الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
حكم سب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين
ينقسم حكم سب أمهات المؤمنين إلى قسمين:
1.
حكم سبّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
2.
حكم سبّ بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
1 -
حكم سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
تمهيد:
عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم معلوم فضلها ومكانتها ومنزلتها عند رسول الله صلي الله عليه وسلم وعند عامة المسلمين، يكفيها شرفاً وفضلاً أن جبرائيل عليه السلام جاء إليها يقرئها السلام (1).
وأن النبي صلي الله عليه وسلم قال في شأنِها: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (2).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3768)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3769)
وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: إني لأعلم أنّها زوجته في الدنيا والآخرة (1).
وقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: جزاكِ الله خيراً، فو الله ما نزل بكِ أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة (2).
فهي رضي الله عنها وعاء من أوعية العلم والفقه والديانة والزهد والورع والتقى، الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلي الله عليه وسلم، المبرأة من فوق سبع سموات.
حكم سب الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما:
فصّل فيه العلماء على النحو التالي: " على وجه العموم ":
1 -
أنّها من جملة الصحابة رضي الله عنهم الذين نُهي عن سبهم وتنقصهم والحط من قدرهم.
قال الإمام النووي: اعلم أن سبّ الصحابة من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتنة منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون، وسب أحدهم من المعاصي الكبائر (3).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3772)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة رضي الله عنها (3773)
(3)
النووي: شرح صحيح مسلم: 16/ 326
وقال الإمام القاضي عياض: سبّ آل النبي صلي الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه ونتقصهم حرام ملعون فاعله (1)
وقال الإمام الذهبي: فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين، لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساوئهم وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من الثناء عليهم، وما لرسول الله صلي الله عليه وسلم من ثنائه عليهم، وفضائلهم ومناقبهم وحبهم ولأنّهم أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، وهذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق والزندقة والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار، ومن ذلك كقول النبي صلي الله عليه وسلم (إن الله اختارني واختار لي أصحاباً، فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)(2).
وقال الإمام الآجري: لقد خاب وخسر من أصبح وأمسى وفي قلبه بغض لعائشة أو لأحد من أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم، أو لأحد من أهل بيت الرسول صلي الله عليه وسلم، فرضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم (3).
(1) الحطاب: مواهب الجليل مع حاشية المواق 8/ 386
(2)
الذهبي: الكبائر: 189
(3)
الآجري: الشريعة: 5/ 2428، الهلالي: سليم: حديث الإفك: غراس للنشر والتوزيع ط 1/ 1426هـ (75).
2 -
على وجه الخصوص:
أن سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على قسمين:
الأول: أن يقذفها بما برأها الله تعالى منه، على ما جرت أحداث قصتها في غزوة المريسيع.
الحكم: نص العلماء على أن من قذفها بذلك فإنه:
أيكفر بالاتفاق.
ب يجب قتله.
أ: أما كفر قاذفها - بما برأها الله منه - فنصوص العلماء متوافرة متضافرة، في ذلك ومنها:
قال الإمام ابن العربي: قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: من سبّ أبا بكر وعمر أدب، ومن سبّ عائشة قتل، لأن الله تعالى يقول:(يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قُتل.
قال ابن العربي: إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى، فكل من سبها بما برأها الله تعالى منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا هو طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر (1).
(1) ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 366، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 212/ 184
وقال الإمام ابن حزم: قول مالك ههنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى، في قطعه ببراءتِها (1).
وقال الإمام ابن بطال: من سب عائشة رضي الله عنها، بما برأها الله تعالى منه، أنه يقتل لتكذيبه الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وسلم (2).
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع، وذكر عن جماعة حكاية الإجماع على هذا الحكم،
فنقل عن القاضي أبي يعلى قوله " من قذف عائشة بما برأها الله منه، كفر بلا خلاف "(3).
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله منه، فقد كفر، لأنه مكذب للقرآن (4).
