبْنَاءَهُمْ] نزلت في الصديق، فإنه همّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن.
وقوله: [أَوْ إِخْوَانَهُمْ] نزلت في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ.
وقوله: [أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] نزلت في عمر قتل قريباً له يومئذ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. ثم قال جل شأنه [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] وفي هذا سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على الغرائب والعشائر في الله، عوضهم الله تعالى بالرضا عنهم وأرضاهم
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 352
عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم والفضل العميم (1).
ب) قال الله تعالى [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] الليل 5 - 7، أي أعطي حقوق ماله، واتقى ربه، واجتنب محارمه.
[وصَدَّقَ بِالْحُسْنَى]: قيل: صدق بالخلف من الله، وقيل: بلا إله إلا الله، وقيل: بالجنة، قال الإمام الشوكاني: وصدق بالخلف من الله تعالى أولى.
[فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] قيل: للخير، وقيل: للجنة.
والشاهد: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني: أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداء يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد - أظن قال - ما عند الله، قال: فحدثني بعض أهل بيتي: أن هذه الآية نزلت فيه (2).
وعلى كل الأقوال والأحوال فإن الصحابة رضي الله عنهمأولى من يدخل في
(1) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 260، أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 131، الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 232، السعدي: مرجع سابق: 787 المنصوري: مرجع سابق: 5/ 214، الشنقيطي: أضواء البيان: 1849
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 555، أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 492، الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 505
معرض هذه الآيات لما ذكر.
الثاني: في قوله سبحانه [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ] الواقعة 13 - 14، وهو تقسيم للمقربين الذين قال الله جل وعلا عنهم
[وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] وهم الذين وصفهم المولى سبحانه بقوله [إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ] المطففين 22 - 28
قال الإمام القرطبي: أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة (1).
واختلف المفسرون في تعيين المراد من قوله تعالى [ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ] فقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، وبالآخرين: هذه الأمة، وهذا اختيار الإمام ابن جرير الطبري.
وقيل: المراد بالأولين: أي من صدر هذه الأمة، وبالآخرين: من هذه الأمة أيضاً، فالجميع من هذه الأمة. وهو اختيار الإمام ابن كثير، وقال: ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم كل أمة بحسبها. وروي عن عائشة أنّها قالت: الفرقتان في كل أمة نبي، في
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 19/ 233
صدرها ثلة، وفي آخرها قليل (1).
وعلى كلا القولين يظهر فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن القول الثاني أجلى وأظهر. يقول العلامة محمد الأمين الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم (الصحابة رضي الله عنهم، ولكن الشيخ مال للرأي الأول رحمه الله تعالى (2).
ج) قال الله جل شأنه: [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ] اختلف أهل التفسير في تعيين المراد من هذه الآية:
فقيل: الذي جاء بالصدق: جبريل عليه السلام، والذي صدق به: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الذي جاء بالصدق: النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به: المؤمنون.
وقيل: الذي جاء بالصدق: النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به: أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وقيل: الذي جاء بالصدق: النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله تعالى، وأرشد إلى ما
(1) القرطبي: مرجع سابق: 18/ 172، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 304، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 213، المنصوري: المقتطف: 5/ 167.
(2)
الشنقيطي: أضواء البيان: 1828
شرعه لعباده، واختار هذا الإمام ابن جرير، وقواه العلامة الشوكاني.
وعليه فالأية دليل مؤكد واضح على فضل الصحابة رضي الله عنهم، إذ هم رأس وهرم المصدقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد الله تعالى لهم بأنهم أهل التقوى والإحسان [لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ](1) الزمر 34.
هـ) ومما يدل على فضلهم رضي الله عنهم على رأي بعض أهل التفسير، ما جاء في قوله سبحانه وتعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] الحج 39 - 41
قال الإمام الحبر ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: المراد: المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان.
وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2).
ومن الآيات التي وصفتهم بوصف الإيمان قوله جل شأنه: {قل
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 58، القرطبي: مرجع سابق: 15/ 225، أبو حيان: مرجع سابق: 9/ 203، الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 595، السعدي: مرجع سابق 670، المنصوري: مرجع سابق: 4/ 453
(2)
القرطبي: مرجع سابق: 11/ 70، أبو حيان: مرجع سابق: 7/ 518.
للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} (الجاثية: 14)
فقيل: نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما كانوا في أذى شديد من أهل مكة قبل أن يؤمروا بالقتال؛ ليكون ذلك كالتأليف لهم، ثم لما أصروا على العناد شرع الله تعالى للمؤمنين الجلاد والجهاد.
فهم رضي الله عنهم أهل الإيمان الخالص الصادق. (1)
و) ومثله ما ورد عن بعض أهل التفسير في قوله سبحانه وتعالى
[فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ].
فاختلف العلماء في المراد من قوله تعالى [بِأَيْدِي سَفَرَةٍ]:
فالجماهير من أهل العلم: أنّهم الملائكة عليهم السلام.
وقال وهب بن منبه: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أبو حيان: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير، والتعليم والعلم (2).
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/ 161، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 139، المحلى: تفسير الجلالين:662
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 4/ 502، القرطبي: مرجع سابق: 19/ 188، أبو حيان: مرجع سابق: 10/ 408، الشوكاني: مرجع سابق: 4/ 433، السعدي: مرجع سابق: 842، المنصوري: مرجع سابق: 5/ 430
قلت: ولاشك أن في هذا فضل ومزية، وإن كان القول الحق أن المراد: الملائكة: الذين هم سفراء بين الله وبين عباده، ولذا قال الإمام ابن العربي: لقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كراماً بررة، ولكن ليسوا بمرادين بِهذه الآية ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم (1).
ز) وقال الله جل شأنه [قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى] النمل 59.
