الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال)
(*)
دخلت عربة النقل الكبيرة - الشاحنة - التي كانت تحملنا إلى درب ضيق، ثم تباطأت في سيرها حتى توقفت، ونزلنا الواحدة بعد الأخرى. ولم نتمكن من رؤية معالم المكان الذي ندخله بوضوح، فظلمة الليل لا زالت قاتمة. وأحاطت بنا ثلة من المظليين، وجنود حراسة المعسكر. وكان وجود جند الحرس على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لنا، لأننا نعرف بأن هؤلاء الجنود لا يقومون بتعذيب المعتقلين عادة. وكان معنا في الشاحنة بعض الرجال المعتقلين الذين تم اقتيادهم نحو بناء في أقصى المعسكر. أما نحن - النساء -فقد كنا ثلاثة تم اقتيادنا إلى غرفة مستطيلة لا ضوء فيها ولا باب لها. وكانت غرفة واسعة الأرجاء، فيها امرأتان ترقدان على غطاء وتلتحفان غطاء أبيض من الصوف. واستيقظت المرأتان عند وصرلنا، وأفسحتا
(*) قصة معتقلة قديمة أرسلتها في تقرير لها إلى (قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري) شرحت فيها ما تتعرض له النساء من العذاب في معتقلاتهن، وما تظهره المرأة الجزائرية من الشجاعة والجرأة والصمود في مواجهة الأعداء - وهن معتقلات تحت رحمتهم. والمرجع:
RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED. ALGER. (1977)
P. P. 251 - 263.
مكانا رحبا لنا إلى جوارهن. لم تكن لدينا القوة للتحدث إليهن، فقد انتابني إرهاق مرعب لكثرة السهاد والأرق، فرحت في نوم عميق في الهواء الطلق، لا جنود أمامنا للحراسة، ولا أنين المعذبين، ولا صراخ السجانين وعويلهم.
كان المعسكر لصمته وهدوئه يبدو مهجورا، غير أنني لم أجد الرغبة في طرح الأسئلة، كل ما يهمني هو الاستغراق في النوم للمرة الأولى، بعد طول السهاد الذي لازمني منذ اعتقالي. بذلك بدأت حياتنا في المعسكر، وأمضينا الأيام الأولى في غرفتنا، وكان كل ما يشغلنا من هموم هو التفكير بمصيرنا. ولم يكن يهمنا أبدا النظر في شروطنا الحياتية، إذ لم نكن نتوقع ما هو أفضل: كنا ننام على
الأرض، في غرفتنا التي لا زجاج لها على النوافذ، ونكتفي بالوجبة الوحيدة التي يقدمونها لنا في اليوم، وهي ثابتة على الأغلب ولا تتغير (سردين بالزيت). وشرعت كل واحدة في رواية ما تعرضت له من تعذيب، وهي تظهر الآثار المختلفة التي تركها التعذيب على جسدها. كانت (وردة) أما لثمانية أطفال، وأرملة، قتل الإفرنسيون زوجها منذ شهر، وتركت في لحظة اعتقالها أحد أبنائها مريضا، راقدا في فراشه. وتعرضت لكل أنواع التعذيب (التيار الكهربائي، نفخ المعدة بالماء، البقاء في الحمام تحت الماء المتساقط - الدوش - الخ ..). وعرضت علينا أثداءها وقد تلونا باللون الأسود بسبب التيار الكهربائي. وقد صدمتني نظراتها الشاردة. كانت تتلجلج وهي تبكي بحرقة عندما تتحدث عن أبنائها الذين تركتهم وحدهم، وتتساءل: ترى من سيطعمهم؟.
كانت المعتقلة الثانية (واسمها ليلى) فتاة في الثانية والعشرين من عمرها. ذات شعر كستنائي، ومزاج معتدل. وقد حاولت الترفيهمكانا رحبا لنا إلى جوارهن. لم تكن لدينا القوة للتحدث إليهن، فقد انتابني إرهاق مرعب لكثرة السهاد والأرق، فرحت في نوم عميق في الهواء الطلق، لا جنود أمامنا للحراسة، ولا أنين المعذبين، ولا صراخ السجانين وعويلهم.
كان المعسكر لصمته وهدوئه يبدو مهجورا، غير أنني لم أجد الرغبة في طرح الأسئلة، كل ما يهمني هو الاستغراق في النوم للمرة الأولى، بعد طول السهاد الذي لازمني منذ اعتقالي. بذلك بدأت حياتنا في المعسكر، وأمضينا الأيام الأولى في غرفتنا، وكان كل ما يشغلنا من هموم هو التفكير بمصيرنا. ولم يكن يهمنا أبدا النظر في شروطنا الحياتية، إذ لم نكن نتوقع ما هو أفضل: كنا ننام على
الأرض، في غرفتنا التي لا زجاج لها على النوافذ، ونكتفي بالوجبة الوحيدة التي يقدمونها لنا في اليوم، وهي ثابتة على الأغلب ولا تتغير (سردين بالزيت). وشرعت كل واحدة في رواية ما تعرضت له من تعذيب، وهي تظهر الآثار المختلفة التي تركها التعذيب على جسدها. كانت (وردة) أما لثمانية أطفال، وأرملة، قتل الإفرنسيون زوجها منذ شهر، وتركت في لحظة اعتقالها أحد أبنائها مريضا، راقدا في فراشه. وتعرضت لكل أنواع التعذيب (التيار الكهربائي، نفخ المعدة بالماء، البقاء في الحمام تحت الماء المتساقط - الدوش - الخ ..). وعرضت علينا أثداءها وقد تلونا باللون الأسود بسبب التيار الكهربائي. وقد صدمتني نظراتها الشاردة. كانت تتلجلج وهي تبكي بحرقة عندما تتحدث عن أبنائها الذين تركتهم وحدهم، وتتساءل: ترى من سيطعمهم؟.
كانت المعتقلة الثانية (واسمها ليلى) فتاة في الثانية والعشرين من عمرها. ذات شعر كستنائي، ومزاج معتدل. وقد حاولت الترفيه
عنا قدر استطاعتها، فذكرت لنا قصة ما تعرضت له من التعذيب بالحركات وبصورة تفصيلية، وهي أثناء ذلك تتحدث بأسلوب ساخر، فتسخر من نفسها قبل أن تسخر من غيرها أثناء تقليدها لجلاديها بلغة فرنسية مسحوقة. وقالت لنا كيف صعد الجنود على بطنها لإفراغ الماء الذي يملأ معدتها، وكيف غمروا رأسها بماء المغسلة.
وكانت المرأة العجوز التي صعدت معنا في عربة النقل الكبيرة مصابة بمرض (الربو) فكانت تتنفس بصوت مسموع. وقد عذبوها مستخدمين التيار الكهربائي، في جملة ما استخدموه، بهدف حملها على الاعتراف بمكان ابنها وأين يختبىء، وباتت بعد التعذيب وقد فقدت الإحساس بذراعها اليمنى. ولاحظت على ذراعي أيضا وجود عدد من النقاط الصغيرة، ولكن بكمية كبيرة، ذات لون كستنائي، وكأنها بقع من الصدأ، لازمتني عشرات الأيام، أما المرأتين الباقيتين فقد تم تعذيبهما في مراكز أخرى من الجزائر، وما أكثرها، سنعرف شيئا عنها عن طريق بقية المعتقلين.