وقال الإمام ابن قدامة: ومن السنة الترضي عن أزواج النبي صلي الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء، أفضلهن خديجة بنت خويلد، وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه، زوج النبي صلي الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها - بما برأها الله منه - فقد كفر بالله العظيم (5).
(1) ابن حزم: المحلى: 13/ 238
(2)
العيني: عمدة القارئ: 9/ 530
(3)
ابن تيمية: الصارم المسلول على شاتم الرسول: 3/ 1050، الهلالي: حديث الإفك: 91
(4)
ابن تيمية: الرد على البكري: 340، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 44
(5)
ابن قدامة: لمعة الاعتقاد: 152
وقال الإمام النووي: براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين.
قال ابن عباس: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -
وهذا إكرام من الله تعالى لهم (1).
وقال الإمام ابن القيم: واتفقت الأمة على كفر قاذفها (2).
وقال الإمام ابن كثير: وقد أجمع العلماء قاطبة:
على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية، فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن (3).
وقال العلامة بحرق الحضرمي: إن من يشكك في براءة عائشة، كافر بالإجماع (4).
وقال العلامة العيني: وفيه براءة عائشة من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن، فلو شكك فيها إنسان صار كافراً مرتدا بإجماع المسلمين.
(1) النووي: شرح صحيح مسلم: 17/ 122
(2)
ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 106
(3)
ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 287
(4)
بحرق: حدائق الأنوار: 305
وقال الإمام الزركشي: من قذفها فقد كفر، لتصريح القرآن الكريم براءتها.
وقال الإمام السيوطي: قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْك]: نزلت في براءة عائشة مما قذفت به، فاستدل الفقهاء على أن قاذفها يقتل، لتكذيبه لنص القرآن.
قال العلماء: قذف عائشة كفر، لأن الله سبح نفسه عند ذكره، فقال (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد (1).
وقد نص فقهاء الإسلام على مرّ العصور على هذا الحكم، وعليه الفتوى والعمل عند أئمة المذاهب وأتباعهم:
1 -
عند فقهاء الحنفية: قد نصوا على أن من قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالزنا فإنه يكفر.
قال الإمام ابن نجيم: ويكفر بقذفه عائشة (2).
وقال الإمام ابن عابدين: لا شك في تكفير من قذف السيدة عائشة (3).
(1) الزركشي: الإجابة: لا يراد ما استدركته عائشة على الصحابة: 45، الهلالي: حديث الإفك: 92، السيوطي: الإكليل: 3/ 1012، وانظر، العمري: السيرة النبوية الصحيحة 2/ 415
(2)
ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 196
(3)
ابن عابدين: حاشية ابن عابدين: 6/ 378، وانظر: الفتاوى الهندية: 2/ 26
وقال إمام المذهب: ويحبهم كل مؤمن تقي، ويبغضهم كل منافق شقي (1).
2 -
ونص فقهاء المالكية على ذات الحكم:
قال الإمام القرطبي: ما خلا عائشة فإن قاذفها يُقتل، لأنه مكذب للكتاب والسنة من براءتِها، قاله مالك وغيره.
وفي الإكمال: وأما اليوم فمن قال ذلك في عائشة قتل لتكذيب القرآن، وكفره بذلك (2).
وقال العلامة الخرشي: يؤدب ويشدد على من سب صحابياً، وهذا ليس على عمومه، فإن من رمى جميع عائشة بما برأها الله منه بأن قال: زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة، أو إسلام جميع الصحابة أو كفر الأربعة أو واحداً منهم كفر (3).
وقال العلامة الدسوقي: من سب صحابيا إلا عائشة فإنه يقتل لردته. وقال: وعائشة لو قذفها فإنه يقتل لردته لتكذيب القرآن (4).
والمنصوص عن إمام المذهب أنه قال: من سب عائشة قتل، قيل له:
(1) الخميس: أصول الدين عند أبي حنيفة: 533
(2)
انظر: الحطاب: مواهب الجليل 8/ 380
(3)
الخرشي: حاشية الخرشي: 8/ 174
(4)
الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 469
لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن (1).
