الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
فضائل الصحابة رضي الله عنهم في السنة النبوية المطهرة
قال الإمام الذهبي: وأما مناقب الصحابة رضي الله عنهم وفضائلهم فأكثر من تذكر (1).
وقد تضافرت الأحاديث النبوية، والآثار المنيفة واشتهرت، موضحة ومبينة فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ومجموعها ينتظم في الأمور التالية:
1) إثبات خيرية قرنه عليه الصلاة والسلام، ففي الصحيحين عن عمران بن حصين يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم)، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قوله: قرنين أو ثلاثاً .. وهذا لفظ البخاري (2). وعند مسلم بلفظ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني ثم الثالث (3).
(1) الذهبي: محمد: الإمام: الكبائر: دار إحياء الكتب العربية: (190)
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3650)
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة (2533)
قال الإمام النووي: اتفق العلماء على أن خير القرون، قرنه عليه الصلاة والسلام، والمراد أصحابه (1).
والمراد بالذين يلونَهم: التابعون، والذين يلونَهم: تابعو التابعين.
قال الحافظ ابن حجر: واستدل بِهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك كثر فيهم واشتهر (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم، وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (3).
وقال الحافظ ابن حجر في بيان مدد هذه القرون:
وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعاً وتسعين، وأما قرن التابعين: فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو
(1) النووي: شرح مسلم: 16/ 318، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 2/ 223، 3/ 126 - 406
(2)
ابن حجر: فتح الباري: 7/ 10
(3)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 430
ثمانين، وأما الذين من بعدهم: فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان. واتفقوا أن آخر من كان من اتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين (1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في أمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية (2).
قال بعض العلماء: وإنما كانوا خير القرون بشهادة الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لهم بكل فضيلة من الإخلاص والصدق والتقوى، والشدة في الدين، والرحمة على المؤمنين ونصرة الله ورسوله والجهاد في سبيل وبذل النفوس والأموال، وبيعها من الله تعالى، وإيثارهم على أنفسهم، وكونهم خير أمة أخرجت للناس، وقد رضي الله عنهم ورضوا
(1) ابن حجر: فتح الباري: 7/ 8
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 10/ 357
عنه والحائزين على الفوز والفلاح والبشارة بأعلى الجنان، وجوار الرحمن إلى غير ذلك.
ومدح الله تعالى لا يتبدل، ووعده لا يُخلف ولا يتحول، إذ هو سبحانه المطلع على عواقب الأمور، والعالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فلا يمدح عز وجل إلا من سبقت له منه الحسنى، وكان ممدوحاً في الآخرة والأولى (1) ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد اتفق المسلمون على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير طباق الأمة (2).
2) ومما يدل على فضلهم ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم (3).
(1) بحرق: حدائق الأنوار: 418
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 24/ 329
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3649)، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة (2532)
قال الإمام النووي: وفي هذا الحديث فضل الصحابة والتابعين وتابعيهم.
وقال الحافظ ابن حجر: ومثله حديث وائلة رفعه (لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني صاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني صاحبني) والحديث أخرجه ابن أبي شيبة، وإسناده حسن (1).
فهذه الأحاديث تدل على فضلهم، وأن حسن الكمال في إتباعهم، ولذا فإن الأئمة يذكرون كثيرا من المحدثات، ويردونها، لأنها لم تكن في هذه القرون المفضلة، فمثلاً يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك: إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك، فهو السماع المحدث في الإسلام. فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:(خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم) وقد كرهه أعيان الأمة، ولم يحضره أكابر المشايخ (2).
ثم ذكر شيخ الإسلام السماع الذي كان يجتمع عليه أصحاب القرون المفضلة، وهو سماع القرآن فقال: فمن المعلوم أن سماع القرآن، هو سماع النبيين والعارفين والمؤمنين .. ثم قال: وبِهذا السماع هدى الله العباد،
(1) النووي: شرح مسلم: 16/ 317، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 7، العيني: عمدة القارئ: 10/ 218
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 11/ 591
وأصلح لهم المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه أمر المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعليه يجتمع السلف .. ثم قال: وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم) ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا (1).