…
كانت نافذة غرفتنا تطل على الساحة التي لم نكن نرى فيها أحدا من الرجال، غير أن الهواء كان يحمل إلينا في النهار أصوات أنات عميقة، تتزايد وضوحا في الليل. وكان يقتحم علينا غرفتنا ما بين فتره وأخرى أحد رجال المظليين، بهدف إثارة الرعب في نفوسنا، والعبث أو اللهو على حساب انفعالاتنا، فيقص علينا أنه ذاهب (لطبخ) أحد المعتقلين، وأنه (بيده، سيفتتح ثغرة في المعتقل تتسع لتدوير مقبض - مانيفيل) ثم يسأل: (هل عذبكم أحد هنا بهذه الطريقة؟) وهو لم يجب أبدا على هذا السؤال وما يبغي منه، فكان
يتركنا في حالة من الرعب الدائم.
كان المعسكر الفسيح جدا يمتد من أمامنا، إنه مجموعة من الأبنية القديمة من التوتياء، أقامها الأمريكيون في سنة 1945 لتمركز جنودهم، ثم أنشئت مدرسة في قسم من المعسكر بعدئذ. وكانت هذه الأبنية تتكون من (6) الى (8) أبنية نصف دائرية مدهونة بالكلس - الجير - وهي تصطف على كل طرف من أطراف الساحة المستطيلة، بطول مائة متر تقريبا. وقد ضمت هذه الأبنية عدد كبير من المعتقلين. وكان هناك رقيب مظلي يسجل الداخلين إلى غرفتنا. وكنا نراهم وهم يمرون من أمام مكتبه، ليستودعوا عنده أوراقهم الشخصية (الهويات) وكل ما يمتلكونه، وكان الرقيب يضع ذلك كله في مغلفات من الكرتون (الورق المقوى) وكان عدد هذه المغلفات كبير جدا.
…
دخلت علينا في ليلة من الليالي مجموعة من خمسة نسوة، جاؤوا بهن من (مدرسة سارويا) وعن طريقهن عرفنا أسماء الذين كانوا يقومون بتعذيبنا. وكنا نردد هذه الأسماء في كل مساء حتى لا ننساها. وقد أخذ عددنا يتزايد شيئا فشيئا. فحجزونا في غرفة خصصت للنساء اللواتي بلغ عددهن (في نهاية شهر أوت - آب) أربعين امرأة. وأصبحنا نتجمع بمجموعات متجانسة، وغالبا ما كانت النساء المتقدمات في العمر يجلسن بعضهن إلى بعض، تاركات للصبايا الصاخبات حرية الحركة في الغرقة. وكانت الفتاة (ف) تثير فينا الضحك، بحيويتها المتدفقة، وبما تمتلكه من ذكاء حاد، فتقص علينا الحكايات والنوادر مما سمعته في (المركز) ومما كان يتناقله (المعتقلون) ومنها حكاية ذلك الشجاع من قدامى
المناضلين والذي تم إلقاء القبض عليه بواسطة كمين محكم فكان يحاول اكتساب عطف جلاديه عندما يسلطون عليه التيار الكهربائي وذلك بقوله (ليس باستطاعة فرنسا حكم البلاد بهذه الأساليب الجنونية - الحمقاء) مع تكرار حرف الراء في (كلمة فرنسا) عندما تشتد عليه قوة التيار.
استمر القلق في تعذيبنا طوال الوقت، ماذا سيحل بنا وماذا ينتظرنا؟ وكم من الوقت سيمضي علينا في معتقلنا هذا؟ وكيف لنا أن نتصل بعائلاتنا لبعث الطمأنينة في نفوسهم؟
…
نظم المظليون المعسكر شيئا فشيئا. فوضعوا الأسلاك الشائكة فوق الجدران. ووضعوا الحديد على نوافذ الغرف. واكتفى الحرس من غير المظليين بأداء دوره في الحراسة.
كان يسمح للمعتقلين في كل غرفة (مائة معتقل تقريبا) بالذهاب مرتين إلى دورات المياه (المراحيض). وكان رتل المعتقلين يسير بنظام، يحيط به المظليون الذين يدفعون المعتقلين للإسراع (بأداء هذا الواجب) مستخدمين في ذلك أعقاب بنادقهم. وكان هذا (العرض) مؤلما، ونحن نتابعه من وراء القضبان، بقلوب حزينة منكسرة، هذه المزق الإنسانية، وهي تعرج، أو تسحب بقاياها على الأرض سحبا، في حين يعمل الأقوياء من المعتقلين على مساعدة المرضى بحملهم من تحت أذرعهم. ويأتي الشيوخ دائما في المؤخرة، أما الأكثر شجاعة فيسيرون في الأمام. وكل يحمل في يده علبة معدنية تحتوي ما كان قد طرحه فيها من البراز في الليل.
لحى مرسلة، وأجساد متثاقلة، وعيون شاردة، ووجوه
متغصنة، وقامات منحنية: شباب، صاخب انتهى إلى الكهولة في أسابيع قليلة، إنهم يسيرون متعجلين وضربات البنادق تطاردهم. وشتائم الجلادين وصرخاتهم تنهال على هؤلاء البؤساء من كل مكان.
مضت عشرة أيام علينا ونحن في معتقلنا هذا عندما دخل علينا الرقيب وقال لنا:
(انهضوا - هيا - وأعدوا أنفسكم).
ودفعنا إلى الخروج، في حالة من الهياج، وقد كسى الشحوب والاصفرار وجوهنا. وكذلك كان شأن الرجال الذين وقفوا في مواجهتنا، ولم تمض سوى لحظة حتى ضاقت الساحة على رحبها بالمعتقلين. وجلس رجل قصير من ذوي القبعات الحمراء - المظليين - (اسمه النقيب - الكابتن - بوتوت) وراء طاولة وضعت له في الهواء الطلق، وقد تربع على مقعده في انتظارنا وخيم على الساحة صمت ثقيل، ثم نهض من مقعده، وصاح بنبرة ثابتة، وبصوت واضح:(هل أخرجتم المرضى؟! إنني بحاجة إلى المرضى أيضا.!) وقام المعتقلون بنقل بعض الأجساد إلى الأمام من أبواب المهاجع. مما استغرق بعضا من الوقت. وهمس البعض متسائلا بقلق: (ماذا سيفعلون بنا؟) وتقدم النقيب إلى المعتقلين قائلا: (سوف أناديكم بأسمائكم، فمن سمع اسمه يجيب: حاضر، وينتقل إلى الطرف المقابل من الساحة). وبدأ قراءة الأسماء، في حين كنا نحتبس أنفاسنا. وأخذت إحدانا بعد المعتقلين حتى زاد العدد على الثلاثمائة. وكان النقيب يقرأ اسم أحد المعتقلين، فلا يجيبه أحد في بعض الأحيان، وعندها يتدخل الرقيب ليقول:(إنه في سرية أخرى) أو يهمس بكلمات لا نستطيع
فهمها فيتابع النقيب قراءة الأسماء بصوته الجهوري ولهجته الثابتة.