3 -
وكذا نصوص أئمة المذهب الشافعي مستفيضة في ثبوت حكم الردة والقتل، فيمن اتّهم أم المؤمنون عائشة رضي الله عنها ورماها بما برأها الله منه.
قال الإمام الرملي: ومن أنكر صحبة أبي بكر، أو رمى ابنته، بما برأها الله منه، كفر (2).
وقال الإمام السبكي: وأما الوقيعة في عائشة - والعياذ بالله - فموجبة للقتل لأمرين:
أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتِها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها، تكذيب له.
الثاني: أنّها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر (3).
وقال الحافظ ابن حجر: ومن فوائد الحديث: تحريم الشك في براءة عائشة رضي الله عنها (4).
وقال العلامة البكري: يكفر من قذف عائشة؛ لأن القرآن نزل
(1) آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 423، الفضيلات: جبر: دكتور: أحكام الردة والمرتدين: الدار العربية: 1987م (226)
(2)
الرملي: نهاية المحتاج: 7/ 416، الشربيني: مغني المحتاج: 4/ 168
(3)
السبكي: فتاوى السبكي: 2/ 592، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان 423
(4)
ابن حجر: فتح الباري: 8/ 339
ببراءتها، ففي قذفها - حماها الله - تكذيب للقرآن (1).
وقال إمام المذهب: هم فوقنا في كل علم، وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال من علم، أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا (2).
4 -
ونصوص أئمة الحنابلة كثيرة متضافرة في الباب:
قال الإمام الحجاوي: ومن قذف عائشة - بما برأها الله منه - كفر بلا خلاف (3).
وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب: من قذف عائشة بالفاحشة، فقد جاء بكذب ظاهر، واكتسب الإثم واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءا، وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً، وهو عند الله عظيم، وأتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتّهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وأما إمام المذهب فالمشهور عنه قوله: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتّهمه على الإسلام. ولذا قال الإمام الذهبي: وإياك
يا رافضي أن تلوّح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتِها فتجب
(1) البكري: حاشية البكري: 4/ 210، القليوبي: حاشية القليوبي: 4/ 268
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 157
(3)
الحجاوي: الإقناع: 2/ 289، المرداوي: الإنصاف: 10/ 282، البهوتي: كشاف القناع: 6/ 170، ابن مفلح: المبدع: 7/ 478، ابن عثيمين: الشرح الممتع: 14/ 437
(4)
محمد بن عبد الوهاب: الرد على الرافضة: 24، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 424
لك النار (1).
هذا مجمل الحكم فيمن اتهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، بما برأها الله منه.
ويجدر بنا أن ننقل في هذا الموضع كلام الإمام ابن العربي فيما ذكره عن جماعة من الشافعية فقال: قال أصحاب الشافعي: من سب عائشة أدّب، كما في سائر المؤمنين، وليس قوله (إن كنتم مؤمنين) في عائشة، لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال:(لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) ولو كان سلب الإيمان في سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) حقيقة.
قلنا - ابن العربي -: ليس كما زعمتم، إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر، ولو أن رجلاً سبها بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب (2).
قلت: المشهور عن أصحاب الإمام الشافعي - ما نقلته عن بعضهم - هو تكفيرهم من طعن في أم المؤمنين عائشة بما برأها الله منه.
وسبق الحكم: في أن من رمى أم المؤمنين عائشة وقذفها - بما برأها الله
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1326، الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 78
(2)
ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 366
منه، أنه يكفر بالاتفاق، ويقتل، لكن نفى الإمام ابن القطان علمه أن أحداً أوجب قتل من سب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولا أعلم أحداً يوجب قتل من سب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وذكر قريباً من هذا الكلام الإمام ابن حزم فذكر عن أبي برزة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق قلت: ألا أقتله؟ فقال أبو بكر: ليس هذا إلا لمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم: وقد علمنا أن دم المسلمين حرام إلا بما أباحه الله تعالى به، ولم يبحه الله تعالى قط إلا في الكفر بعد الإيمان، أو زنى المحصن أو قود نفس مؤمنة، أو في المحاربة، وقطع الطريق، أو في المدافعة عن الظلمة أو في الممانعة من حق، أو فيمن حد في الخمر ثلاث مرات ثم شربها الرابعة فقط، وقد علمنا أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقين ندري أنه لم يزن، ولا شرب الخمر ولا قصد ظلم مسلم، ولا قطع طريقاً، فلم يبق إلا أنه عند أبي بكر كافر (2).