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمده على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وعلل ما اتصف به سبحانه من الصفات العلى والأسماء الحسنى.
واختلف المفسرون في الآية في موضعين:
الأول: قوله سبحانه: [قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ] من المخاطب بِها؟
فقيل: المخاطب بِها لوط عليه السلام، والمعنى قل الحمد لله على هلاك كفار قومه، وعزا هذا القول الإمام ابن عطية للإمام الفراء.
وقيل: المخاطب بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، قال الإمام النحاس: وهو أولى لأن القرآن منزّل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما فيه فهو مخاطب به، إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره.
الثاني: قوله سبحانه [وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى]:
وهي الشاهد فيما نحن بصدده، من بيان فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) ابن العربي: محمد: الإمام: أحكام القرآن: دار الكتب العلمية بيروت ط1 1424هـ (4/ 363).
فاختلف المفسرون في المسلّم عليهم الذي اصطفوا:
فقيل: هم الأنبياء، وهو قول الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول حبر الأمة وترجمان القرآن: عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو قول سفيان الثوري والسدي.
قال الإمام ابن كثير: ولا منافاة، فإنّهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى (1).
ل) وقال سبحانه وتعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ] البقرة 121.
اختلف المفسرون في المراد من الآية:
فقيل: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة، وحكي نحو هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والكتاب على هذا التأويل هو: القرآن الكريم. فوجه الفضل فيه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله جل وعلا شهد لهم بأنهم يؤمنون به، ويقيمونه على وجهه المطلوب.
وقيل: هم من أسلم من بني إسرائيل، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والكتاب على هذا التأويل: التوراة، قال الإمام القرطبي: والآية
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 381، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 13/ 196، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 256، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 304، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 556، البغوي: شرح السنة: 7/ 171
تعم (1).
ص) وقال سبحانه وتعالى [إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
مَعَنَا] التوبة 40.
دلت هذه الآية على فضل الصديق، وعلو مكانته، وجليل صحبته، قال الإمام أبو حيان: وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام (2)، ولذا نص العلماء: أن من أنكر صحبة عمر وعثمان أو غيرهما من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع، وأما من أنكر صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه ورد نص القرآن (3).
وما أجمل ما سطرته بنان الإمام الفذ القيِم شمس الدين ابن القيم فقال:
كانت تحفة ثاني اثنين مدخرة للصديق دون الجميع، فهو الثاني في الإسلام، وفي بذل النفس، وفي الزهد، وفي الصحبة، وفي الخلافة، وفي العمر، وفي سبب الموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات عن أثر السم، وأبو بكر سُم
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 1/ 168، القرطبي: مرجع سابق: 2/ 93، الشوكاني: مرجع سابق: 1/ 121، المنصوري: المقتطف: 1/ 149
(2)
أبو حيان: البحر المحيط: 5/ 421
(3)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 8/ 133، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 372، الشوكاني: فتح القدير: 2/ 241، المنصوري: المقتطف: 2/ 389
فمات.
أسلم على يديه من العشرة: عثمان وطلحة والزبير وابن عوف
وسعد بن أبي وقاص، وكان عنده يوم أسلم أربعون ألف درهم فأنفقها أحوج ما كان الإسلام إليها، فلهذا جلبت نفقته عليه (ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر).
فهو خير من مؤمن آل فرعون؛ لأن ذلك كان يكتم إيمانه، والصديق أعلن به، وخير من مؤمن آل ياسين؛ لأن ذلك جاهد ساعة، والصديق جاهد سنين.
نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليها الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار {ثاني اثنين إذ هما في الغار} .
ثم قال: من كان قرين النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه؟
من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟
من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه؟
من أول من صلى معه؟ من آخر من صلى به؟
من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟ فاعرفوا حق الجار.
وقال: حُبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على سوء الطوية، فهو خير الصحابة والقرابة، والحجة على ذلك قوية، ولولا صحة إمامته ما قيل
ابن الحنفية، مهلا مهلا فإن دم الروافض قد فار. والله ما احببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هدانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا. تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر، تالله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه، ونقر به بما نقر به من السنى - البرق - عينا، فمن كان رافضيا فلا يعد إلينا، وليقل لي أعذار. (1)
ومن آيات الفضل والثناء قوله سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (المائدة: 54).
قال الحسن: هو والله أبوبكر وأصحابه، وقال السدي: نزلت في الأنصار، وقال أبوبكر بن عياش: هم أهل القادسية.
وهذا كله يدل على الفضل إذ فيه إثبات المحبة، ومن أحبه الله تعالى فهو ولي الله، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم أولياء الله المتقين، والسادة المقربون.
وقال الإمام ابن كثير: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين.
(1) ابن القيم: محمد: الإمام: الفوائد: دار الكتاب العربي ط2 1406هـ (110)،انظر: ابن الجوزي: المدهش: 110.
وقال الإمام القرطبي: دلت الآية على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي الله تعالى. (1)
إذن: فوصف الإيمان في الكتاب ملازم لخيرة الصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم، وحصر مثل ذلك من الأمور الصعاب، فأين ذلك من الشتائم والسباب.
يقول رب الأرباب: [الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] الروم 1 - 5
فقد وصف الله جل وعلا أصحاب نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بوصف الإيمان، وهو من أعمال القلوب وهو سبحانه أعلم بصلاح بواطنهم وظواهرهم، ولذا قال في الآية الأخرى مثنّياً عليهم [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] الفتح 18.
قال العلامة السعدي: فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات، وأجل القربات. [فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ]:
(1) لان كثير تفسير القرآن العظيم 2/ 74، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 6/ 260، الخلال: السنة 2/ 462
من الإيمان. {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ]: شكراً لهم على ما في قلوبِهم، وزادهم هدى (2).
