الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
سبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم
وينقسم هذا المبحث إلى قسمين:
1.
في سبّ الشيخين: وهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
2.
في سبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم.
[1]
في سب الشيخين:
تمهيد:
أي أمة هذه الأمة التي لا تعرف للشيخين فضلهما ومنزلتهما ومكانتهما، فحبهما ومعرفة فضلهما من السنة، بل فريضة ومن جهل فضلهما فقد جهل السنة، ولذا قال الإمام عبد الله بن المبارك لما سئل عن الجماعة قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن هنا قال الإمام مالك: كان السلف يعلّمون أولادهم حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما يعلّمون السورة من القرآن (1).
فهما من أفضل الصحابة رضي الله عنهم وأجلهم قدراً، وأعظمهم منزلة، مع أن حب الصحابة رضي الله عنهم كلهم من السنة.
(1) انظر: اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1312
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم (1).
قال الإمام الشافعي: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (2)
ولفضلهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تصديق أمر الغيب في قصة الراعي في غنمه مع الذئب: فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب (3).
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما اطلع عليه من غلبة صدق إيمانهما وقوة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما (4).
وعن أنس بن مالك حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بِهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان)(5).
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كثيراً ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذهبت أنا
(1) أخرجه البخاري، في صحيحه في كتاب فضائل باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم (3655)
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 21
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم" لو كنت متخذا خليلاً "(3663)
(4)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 33
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفضائل باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليلاً "(3675)
وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) (1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا)(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ولم يجعل هذا لغيرهما، بل ثبت عنه أنه قال:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .. ) فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وهذا يتناول الأئمة الأربعة، وخص أبو بكر وعمر بالاقتداء بِهما، ومرتبة المقتدي به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين، فوق سنة المتبع فيما سنه فقط، وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال:(إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا)، وقد ثبت عن ابن عباس أنه كان يفتي من كتاب الله، فإن لم يجد فبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر، ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي رضي الله عنهم، ويقول: وأيضاً فأبو بكر وعمر كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما، وأبو بكر كان أكثر اختصاصاً. ثم قال: وفي الصحيحين وغيرهما: أنه لما كان يوم أحد، قال أبو سفيان: - لما أصيب المسلمون - أفي القوم محمد ..... ، قال: فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دون غيرهم، لعلمه بأنّهم رؤوس
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الفضائل باب مناقب عمر بن الخطاب (3685)
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة (681)
المسلمين: النبي صلى الله عليه وسلم ووزيراه ولهذا لما سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال: منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين، تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما، وهذا ظاهر بيّن لمن له خبرة بأحوال القوم (1).
وقد سئل الإمام مالك: أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر وعمر ثم قال: أفي ذلك شك (2).
وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي عن الشهادة لأبي بكر وعمر أنّهما في الجنة؟ فقال: نعم، اذهب إلى حديث سعيد بن زيد (3).
ولذا قال طلحة بن مصرف: كان يقال: بغض بني هاشم نفاق، وبغض أبي بكر وعمر نفاق، والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة.
وقال جعفر بن محمد: برئ الله ممن برئ من أبي بكر وعمر.
وأخرج الإمام اللالكائي: أنه ما سب أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلاً أو فقراً.
فإذا كان هذا هو شأن الشيخين؛ وهذه منزلتهما ومكانتهما، فلا قدست أمة تطعن فيهما، وتحط من أقدارهما، وتنتقص مقامهما، وتزدري
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:4/ 399 - 403، ابن تيمية: مختصر منهاج السنة: 1/ 363
(2)
المازري: المعلم بفوائد مسلم: 3/ 138
(3)
الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 57
سيرهما.
ونقول فيهما ما قاله أئمة أهل البيت، فقد سُئل عنهما عبد الله بن الحسن فقال: صلى الله عليهما، ولا صلى الله على من لا يصلي عليهما (1).
وبعد هذا التطواف مع العمرين يرد السؤال: ما حكم سب الشيخين:
اختلف العلماء في حكم سب الشيخين على رأيين:
الأول: أن من طعن في الشيخين فإنه يكفر، وهو قول جماهير أهل العلم.