قلت: قد نص العلماء على أن من قذف عائشة رضي الله عنها فإنه مع كفره، فهو مستحق للقتل لكونه مكذباً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسبق قول الإمام مالك: أن من سب عائشة رضي الله عنها يقتل مطلقاً، وحمله أصحابه على السب بالقذف.
وقد سئل الإمام إسماعيل بن إسحاق عمن سب عائشة رضي الله
(1) ابن القطان: الإقناع في مسائل الإجماع: 2/ 353
(2)
ابن حزم: المحلى: 13/ 235
عنها فأفتى بقتله.
وقتل الحسن ومحمد ابنا زيد الداعي الطبرستاني اللذان وليا ديار طبرستان، رجلين مما قذفا عائشة رضي الله عنها (1).
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق: أتى المأمون بالرقة برجلين: شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر: فقال إسماعيل: ما حكمها إلا أن يقتلا، لأن الذي شتم عائشة رد القرآن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم (2).
وقال أبو السائب عتبة بن عبد الله الهمداني: كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام، تفرق على صغائر ولد الصحابة، وكان بحضرته رجل، ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى [الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ] فإن كانت عائشة خبيثة
(1) اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1338
(2)
اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1343، ابن تيمية: الصارم المسلول: 3/ 1050، الهلالي: حديث الإفك: (93)
فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه وأنا حاضر.
وروي عن محمد بن زيد - أخي الحسن بن زيد - أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه، فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الأباء، فقال: هذا سمي جدي قرنان أي الديوث لا غيرة له - ومن سمي جدي قرنان، استحق القتل، فقتله (1).
الثاني: أن يسب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بغير ما برأها الله منه، مما لا يقدح في عدالتها ولا دينها.
حكمه: من جنى هذه الجناية العظيمة، استحق التأديب والتعزير، ولكنه لا يكفر.
فقد سئل الإمام أحمد عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرى أن يضرب وما أراه إلا على الإسلام.
وقال الإمام العربي: ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه، لكان جزاؤه الأدب (2).
وقال الإمام القرطبي: ومن سب الصحابة بغير القذف، يجلد الجلد الموجع، وينكل التنكيل الشديد، وقال الإمام ابن حبيب: ويخلد في السجن
(1) اللالكائي: مرجع سابق: 7/ 1345، 1270، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 432
(2)
الحجاوي: الإقناع: 4/ 278، ابن العربي: أحكام القرآن: 3/ 366
إلى أن يموت (1).
وقد أخرج الإمام اللالكائي بسنده عن عائشة: أنّها ذكرت عند رجل فسبها، فقيل: أتسب أمك؟ فقال: ما هي أمي. فبلغها، فقالت: صدق أنا أم المؤمنين، وأما الكافرين فلست لهم بأم.
وعنها قالت: لا ينتقصني أحد في الدنيا إلا تبرأت منه في الآخرة (2).
وقال الإمام الآجري: وبلغني عن بعض الفقهاء من المتقدمين: أنه سئل عن رجلين حلفا بالطلاق، أحدهما: أن عائشة أمه، وحلف الآخر: أنها ليست أمه؟ فقال: إن كلاهما لم يحنث، فقيل له: كيف هذا؟ لا بد أن يحنث أحدهما، فقال: إن الذي حلف أنّها أمه هو مؤمن لم يحنث، والذي حلف أنّها ليست أمه، هو منافق لم يحنث.
