الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
معسكرات التجميع
أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية أيضا ما أطلقت عليه اسم (معسكرات التجميع) التي لم تكن إلا برهانا على أن فرنسا قد شنت في الجزائر حربها بأساليب شريرة وغير إنسانية يندر أن يوجد لها مثيل. فالتجميع بمقتضى المبدأ الذي يدين به، لا يعدو أن يكون تطبيقا لأسلوب بارع من أساليب إبادة العنصر. وعندما يضيفون على هذا الأسلوب ألوانا من نعوت التورية المشؤومة، كقولهم:(تجميع، ورص، وطي، وإزاحة القرى عن مكانها) فإن ذلك لا يعني في حقيقة الأمر سوى التهجير، والزج في المعتقلات، وعالم من البشر المحشور، ومعهد ادخار الذكريات البائسة الحزينة. ففي الوقت الذي يهدر حق الإنسان في بيته، وعاداته، وطراز عشه، والأرض التي اختارها ذووه ليقضوا فيها حياتهم، ويعهدوا اليه برفاتهم، في الوقت الذي يتضرر فريق من البشر جوعا ويتمزقون ألما، فتطفيء حياتهم بالموت البطيء، يقف المرء مذعورا أمام رسالة الهمجية التي استمر الاستعمار يخاطب بها الجزائريين طوال الحرب تحت سمع العالم وبصره. وفي موضوع (التجميعات، وأسبابها، والمسؤولية الإدارية المترتبة عليها) يقول التقرير الرسمي
الذي وضعه المحققون الفرنسيون، وأحيل إلى الحكومة الفرنسية (بأن جميع المراكز التي تناولتها الزيارة إنما أنشأتها السلطة العسكرية وحدها. والأسباب التي دعت الى اتخاذها هي دوما عسكرية صرف)(1).
وإذن، ولما كان سبب التجمع عسكريا، ومنشؤه مجهولا بحكم انبثاقه عن قرار سام من الجيش الفرنسي، فقد بقي من الصعب معرفة العدد الدقيق لأولئك الذين أرسلوا إلى هذه المعسكرات ليكونوا على موعد مع الجوع والمرض والموت. وكان هناك إجماع في القول بأن هذه المعسكرات تفتت في بطء إنسانية تفوق مليون شخص، وقد جاء في التقرير الرسمي السالف الذكر:(أنه يبدو من الصعب أن نسلم بأن عدد المجمعين ينقص عن المليون) وذكر الأمين العام للإعانة الكاثوليكية الفرنسية في تقريره: (لقد اكتشفت أن هناك أكثر من مليون إنسان معظمهم من النساء والأولاد) ويضيف: (أنا أحد أصدقائي وهو مراقب ذو مكانة مرموقة يقدر أن الرقم الحقيقي الحالي للذين أقصوا عن ديارهم يزيد على مليون ونصف المليون (ولقد كان
(1) الثورة الجرائرية والقانون - تأليف محمد البجاوي - دار اليقظة العربية - دمشق - ص 329 - 334 وفي ص (330) جاء ما يلي: (كأن التقرير أراد أن يظهر ما تنطوي عليه الكلمات من غموض بانتظار تغذية اللاحقيقة عن طريق الدعاية الرسمية التي تحرك الكلمات، فقال: (لا يعد إراديا) ذلك (التجمع) الذي يتم بسرعة كبيرة على يد واحدة مهما كانت السلطة التي ينتسبون إليها، ويجب أن يفيدوا من الضمانات عندما تتحرك القوات العسكرية لإقفال المنطقة وتطهيرها - الأرض المحروقة - وعلى العكس من ذلك يكون (إراديا) كل تجميع يتقرر اللجوء إليه في حالة عدم وجود عمليات واسعة النطاق تقوم بها القوة العسكرية المسؤولة عن المنطقة المعينة).
لهذه التجميعات آثارها المفجعة، فقد كانت ظروف الحياة في معسكرات التجميع قاسية جدا ثم، أليس استعمال (هذه العبارة ينطوي على الإساءة الى ذكرى الذين لفظوا أنفاسهم في هذه المعسكرات) هي بمقتضى الشهادات الرسمية نفسها جد مؤلمة.