قال العلامة العيني: وفي الحديث معجزة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة لأصحابه وتابعيه وذاك أن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هم ثلاثة: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، حصلت لهم النصرة، لكونِهم ضعفاء فيما يتعلق بأمر الدنيا أقوياء فيما يتعلق بأمر الآخرة (2).
ويقول الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: وهو كقوله في الحديث الآخر (خيركم قرني ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم)، لأنه يُفتح للصحابة لفضلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم، قال: ولذلك كان الصلاح والفضل والنصر للطبقة الرابعة أقل، فكيف بمن بعدهم (3).
ومن هنا يقول الإمام ابن تيمية:
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 10/ 77، 11/ 625، 627
(2)
العيني: عمدة القارئ: 10/ 217 "بتصرف"
(3)
ابن حجر: فتح الباري: 6/ 105
ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة، في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها، القرن الأول، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنّهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنّهم أولى بالبيان من كل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم. ثم قال: وما أحسن ما قال الشافعي في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا (1).
وقال رحمه الله في معرض حديثه عن حديث (بدأ الإسلام غريباً) كذلك قوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ] النور 55، فهذا الوعد مناسب لكل من اتصف بِهذا الوصف، فلما اتصف به الأولون استخلفهم الله كما وعد، وقد اتصف بعدهم به قوم بحسب إيْمانِهم وعملهم الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعمل صالحاً، كان استخلافه المذكور أتم، فإن كان فيه نقص وخلل كان تمكينه خلل ونقص، وذلك أن هذا جزاء هذا العمل، فمن قام بذلك العمل استحق ذلك الجزاء، لكن ما بقي قرن مثل القرن الأول، فلا جرم ما بقي
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 157
قرن يتمكن تمكن القرن الأول (1).
3) أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي بردة عن أبيه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا حتى خرج علينا فقال: (ما زلتم هاهنا)، قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب، وقلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال:(أحسنتم) أو (أصبتم)، قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال:(النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون (2).
قال الإمام النووي: قوله: (وأصحابي أمنة لأمتي .. ) معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم، وغيرهم عليهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك، وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم (3).
4) وأخرج الإمام الترمذي في جامعه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمسّ النار مسلماً رآني أو رأى من رآني) قال
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 18/ 302، ابن القيم: تهذيب السنن مع عون المعبود: 8/ 49
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلمأمان لأصحابه (25.31)
(3)
النووي: شرح مسلم: 16/ 317
طلحة بن حراش: فقد رأينا جابر بن عبد الله، وقال موسى بن إبراهيم بن كثير: وقد رأيت طلحة بن حراش، قال يحيى بن حبيب بن عربي البصري وقال لي موسى: وقد رأيتني ونحن نرجو الله، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصاري (1).
قال صاحب الدين الخالص: هذا ظاهر الحديث تخصيص الصحابة والتابعين بِهذه البشارة، وليس في لفظه ما يدل على شمول سائر المسلمين إلى يوم الدين، بل قصر تبع التابعين عن الدخول فيه، والحديث أفاد أن البشارة خاصة بمن رأى الصحابي فمن لم يره وكان في زمنه فالحديث لا يشمله.
قال العلامة المباركفوري: الأمر كما قال صاحب الدين الخالص. واخرج عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة. قال الترمذي: وروي هذا الحديث عن عبد الله بن مسلم أبي طيبة عن أبي بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وهو أصح. قال العلامة المباركفوري: قائداً أي: لأهل تلك الأرض إلى الجنة، ونوراً لهم: أي هاديا لهم (2).
5) وأخرج الإمام البغوي بسنده عن الحسن عن أنس قال: قال
(1) أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب المناقب باب ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه (3867)
(2)
المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 337 - 331
رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح، قال: قال الحسن: فقد ذهب ملحنا، فكيف نصلح (1).
6) وأخرج الإمام الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهَ الله في أصحابي، لا تتخذوهم عرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)(2).