فكرت بمرارة بأمر تلك الظلال التي جلس بعضها إلى جوار بعض
…
وقرأ النقيب الأسماء الأخيرة بصعوبة واضحة. وانتهت (العملية)
…
ثم بدأ التدافع نحو الغرف (المهاجع) وتعثر البعض بسبب الظلمة، ولم يتمكن المظليون من السيطرة على الموقف إلا بصعوبة وعناء. وتبع ذلك ضجيج وأصوات قوية، وانطلق بعضنا يعانق بعضا مهنئين بمرور التجربة بسلام، في وسط الظلمة بحيث لم تكن الوجوه لتتعارف، وكانت الظلمة القاتمة تضم الجميع وتصهرهم في كتلة واحدة، وفي جسد معذب واحد.
كانت تصلنا في كل يوم مجموعة جديدة من النساء. فنتحلق حولهن لنستمع منهن - قبل كل شيء - قصة (استجوابهن) ثم نتلقى منهن بعض الأخبار الجديدة. ونقلت إلينا بعضهن ممن جاؤوا من (مدرسة سارويا) قصة انتحار فتاة لا يزيد عمرها على ثمانية عشر ربيعا، قذفت بنفسها من نافذة المدرسة حتى تتخلص من التعذيب. وكانت شقيقة أحد المجاهدين المعروفين (ز. ت. آ) معتقلة معنا، وقد انتابها القلق على مصير أخيها، فأعلمناها أنه بخير، وعادت الطمأنينة إلى نفسها، وقد لازمت الفتاة الطالبة (هـ) ذات العشرين ربيعا، ولم تتركها لحظة واحدة، إذ كانت تعرف أنها مصابة بمرض (القلب) وشاهدتها وهي تقع مغمى عليها مرات كثيرة، في إثر جلسات التعذيب.
جاءت أيضا الفتاة (ف) شقيقة (م. ي) الذي تم تعذيبه تحت بصرنا في (مدرسة سارويا) وهي الفتاة البكر لعائلتها، وكان أبوها في السجن، وأختها هاربة (حيث أصابها المظليون برصاصة بعد أن طوقوا المزرعة التي كانت تعمل فيها مع ب. س. في تنظيم شبكةفهمها فيتابع النقيب قراءة الأسماء بصوته الجهوري ولهجته الثابتة.
فكرت بمرارة بأمر تلك الظلال التي جلس بعضها إلى جوار بعض
…
وقرأ النقيب الأسماء الأخيرة بصعوبة واضحة. وانتهت (العملية)
…
ثم بدأ التدافع نحو الغرف (المهاجع) وتعثر البعض بسبب الظلمة، ولم يتمكن المظليون من السيطرة على الموقف إلا بصعوبة وعناء. وتبع ذلك ضجيج وأصوات قوية، وانطلق بعضنا يعانق بعضا مهنئين بمرور التجربة بسلام، في وسط الظلمة بحيث لم تكن الوجوه لتتعارف، وكانت الظلمة القاتمة تضم الجميع وتصهرهم في كتلة واحدة، وفي جسد معذب واحد.
كانت تصلنا في كل يوم مجموعة جديدة من النساء. فنتحلق حولهن لنستمع منهن - قبل كل شيء - قصة (استجوابهن) ثم نتلقى منهن بعض الأخبار الجديدة. ونقلت إلينا بعضهن ممن جاؤوا من (مدرسة سارويا) قصة انتحار فتاة لا يزيد عمرها على ثمانية عشر ربيعا، قذفت بنفسها من نافذة المدرسة حتى تتخلص من التعذيب. وكانت شقيقة أحد المجاهدين المعروفين (ز. ت. آ) معتقلة معنا، وقد انتابها القلق على مصير أخيها، فأعلمناها أنه بخير، وعادت الطمأنينة إلى نفسها، وقد لازمت الفتاة الطالبة (هـ) ذات العشرين ربيعا، ولم تتركها لحظة واحدة، إذ كانت تعرف أنها مصابة بمرض (القلب) وشاهدتها وهي تقع مغمى عليها مرات كثيرة، في إثر جلسات التعذيب.
جاءت أيضا الفتاة (ف) شقيقة (م. ي) الذي تم تعذيبه تحت بصرنا في (مدرسة سارويا) وهي الفتاة البكر لعائلتها، وكان أبوها في السجن، وأختها هاربة (حيث أصابها المظليون برصاصة بعد أن طوقوا المزرعة التي كانت تعمل فيها مع ب. س. في تنظيم شبكة
من الفدائيين. وقتل ب. س بينما تمكنت الفتاة من الفرار، حاملة معها جرحها). ولم يبق في منزلهم غير الأم مع طفلها الصغير. وهكذا كان المعسكر يفصل بين أفراد العائلة الواحدة، ويجمعهم في بعض الأحيان. وقد تصادف في مهجعنا وجود ثلاثة أزواج من
الأخوات وكانت منهما أختان سجن أبوهما وأخوهما الصغير الذي لا يتجاوز العشر سنين من عمره، في المهجع المجاور. فكانت الأختان ترسلان سرا إليهما بالخبز، وتغسلان لهما ثيابهما.
عادت الفتاة (هـ) في يوم باكية وذلك بعد وصولها إلى هنا بثلاثة أسابيع، وكان سبب بكائها، اكتشافها وجود أخيها الوحيد في المعتقل. إنها لم تتمكن من التعرف عليه في وسط ذلك الرتل الطويل من المحتجزين البؤساء: حتى التقى الاثنان مصادفة في المستوصف، واعترف لها عندئذ بأنه كان يبتعد عن بصرها حتى لا يقلقها
…
أصبح من عادتنا مراقبة كل ما يحدث في المعسكر من أمور رتيبة عادية. وكان من أبرز ما في الحياة اليومية ذلك الاستعراض الذي يقوم به المعتقلون وهم يتجهون إلى المراحيض - دورات المياه - القذرة وغير الصحية. وقد بلغ عدد المعتقلين في تلك الفترة، ثمانمائة معتقل في حين لم يكن هناك أكثر من ثمانية مراحيض، فكان الخروج إلى المراحيض يبدأ في الساعة السادسة صباحا، ولا ينتهي قبل الساعة التاسعة مساء، وأحيانا إلى ما بعد ذلك، بالرغم من حلول الظلام الدامس. وكان يتم في وقت مبكر من كل يوم اختيار خمسين رجلا للقيام بأعمال السخرة، ولدى عودتهم في المساء، تقوم قوات المعتقل بإجراء تفتيش مباغت لأحد المهاجع الذي يتم
اختياره بصورة عشوائية. وكانت فترة الصباح تمضي عادة في المراجعة الطبية للمستوصف. ومع كل صباح كان يصل فوج جديد من المعتقلين، عادة ما يضم ثلاثين أو أربعين معتقلا، فتعاظم بذلك عدد المعتقلين، لا سيما وأنه لم يكن يتم إطلاق سراح أحد من المعتقلين. ولكن حدث، وبصورة مباغتة، أن تم إطلاق سراح مجموعتين كبيرتين مما أثار الأمل في النفوس. غير أن هذا الأمل ما
لبث أن خاب بسبب الاستمرار في ممارسة ذلك العمل الذي لم نتمكن من التعود عليه بالرغم من تكرر وقوعه يوميا، حيث يصل بعض المظليين من سرية الدعم ومعهم اللائحة (البيضاء المشؤومة) في أي وقت غير متوقع من أوقات الليل أو النهار، فيصعدون مثنى أو ثلاث إلى مكتب الرقيب، ويتسلمون منه الأفراد الذين وردت أسماؤهم في اللائحة، بعد أن يكون قد تم إحضارهم من مهجع أو من عدد من المهاجع، ثم يصلنا صوت سيارة (الجيب) وهي تمضي محملة بإخواننا المعتقلين البؤساء، ليتعرضوا لجولة جديدة من التعذيب والألم. بسبب ظهور شواهد جديدة ضدهم، أو بسبب ظهور تناقض في اعترافاتهم وأقوالهم.