ومعلوم أن الإيمان قول وعمل، وهم رضي الله عنهم، حققوا الإيمان أكمل تحقيق، فالقول قولان: قول اللسان، وقول القلب، والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح.
(والإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا لله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان)(1).
فأعلى ما تلهج به ألسنتهم شهادة التوحيد، فبها أسلموا، وبِها قاتلوا وجاهدوا، وبِها لقوا ربّهم، وهم أهل الإخلاص واليقين، وأهل المحبة والخوف من رب العالمين، هم الصادقون في أقوالهم، المصدقون ذلك بأفعالهم، مُلئت قلوبُهم إيماناً، وجوارحهم إحساناً، قال تعالى مثنّياً عليهم مخاطباً المنافقين:[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ] البقرة 13.
والمصدقون بشرعه: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (2).
12) ومن الآيات الكريمات الشريفات التي أثنت على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعطرتهم بالذكر الحسن قوله سبحانه وتعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان باب أمور من الإيمان (9)
(2)
القرطبي: الجمع لأحكام القرآن: 1/ 251، أبو حيان: البحر المحيط: 1/ 111، الشوكاني: فتح القدير: 1/ 37
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] الأحزاب 33، وهذه آية ضمن آيات في سورة الأحزاب تحدثت عن شأن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمهات المؤمنين، وهي تدل على الفضائل والمناقب من أوجه:
أولاً: أن الله عز وجل أراد إذهاب الرجس عنهم، وهذا فضل منه سبحانه ومنة.
وقال أهل التفسير: إن المراد بالرجس في الآية: الإثم.
وقيل: الشرك، وقيل: الشيطان ، وقيل: الأفعال الخبيثة، والأخلاق الذميمة (1).
قالوا: وقوله جل شأنه: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ] هو تعليل لأمرهن ونَهيهنّ. قال الإمام أبو حيان: ثم بين أن أمرهن ونَهيهنّ ووعظهن إنما هو لإذهاب المأثم عنهن، وتصونهنّ بالتقوى، واستعار الرجس للذنوب، والطهر للتقوى؛ لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بِها ويتلوث، كما يتلوث بدنه بالأرجاس.
وأما الطاعات فالعرض معها مصون كالثوب الطاهر، وفي هذه الاستعارة تنفير عما نَهى الله تعالى عنه، وترغيب فيما أمر به، والرجس: يقع على الإثم والعذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، فأذهب الله تعالى جميع
(1) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 571، النووي: شرح صحيح مسلم: 15/ 204
ذلك عن أهل البيت (1).
ثم قال سبحانه [وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] قال الإمام الشوكاني: أي يطهركم من الأرجاس والأدران تطهيراً كاملاً. وقال العلامة الشنقيطي: وفي هذه الآية يعني: أنه يذهب الرجس عنهم، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله تعالى، وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع الله تعالى أذهب عنه الرجس، وطهره من الذنوب تطهيرا (2).
وأولى من يدخل في هذه الآية هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته، أحق بِهذه التسمية (3).
وقال الإمام أبو حيان: بل يظهر أنهن أحق بهذا الاسم؛ لملازمتهن بيته. ونقل عن الإمام ابن عطية قوله: والذي يظهر أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، فأهل البيت: زوجاته وبنته وبنوها وزوجها. ونقل عن الإمام الزمخشري قوله: وفي هذا دليل على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته (4).
وقال الإمام ابن كثير: ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال بعد هذا كله:
(1) أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 478
(2)
الشوكاني: فتح القدير: 3/ 427، الشنقيطي: أضواء البيان: 1502
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 495
(4)
أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 479
[وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ] أي: واعملن بما ينزل الله تعالى على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة (1).
وبعد هذا التقرير المثبت أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في مسمى أهل البيت، نشير إلى خلاف العلماء في هذه المسألة:
فقد اختلف العلماء في المراد بأهل البيت المنوّه عنهم في الآية الكريمة إلى أقوال:
القول الأول: أن المراد بأهل البيت في الآية: هم خاصة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول هو المروي عن ابن عباس رضي الله عنه، وروي كذا عن عكرمة وعطاء ومقاتل وسعيد بن جبير.
واحتجوا بما يلي:
- أن سياق الآيات في مساق واحد، وهو الحديث عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
- وأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم هن سبب نزول هذه الآيات، روي ابن جرير عن عكرمة: أنه كان ينادي في السوق [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
…
] نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه كذا.
- وقال عكرمة: من شاء باهلته أنّها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أنّهم (علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة)، وهذا
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 494
القول مروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وروي عن الكلبي.
واحتجوا بما يلي:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال:[إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً](1).
وروي ذلك عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو سعيد وأنس وأم سلمة وواثلة بن الأسقع وغيرهم.
قالوا: الخطاب في الآية يصلح للذكور والإناث، والحديث خصصهم بأعيانهم.
القول الثالث: أنّهم من حرمت عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم: وهم آل علي، وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس.
فقال أصحاب هذا القول: إن المراد من بهذه الآية: هم أهل البيت "بيت النسب".
واحتجوا: بما ثبت في صحيح الإمام مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أذكركم الله في أهل بيتي - ثلاثا -)، فقيل لزيد: أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. وكلن أهل بيته من حرم
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (2424)
الصدقة بعده، قيل: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس فقيل: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم (1).
القول الرابع: أن الآية تشمل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وآله المذكورون في حديث الكساء:(وهم علي وفاطمة والحسن والحسين).
قالوا: أما الزوجات، فتشملهن هذه الآية:
- لكونِهنّ المرادات في السياق.
- ولكونِهنّ الساكنات في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، والنازلات في منازله.
- مع ما سبق ذكره من أدله خاصة، تدل على دخولهن في الآية.
وأما دخول أصحاب الكساء:
- لكونِهم قرابته، وأهل بيته في النسب.