قال العلامة المباركفوري: قوله (اللهَ الله) بالنصب فيهما: أي اتقوا الله، ثم اتقوا الله (في أصحابي): أي في حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، أو التقدير: أذكركم الله، ثم أنشدكم في حق أصحابي، وتعظيمهم وتوقيرهم (3).
7) وأخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)(4) قال الإمام الخطابي: والمعنى: أن جهد
(1) البغوي: شرح السنة: 7/ 174
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه في كتاب المناقب باب في من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3870)، وقال: هذا حديث حسن غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه.
(3)
المباركفوري: تحفة الأحوذي: 10/ 335، ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 169
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلاً "، (3673)
المقل منهم، واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم (1).
وقال الإمام النووي: قال القاضي، ويؤيد هذا ما قدمناه في أول باب فضائل الصحابة عن الجمهور من تفضيل الصحابة كلهم على جميع من بعدهم. وسبب تفضيل نفقتهم: أنها كانت وقت الضرورة وضيق الحال، بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته عليه الصلاة والسلام وحمايته وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم، وسائر طاعتهم، هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (2).
وقال الإمام العيني: وهذا الحديث لا يدل على فضل أبي بكر على الخصوص، وإنما يدل على فضل الصحابة كلهم على غيرهم (3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال غير واحد من الأئمة: إن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقاً، وعينوا ذلك في مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز مع أنّهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز أعدل
(1) الخطابي: معالم السنن: 4/ 284
(2)
النووي: شرح مسلم: 16/ 327، ابن حجر: فتح الباري: 7/ 42
(3)
العيني: عمدة القاري: 11/ 406
من سيرة معاوية، قالوا: لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر لا يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه، واحتجوا بما في الصحيحين من أنه قال:(لا تسبوا أصحابي .. ) قالوا: فإذا كان جبل أحد ذهباً لا يبلغ نصف مدّ أحدهم، كان في هذا من التفاضل ما يبيّن أنه لم يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم (1). وقد قال بعضهم في معاوية وعمر بن عبد العزيز، ليوم شهده معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر وأهل بيته (2).
وخلاصة ما يمكن قوله: أن هذا القرن وهذا الجيل الفذ العظيم، الذي لا يمكن أن يتكرر، هو من خير قرون الزمان في الأرض، علماً وعملاً وإيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً وحكمةً وتوكلاً.
ويكفيهم شرفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصي بِهم فقال: استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونَهم (3).
فجملة الفضائل والمناقب لهم جاءت على الإجمال والتفصيل، وعلى المجموع والأفراد. قال الإمام الذهبي: وأجمعت علماء السنة أن أفضل الصحابة: العشرة المشهود لهم، وأفضل العشرة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ولا يشك في ذلك إلا مبتدع منافق
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 4/ 527
(2)
ابن كثير: الباعث الحثيث: 172
(3)
أخرجه أحمد في مسنده، أنظر: ابن البنا: الفتح الرباني: 22/ 168
خبيث (1).
وعلى جملة تلك الفضائل والمزايا والخصائص فإن الواجب تجاههم ما قاله الأئمة:
قال الإمام الطحاوي: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من واحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان (2).
وقال الإمام ابن قدامة: أمته خير الأمم، وأصحابه خير أصحاب الأنبياء (3).
وأخرج الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنحن خير أم من بعدنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدهم أحداً ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)(4).
وأخرج عن طارق بن أشيم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب أصحابي القتل).
قال ابن البنا: أي يكفي المخطئ منهم في قتاله في الفتن القتل، فإنه
(1) الذهبي: الكبائر: 190
(2)
الطحاوي: العقيدة الطحاوية "مع شرحها لابن أبي العز " 467
(3)
ابن قدامة: لمعة الاعتقاد: " مع شرحها الإرشاد " 306
(4)
أخرجهما أحمد في مسنده، انظر: الفتح الرباني 22/ 170
كفارة لجرمه وتمحيص لذنوبه وأما المصيب فهو شهيد (1).