خلاصة القول، لم يكن هذا المعسكر الذي احتجزنا فيه من المعسكرات العادية، وكان كل يوم يمر علينا يؤكد لنا هذه الحقيقة. فقد عشنا في معسكر لم تعلن عنه السلطات الإفرنسية بأنه معسكر شرعي، نظامي، فأطلقت عليه بخبث ولؤم اسم (معسكر الترفيه، أو المخيم الثالث) ولكنه كان معسكر ترفيه من نوع (خاص). يقيم فيه المعتقلون دائما في انتظار وصول معتقلين جدد يتم إرسالهم من مراكز التعذيب والتشويه. وخلال هذه الإقامة، كان لزاما على جراحنا الدامية أن تندمل وتجف، وكان لزاما على آثار التعذيب
والتشويه في أجسادنا أن تخف وتزول حتى لا تكشف عن سوء المعاملة التي تعرضنا لها، وحتى لا تفضح أساليب التحقيق الوحشية التي عشناها. هذا هو (معسكر الترفيه) الذي احتجزنا فيه ونحن في عزلة تامة عن العالم الخارجي، ومن غير اتصال، أو أخبار، عن عائلاتنا التي اعتبرتنا بحكم المفقودين. على هذا عشنا أشهرا طويلة من الشك القاتل، والمعاملة الوحشية. وكان عزاؤنا في هذه الحياة المشتركة، أننا نعيش جميعا آلاما واحدة، ونمر جميعا بتجربة واحدة، نتعرض لما نتعرض له من أجل قضية نبيلة واحدة، ومثل أعلى واحد.
أقيم المستوصف في غرفة صغيرة من إحدى الغرف الواقعة في مواجهة مهجعنا، فكنا نرى من وراء القضبان الحديدية للنافذة، عددا من المرضى لا يقل عن الخمسين يوميا، وقد التصقوا على الجدار، واستندوا إليه، بانتظار دورهم في المعالجة، كنا نراهم في كل يوم وهم يعرجون، وبعضهم لا يستطيعون السير فيقعدون أرضا، تحت أشعة الشمس الحارقة، حتى يأتيهم من المعتقلين من يستطيع حملهم أو مساعدتهم على السير. وكانت أيديهم ورسغ أقدامهم مصطبغة بلون أحمر يكشف عن بقع كالوشم، ترك التعذيب بالكهرباء أثرا واضحا عليها. وكانت هذه الظاهرة تذهلنا، وتحيرنا. فنتساءل:(لماذا يحملون جميعا هذا الأثر على الرسغ، رسغ القدم بالذات، دون غيره من أعضاء الجسم؟) وأمكن لنا الحصول على تفسير هذه الظاهرة: (إن الروابط تخترق عميقا في اللحم، بسبب الاهتزازات الكهربائية، فتتقيح الجروح، ويضطرون إلى طلائها بالميكروكروم). وقال لنا الرقيب المظلي الذي قدم لنا هذا التفسير: (إنهم لا يتقنون ممارسة عملهم أما
أنا، فأضع قطعا من الورق المقوى - الكرتون - بين الروابط لالصاقها على الجسم حتى لا تتحرك فتترك أثرا في الجسم).
كان هناك رقيب جزائري (اسمه س) يعمل ممرضا، وقد اعتقل معنا، فكان يقوم بكل الأعمال للعناية بالمرضى المعتقلين. أما الرقيب الممرض المظلي، فكان يأتي للثرثرة معنا، والتسلية بنا. وبقي (س) يعيش في المستوصف، للعناية بأمر اثني عشر مريضا، كلهم مصابون بأمراض خطرة، وقد ترك كل واحد منهم على الأرض، فوق غطاء، وكانت حالتهم تتطلب عناية مستمرة، ورعاية طبية خاصة وكنا عندما نكنس الساحة وننظفها، نستطيع الاقتراب لنشهد سبب صراخهم الحاد لشدة ما بهم من الألم.
كانوا ممددين أرضا، وهزالهم الشديد يفضح المرحلة التي وصلوا إليها في مرض (التدرن الرئوي). وعيونهم ملتهبة بالحمى، يحيط بهم البصاق. وهنا قدم مسودة ومنتفخة إلى درجة لا يمكن قياسها. وهناك، يجلس رجل في زاوية، يتنفس بصعوبة وقد جحظت عيناه، وجمدت نظراته. كان أنين الأجساد يتصاعد من كل مكان في الغرفة - المستوصف -. وعلى مقربة من المدخل، وضعت طاولة عليها كومة من المواد الطبية: كحول، وميكروكروم، واسبرين، وكينين، غير أنه لم يكن هناك شيء من المضادات الحيوية (أنتيبيوتيك). وكان الممرض (س) يحرص على الاقتصاد في الكحول والأربطة، فلا يعمل على توزيعها إلا عند الضرورة. وكان المعتقلون يصطفون خارجا بانتظار إدخالهم واحدا بعد الآخر، حيث يعرضون على الطبيب جراحهم التي كانت بصورة عامة مركزة على أعضاء الجسم: وجوه منتفخة، ولثث ملتهبة متورمة، بعضهم يمشي بصعوبة قصوى بسبب ما أصاب
أقدامهم من التهاب حاد، وارتفاع مرعب في درجة الحرارة. وهناك حروق في الأعضاء الحساسة من الجسم لا ضرورة هنا لوصفها أو التعرض لها. هذا علاوة على تلك الندب الصغيرة التي تظهر على البطن أو على بقية أجزاء الجسم
…
كانت هذه الساحة الجنيدة تشهد العجاب والغرائب، ومنها مجنون كان يروح جيئة وذهابا طوال النهار. فهل كان مجنونا قبل اعتقاله؟ أم أن التعذيب قد أسلمه إلى الجنون؟ أم أنه يتظاهر بالجنون؟ لقد اعتبرته - من وجهة نظري - أنه إنسان شاذ وغير طبيعي: ونظراته لا تخدع أحدا. كان يمرح في كل مكان من المعسكر بكامل حريته، ذاهبا وعائدا ما بين طرفي الساحة وهو يقوم بحركات كثيرة، ويقلد حركات الملاكمين على أفضل وجه، وكان في الساعة السابعة من مساء كل يوم، يجول حول المعسكر وهو يركض - رملا - تحت أنظار المظليين الذين كانوا يشجعونه ويستثيرون حماسته، فيما كان بقية المشاهدين يروحون عن أنفسهم بمتابعته والتعليق على حركاته. وكنا نتعذب كثيرا في بداية الأمر لرؤية هذه النفس التائهة، المريضة، وقد خضعت، وهي مجردة من كل دفاع، لهؤلاء الجلادين الذين يقومون على حراستنا. ثم لم نلبث أن تعودنا على ذلك، فكان يدخل إلى مهجعنا كالريح العاصفة، فيجلس للحظة بيننا، يتحدث إلى نفسه بصوت منخفض أشبه بالدمدمة. ونقدم له الطعام ونحن خائفات وجلات تقريبا، ثم يخرج متعجلا نحو عالمه الخاص به.