- وما يؤيده أيضاً من الأدلة، بأنّهم سبب لنُزول الآية أيضاً.
قال الإمام الشوكاني: فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين، فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل مالا يجوز إهماله (2).
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب (2408)
(2)
الشوكاني: فتح القدير: 3/ 429، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 491، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 162، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 479، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 612، الشنقيطي: أضواء البيان: 1502، العيني: عمدة القارئ: 11/ 453، البنا: الفتح الرباني: 18/ 238، ابن الملقن: عمر: الإمام: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: دار العاصمة، الرياض " 1/ 1421هـ، (1/ 112)، الطبري: أحمد: الإمام: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربي: مكتبة الصحابة جدة 1415هـ (57) ابن العربي: عارضة الأحوذي: 13/ 124
الترجيح: يترجح، والعلم عند الله تعالى، هذا القول الذي يجمع بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم وآله أصحاب الكساء: علي وفاطمة والحسن والحسين، وهذا القول رجحه جماهير أهل العلم، ورجحه الإمام القرطبي والإمام ابن كثير والإمام ابن العربي.
ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى بما يلي:
من قال: إن الآية نزلت في خاصة شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فيُقال: إن كان المراد: أنّهنّ كنّ سبب النزول دون غيرهن فصحيح، وإن أريد أنّهم المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك قاله الإمام ابن كثير (1).
وكذا فإن سبب النّزول قد يتعدد، قال الإمام الشوكاني: وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين، فلكونِهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيد ذلك ما ذُكر من الأحاديث المصرحة بأنّهم سبب النزول.
وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فقد قال الإمام أبو حيان: فلعله لا يصح عنه (2).
ومن خصص الآية، بعلي وفاطمة والحسن والحسين، دون غيرهم من
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 491
(2)
الشوكاني: مرجع سابق: 3/ 429، أبو حيان: مرجع سابق: 8/ 479
نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أعمل بعض ما يجب إعماله، وأهمل مالا يجوز إهماله، كما أشار إليه الإمام الشوكاني.
والمتأمل في الآية والأحاديث يجد أنه لا تعارض بينها، فزوجاته هن أهل بيته من حيث الزوجية وهؤلاء أهل بيته من حيث القرابة، بل إن أهل بيته أعم من هؤلاء الأربعة، لأن أهل البيت يشمل كل من تحرم عليه الصدقة من بني هاشم (1).
قال الإمام القرطبي: ولا اعتبار لقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه. فالآيات كلها من قوله:[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا] إلى قوله [إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً] منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاماً منفصلاً لغيرهن، وإنما هذا شيء جرى في الأخبار: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية، دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال:(اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)
فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بِها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرّها لهم
(1) الخليفي: حصة: دكتورة: قضايا نساء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنات في سورة الأحزاب: دار المسلم ط 1/ 1418هـ (141)
خاصة، وهي دعوة لهم خارجة من التنْزيل (1).
ومن ذهب إلى أن المراد من الآية: أنّهم بنو هاشم، وهم من تحرم عليهم الصدقة، فقد استدل بحديث زيد بن أرقم، وهو دليل واضح على أن أهل بيته لفظ يدخل فيه قراباته وزوجاته عليه الصلاة والسلام.
ولكن ورد من طريقة آخر وفيه، فقلت له: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
قال الإمام النووي: وهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: ولسن من أهل بيته. فتتأول الرواية الأولى: على أن المراد أنّهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم، وأمر باحترامهم وإكرامهم، وسماهم ثقلاً، ووعظ في حقوقهم وذكّر، فنساؤه داخلات في هذا كله، ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله:(نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة) فاتفقت الروايتان (2).
وقال الإمام ابن كثير: والرواية الأولى أولى، والأخذ بها أحرى، وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه، إنما المراد بِهم: آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 162
(2)
النووي: شرح صحيح مسلم: 15/ 190
فقط، بل هم مع آله. وهذا الاحتمال أرجح، جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها وجمعاً أيضاً بين القرآن الأحاديث المتقدمة إن صحت فإن في بعض أسانيدها نظراً (1).
يُنبه إلى أن المقصود بالصدقة التي تحرم على أهل البيت هي: " الزكاة الواجبة "، للحديث الصحيح:(إنا لا تحل لنا الصدقة)، لأنها أوساخ الناس، كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم (2).
ولكن هل تحرم الزكاة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟
ظاهر كلام الإمام النووي يُشير إلى عدم التحريم لقوله: (ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة). والعلماء لهم في هذه المسألة رأيان:
الأول: ما ذكره الإمام النووي، وهو أنه لا يحرم أخذ الزكاة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كمواليهن، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، ونقل الإمام ابن بطال الاتفاق على ذلك.
الثاني: أنه يحرم عليهن أخذ الزكاة لما روى الخلال أن خالد بن سعيد بن العاص أرسل إلى عائشة رضي الله عنها، بسفرة من الصدقة فردتْها، وقالت: إنا آل محمد، لا تحل لنا الصدقة. قال الحافظ ابن حجر: وإسناده إلى عائشة حسن، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضاً. قالوا: فهذا يدل على تحريمها
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 494
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة: باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة (1072)
عليهن، فهن من أهل بيته في تحريم الصدقة. وهي رواية عند الحنابلة، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (1).
ومما استشكل على من أدخل نساء النبي صلى الله عليه وسلم في آل بيته ضمن آية الأحزاب: أنه لو كان كما قالوا لكان التركيب في الآية: عنكن، ويطهركن، فإن الخطاب في الآية جاء بما يصلح للذكور لا للإناث، ولو كن النساء داخلات ومرادات لقيل: ليذهب عنكن، ويطهركن؟
_ وانفصل عن هذا الإشكال بجوابين:
1 -
أنا قلنا إن الآية تشمل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحاب الكساء، وإنما جاء اللفظ القرآني بالتذكير دون التأنيث، لإجماع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع وغيرها، فمتى اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر، ولهذا قال [وَيُطَهِّرَكُمْ]؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم كانوا فيهم، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت.