قال العلامة ابن نجيم: والردة لسب الشيخين أبي وعمر، وقد صرح في الخلاصة والبزازية، بأن الرافضي إذا سب الشيخين وطعن فيهما كفروا، ولعنهما كافر (2)
وذهب سحنون - الإمام العلامة - إلى ردة من طعن في الشيخين (3)
وكذا ذهب الإمام السبكي إلى كفر من سبّ الشيخين، قال الحافظ ابن حجر: اختلف في ساب الصحابة
…
، وقال: وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فحكى القاضي حسين في ذلك وجهين، وقواه
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1337 - 1342 - 1343 - 1344، المقدسي: النهي عن سب الأصحاب:15
(2)
ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 203
(3)
الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 482
السبكي في حق من كفر الشيخين (1)
وقال العلامة الخرشي: ومن أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة أو واحداً منهم كفر (2)
وقال ابن حجر الهيثمي: من استحل لعن الشيخين وعثمان فقد استحل ما حرم الله، ومن استحل ما حرم الله تعالى كفر (3)
الثاني: أن ساب الشيخين لا يكفر: وهو قول بعض فقهاء الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة.
قال العلامة ابن عابدين: وأما الرافضي ساب الشيخين بدون قذف للسيدة عائشة، ولا إنكار لصحبة الصديق، ونحو ذلك فليس بكفر، فضلاً عن عدم قبول التوبة، بل هو ضلالة وبدعة (4)
وفي حاشية الدسوقي: كلام السيوطي في شرح مسلم يفيد: عدم كفر من كفّر الأربعة، وأنه المعتمد، فيؤدب فقط (5)
(1) ابن حجر: فتح الباري: 11/ 42 - 12/ 313
(2)
الخرشي: حاشية الخرشي: 8/ 274
(3)
ابن حجر الهيثمي: الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة: 1/ 137
(4)
ابن عابدين: حاشية ابن عابدين: 6/ 378
(5)
الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 482
وقال العلامة الرملي: ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين (1)
وقال العلامة العدوي: من كفر بعضهم ولو الخلفاء الأربعة، فالراجح عدم كفره (2)
الترجيح: نستخلص من مجموع النصوص السابقة ما يلي:
1) أن من أن أنكر صحبة الصديق رضي الله عنه خاصة، فإنه يكفر باتفاق أهل العلم.
وقد نقل الإمام ابن القطان الاتفاق، فقال: من أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكفر؛ لأنه تكذيب للقرآن (3) وقد تواردت وتواترت نصوص الأئمة على بيان هذا الحكم.
وهل يلحق بالصديق في إنكار الصحبة بقية الأربعة (عمر وعثمان وعلي)؟
ذهب بعض العلماء إلى أن إنكار صحبة غير أبي بكر الصديق لا يكفر به؛ لأن صحبتهم لم تثبت بالنص، كما ثبتت لأبي بكر الصديق (4).
(1) الرملي: نهاية المحتاج: 7/ 416، القليوبي: حاشية القليوبي: 4/ 268، النووي: شرح مسلم: 16/ 326
(2)
انظر: العدوي: حاشية العدوي مع شرح الجزشي: 8/ 247، الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 386
(3)
ابن القطان: الإقناع في مسائل الإجماع: 2/ 353
(4)
الرملي: نهاية المحتاج مع حاشية البراملي: 7/ 416
قلت: الحكم في التكفير، وإلا فإن من جحد صحبتهم فإنه جاحد مكابر ضال مبتدع، مما ذكرنا من نصوص السنة المستفيضة في إثبات صحبتهم، بل نص بعض أهل العلم: على أن سب واحد منهم من حيث هو صحابي، أنه كفر، لأنه استخفاف بالصحبة فيكون استخفافاً به (1).
2) أن سب الشيخين فيه تفصيل، وهو جمع بين الأقوال، فيقال:
أ. أن من سبّهم سباً يقدح في عدالتهم ودينهم، فهذا يعد كفراً مخرجاً من الملة، لأنه يتضمن تكذيب للأحاديث الشريفة الدالة على فضلهم ومكانتهم وتزكيتهم، ولذا يقول شيخ الإسلام بان تيمية: ومن ظن أن هذا السب لا يعد كفرا فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع (2).