وذكر الإمام ضياء الدين المقدسي: أن رجلاً نال من عائشة، فقام عمار بن ياسر يتخطى الناس فقال: اجلس مقبوحاً منبوحاً، أنت الذي تقع في حبيبة رسول الله، فوالله إنّها لزوجته في الدنيا والآخرة (3).
فرضي الله تعالى عن الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات، فإنها لما اشتكت - أي ضعفت - جاء ابن عباس فقال: يا أم
(1) انظر: الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 380
(2)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1523، الآجري: الشريعة: 5/ 3932
(3)
الآجري: الشريعة: 5/ 2393، الهلالي: حديث الإفك: 87، المقدسي: النهي عن سب الأصحاب: 18
المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر (1).
قال الإمام العيني: إن ابن عباس قطع لعائشة رضي الله عنها، بدخول الجنة، إذ لا يقال ذلك إلا بتوقيف، وهذه فضيلة عظيمة، وقال، وحاصل المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد سبقاك وأنت تلحقينهما، وهما قد هيئا لك المنزل في الجنة، فلا تحملي الهم، وأفرحي بذلك (2) وكان مسروق إذا حدث عنها قال: حدثتني الصادقة بنت الصادق البرة المبرأة، بكذا وكذا .. (3).
وقد سأل بعض الأساقفة الإمام محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني بحضرة ملكهم فقال: ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من أمرها بما رميت به من الإفك؟ فقال الباقلاني: مجيباً على البديهة: هما امرأتان ذكرتا بسوء: مريم وعائشة، فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوج، ولم تأت بولد، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج - يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - وكلاهما بريئة مما قيل فيها، فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ربية إلى هذه فهو إلى تلك أسرع، وهما بحمد الله منزّهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز وجل (4).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، في باب فضل عائشة رضي الله عنها (3771)
(2)
العيني: عمدة القارئ: 11/ 491
(3)
الفاكهاني: رياض الأفهام: 1/ 51
(4)
ابن كثير: البداية والنهاية: 11/ 376
2 -
حكم سب بقية أمهات المؤمنين:
زوجات النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين وهن:
قال الإمام ابن القيم: فهؤلاء نساؤه المعروفات اللاتي دخل بِهنّ (1).
اختلف العلماء فيمن قذف إحدى أمهات المؤمنين - غير عائشة - هل هو كقذف عائشة؟ أو كسب واحد من الصحابة، على قولين:
القول الأول: أن قذف إحدى أمهات المؤمنين هو كقذف عائشة رضي الله عنهن أجمعين. وهو قول جمهور أهل العلم وهو الصحيح من مذهب الحنابلة ورواية للمالكية، ورجحه جماعة من المحققين من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن حزم الظاهري، والسبكي،
(1) ابن القيم: زاد المعاد: 1/ 105 - 113
والمهلب، وجماعة غيرهم (1).
واحتجوا بما يلي:
- قال الله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] النور 23. قالوا: هذه الآية تشمل أمهات المؤمنين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما، والضحاك وغيرهما: هذه الآية في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنفع التوبة ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له التوبة، لأن الله تعالى يقول: [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
…
] النور 3. فجعل لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة (2)
قال الإمام ابن كثير: هذا وعيد للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، خرج مخرج الغالب، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة.
(1) ابن تيمية: الصارم المسلول: 567، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 287، النووي: شرح صحيح مسلم: 16/ 326، ابن حجر: فتح الباري: 4/ 44، الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 380، الحجاوي: الإقناع: 4/ 289، العيني: عمدة القارئ: 9/ 530، ابن حزم: المحلى: 13/ 238، ابن عثيمين: الشرح الممتع: 14/ 437، الفضيلات: أحكام الردة: 227، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان 424
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 12/ 188
ثم قال: وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما: أنّهن كهي (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن (2).
فالرسول صلى الله عليه وسلم واجب الاحترام حياً وميتاً، بل جرم من تنقصه بعد موته أعظم من جرم من تنقصه في حياته، إذ يمكن في حياته العفو عمن فرط منه ذلك، وأما بعد وفاته، فالعفو متعذر، ولا ريب أن أذاه بقذف نساءه الطاهرات أعظم من أذاه بنكاحهن بعده (3).