قلت: وقد اتفق أهل السنة والجماعة على عدم الطعن في الصحابة رضي الله عنهم فيما جرى بينهم من الفتن لأنهم مجتهدون متأولون.
أما الحروب التي جرت فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شئ من ذلك أحدا منهم عن العدالة؛ لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وآل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق (2).
ومن هنا قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ثم إن الله نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد عليه الصلاة والسلام، فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه.
قال العلامة السفاريني:
وليس في الأمة كالصحابة
…
في الفضل والمعروف والإصابة
…
(1) أخرجهما أحمد في مسنده، انظر: الفتح الرباني 22/ 170
(2)
النووي: شرح مسلم: 15/ 158، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 3/ 230
فإنّهم قد شاهدوا المختارا
…
وعاينوا الأسرار والأنوارا
…
وجاهدوا في الله حتى بانا
…
دين الهدى وقد سما الأديانا
…
وقد أتى في محكم التنزيل
…
من فضلهم ما يشفي للغليل
…
وفي الحديث وفي الآثار
…
وفي كلام القوم والأشعار
…
ما قد ربا من أن يحيط نظمي
…
عن بعضه فاقنع وخذ من علم
…
واحذر من الخوض الذي يزري
…
بفضلهم مما جرى لو تدري
…
فإنه عن اجتهاد قد صدر
…
فاسلم أذل الله من لهم هجر
…
وبعدهم فالتابعون أحرى
…
بالفضل ثم تابعوهم طرا (1)
قال الإمام أبو الليث السمرقندي: ينبغي للعاقل أن يحسن القول في الصحابة، ولا يذكر أحداً منهم بسوء ليسلم دينه.
وقال محمد بن الفضل: أجمعوا أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فنحن نقول: ثم عثمان ثم علي ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم أخيار صالحون، لا نذكر أحداً منهم إلا بخير.
وروي عن إبراهيم النخعي: أنه سئل عن القتال الذي وقع بين الصحابة فقال: تلك دماء قد سلمت منها أيدينا فلا نلطّخ بِها ألسنتنا.
وري عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم قال: سألت أبا حنيفة فقلت:
(1) السفاريني: محمد: الإمام: الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية، مدار الوطن ط 1/ 1426.
من أهل السنة؟ فقال: من فضل أبا بكر وعمر وأحب عثمان وعلياً (1).
وقال الإمام الغزالي: وأن يعتقد فضل الصحابة على ترتيبهم، وأن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأن يحسن الظن بهم، وبجميع الصحابة بجملتهم، ويثني عليهم كما أثنى الله عز وجل ورسوله عليهم، فكل ذلك مما وردت به الأخبار، وشهدت به الآثار، فمن اعتقد ذلك موقنا به، كان من أهل الحق، وعصابة السنة، وفارق رهط الضلالة وحزب البدعة.
ولذا يقول الإمام الفضيل بن عياض: أوثق عملي في نفسي:
حب أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعا، وكان يترحم على معاوية ويقول: وكان من العلماء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام حماد بن زيد: تذاكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كي تأتلف عليهم قلوب الناس، ولا تذكروا مساوئهم، فتحرشوا الناس عليهم.
ولذا لما سئل الإمام أحمد وقيل له: ما تقول فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوئ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هذا كلام سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ويبين أمرهم للناس. (2)
(1) أبو الليث السمرقندي: نصر: الإمام: بستان العارفين: المكتبة العصرية، بيروت: 1424هـ (103)" بتصرف ".
(2)
الغزالي: بداية الهداية: 286، الخلال: السنة: 2/ 438، 3، 512 - 513
(2)
الأزهري: صالح: العلامة: الثمر الداني لتقريب المعاني: دار الفكر (23) الدويش: فتاوى اللجنة الدائمة: 3/ 393
فهم خير القرون الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، قد أشرقت عليهم شموس نبوته، فحازوا فخار الاجتماع، وفضيلة الصحبة، فكان قرنهم أفضل القرون (2)