وعلى هذا الوجه يُحمل قول الإمام مالك حينما قال: من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل، إن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً (3).
وقال الإمام ابن كثير: [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ]: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون
(1) الهيثمي: الصواعق المحرقة: 1/ 137
(2)
ابن تيمية: الصارم المسلول: 571 - 589، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 420
(3)
القاضي عياض: الشغال بتعريف حقوق المصطفى: 2/ 1108، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 421
الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنّهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك (1).
وذكر عند الإمام مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة، فقرأ مالك هذه الآية وقال: من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية (2).
وكذا يحمل ما روي عن الإمام أحمد حينما سئل عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام.
وسئل عمن يشتم عثمان، فقال: هذه زندقة، بأن هذا محمول على ما إذا طعن في عدالتهم ودينهم أو استحل سبهم (3)
ب. أن يسبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ودينهم، كمن وصفهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم، فهذا يستحق التأديب والتعزير، ولا يحكم بكفره، وعلى هذا الوجه يحمل كلام الأئمة الذين ذهبوا إلى عدم تكفيرهم.
وعليه يُحمل كلام الإمام مالك حينما قال: من سب الصديق جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: ولم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن. فهذا القول منه رحمه الله يحمل على من سب الصديق سباً لا يقدح في عدالته ودينه.
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 219
(2)
أبو حيان: البحر المحيط: 9/ 503، السيوطي: الإكليل: 3/ 1243
(3)
آل عبد اللطيف: مرجع سابق: 416
وكذا يحمل كلام الإمام أحمد حينما سئل عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرى أن يضرب، وقال: ما أراه إلا على الإسلام (1)
قلت: ومع ذلك فإن شواهد التاريخ وكلام الأئمة يدل على تسليط سيف الحق على ساب الشيخين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر لا في فقه ولا علم ولا غيرهما، بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع سائر المسلمين يقدمون أبا بكر، طائفة غلت فيه كالتي ادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم علي بالنار، وطائفة كانت تسب أبا بكر، وكان على رأسهم عبد الله بن سبأ، فلما بلغ ذلك طلب قتله فهرب، وطائفة كانت تفضله على أبي بكر وعمر، قال: لا يبلغني من أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري (2).
وكذا فإن الإمام المقدام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلغه أن ابن السوداء تنقص أبا بكر وعمر، فدعا به وبالسيف، فهمّ بقتله، فكلم فيه فقال: لا يساكني بلداً أنا فيه، فنفاه إلى الشام.
وأن ابن عبد الرحمن بن أبزى سأل أباه عبد الرحمن فيمن سب
أبا بكر ما كنت تصنع به؟ قال: كنت أضرب عنقه، قلت: فعمر،
(1) الفضيلات: أحكام الردة: 234
(2)
ابن تيمية: الفتاوى الكبرى: 4/ 436
قال: أضرب عنقه (1).
وقد بلغ علياً أن رجلاً سب أبا بكر وعمر، فبعث إليه فأتاه، قال: فجعل يعرض له بعيبهما ففطن فقال أما والذي بعث محمداً بالحق، لو سمعت منك بلغني أو ثبتت عليك بينه، لألقيت أكثرك (2).
وقيل لمحمد بن يوسف الفريابي: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: قد فضلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرني رجل من قريش أن بعض الخلفاء أخذ رجلين من الرافضة فقال لهما: والله لئن لم تخبراني بالذي يحملكما على تنقص أبي بكر وعمر لأقتلنكما فأبيا، فقدم أحدهم فضرب عنقه، ثم قال للآخر: والله لأن لم تخبرني لألحقنك بصاحبك، قال: فتؤمني؟ قال له: نعم، قال: فإنا أردنا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: لا يتابعنا الناس عليه فقصدنا قصد هذين الرجلين فتابعنا الناس على ذلك.
قال محمد بن يوسف: ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة (3).
قال الإمام ابن كثير: وفي صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين منه قتل بسوق الخليل: حسن ابن الشيخ السكاكيني على ما ظهر منه من الرفض الدال على الكفر المحض، شهد عليه عند القاضي شرف الدين المالكي بشهادات كثيرة، تدل على كفره، وأنه رافضي جلد، فمن ذلك تكفير
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336، المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 9
(2)
المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 9
(3)
اللالكائي: مرجع سابق: 8/ 1544
الشيخين، رضي الله عنها، وقذفه أمّي المؤمنين عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، وزعم أن جبريل غلط فأوحى إلى محمد، وإنما كان مرسلاً إلى علي، وغير ذلك من الأقوال الباطلة القبيحة قبحه الله، وقد فعل (1).