(1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 416، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460، ابن قدامة: عبد الله: الإمام: المغني: دار عالم الكتب ط5/ 1426، (4/ 112)، ابن مفلح: إبراهيم: الإمام: المبدع شرح المقنع: دار الكتب العلمية: بيروت، ط1/ 1418هـ (2/ 421)، الشوكاني: محمد: الإمام: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: مكتبة دار التراث دون رقم الطبعة وتاريخها (4/ 175)، ابن البهاء: علي: الإمام: فتح الملك العزيز بشرح الوجير، مكتبة النهضة مكة ط1/ 1423هـ (3/ 310)
2 -
أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بِها القرآن الكريم، أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم (الأهل) وباعتبار لفظ (الأهل) تعامل معاملة الجمع المذكر، كما قال تعالى [أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ] هود 73، وكما قال سبحانه في موسى [فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا] طه 10. وفي قوله [سَآتِيكُمْ] النمل7 وقوله [لَعَلِّي
آتِيكُمْ] طه 10.
والمخاطب امرأته كما قال غير واحد، وكما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير.
قال العلامة المنصوري: فالآية إنما تدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن ما عداهم ليسوا كذلك، والنص في القرآن قاطع (1).
وقال العلامة الشنقيطي: وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لسن داخلات في الآية، يرد عليه صريح سياق القرآن، ومن قال: إن فاطمة وعلياً والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها ترد عليه الأحاديث المشار إليها (2).
وإتماماً للفائدة نذكر ما يتعلق بلفظ (آل) في النقاط التالية:
1) أصل هذا اللفظ:
(1) المنصوري: المتقطف: 4/ 264
(2)
الشنقيطي: أضواء البيان: 1502، ومراجع سابقة.
اختلف اللغويون في أصله على رأيين (1):
الأول: أن أصله (أول)، الثاني: أن أصله (أهل).
2) قال أهل اللغة: آل الرجل: ذوو قرابته، وذريته: نسله (فكل ذرية آل، وليس كل آل ذرية). والآل أيضاً يختص بالأشراف وذوي الأقدار، بحسب الدين أو الدنيا، وأهل الرجل: من يجمعه وإياه مسكن واحد، ثم سمي به من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو صنعة (2).
وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا فرق بين الآل والأهل ولكن مدلوله عند كل منهم يختلف، قال الإمام ابن الملقن: وهذا يؤخذ منه أنه لا فرق بين الآل والأهل، وهو وجه للشافعية في الوصايا.
وذهب الشافعية: إلى أن آل الرجل: أقاربه، وأهله: من تلزمه نفقتهم، وأهل بيته: أقاربه وزوجته (3).
(1) يُنظر في بيانها وتفصيلاتها: ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 461، ابن الملقف: الإعلام: 1/ 111، الفاكهي: عمر: الإمام: رياض الأفهام في شرع عمدة الأحكام، دار النوادر، دمشق ط 1/ 1431هـ (2/ 495)، الراغب الأصفهاني: الحسين: الإمام: المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة: بيروت ط 2/ 1420هـ (15)، عبد المنعم: محمود: دكتور: معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية: دار الفضيلة، دون ذكر رقم الطبعة وتاريخها (1/ 21).
(2)
ابن الأثير: المبارك: الإمام: النهاية في غريب الحديث والأثر: بيت الأفكار الدولية: (56) لامنس: هنريكوس: فرائد اللغة في الفروق: مكتبة الثقافة الدينية (1
(3)
ابن الملقن: الإعلام: 1/ 113، عبد المنعم: معجم المصطلحات: 1/ 22
وآل في اللغة: تقع على جميع ما سيرد من معانيها اصطلاحاً في معنى (آل النبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام الراغب الأصفهاني: تعورف في أسرة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، إذا قيل: أهل البيت، لقوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ] (1).
3) اختلف العلماء في حقيقة (آل النبي صلى الله عليه وسلم من هم، على أقوال:
القول الأول: أنّهم ذوو قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول جمهور أهل العلم، واختلفوا في تعيينهم على ثلاثة آراء:
الأول: أنّهم قريش كلها. وهو مروي عن بعض السلف، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد الصفا وجعل يهتف: يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، يا بني كعب، يا بني مرة، يا بني عبد شمس: أنقذوا أنفسكم من النار (2).
وعن سعيد المقبري: قال كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يسأله عن ذوي القربى، فكتب إليه ابن عباس: كنا نقول: إنا هم، فأبى علينا ذلك قومنا، وقالوا: قريش كلهما ذوي قربى (3).
(1) الراغب الأصفهاني: المفردات 32
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (204).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد والسير: باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم (1812)، وأخرجه الترمذي في جامعه في كتاب السير باب من يعطى الفيء (1556).
قال الإمام ابن كثير: وهذا الحديث صحيح، رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس
…
، فذكره، إلى: فأبى علينا قومنا. والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني وفيه ضعف (1).
الثاني: أنهم بنو هاشم خاصة، وهو قول مجاهد وعلي بن الحسين، وقال به مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة.
قال الإمام مجاهد: علم الله تعالى أن في بني هاشم فقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة (2).
الثالث: أنهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وهو قول الإمام الشافعي وأبي ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد، وهي رواية عن الإمام أحمد في المطلب.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لماّ قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال: (إنّهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه) قال الإمام البخاري: قال الليث حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 325.
(2)
ابن كثير: مرجع سابق، النووي: شرح مسلم: 7/ 182.