…
كال طبيب المعسكر من وحدات المظليين، طويل القامة، نحيل البنية، جاف الطباع، يتحدث بقوة وبلهجة أهل (بريتانيا).
وكان يرافق الممرض في جولاته أحيانا، غير أنه كثيرا ما كان يتردد علينا، إذ كان لدينا مرضانا أيضا من النساء. فهذه فتاة شابة متزوجة، لم تتجاوز التاسعه عشرة من عمرها، حاملا في الشهر الثالث، وعلى حلم ثدييها وعانتها حروق من التيار الكهربائي، وهي تتبول دما. وتلك سيدة نحيلة (هـ) لها من العمر أربعين عاما، ذات بشرة سوداء فاحمة، تعرج على قدمها، ومريضة بالربو، وتلك أيضا السيدة (آ. ت) المصابة بمرض القلب الخ
…
وكنا نتناقش معه طويلا في وضع مرضانا، فكان يقول:(ماذا تريدون مني أن أفعل؟ ليس هناك أدوية، ولا شيء، ثم يشير إلى ذقن الممرض وهو يتابع قوله، وعلى كل حال، فإنهم سيموتون جوعا ومرضا. كان لزاما وضعهم في المستشفيات بصورة طبيعية لأن حالتهم تتطلب عناية من نوع آخر، وهذا أمر واضح جدا).
اتخذنا الترتيبات لإرسال الحلوى والمربيات والحليب والخبز إلى المرضى الذين اشتد عليهم الداء، وأمكن تأمين شراء هذه المواد سرا من الخارج. وفي إحدى الأمسيات، كلفت (ك) بكنس وتنظيف الساحة - أمام المستوصف - وعادت من تنفيذ مهمتها مهتاجة جدا لتقول لنا:(أتعرفون من يوجد في الأسفل، وبحالة حزينة تثير الشفقة؟ إنه الصائغ - الجواهري - مصطفى الذي يمتلك دكانا في شارع بوتان! لقد عرفني، يا له من فتى شجاع؟ ويا له من بائس؟ سنرسل له غدا بعض الطعام). ولما كان البعض منا يقيمون في هذا الحي، ويعرفون جيدا هذه الناحية، فقد عرفوه. وقالوا إنه شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، متزوج وأب لطفلتين صغيرتين، مستقيم في تعامله مع الناس، ولهذا يحترمه الجميع ويقدرونه. وفي اليوم التالي، استطاعت اثنتان منا رؤيته والتحدث
إليه، وتشجيعه ببضع كلمات. كان يتنفس بصعوبة، وفي حالة إغماء، ولم يلبث أن مات في الساعة الواحدة ليلا. وبقيت أنوار المصابيح الكهربائية تسطع على جدران المستوصف طوال الليل. ووصل إلينا صوت سيارة (الجيب) الخاصة بالطبيب وهي تدخل المعسكر، وبقيت غرفة الرقيب مضاءة حتى وقت متأخر من الليل. وفي الصباح، أخذ الضجيج يرتفع بين المعتقلين وهم يتناقلون الخبر:(لقد مات الجواهري مصطفى، الذي يعمل في شارع بوتان، أضلاعه مهشمة وأحشاؤه ممزقة) وقامت الفتاة (ك) بجمع ثيابه.
كان مهجعنا مكتظا بالمعتقلات، وقد أفدنا من بعض الامتيازات، باعتبارنا نساء، فكان باب الغرفة يبقى مفتوحا ساعات عديدة في النهار، وكنا نستطيع التردد على المراحيض بحرية تامة، ونستطيع غسل ثيابنا، بل وحتى الاغتسال بمساعدة أنبوب مرن. وكان لدينا بعض الأغطية التي كنا نتبادلها فيما بيننا. في حين كان الرجال يتعرضون للمعاناة الصعبة أكثر منا؛ ينامون على الأرض، ويلتحفون ثيابهم إن وجدت معهم هذه الثياب. ولا يخرجون إلى المراحيض (دورات المياه) إلا بنظام (الاستعراض)، أو بالرتل، وبمعدل مرتين يوميا - كما سبق ذكره - يحيط بهم المظليون. وتقفل عليهم الأبواب فور عودتهم، وكانوا يتعرضون للضرب، كما لو كانوا نوعا من الكلاب.
جاء مظليان، ذات يوم، لأخذ الفتاة (ف) التي كان اسمها على (اللائحة البيضاء) وما إن نطق الديدان مناديا لها، حتى اصفر وجهها، وشحب لونها، وارتدت ثيابها وهي ترتجف، وتقدمت لمساعدتها بجهد، وجمعت لها حوائجها بصعوبة، إذ كنت أرتجف
بدوري من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. وقلت لها مشجعة: (تشجعي، تشجعي، فلعل هناك خطأ في الإسم!) وكان من العسير علينا تشجيعها ونحن نعرف جيدا ما ينتظرها.
خرجت (ف). وتركتنا في حالة من القهر العميق، والإحباط المرير، محرومين من صداقتها فمر الوقت بنا متباطئا، ثقيلا. لقد كان معنا راقصات فنانات، ومطربة تغني الشعر العربي الغنائي، فكانت وأختها تثيران المرح في غرفتنا. وكانت الفتاة (ر. س) قد عرفت كثيرا من البلاد بسبب كثرة أسفارها، ووفرة نشاطها - ديناميكيتها - فكانت تنضم إلينا، وكذلك كانت تفعل الفتاة (هـ -) ذات الشعر الأسود الطويل والمضفور، والتي كان لها من العمر ستة عشر ربيعا، فكانت أصغر المعتقلات فينا. ولم تكن (ي - هـ) التي تبلغ من العمر (65) عاما لتمتنع عن المشاركة في إثارة جو المرح، والترفيه عن المعتقلات، وتلك هي صورة عن الطريق الذي أوصل هذه السيدة العجوز، المحدبة الظهر، والشديدة النحول، للسير وحدها خلال فترة عصيبة من الحياة. ولقد اشتد بنا الزحام في هذه الفترة، فلم يعد لدينا ما يكفي من الأغطية؛ فكنا نستيقظ في الليل ونحن نرتعد من البرد، ونمضي بقية الليل في رواية القصص والحكايات بانتظار طلوع النهار. ولم تجد (الأم حليمة) ملاذا لها في أي مكان، فنامت على زاوية من غطاء، لم تتذمر، ولم تعلن عن سخطها، وعندما أفاقت في الصباح، منحنية منطوية، انسحبت من مكانها وهي تقول:(آه أيتها الحرية، كم نعاني من أجلك؟) وذكرتنا كلماتها هذه بما يجب علينا عمله لتوثيق الروابط فيما بيننا داخل هذه الغرفة، وأقبل الجميع عليها، وضموها إليهم، وأعجبوا باتساع أفقها، وفكرها المتفتح، وذكرت لنا بأن المظليين قد عملوا
على تعذيبها (بالتيار الكهربائي) متهمين إياها بإيوائها لواحد من المجاهدين.