وقال رحمه الله تعالى: في يوم الاثنين عشر من جمادي الأولى، اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق، وهو يسبّ أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس، ولا صلى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس فأخذوه، وإذا قاضي القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس، فجئت إليه واستنطقته، من الذي ظلم آل محمد؟ فقال: أبو بكر الصديق ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي، وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن، والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي، واسم هذا اللعين: علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير، قبحه الله وأخزاه، ثم لما كان يوم الخميس سابع عشرة عقد له مجلس بدار السعادة، وحضر القضاة الأربعة وطلب إلى هنالك، فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعاً فضرب عنقه تحت القلعة، وحرقه العامة، وطافوا برأسه البلد، ونادوا عليه، هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 14/ 228
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والروافض ونحوهم فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد فيهم، كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه فساد، ثم قال: فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا، ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول، أو كان في قتله مفسدة راجحة.
وقال رحمه الله: فالرافضة لما كانت تسب الصحابة صار العلماء يأمرون بعقوبة من سب الصحابة (1).
قال الفريابي: سمعت رجلا يسأل أحمد عمن شتم أبابكر قال: كافر، قال: فيصلى عليه؟ قال: لا، وسألته، كيف يصنع به وهو يقول (لا إله إلا الله) قال: لا تمسوه بأيديكم، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته.
وقد سأله بعض الناس عن جار رافضي يسلم علي، أرد عليه؟ قال: لا.
قلت: كيف لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(اللهم صل على أبي بكر، فإنه يحبك ويحب رسولك) أخرجه الخلال في السنة بسند صحيح. (2)
أضف إلى هذا أن جماعة من أهل العلم نصوا على أنه لا يصلى خلف من بسب الشيخين، فسئل الإمام الثوري: يصلى خلف من يسب الشيخين
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 14/ 268، مجموع الفتاوى: 3/ 409، 28/ 499.
(2)
الخلال: السنة:2/ 309، 3/ 494، 499.
أبا بكر وعمر؟ قال: لا.
وسئل الإمام أبو إسحاق السبيعي: ما ترى في الصلاة خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: ألست تجد غيرهم؟ قلت: بلى، قال: لا تصلي خلفهم (1).
فالشواهد أكثر من أن تحصر، فلو لم يكن سبهما موجباً للقتل، فلا أقل من حكم تعزير يقاربه ويصل إليه.
[2]
في سب بقية الصحابة رضي الله عنهم:
يتلخص حكم هذه المسألة في النقاط التالية:
أ/ أن من كفّر الصحابة كلهم، فإنه يكفر، لأنه أنكر معلوماً من دين الله بالضرورة، وكذب الله ورسوله. (2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما من جاوز ذلك، كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر (3).
ب/ وكذا من سب صحابيا مستحلا سبهم كفر.
قال الإمام القرطبي: ولا يختلف في أن من قال: إنّهم كانوا على كفر
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8/ 1545
(2)
الخرشي: حاشية العدوي مع شرح الخرشي: 8/ 274
(3)
ابن مفلح: المبدع: 4/ 470
وضلال، كافر يقتل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين فقد كذب الله ورسوله (1).
وقال الإمام النووي: وحديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة، في أن الخلافة كانت حقاً لعلي، وأنه وصي له بِها، ثم اختلف هؤلاء: فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره، وزاد بعضهم نكفر عليا، لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم، وهؤلاء أسخف مذهباً، وأفسد عقلاً من أن يرد قولهم، أو يناظر.
وقال القاضي: ولا شك في كفر من قال هذا، لأن من كفر الأمة كلها، والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة، وهدم الإسلام (2).
وقال الإمام ابن حجر الهيثمي: سب جميعهم لا يشك أنه كفر، وكذا سب واحد منهم من حيث هو صحابي، لأنه استخفاف بالصحبة، فيكون استخفافاً به (3).