شمس ولا لبني نوفل (1).
وقد مرّ معنا هل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته عليه الصلاة والسلام؟ أم لا؟
ولذا فإن من أهل العلم من ذهب إلى أن أهل بيته هم: أهل بيته وذريته (2).
القول الثاني: أن المراد بآل البيت: هم أمته، أو الأتقياء منهم من أمته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا روي عن مالك إن صح، وقاله طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم (3).
قلت: قال الإمام الحطاب: الذي عليه مالك وأكثر أصحابه أنّهم بنو هاشم فقط (4).
وقال الإمام النووي: واختلف العلماء في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال أظهرها، وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين: أنّهم جميع الأمة (5).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فرض الخمس باب ومن الدليل أن الخمس للإمام (3140).
(2)
النووي: شرح مسلم: 4/ 368، 7/ 182، ابن حجر: فتح الباري: 3/ 414.
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460.
(4)
الحطاب: محمد: الإمام: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: دار عالم الكتب، طبعة خاصة 1423هـ (3/ 224).
(5)
النووي: مرجع سابق: 4/ 368.
وقال الراغب الأصفهاني: وقيل: آل النبي صلى الله عليه وسلم: المختصون به من حيث العلم، وذلك أن أهل الدين ضربان: ضرب متخصص بالعلم المتقن والعمل المحكم، فيقال لهم: آل النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. وضرب يختصون بالعلم على سبيل التقليد، ويقال لهم: أمة محمد، ولا يقال لهم آله، فكل آل للنبي أمة، وليس كل أمة له آله.
وقيل لجعفر الصادق: الناس يقولون: المسلمون كلهم آل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبوا وصدقوا: فقيل له: ما معنى بذلك؟ فقال: كذبوا في أن الأمة كافتهم آله، وصدقوا في أنّهم إذا قاموا بشرائط شريعته آله (1) وعلى هذا يكون معنى آله من أمته: أتباعه على دينه عليه الصلاة والسلام.
وقيل: إن معنى آل النبي صلى الله عليه وسلم هو نفس النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان الحسن يقول: اللهم صل على آل محمد (2)
13) ومما يدل على فضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: ما شرفهن الله تعالى به، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين فقال سبحانه:[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] الأحزاب 6
قال أهل التفسير: شرّف الله عز وجل لأزواج نبيه بأن جعلهن
(1) الراغب الأصفهاني: المفردات: 15.
(2)
الفاكهي: رياض الأفهام: 2/ 494، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 2/ 325، ابن الملقن: الإعلام 1/ 112، 3/ 454، السفاريني: كشف اللثام: 2/ 594، ابن حجر: الفتح: 3/ 414، الشوكاني: نيل الأوطار: 4/ 172، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 22/ 460
أمهات للمؤمنين، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال والتوقير والاحترام، وحرمة النكاح على الرجال، فهن مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم، ومنزلات منْزلتهن في استحقاق التعظيم.
وقالوا: إنما شرفهن الله بِهذا الوصف لأمور ثلاثة:
1) لكمال شفقتهن وعطفهن على المؤمنين، فكن لهم بمنْزلة أمهاتِهم. قال الإمام القرطبي: وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات (1)
2) لوجوب برّهن وإجلالهن وتعظيمهن على المؤمنين، فكما يجب عليهم ذلك في حق أمهاتِهم اللائي ولدنّهم، ففي أمهات المؤمنين أحق وأوجب، اللائي شرفهن الله تعالى بالعيش في بيت النبوة.
3) لتحريم نكاحهن على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، كما يحرم عليهن نكاح أمهاتِهم (2)
واختلف العلماء فيمن يتعلق بِها هذا الوصف:
- فقيل: من دخل بِها ثبتت حرمتها مطلقاً.
- وقيل: كل من أطلق عليها أنها زوجة له عليه الصلاة والسلام من
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 3/ 476، القرطبي: مرجع سابق: 14/ 112، أبو حيان: البحر المحيط: 8/ 454، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 412، ابن العربي: أحكام القرآن 3/ 541، المنصوري: المقتطف: 4/ 251، الشنقيطي: أضواء البيان: 1499، ابن الملقن: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: 167
طلقها ومن لم يطلقها ثبتت حرمتها.
- وقيل: لا يثبت هذا الحكم لمطلقه.
قال الإمام ابن كثير: نساء النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف:
1.
صنف دخل بِهن ومات عنهن، وهن التسع، وهن حرام على الناس بعد موته عليه الصلاة والسلام بالإجماع المحقق المعلوم من الدين ضرورة، وعدتهن بانقضاء أعمارهن، قال سبحانه:[وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً] الأحزاب 35
2.
وصنف دخل بِهن وطلقهن في حياته، فهل يحل لأحد أن يتزوجهن بعد انقضاء عدتِهن منه عليه الصلاة والسلام؟ قولان للعلماء:
أحدهما: لا، لعموم الآية التي ذكرنا.
والثاني: نعم بدليل آية التخيير، قالوا: فلو أنّها لا تحل لغيره أن يتزوجها بعد فراقه إياها لم يكن في تخييرها من الدنيا والآخرة فائدة، إذ لو كان فراقه لها لا يبيحها لغيره لم يكن فيه فائدة لها. وهذا قوي والله أعلم.
3.
وصنف تزوجها وطلقها قبل أن يدخل بِها، فهذه تحل لغيره أن يتزوجها، ولا أعلم في هذا القسم نزاعاً (1).
(1) ذكر الإمام ابن الملقن فيمن فارقها النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة كالمستعيذة، والتي وجد بكشها بياضاً ثلاثة أوجه: يحرمن، لا يحرمن، تحرم المدخول بها فقط. ابن الملقن: عمر: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم: دار الرسالة، القاهرة ط 1/ 1423هـ (149)
وأما من خطبها ولم يعقد عليها فأولى أن تتزوج (1).