…
اقترب موعد عقد جلسات هيئة الأمم المتحدة، ورافق ذلك تصعيد في حملة الاعتقالات. لقد أرادت السلطات الاستعمارية إلقاء القبض على الزعيمين المجاهدين (علي لابوانت وياسف سعدي) بأي ثمن، وسواء أمكن القبض عليهما وهما أحياء أو أموات، وذلك قبل عقد جلسات هذه الهيئة الدولية. وسارت عملية التعذيب بسرعة مذهلة، وتطورت حملة الاعتقالات فشملت: الفتيات الصغيرات، والأطفال، والشيوخ من الرجال والنساء.
أخذ الجلادون في تعذيب الأم من أجل اعتقال أبنائها، وتعذيب الزوج أمام زوجته والزوجة أمام زوجها، والطفل حتى يستيلم أبوه.
وخلال هذه الفترة اعتقلوا مجموعة من الفتيات الصغيرات بتهمة العمل في تأمين اتصالات المجاهدين أو إيواء القادة ممن تبحث عنهم السلطات الإفرنسية. كانت من بينهن (سكينة) ذات الجمال الرائع، ونضرة الشباب المتفتح لعمر لا يزيد على السبعة عشر عاما، وقد اجتذبت اهتمام الجميع، بابتسامتها الطفولية البريئة، وعيناها الدعجاوين البراقتين. وكانت قصص التعذيب كثيرة ومتنوعة: فالفتاة (ب. ف) عذبت بالكهرباء، والماء، وأدخل قضيب حديدي في فرجها. وهناك قصة امرأة لها من العمر (35) عاما، قذفت بزورق إلى عرض البحر، ونرع جلادوها في تغطيسيها بالماء حتى تعترف، وكرروا العملية معها مرات عديدة حتى ماتت مختنقة. وانتهكت أعراض عدد كبير من الفتيات الصغيرات، وأجلسوا الفتاة (د. أ) على عنق زجاجة مكسورة.
وسلط الكهرباء على لثتها.
ومضت على ذلك أسابيع، وانقضى الشهر الثاني على اعتقال السيدة (و) التي باتت تنظر إلى الجميع من غير أن ترى أحدا، كمن أصابها مس من الجنون، وكان تفكيرها برضيعها الذي تركته في سريره قد آل بها إلى ما هي عليه من منظر لا يحتمل.
كان التوتر العصبي العام يشتد في بعض الأمسيات حتى يبلغ ذروته، فتنفجر المناقشات الحادة بين المعتقلات لأسباب تافهة، مثل الحصول على غطاء، أو قطعة خبز، أو حتى من أجل كلمة نطقت بها إحداهن على غير إرادة منها، ودونما قصد الإساءة إلى أحد. وفي مثل هذه الحالة كان مهجعنا يتحول إلى ما يشبه (غرفة المجانين). بعضهن يقهقهن ضاحكات، وأخريات يرفعن عقيرتهن بالغناء، وأخريات أيضا يتصايحن على غير إرادة منهن.
كان (الجوع) و (الكآبة) هما وحدهما القادران على إرغامنا على التحكم بأعصابنا. فعندما نحرم من طعام الصباح، وتأتي الساعة الواحدة والنصف ظهرا ونحن جياع، ترانا وقد لجأت كل واحدة منا إلى زاوية وتمددت فيها، وراحت في غفوة هي بين النوم والصحو، مستسلمة لألم الجوع، وخاضعة للضعف الذي لا يمكنها حتى على الإجابة إذا ما طرح عليها أي سؤال. وكان وباء (الحنين) يهبط علينا بصورة مباغتة، فيرتفع ضجيج الإجهاش بالبكاء، وتنطلق من العيون نظرات مرعبة. وسعيدات هن اللواتي يجدن القدرة على البكاء وذرف الدموع، ففيها بعض العزاء لنفوسهن المعذبة. وكانت الفتاتان المغنيتان (ف) و (د) تقدمان لنا في مثل هذه الظروف مساعدة لا توصف. كانتا لا تقومان بالغناء إلا نادرا (وعندما تتوافر لهن الاستثارة). وعندها تنطلقان للغناء من أجل الجميع. وذات
مساء عرفت الفتاتان بأن أمهما مريضة، فأخذتا تنتحبان، واعتصرنا الألم جميعا، إذ تذكرت كل واحدة أهلها وعائلتها، وخيم الحزن على المعتقلات، وشعرت كل واحدة بغصة في حلقها وهي تستمع إلى المغنيتين ينشدن (فاض الوجد يا عليا) بلهجة حزينة أثارت الحنين والبكاء. كان صوتها عذبا للغاية، موزونا، قويا، يغيب أحيانا ليترك الفرصة أمام (المجهشات بالبكاء بحرقة ومرارة).
لم يعد تبادل الحديث هو الشغل الشاغل للمعتقلات، بعد مضي فترة من الوقت، فباتت الطاعنات بالسن - خاصة - يجتررن الحديث ذاته، وذلك بسبب الافتقار لمواضيع جديدة يمكن التحدث فيها. وها هي على سبيل المثال (السيدة - هـ) تتحدث في قضيتها فتستثير كل من يسمعها، إنها لا تتحدث إلا (عن راتبها التقاعدي الزهيد الذي ستفقده بعد أن أفنت سنوات عمرها في العمل خادمة لأحد الفنادق). ومع العزوف عن الحديث، اتجه اهتمامنا نحو الخارج، فكنا نمضي فترة بعد الظهر بكاملها أحيانا، ونحن واقفات خلف القضبان الحديدية للنافذة، نتطلع من خلالها إلى الحقول، والسهل البعيد، كان هناك (طريق الجيش الترابي) الذي يفصلنا عن تيار الحياة. وكانت بعض العائلات قد نجحت في الوصول إليه، وصرخوا منادين أفراد عائلاتهم المعتقلين (بأسمائهم) و (بألقابهم - الكنية). غير أن الجند استطاع طردهم بعيدا حتى الغابة. وكنا نجيبهم عندما ندرك أن الحرس مشغول عنا. وكان لا بد من الصراخ بقوة كبيرة حتى تصل كلماتنا إلى آذانهم.
حاولت (زوجة مصطفى) الحصول على أخبار زوجها بعد مصرعه بأسابيع عديدة، وكانت تنادي (مصطفى) وأجابتها إحدى المعتقلات (إنه بخير - إنه بخير). غير أنها علمت بقصة وفاته،
واطلعت على مأساته، فيما بعد، وعندما جاءت ظروف مناسبة.