ج/ أن يسبهم بما لا يقتضي كفرهم، ولا قدحاً في عدالتهم ودينهم، فهذا على قسمين:
(1)
أن يكون سبهم قذفاً لهم، فإن كان سبهم قذفاً، يوجب الحد، حد حدة ثم ينكل به التنكيل الشديد من الحبس والتخليد فيه والإهانة.
(1) انظر: الحطاب: مواهب الجيل: 8/ 380
(2)
النووي: شرح مسلم: 15/ 183
(3)
ابن تيمية: الصارم المسلول: 573، ابن عثيمين: مجموع فتاوى ورسائل: 5/ 84
قال الإمام أحمد: لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب أو نقص، فمن فعل ذلك، أدب، فإن تاب وإلا جلد في الحبس حتى يموت أو يرجع (1).
(2)
أن يكون سبهم بغير القذف، كأن يصفهم بالجبن أو البخل أو قلة العلم أو عدم الزهد، فهذا يعزر بما يردعه عن ذلك، فيجلد الجلد الموجع، وينكل التنكيل الشديد.
قال ابن حبيب: يخلد في السجن إلى أن يموت (2).
د/ أن يسبهم باللعن والتقبيح:
فهذا مما اختلف العلماء في كفره أو فسقه:
فتوقف الإمام أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب ويجلد ويحبس حتى يموت أو يرجع عن ذلك، وهو المشهور من مذهب الإمام مالك.
وقيل: يكفر إن استحله. وهو خلاصة كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية (3).
قلت: وعلى هذا التفصيل يحمل ما ورد عن السلف رضي الله عنهم وأهل العلم في التعامل مع ساب ومنتقص الصحابة:
(1) ابن تيمية: الصارم المسلول: 573، ابن عثيمين: مجموع فتاوى ورسائل: 5/ 84
(2)
الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 380
(3)
الحجاوي: الإقناع: 4/ 289، ابن عثيمين: مرجع سابق: 5/ 84، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 35/ 58
فقد يكون التعزير هجراً، كما فعل جرير بن عبد الله، وحنظلة، وعدي بن حاتم، فانتقلوا من الكوفة إلى قرقيسيا، وقالوا: لا نقيم ببلدة يشتم فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه (1).
قال الإمام مالك: لا ينبغي الإقامة بأرض يكون العمل فيها بغير الحق، والسب للسلف، وقد انتقل العالم المالكي محمد بن نظيف البزار حيث خرج من إفريقية هرباً إلى المشرق لما ظهر فيها من سب السلف (2).
قال ابن كثير: وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد، كثير الفضائل والعبادة خرج من بغداد مهاجراً لما كثر بِها الشر، والسب للصحابة رضي الله عنهم (3).
ولما بلغ علياً أن عبد الله بن الأسود ينتقص أبا بكر وعمر، فهمّ بقتله، فقيل له: أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت، فقال: لا يساكني في دار أبداً.
وفي لفظ: لا يساكني ببلد أنا فيه، فنفاه إلى الشام (4).
وقد يكون التعزير ضرباً: كما ضرب الإمام عمر بن عبد العزيز من
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1337
(2)
الشتري: الله أكبر في الذب عن الصديق الأكبر: 7 - 8
(3)
ابن كثر: البداية والنهاية: 11/ 227
(4)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336
شتم عثمان ثلاثين سوطاً، وضرب من سبّ معاوية أسواطاً (1) وهو محمول على ما لا يوجب قدحاً في عدالة الصحابة أو دينهم - على ما سبق -.
وقد أفتى الإمام مالك: بأن من سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا سهم له من الفيء مع المسلمين (2).
وروي أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية:[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ] حتى بلغ [لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ]، فقال مالك: من أصبح من الناس وفي قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية.
قال الإمام القرطبي: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين.
ثم قال: وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم، ومآل أمرهم، ثم قال: فهو - عقبة بن عامر الجهني - ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً، فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة مبطل للقرآن، طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ألحق واحد منهم تكذيباً فقد سب، لأنه عار، ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من
(1) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1337
(2)
اللالكائي: مرجع سابق: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 31
الكذب، وقد لعن رسول الله من سب أصحابه، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بِها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمها كل من سب واحدا ًمن الصحابة أو طعن عليه (1).