قال الإمام القرطبي: حرّم الله تعالى نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهنّ حكم الأمهات، وهذا من خصائصه تمييزاً لشرفه، وتنبيهاً على مرتبته. قال الإمام الشافعي: وأزواجه اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك كان كافرا. وقد قيل: إنما منع من التزويج بزوجاته؛ لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها (2).
قلت: واختلف العلماء في مارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، هل هي من أمهات المؤمنين، أم لا؟
قال العلامة الحطاب: وقع بين طلبة العلم بحث في أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، هل هي من أمهات المؤمنين، أم لا؟
والذي يظهر لي: أنّها ليست من أمهات المؤمنين لما في صحيح البخاري: أنه لما بنى بصفية قال أصحابه: هل هي إحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه؟ ثم قالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، لكن ربما يقال: هذا في حال حياته لما له من الرق، وبعد موته فهي حرة، فقد يقال: صارت من أمهات المؤمنين (3).
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 5/ 286، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 513، ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 617، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 203
(2)
القرطبي: مرجع سابق: 14/ 203
(3)
الحطاب: مواهب الجليل: 5/ 11
قلت: والصحيح - والعلم عند الله تعالى - أنّها ليست من أمهات المؤمنين، وقد نص الفقهاء على أنّها ليست منهن، قال الإمام الماوردي: إن مات عنها كمارية القبطية أم ولده إبراهيم حرم نكاحها وإن لم تصر أماً للمؤمنين كالزوجات لنقصها بالرق (1).
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية عن سؤال مفاده: هل تعتبر مارية من أمهات المؤمنين؟ فأجابت: لا تعتبر من زوجاته ولا من أمهات المؤمنين، بل هي سرية تسررها النبي صلى الله عليه وسلم وأنجبت له إبراهيم فصارت بذلك أم ولد (2).
وهذا الشرف العظيم الذي نلنه رضي الله عنهن وأرضاهنّ - لم يكن بمعزل عن التطبيق في حياتِهنّ، فكن يكنين أنفسهنّ بِهذا الوصف العظيم، ومما يدل على ذلك:
روى الإمام محمد بن سعد في طبقاته عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تقول: أنا أم الرجال منكم والنساء. وروى الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن مرّة عن لميس أنّها قالت لعائشة: يا أمه، فقالت عائشة: إني لست بأمكن ولكن أختكنّ (3).
(1) ابن الملقن: الخصائص: 151
(2)
الدرويش: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، دار بلنسية ط 3/ 1421هـ (18/ 9)
(3)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده: انظر: البنا: الفتح الرباني: 22/ 124
وروى مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها يا أمه، فقالت: لست بأم، إنما أنا أم لرجالكم (1).
وفي هذه الآثار دليل على تشرفهن وتعظيمهن لهذا الوصف الشريف، ويظهر من مجموع هذه الآثار وجه تعارض، ولذا ذهب بعض العلماء إلى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من الرجل دون النساء استناداً لأثر عائشة رضي الله عنها، وعلله الإمام ابن العربي بقوله: لأن المقصود بذلك إنزالهن منْزلة أمهاتِهم في الحرمة حيث يتوقع الحل، والحل غير متوقع، فلا يحجب بينهن حرمة. وقال: وهو الصحيح.
وقال الإمام ابن كثير: وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي.
وقال الإمام الشوكاني: وتخصيص المؤمنين يدل على أنّهن لسن أمهات نساء المؤمنين.
وقال الإمام البغوي: وكنّ أمهات المؤمنين من الرجل دون النساء.
وقال أصحاب هذا القول: إن فائدة أمومتهن في حق الرجل مفقودة في حق النساء، فالأمومة إذاً ثلاثة وأحكامها مختلفة:
- أمومة الولادة: وتثبت فيها جميع الأحكام للأمومة.
- أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تثبت إلا تحريم النكاح.
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112
- أمومة الرضاع: متوسطة بينهما (1).
وذهب البعض الآخر من العلماء: إلى أن وصف الأمومة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم عام للرجال والنساء، واحتجوا بأثر أم سلمة رضي الله عنها.
قال الإمام القرطبي: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء والذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيماً لحقوقهن على الرجال والنساء، يدل عليه صدر الآية [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ] وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، فيكون قوله [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] عائداً إلى الجميع (2).
وقال الحافظ ابن حجر: وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين تغليباً، وإلا فلا مانع من أن يقال لها: أم المؤمنات على الراجح (3).
قلت: والذي يترجح - والعلم عند الله - عموم أمومتهن للرجال والنساء، لما ذُكر من أدلة للقول الثاني، وأما حصر أصحاب القول الأول الأمومة في التحريم للرجال دون النساء، لتحريم نكاحهن، فهذه إحدى الحكم والخصائص، وإلا فلأمهات المؤمنين واختصاصهن بِهذا الاسم حكم أخرى كما مرّ، من شفقتهن على المؤمنين والمؤمنات، وكذا حقهن في
(1) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 542، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 477، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 412، ابن الملقن: الخصائص 169، البنا: الفتح الرباني: 22/ 124
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 1/ 26
الإجلال والتعظيم والإكرام.
وأما ما روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيمكن الإجابة عنه بما يلي:
ما روي عنها من طريق يزيد بن مرة عن لميس، في إسناده جابر بن يزيد الجعفي وهو متروك الحديث (1).
وما روي عن مسروق عن عائشة، فهو أثر صحيح، ويجاب عنه من وجهين:
ذكرها الإمام القرطبي خلاصتها: إما أن يكون أثر مسروق صحيحاً أم لا:
1.