…
مررنا نحن السجينات بحالات متناقضة، على نحو ما يحدث في كل سجون العالم. فقد كانت تصادفنا أحيانا بعض اللحظات الحلوة. وكنا نسافر بعيدا مع (ي) الجميلة، ونصفق لها وهي ترقص وتغني. وتعلمنا من (ف. ت) بعض الأغنيات الشعبية. وقضينا لحظات ممتعة مع العجوز (ي) العرجاء، والتي كانت تقص علينا (حكايات الأساطير) بصوتها الأجش، قبل أن ننام، فتذكرنا بالأطفال عندما يتحلقون حول الجدة لتهدهدهم بحكاياتها الحلوة كنا نحتمل الجوع، ونحتمل البرد، ونحتمل المرض، ونحتمل حتى (اللائحة البيضاء) .. غير أن شيئا واحدا لم نكن قادرين على احتماله، لشدة ما يثير فينا من الفزع، وذلك هو (أبو شكارة - أولابس البرنس)(1). الذي ما أن تلمحه إحداهن وهو ينزل من المركبة الخفيفة (الجيب) حتى تسرع بالدخول إلى المهجع لتعلن قدومه. وعندها تسرع كل واحدة لتمسك شيئا تغطي به وجهها وكتفيها، سواء كان هذا الشيء: شالا، أو قميصا، أو غطاة صوفيا، أو معطفا. الخ
…
حتى لا يظهر إلا قسما صغيرا من الوجه.
كان (أبو شكارة - أو لابس البرنس) يقترب من المهجع وبرفقته رجلين من المظليين، وقد غطى وجهه ونصف جسمه بكيس مفتوح من طرف واحد، وقد ثقب هذا الكيس في موضع العينين. وكان
(1) البرنس هنا ترجمة كلمة: CAGOULE وهي الثوب الفضفاض، لا أكمام له - وله غطاء رأس متصل به - كالممطر - ومنه ما يستر الوجه بحيث لا يظهر منه إلا العينين، عادة ما يلبسه الجلادون الذين يكلفون بتعذيب الآخرين أو إعدامهم.
غالبا ما يسير مترنحا، يساعده المظايون في سيره، إنه قادم ولا ريب من (حفلة تعذيب) ويداه مقيدتان الى ظهره. وكان الرجال أيضا يبتعدون عن النوافذ لدى رؤيته. كان الخوف يسيطر علينا جميعا، رجالا ونساء. لقد جاء هذا الرجل ليكشف أمر من يعرفهم من المشتركين معه في عمل من أعمال الثورة، وقد غطى وجهه حتى لا يعرفه أحد أو يتعرف عليه. فيعملون على إدخاله إلى كل مهجع من المهاجع، حيث ينتصب المعتقلون وقوفا، وينتظرون بقلق بالغ مروره، وتجاوزه لهم سلام. وكثيرا ما كانت بعض أخواتنا المعتقلات، تسقطن مغميات عليهن لشدة تأثرهن برؤية (أبو شكارة). ولقد كانت حالتنا الجسدية وهذا الرعب اليومي أكبر وأقوى من قدرتنا على الاحتمال. وكان ما يخيفنا هو معرفتنا بأن (أبو شكارة) قد يتهم أي إنسان، سواء من أجل كسب الوقت، أو ليخفف من آلامه، أو أنه يشير إلى أحد من يعرفهم بدافع الحقد أو بدافع الغيرة، ولهذا كانت لدينا أسباب كافية للشعور بالذعر. وكان يتم اقتياد من يشير إليه (أبو شكارة) فيأخذه معه. وأحيانا يعود (أبو شكارة) وحده، من غير أن يتعرف على أحد، وحتى في مثل هذه الحالة، فإننا لم نكن نجرؤ على التفكير بما ينتظره بعد عودته إلى (التعذيب).
استطعنا من خلال الأحاديث السياسية مع الرقيب والعريف، أن نتعرف على هذه المخلوقات: سواء هؤلاء الذين يعملون على حراستنا، أو أولئك الذين يعملون في تعذيبنا. بعضهم من الأيتام، وبعضهم كانوا أحداثا جانحين، وبعضهم الأولاد الأكبر - البكر - في عائلات كثيرة الأولاد - وكثير من الشرسين المجرمين. وجميعهم بصورة عامة، من الجهلة الذين يفتقرون للتكيف مع المجتمع،
والحمقى، وقصار الرجال ذوي النفوس الحاقدة المعقدة. وذات يوم اشتبك اثنان منهم في عراك، خلال فترة بعد الظهر، وأشهر كلا منهما سكينه وهاجم بها الآخر، في وسط الساحة، وأسرعنا الى النوافذ، نتابع بفرحة نابعة من القلب معركة اثنين من جلادينا. وكل منهما يذبح الآخر ويقتله.
علمت، في جملة ما علمته، من خلال تلك الثرثرة، بعضا من التفاصيل بشأن المعسكر، ومنها أن معسكرنا هذا هو في جملة المعسكرات التي تتكتم السلطات الإفرنسية عنها، وتنكر وجودها. وأن الصرخات التي سمعناها في الأيام الأولى لاعتقالنا، كانت صادرة عن مريض بتر المظليون عضوه، وأن هناك معسكرات (سوداء) كثيرة حول العاصمة (الجزائر) وفي (البيار) و (سيدي فريج) و (لارودوت) الخ
…
...
بلغ عدد المعتقلين الذين سجلت أسماؤهم على اللوحة السوداء في مكتب الرقيب (864) معتقلا. وانتشر الزحار الحاد (الدوسنطاريا) بين الرجال، كما أصيب بها بعض النساء أيضا. غير أننا لم نستسلم لحالتنا، واستطعنا تأمين الوسيلة للحصول على الأخبار: فكانت الصحف تنتقل من مهجع إلى مهجع، بالرغم من التفتيش الدقيق. وأمكن للرجال أيضا المحافظة على شجاعتهم، والسخرية من حراسهم وجلاديهم. ومثال ذلك، ما حدث يوم اقتاد أحد المظليين مجموعة من المعتقلين نحو مهاجعهم، ثم طلب إلى
أحدهم أن يرقص أمامه رقصا شرقيا، وخرج الشاب من الصف بعد لحظة من التردد، ثم شرع في الرقص، بينما أخذ رفاقه يصفقون له ويرددون بصوت واحد: (إلعن ولد القوم، إلعن ولد القوم، أي لعن
أهلكم) وأظهر المظليون سرورهم، ولم يفهموا تلك الشتائم التي وجهت لهم. وقد أثار هذا الحادث في نفوس النساء قدرا كبيرا من الارتياح.
بوغتت النساء ذات يوم مباغتة بلغت بهن أقصى درجات الاستثارة. فقد دخلت إلى المعسكر الفتاة (ف. ت) وهي تحمل حقيبة سفر في يدها، وعلى رأسها منديل رقيق، يحيط بها إثنان من المظليين. ولم يكن مثل هذا المشهد مألوفا في المعسكر وتساءلت النساء:(ترى من تكون هذه الفتاة، التي وجدت ما يكفيها من الوقت لوضع ثيابها في الحقيبة من أجل إقامتها البائسة في المعسكرات؟). لقد كان مظهرها يوحي بأنها تعمل متنقلة في المقاومة السرية، وأنه قد تم اعتقالها عند سفرها لتنفيذ إحدى المهمات. وعلى كل حال، فإن فترة التساؤل لم تستمر طويلا، إذ تم إدخالها إلى مهجعنا بعد هنيهة، وعرفنا أن اسمها هو (ف. ت) وقالت أنها قدمت من معسكر (مصوص) بعد قيامها برحلات عديدة، وأنها تعرضت للتعذيب قبل أن ينقلوها إلى معسكرنا، وكانت قد تعرضت من قبل للتعذيب أيضا في معسكر (مصوص) لأنهم هناك يقومون بالتعذيب أيضا أثناء القيام بالبحث والتحقيق في أعمال أخرى. وقالت أيضا بأنها (جربت) خلال التعذيب كل الوسائل المتبعة، من التيار الكهربائي إلى الماء الخ
…
واعترفت أنها حاولت الانتحار قبل أن تتعرض لتجربة التحقيق الثاني: (غير أن حديد النافدة أمسك بها، فبقيت معلقة، وأسرع مظلي لإنقاذها من الموت الذي كانت تتمناه وذلك في اللحظة الأخيرة) وها هي الآن تقوم (برحلتها) الثالثة. وشعرنا أنها تتألم، وتعاني من القلق، وطالما تساءلت: (لماذا نقلوني إلى هنا؟ ولماذا يبدلون مركز
اعتقالي من معسكر إلى معسكر؟ تراهم يريدون تعذيبي من جديد؟ أم تراهم يريدون إطلاق سراحي؟ إذا فعلوا ذلك فإن مدة اعتقالي ستكون ثلاثة أشهر منذ توقيفي في معسكر (مصوص)!