وقال رحمه لله في موضع آخر: وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً إنه لا حق له في الفيء روي ذلك عن مالك وغيره (2).
وقال الإمام ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب، لعدم اتصافه فيما مدح الله به هؤلاء قولهم [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ](3).
قلت: ومع كون هذا السب للصحابة الكرام رضي الله عنهم تكذيب صريح للقرآن الكريم وللسنة النبوية المطهرة، وتنقص لجناب المولى سبحانه وتعالى، وتنقيص من حق المصطفى بل وطعن فيه، وهدم للشريعة، مع ذلك فإن القوم مافتئوا يسبون ويلعنون سراً وجهاراً حتى وقعت بسببه فتن
(1) القرطبي: مرجع سابق: 16/ 252
(2)
القرطبي: مرجع سابق: 18/ 30
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/ 363.
عظيمة.
قال الإمام ابن كثير: وقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قم، بسبب سبّ الصحابة من أهل قم، فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ونهبوا أموال التجار، فغضب ركن الدولة لأهل قم، لأنه كان شيعياً، فصادروا أهل أصبهان بأموال كثيرة (1).
وكان هذا في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وتوالت بعدها سنين الفتن بسبب سب الصحابة الكرام والوقوع في أعراضهم، فقال رحمه الله: ودخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة وفيها: وقعت فتن بين أهل الكرخ وأهل السنة، بسبب السب (2).
ودخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وفيها: كانت فتن بين الرافضة وأهل السنة، وقتل فيها خلق كثير (3)
وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة: وقعت فيها فتن عظيمة بين أهل البصرة، بسبب السب أيضاً. (4).
بل وصل الأمر لأشد من ذلك، فقد كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد: لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وكتبوا أيضاً: لعن الله من
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 244
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 246
(3)
ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 248
(4)
ابن كثير: مرجع سابق: 11/ 257
غصب فاطمة حقها. وكانوا يلعنون أبا بكر، ومن أخرج العباس من الشورى، يعنون عمر ومن نفى أبا ذر، يعنون عثمان رضي الله عنهم.
وكذا كتب لعن الشيخين على أبواب الجوامع والمساجد، ولم تزل كذلك، حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد صلاح الدين بن أيوب (1).
هذا كله، مع ما يحصل في أيام أعيادهم وأحزانِهم من بدع وسب وشتم ولعن، فهذا كله جعل بعض أهل السنة محبي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يهبون وينهضون للذب عنهم، والدفاع عن جنابهم الطاهر.
فهذا الخليفة القادر بالله: من خيار الخلفاء: وسادات العلماء في ذلك الزمان، صنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث كل جمعة في جامع المهدي، وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته (2).
ولما ألف بعض الباحثين كتاباً سماه "البلاغ الأعظم والناموس الأكبر" وجعله ست عشرة درجة، أول درجة يدعو من يجتمع به أولاً، إن كان من أهل السنة، إلى القول بتفضيل علي على عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيل علي على الشيخين أبي بكر وعمر، ثم يترقى به إلى سبهما؛ لأنّهما ظلما علياً وأهل البيت، ثم يترقى به إلى تجهيل الأمة
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 256 - 284
(2)
ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 331
وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو.
لذا تصدى لهم علماء ذلك الزمان، فرد عليه الإمام أبو بكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه
…
" هتك الأستار وكشف الأسرار " في الرد على الباطنية، وكذا بين مذهبهم وبسطه الإمام ابن الجوزي (1).
قال الإمام ابن كثير: وقد صنف القاضي الباقلاني كتابًا في الرد على هؤلاء وسماه " كشف الأسرار وهتك الأستار" بين فيه فضائحهم وقبائحهم ووضح أمرهم لكل أحد، ووضوح أمرهم ينبئ عن مطاوي أفعالهم وأقوالهم، وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم: هو قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض (2).
وكان من جملة ما صدر عن المناهضين للذب عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم:
أن وصل الحال ببعضهم إلى الدعاء إلى الجهاد في سبيل الله على من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: ولكن هذا مما يختص به الإمام الأعظم، فليس لأحد أن ينفرد عن جماعة المسلمين بإقامة الحدود بنفسه دون إذن الإمام أو نائبه.
