الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفضل للسابق، وعلى تنزيل الناس منازلهم (1).
المبحث الثاني: عدالة الصحابة:
وهي من المسائل المهمة التي تحتاج لبيان، مع شدة وضوحها وسطوعها، ولكن لما أن طعن الطاعنون في عدالتهم لشبه واهية، كان لزاماً بيان اتفاق أهل السنة ومن يعتد بِهم في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال الإمام ابن الصلاح: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بِهم في الإجماع، إحساناً للظن بِهم، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله تعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونِهم نقله الشريعة (2).
وقال الإمام ابن كثير: والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة، كما أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل (3).
وقال الإمام النووي: ولهذا اتفق أهل الحق ومن يُعتد به في الإجماع
(1) ابن العربي: أحكام القرآن: 4/ 178، السيوطي: الإكليل: 3/ 1232
(2)
لعراقي: التقييد والإيضاح: 287
(3)
ابن كثير: الباعث الحثيث: 172
على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين (1).
وقال الإمام ابن عبد البر: قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنّهم كلهم عدول (2).
وقال الإمام الخطيب: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله تعالى لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم.
وقال الإمام ابن حجر: اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة (3).
وقال الإمام ابن حزم: وهم أئمة الإسلام حقا، والمقطوع على فضلهم وعلى أكثرهم بأنهم في الجنة، وهذا لا يخيل إلا على مخذول، وكل من ذكرنا مصيب أو مخطئ، فمأجور على اجتهاده إما أجرين وإما أجراً، وكل ذلك غير مسقط عدالتهم.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة، ولا يجوز أن يحكم عليه بكفر ولا فسق، بل مجتهدون، إما مصيبون وإما مخطئون، وذنوبهم مغفرة لهم.
ويقول: ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة.
(1) النووي: شرح مسلم: 15/ 159
(2)
العراقي: مرجع سابق: 2870
(3)
الدرويش: الصحابي: 31
وقال العلامة: السخاوي: في بيان مرتبتهم: وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً صغيرهم وكبيرهم لابس الفتنة أم لا وجوباً، لحسن الظن، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، من امتثال أوامره بعده عليه الصلاة والسلام، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم يكن في أمة من الأمم المتقدمة.
وقال العلامة الشوكاني: اعلم أن ما ذكرناه في وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابي، فأما فيهم فلا؛ لأن الأصل فيهم العدالة، فنقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم، حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين، قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف، وقال الجويني بالإجماع.
وقال العلامة بدر الدين الزركشي: وقال إمام الحرمين بالإجماع. قال: ولعل السبب فيه أنّهم نقلة الشريعة، ولو ثبت وقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استرسلت سائر الأعصار. وقال إلكيا الطبري: وعليه كافة أصحابنا.
وقال الإبياري: وليس المراد بعدالتهم: ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا من ثبت عليه ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك - ولله
الحمد - فنحن على استصحاب ما كانوا عليه زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير فإنه لا يصح. وما صح فله تأويل صحيح (1).
قلت: وهذا القول هو الصحيح الذي لا معدل عنه، ولا ينظر لمخالف الإجماع لشذوذه.
وقد تعقب الإمام العراقي، الإمام ابن الصلاح في حكايته الإجماع في تعديل الصحابة، فقال: وفي حكاية الإجماع نظر، لكنه قول الجمهور، كما حكاه ابن الحاجب والآمدي، وقال: إنه المختار، وحكيا معه قولاً آخر: أنّهم كغيرهم في لزوم البحث عن عدالتهم مطلقا، وقولاً آخر: أنّهم عدول إلى وقوع الفتن، وأما ما بعد ذلك فلا بد من البحث عمن ليس ظاهر العدالة (2).