- وقال الله تعالى [وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ] النور26. قال الإمام ابن حزم: وكذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق، فكلهن مبراءات من قول إفك.
- أن في سب إحدى أمهات المؤمنين، قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما فيما يعود على دنس الفراش وفساد الأخلاق، فإن هذا من أكبر الجرائم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن قذف إحدى أمهات المؤمنين لا يوجب الكفر ولا القتل، وإنما يستحق صاحبه اللعن والحد، وهو قول فقهاء الأحناف
(1) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 3/ 287
(2)
ابن تيمية: الصارم المسلول: 567
(3)
الحطاب: مواهب الجليل: 8/ 381، الفضيلات: أحكام الردة: 227
والمالكية ورواية عن أحمد والشافعية.
واحتجوا بما يلي:
- لا يوجد نص في تكفير من قذقهم كما وجد في أم المؤمنين رضي الله عن الجميع.
- وقالوا: يفرق في وقوع ذلك القذف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وقالوا: ويتجه أن محل كون قذف إحدى نسائه الطاهرات غير عائشة في حياته خاصة، لتنقيصه عليه الصلاة والسلام، ولما فيه من الغضاضة والعار عليه الصلاة والسلام، وهذا مفقود بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
قال القاضي عياض: سبّ آل النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه، وتنقصهم حرام ملعون فاعله، مشهور مذهب مالك في هذا، الاجتهاد والأدب الموجع (1).
وقال الإمام النووي: وسب أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا مذهب الجمهور، أنه يعزر ولا يقتل (2).
وقال الإمام ابن نجيم: ويكفر بقذفه عائشة من نسائه فقط (3).
والراجح - والعلم عند الله - القول الأول: وهو أن قذف إحدى أمهات المؤمنين كقذف عائشة:
(1) المواق: حاشية المواق مع مواهب الجليل: 8/ 385، 380
(2)
النووي: شرح مسلم: 16/ 236، الشوكاني: فتح القدير: 3/ 168
(3)
ابن نجيم: البحر الرائق: 5/ 196
وذلك أن المقذوفة زوج النبي صلى الله عليه وسلم والله جل وعلا إنما غضب لها؛ لأنّها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء.
وكما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن سب المصطفى عليه الصلاة والسلام كفر وخروج من الملة بالإجماع (1).
وهذا فيما يتعلق بقذفهن، أما ما يتعلق بسبهنّ من غير جنس القذف، الذي لا يوجب الطعن في دينهن وعدالتهن، فالقول فيه كالقول في عائشة رضي الله عن الجميع.
مبحث في سب فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني)(2).
قال الإمام العيني: واستدل به البيهقي على أن: من سبها فإنه يكفر (3).
وقال الحافظ ابن حجر: استدل به السهيلي على أن من سبها فإنه يكفر، وتوجيهه: أنّها تغضب ممن سبها، وقد سوّى بين غضبها وغضبه،
(1) مراجع سابقة، آل عبد اللطيف: نواقض الإيمان: 425، الفضيلات: أحكام الردة: 228
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة في باب مناقب فاطمة عليها السلام (3767)
(3)
العيني: عدة القارئ: 11/ 489
ومن أغضبه صلى الله عليه وسلم يكفر وفي هذا التوجيه نظر لا يخفى (1).
قلت: والصحيح - والعلم عند الله تعالى - دخول فاطمة رضي الله عنها في جملة القول فيمن سبّ بقية الصحابة رضي الله عنهم غير أمهات المؤمنين.
جاء في حاشية الدسوقي: ومن قال قبيحا ًلأحد ذريته شدد عليه بالضرب والسجن والقيود ولم يقتل. قيل: وانحصرت ذريته في أولاد فاطمة الزهراء، وأما آل البيت من غيرها مع العلم بِهم، فالظاهر أنه كذلك (2).
(1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 132
(2)
الدسوقي: حاشية الدسوقي: 4/ 482