(1) ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 66 - 371
(2)
ابن كثير: مرجع سابق: 12/ 101 - 11/ 277
وكان من نتائج السباب واللعن لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الإمام ابن كثير: أنه في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، خرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع.
وكان أيضا من نتائج هذا السباب: فرح بعض أهل السنة بموت أهل البدع المشهورين بسب الصحابة. وفيه يقول الإمام ابن كثير: كان ابن النقيب من أئمة السنة، وحين بلغه موت ابن المعلم -فقيه الشيعة -
سجد لله شكراً، وجلس للتهنئة وقال: ما أبالي أي وقت مت بعد
أن شاهدت ابن المعلم (1).
ومما يجدر التنبيه عليه في ختام المبحث الإشارة إلى ماذكره الإمام القرطبي في قوله: وأما من أبغض - والعياذ بالله - أحداً منهم من تلك الجهة، لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً فقد وقع بينهم حروب ومخالفات ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه - أيضاً - للعلماء قولان مشهوران: هما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح: أن هذه الأقوال التي يقولونها يعلم أنّها مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وكذلك
(1) ابن كثير: مرجع سابق: 12/ 20 - 11/ 363
أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً، لكن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد، والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له (1).
والخلاصة أن القوم بين عمر والرازي:
فأما عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما شتم ابنه عبيد الله، المقداد همّ عمر بقطع لسانه، فكلمة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ذروني أقطع لسان ابني، حتى لا يجترئ أحد من بعدي، فيسب أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبداً (2).
وأما الإمام أبو زرعة الرازي فقد قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بِهم أولى، وهم زنادقة (3).
(تتمة): بعد خوض غمار السباب واللعن نشير إلى مسألتين تحتاج إلى
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 28/ 500
(2)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1336
(3)
الخطيب: الكفاية: 49
بيان:
1 -
تكفير الخوارج للصحابة، وبيان حكمهم.
2 -
توبة ساب الصحابة.
1 -
فيما يتعلق بتكفير الخوارج للصحابة:
فقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربّهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكذلك الخوارج، قد كفّروا عثمان وعلياً، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين، فكيف يزعمون أنّهم على مذهب السلف؟ (1).
وقال رحمه الله: كما ذكرنا أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين لكن القرآن أعظم، فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالاً من الروافض مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته، ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين، ولعترته أهل بيته (2).
ومن ثم قال: فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد، وفي
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 153
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى:28/ 493
مذهب الشافعي، أيضاً نزاع في كفرهم (1).
وقال رحمه الله: والخوارج هم أول من كفر المسلمين، يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله (2).
وقال: وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذمهم. خرّج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، وخرجه البخاري من عدة أوجه، وخرجه أصحاب السنن والمسانيد أكثر من ذلك (3).
وقد اختلف العلماء في تكفير الخوارج على قولين:
القول الأول: أنّهم بغاة فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم؛ لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفير المسلمين، مستندين إلى تأويل فاسد جرهم إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك، وهو قول الأكثر من أهل العلم.
القول الثاني: أنّهم كفار كالمرتدين، يجوز قتلهم ابتداءً، وقتل أسيرهم، وإتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل،
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى:28/ 518
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى:3/ 279
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 500
واحتجوا بالأحاديث الواردة فيهم (1).
والراجح - والعلم عند الله تعالى -: القول الأول، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين على أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي وسعد وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، لا لأنّهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم (2).
وقال في موضع آخر: فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنّهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عند أهل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث، وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم (3).
(2)
: في توبة ساب الصحابة رضي الله عنهم:
هل لمن سب الصحابة رضي الله عنهم ووقع في أعراضهم من توبة؟
اختلف الفقهاء في قبول توبة ساب الشيخين:
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 282، اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1303، ابن قدامة: المغني: 12/ 276، ابن حجر: فتح الباري: فتح الباري: 12/ 276، ابن عابدين: 7/ 1303، 6/ 377، عواجي: فرق معاصرة: 1/ 121
(2)
ابن تيمية: مرجع سابق: 3/ 282
(3)
ابن تيمية: مرجع سابق: 28/ 518
فقال بعضهم: لا تقبل توبته، وهذا مروي عن أبي الليث والدبوسي من فقهاء الأحناف، قالوا: حيث لا تقبل توبته علم أن سب الشيخين كسب النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يفيد الإنكار مع البينة (1).