وقد كفانا مؤونة الرد على خلاف الإجماع المحكي الإمام القرطبي، فقال: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه
(1) ابن حزم: الإحكام: 10/ 220، ابن تيمية: مجموع الفتاوى: 54/ 35، السخاوي: فتح المغيث شرح ألفية الحديث: دار الكتب العلمية، لبنان ط 1/ 1403هـ (3/ 108)، الشوكاني: إرشاد الفحول: دار الكتاب العربي ط 1/ 1419هـ (1/ 185)، الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه: دار الكتب العلمية بيروت، 1421هـ (3/ 357) ابن أمير محمد: التقرير والتحرير في علم الأصول: دار الفكر، بيروت 1417هـ (2/ 346)، المحلى: شرح جمع الجوامع للسبكي: 02/ 62، العلائي: تحقيق منيف الرتبة لمن يثبت له شرف الصحبة: 1/ 37
(2)
العراقي: التقييد والإيضاح: 288
بعد أنبيائه ورسله هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذا الأمة، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم، ومنهم من فرق بين حالهم في بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاؤهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم بالجنة، فقال:(مغفرة وأجراً عظيما) وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخبارهم لهم بذلك وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب (1)
قلت: ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنّهم سيقتلون (2)
وقال العلماء: إن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد (3) قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] البقرة 143، أخرج سعيد بن
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 16/ 254
(2)
اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 7/ 1324
(3)
الألوسي: روح المعاني: دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ (8/ 23)، القاسمي: قواعد التحديث: 1/ 167، العجلي: معرفة الثقات: 1/ 94
منصور وأحمد والترمذي والنسائي وصححه وابن جرير وابن حبان والإسماعيلي في صحيحه والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً]: أي: عدلاً. والأمة الجماعة، والوسط العدل، قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط العدل الخيار (1) قال الإمام ابن العربي: وهذا دليل على أنّه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلاً (2).
وقال جل شأنه [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وأولو العلم قَائِماً بِالْقِسْطِ] آل عمران 18.
قال الإمام البغوي: [وَأُولُو الْعِلْمِ]: يعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال ابن كيسان: هم المهاجرون والأنصار. وقوله [قَائِماً
بِالْقِسْطِ]: أي بالعدل (3).
ويقول الإمام ابن القيم: وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانها بشهادة الملائكة، والرابع: أن في ضمن هذا
(1) السيوطي: الدرر المنثور في التفسير بالمأثور: 20/ 17، ابن الجوزي: زاد المعاد: المسير في علم التفسير: 1/ 134
(2)
ابن العربي: أحكام القرآن: 1/ 61، ابن حجر: فتح الباري: 13/ 329
(3)
البغوي: معالم التنزيل: 2/ 18
تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول (1).
ولذا قال الإمام الغزالي: فأي تعدل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه، وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الأبرياء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم (2).
وما جرى من فتن فهم فيها معذورون، وهي غير مخلة بعدالتهم بإجماع - كما سبق - فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلسنا مع عمر فقال: هل سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أمر به المسلم إذا سها في صلاته كيف يصنع؟ فقلت: لا والله، فبينا نحن في ذلك، أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما، فقال عمر: سألته فأخبره، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال له عمر: فأنت عندنا عدل، فماذا سمعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سها أحدكم في صلاته حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين أو الثلاث، فليجعلها ثنتين، وإن شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثاً حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد
(1) ابن القيم: مفتاح دار السعادة: 1/ 48
(2)
الغزالي: المستصف في أصول الفقه: مؤسسة الرسالة بيروت ط 1/ 1417هـ (1/ 370)، الغزالي: المنحول: دار الفكر دمشق ط 2/ 1419هـ (1/ 356)، المسعودي: مروج الذهب: 1/ 370
سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ثم يسلم).
قال الإمام الذهبي: هذا حديث حسن، صححه الترمذي، ورواه الحافظ ابن عساكر في صدر ترجمة ابن عوف وفيه: فقال: فحدِّثنا فأنت عندنا العدل الرضا.
قال فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا عدولاً، فبعضهم أعدل من بعض وأثبت، فهنا عمر قنع بخبر عبد الرحمن، وفي قصة الاستئذان يقول: ائت بمن يشهد معك، وعلي بن أبي طالب يقول: كان إذا حدثني رجل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، فلم يحتج عليّ أن يستحلف الصديق (1).
ولما تحدث رحمه الله عن سيرة العشرة المبشرين قال:
فهذا ما تيسر من سيرة العشرة، وهم أفضل قريش، وأفضل السابقين المهاجرين، وأفضل البدريين وأفضل أصحاب الشجرة، وسادة هذه الأمة في الأمة في الدنيا والآخرة، فأبعد الله الرافضة ما أغواهم، وأشد هواهم، كيف اعترفوا بفضل واحد منهم، وبخسوا التسعة حقهم، وافتروا عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة؟ فو الله ما جرى من ذلك شيء، وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم وخالفوا نبيهم، وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم، يتجر ويتكسب، لا لرغبة في أمواله، ولا لرهبة من عشيرته ورجاله،
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 32