…
وهكذا كانت تتعلق بأكبر الآمال وهي تعاني من أشد الآلام والمخاوف حتى أنها لم تكن تعرف للنوم طعما، حتى علمنا بعد أيام قليلة، ومن خلال التقاطنا لبعض أطراف الحديث الذي كان يدور بين الجلادين، بأنهم سيعيدون الفتاة (ف) إلى التحقيق من جديد، وقد يكون ذلك غدا. فاتفقنا مع الفتاة (ر) على التمهيد لها من أجل إعداد (ف) نفسيا للتجربة الجديدة، حتى لا يكون الأمر مباغتا لها عندما يحضرون لأخذها. وأمضينا ليلتنا على ذلك، فكانت المسكينة (ف. ت) تصغي باهتمام الى التفاصيل الجزئية التي عملنا على إقحامها عمدا في قصص ما تعرضنا له من التعذيب، وانتهى الحديث عندما قالت الفتاة (ر) الجملة التالية:
(وهكذا! وكما ترين يا - ف - ها نحن قد تجاوزنا البلاء، ونحن الآن في صحة جيدة. فاللحظات التعيسة تمضي دائما، والمهم في الأمر هو أن نضبظ أعصابنا، وأن نسيطر على أنفسنا). غير أنها لم تدرك يقينا ما تعنيه (ر) بكلماتها هذه إلا بعد أن جاؤوا لأخذها. وغابت عنا لمدة يومين، ثم عادت، وقد شحب وجهها قليلا، وقالت لنا:(قليلا من الكهرباء، تصوروا أنهم أخطؤوا بي، غير أنهم لم يكتشفوا خطأهم إلا بعد أن عذبوني بالكهرباء). وبقيت معنا بعد ذلك لمدة أسبوع، أعيدت بعده إلى معسكر (مصوص). غير أنني لاحظت أنها كانت خلال هذه الفترة: سوداوية المزاج متشائمة، منغلقة على نفسها - انطوائية - تقية ورعة، تسبب لها التعذيب بانهيار عصبي، فكانت لا تتحدث إلا عن الموت.
أفاق المعسكر ذات صباح وقد اجتاحه نبأ مفاده (أنه سيتم إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين). فكان كل واحد يأمل بأن يكون اسمه في عداد من سيتم إطلاق سراحهم. وكان جرس الهاتف يرن باستمرار، وبعثت حياة جديدة في المعسكر. وأعلن عن أسماء الذين سيخلى سبيلهم، فكانوا مائة تقريبا، تم جمعهم من كافة المهاجع، وحشروا بعد ذلك في مهجع واحد، حيث بدأ الرقيب بفحص جراحاتهم، والبائس، عاثر الحظ، هو ذلك الذي لا زالت آثار التعذيب باقية واضحة على جسده، إذ كان لزاما عليه البقاء في المعتقل حتى تشفى جراحه شفاء تاما. ثم جاء (النقيب بوتوت) فدخل إلى المهجع، وألقى عليهم محاضرة مستفيضة انتهت بالهتاف الذي ردده المعتقلون مع النقيب (تحيا فرنسا، تحيا الجزائر!). وكان لزاما عليهم أيضا أن يهتفوا - في سرهم - (عاش التعذيب!). وفي مثل هذه اللحظة، فقدت الكلمات معانيها ومضامينها، وأخذ الذين أطلق سراحهم بالخروج، ومعانقة أولئك الذين بقوا رهن الاعتقال. وكان بعضهم يذكر هؤلاء الذين سيتجاوزون بعد برهة الباب الحديدي، فيقول لهم:(لا تنسوا العنوان) و (اذهب لزيارة ابنتي وتطمينها عني) وكنا - نحن النسوة - نصرخ من وراء القضبان: (أيها الأخوة! أيها الأخوة! لا تنسوا أبدا، لا تنسوا أبدا. ما فعله هؤلاء بنا). فكانوا يجيبون بتأثر واضح، وبصوت مخنوق: عما قريب، عما قريب، سيجيء دوركم بإذن الله.
…
مضى شهر على ذلك تقريبا عندما تجمع المظليون الذين كانوا بقيادة (العقيد بيجارد) ومضوا لتنفيذ عملياتهم في الجنوب، وشعرنا في المعسكر بارتياح لذهابهم، إذ فكرنا ونحن نراهم يخرجون:
(سينتقم لنا إخواننا الثوار المجاهدون من هؤلاء، ولكل ما فعلوه بنا).
…
انتقلت إدارة المعسكر إلى جنود القبعات الخضر (المغاوير). وتسلم الأمور الإدارية مساعد ألماني من قدامى جنود اللفيف الأجنبي، ومعه عدد من الألمان والإيطاليين والهولانديين، ولم يكن بينهم إلا رقيب فرنسي. ولشد ما كانت دهشتنا ونحن نرى أن حياتنا في المعسكر بدأت في التحسن. وظهر أثر النظافة واضحا في المعسكر، وبات باستطاعة المعتقلين حلق شعر ذقونهم (لحاهم). وقص شعورهم. كما سمح لنا بغسل ثيابنا، والاستحمام، وحتى رعاية المزروعات والدواجن. وأجريت التمديدات الكهربائية إلى كافة المهاجع أخيرا. وتوقف الضرب حتى بات أمرا نادرا وفي ظروف غير طبيعية، وغير اعتيادية، وجاء يوم الجمعة بعد يومين، فأقيمت الصلاة ليوم الجمعة في الساحة العامة للمرة الأولى. وكان هناك (مفتي) بين المعتقلين، جمع حوله كل أولئك الذين لا زالوا يعرفون أداء الصلاة. أما الآخرون فقد جلسوا يستمعون بصمت مؤثر. وارتفع صوت (المفتي) هادرا، مثيرا للمشاعر، وخرجت النسوة من المهجع، ووقفن أمام الباب، وأقمن الصلاة. بخشوع وتأثر دفع الكثيرين منا للبكاء. وانبعث الأمل قويا في النفوس، والمصلون يركعون ويسجدون للواحد القهار، تحت السماء المشرقة، حيث أصوات المصلين ترتفع من القلوب والحناجر، داعية الله الفرج القريب، والنصر لعباده المؤمنين.