فإن كان صحيحاً، فقد عارضه ما جاء في مصحف أبي بن كعب (وأزواجه أمهاتُهم وهو أب لهم) وقرأ ابن عباس:(من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتُهم) وهذا يوهن ما رواه مسروق.
2.
وإن لم يكن الأثر صحيحاً، سقط الاستدلال به في التخصيص، ونبقى على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم (2).
وكان الصحابة ومن بعدهم ينادي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بِهذا الوصف الشريف.
(1) ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 124
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 14/ 112
ومن الشواهد على ذلك:
ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى، قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء، وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل، قال أبو موسى: فأنا أشفيكم من ذلك، فقمت فاستأذنت على عائشة فأذن لي، فقلت لها: يا أماه - أو يا أم المؤمنين -: إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عما كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك، فإني أمك، قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل)(1).
وما جاء في حديث الصحيحين، قال نافع: حدث ابن عمر أن أبا هريرة يقول: من تبع جنازة فله قيراط، فقال: أكثر علينا أبو هريرة، فصدقت - يعني عائشة - أبا هريرة، وقلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله .. (2).
والشاهد: ما وقع في رواية الوليد بن عبد الرحمن عند سعيد بن
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحيض باب فسخ الماء من الماء (348): قال الإمام النووي: قولها (على الخبير سقطت): معناه صادفت خبيراً بحقيقة ما سألت عنه، عارفاً بخفية وجلية حاذقاً فيه. النووي: شرح مسلم: 4/ 281
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز، باب فضل إتباع الجنائز (1323)
منصور: فقام أبو هريرة فأخذ بيده فانطلقا حتى أتيا عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
…
فذكره (1).
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن القاسم بن محمد: أن عائشة رضي الله عنها: اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر (2).
وعن عبد الله بن لبيد سمع أبا سلمة قال: أتيت عائشة فقلت: أي أمه، أخبريني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة بالليل منها ركعتا الفجر (3).
وأخرج البخاري في صحيحه: وفيه: قال: وسمعنا استنان عائشة أم المؤمنين في الحجرة - أي حسن مرور السواك على أسنانها - فقال عروة: يا أماه، يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قال يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات، إحداهن في رجب، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهده،
(1) ابن حجر: فتح الباري: 3/ 232، الألباني: محمد: العلامة: أحكام الجنائز: المكتب الإسلامي: ط4/ 1406هـ (69)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضل عائشة رضي الله عنها: (3771)، ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 126
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد الركعات (738).
وما اعتمر في رجب قط (1).
قال الحافظ ابن حجر: وقول عروة لهذا بالمعنى الأخص، لكونِها خالته، وبالمعنى الأعم لكونِها أم المؤمنين.
وقال الإمام العيني: فإن قلت: ما فائدة قوله (يا أم المؤمنين) بعد أن قال: يا أماه؟ قلت: أراد بقوله: يا أماه، المعنى الأخص لكون عائشة خالته، وأراد بقوله (يا أم المؤمنين) المعنى الأعم لكونِها أم المؤمنين (2).
ودخل عبد الرحمن بن عوف على أم سلمة فقال: يا أم المؤمنين: إني أخشى أني أكون قد هلكت إني من أكثر قريش مالاً، بعت أرضا لي بأربعين ألف دينار، قالت: يا بني أنفق فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أصحابي من لن يراني بعد أن أفارقه)، فأتيت عمر فأخبرته، فأتاها فقال: بالله أنا منهم، قالت: اللهم لا، ولن أبرئ أحداً بعدك.
قال الإمام الذهبي: ومن مناقب عبد الرحمن بن عوف:
أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وأنه من أهل بدر الذي قيل لهم:(اعملوا ما شئتم) ومن أهل هذه الآية [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ].
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟:(1776).
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 3/ 707، العين ي: عمدة القارئ: 7/ 406.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وراءه، وبكل حال، فلو تأخر عبد الرحمن عن رفاقه للحساب، ودخل حبواً على سبيل الاستعارة، وضرب المثل، فإن منْزلته في الجنة ليست بدون منزلة علي والزبير - رضي الله عن الكل (1).
قلت: والشواهد الدالة على منزله هذا الوصف - الأمومة للمؤمنين - ومناداة الصحابةرضي الله عنهم لهن بهذا الوصف الشريف: كثيرة لا تحصر، وما ذكر فيه كفاية، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
14) وأختم هذا المبحث بالآية العظيمة التي شهد المولى سبحانه وتعالى لأصحاب الشجرة بالرضا والرضوان، فقال سبحانه وتعالى:
[لقد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] الفتح 18.
يخبر الله جل وعلا عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، ولذا سميت بيعة الرضوان؛ لرضا الله تعالى عن المؤمنين فيها.
ويقال لها: بيعة أهل الشجرة، وهي شجرة كانت في الحديبية، قيل: شجرة سدرة، وقيل سمرة.
قال الإمام أبو حيان: والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم (2).
وكانت البيعة على: أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا.
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 34 - 35
(2)
أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 492
وروي أنه بايعهم على الموت، وكانت عدتهم: ألف وأربعمائة، وقيل: ألف وخمسمائة.
فأخبر سبحانه عن رضاه عنهم في هذه البيعة، ثم بيّن أمراً غيبياً لا يعلمه إلا هو سبحانه، ولذا جازاهم عليه خير الجزاء فقال:[فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ] أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة والإخلاص لله ورسوله، والإيمان. [فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ] شكراً لهم على ما في قلوبِهم، وزادهم هدى، والسكينة أيضاً: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. [وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً] وهو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وما حصل بذلك من الخير العام والمستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العزّ والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال سبحانه وتعالى [وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً](1).
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 205، القرطبي: 16/ 233، الشوكاني: فتح القدير: 4/ 120، المنصوري: المقتطف: 5/ 47، السعدي: تيسير الكريم الرحمن: 737