وقال الآخرون: تقبل توبته، وهو قول الجماهير، وهو الصواب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب، تاب الله عليه .. وليس سب بعض الصحابة بأعظم من سب الأنبياء، أو سب الله تعالى، واليهود والنصارى الذي يسبون نبينا سراً بينهم، إذا تابوا وأسلموا قُبل ذلك منهم، باتفاق المسلمين، والحديث الذي يروى:" سب أصحابي ذنب لا يغفر " كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشرك الذي لا يغفره الله، يغفره لمن تاب باتفاق المسلمين، وما يقال إن في ذلك حق لآدمي، يجاب عنه من وجهين:
1 -
أن الله تعالى قد أمر بتوبة السارق والملقب ونحوهما من الذنوب التي تعلق بِها حقوق العباد .. ومن توبة مثل هذا: أن يعوض المظلوم من الإحسان إليه بقدر إساءته إليه.
2 -
أن هؤلاء متأولون، فإذا تاب الرافضي من ذلك، واعتقد فضل الصحابة، وأحبهم ودعا لهم، فقد بدل الله السيئة بالحسنة كغيره من المذنبين (2).
(1) ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 196، ابن عابدين: حاشية ابن عابدين: 6/ 376
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 258 - 541
ويقول في موضع آخر: فإذا كان الرجل قد سب الصحابة وتاب، فإنه يحسن إليهم بالدعاء لهم، والثناء عليهم بقدر ما أساء إليهم، والحسنات يذهبن السيئات، كما أن الكافر الذي كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه كذاب، إذا تاب وشهد أن محمدا ًرسول الله الصادق المصدوق وصار يحبه ويثني عليه ويصلي عليه كانت حسناته ماحية لسيئاته، والله تعالى [يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ](1).
قلت: فهذه دعوة صادقة من قلب مشفق، محب للخير أن يسود الغير، دعوة للتوبة الصادقة، لكل من يقع في أعراض الصحابة رضي الله عنهم، أقول: إن كان الوقوع في أعراض المسلمين عموماً، والطعن واللمز فيهم محرم وكبيرة وجريمة فإنّها في حق أكرم الخلق وأفضلهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبشع وأشنع، ولو لم يكن في الوقوع في أعراضهم إلا غيبة أو بُهتان، والله تعالى نهي عنهما، وزجر الواقع فيهما، لوجب اجتنابه والبعد عنه، كيف وهو يهدف لإسقاط سلاسل السند الذهبية، التي نقلت الشريعة المطهرة، والقدح في عدالتهم وديانتهم.
فباب التوبة مفتوح: والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربِها، فأولى الناس برعاية حقوقهم هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرؤوا من الناصبة الذي يكفرون علي بن أبي
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 291
طالب ويفسقونه، وينتقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق، وتبرؤوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة، وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنباً وضلالاً من أولئك (1).
وفي التاريخ صفحات مشرقة، ووجوه مسفرة، تابت وأنابت، فذكر الشريف محمد بن علي العلوي: أن أبا طالب بن عمر العلوي: كان على سب الصحابة رضي الله عنهم رافضياً، وتاب وأناب مما سبق وقال: عشت أربعين سنة أسب الصحابة أشتهي أن أعيش مثلها حتى أذكرهم بخير (2).
وقال الإمام ابن كثير: وكان الشيخ محمد السكاكيني يعرف مذهب الرافضة جيداً، وكانت له أسئلة على مذهب أهل الخير، ونظم في ذلك قصيدة، أجابه فيها شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر غير واحد من أصحاب الشيخ، أن السكاكيني ما مات حتى رجع عن مذهبه، وصار إلى قول أهل السنة فالله أعلم، وأخبرت أن ولده حسناً هذا القبيح كان قد أراد قتل أبيه لما أظهر السنة. (3)
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 28/ 493
(2)
انظر: أغلو في بعض القرابة وجفاء في الأنبياء والصحابة: عبد المحسن البدر: 9
(3)
ابن كثير: البداية والنهاية: 14/ 228