ولقد مارس الجيش الفرنسي والسلطات الاستعمارية الفرنسية في هذه المعسكرات نشاطات أخرى. فلقد كانت حوادث الاختفاء، والإعدام من غير محاكمة وفيرة كثيرة إلى درجة مذهلة. وكثيرا ما كانت ذريعة الإعدام هي الزعم الكاذب (بمحاولة الفرار) وقد عبر التقرير السابع لجميعة الصليب الأحمر الدولية عن قلقه في هذا الخصوص، فقال:(إن مشكلة الوفاة أثناء محاولة الهرب تستحق أن تدرس عن كثب، نظرا لكثرة الحوادث). وإن ما مارسه الجيش الفرنسي، واعترف به، من أعمال الجرف، وتخريب القرى، وإبادة السكان المدنيين، لمما يؤلف جرائم إبادة عنصرية مبيتة ضد الشعب الجزائري. وقد أعلن النائب (بيير كلوسترمان) في 13/ 5/ 1958 من على منبر الجمعية الوطنية الفرنسية (وكان قد اشترك في الحرب الجزائرية كطيار) فقال:(لكي لا يجد الفلاحون مأوى لهم في القرى أثناء ترحيلهم، ولكي لا يتمكن أبناء القبيلة الصغيرة من مساعدتهم، فقد اضطررنا الى القيام بعملية تطهير جوي ضد قرى هذه المنطقة). وإن مثل هذه الشهادة ليست وحيدة. وعلى العموم، فقد سلكت فرنسا في صراعها ضد الجزائر مسلك التحديد المستمر لجميع القيم الإنسانية. وظلت المحاولات المبذولة، طوال الحرب، لإضفاء السمة الإنسانية على هذا الصراع، عديمة الجدوى.
لقد حاولت جمعية الصليب الأحمر الدولية التدخل في النزاع
القائم، من غير أن تحصل - للأسف - على نتائج مرضية. واذا ما أمكن تجاوز كل المحاولات التي بذلتها هذه المنظمة الحيادية، التي تتمتع بسلطة أدبية رفيعة طوال الفترة من سنة 1955 حتى سنة 1958، فإنه بالإمكان التعرض لما قدمته هذه المنظمة إلى الحكومة الفرنسية ولجنة التحرير الوطني في 28/ 5 / 1959، حيث عرضت مشروع اتفاق يتعهد فيه (طرفا النزاع) أن يحترما أحكام المادة الثالثة الواردة في كل من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وأن يتجنبا تدابير الثأر، وأن يعاملا الأسرى الذين يقعون في قبضة قواتهما معاملة إنسانية. وتنص المادة 3 المشار اليها على: (في حالة النزاع المسلح الذي لا يتسم بطابع دولي، فإن كلا من أطراف النزاع ملزم، على الأقل، بتطبيق الأحكام التالية:
1 -
إن الأشخاص الذين لايشتركون مباشرة في الأعمال الحربية، بما فيهم أفراد القوات المسلحة الذين ألقوا السلاح، والأشخاص الذين أخرجوا من المعركة بسبب المرض، أو الجراح أو الاعتقال، أو أي سبب آخر إنما يعاملون، في جميع الظروف، معاملة إنسانية دون أي تمييز ذي طابع ضار قائم على العرق أو اللون أو الدين أو العقيدة، أو الجنس، أو المولد، أو الثروة (أو أي معيار مماثل. وتحقيقا لهذه الغاية. يحرم، ويظل محرما، في كل زمان ومكان، أن تقترف تجاه الأشخاص السالفي الذكر الأفعال التالية:
أ - الاعتداء على الحياة وعلى سلامة الجسم، ولا سيما القتل في جميع صوره، وبتر الأعضاء والمعاملة بالقسوة والتعذيب.
ب - أخذ الرهائن.
ج - الاعتداء على شرف الشخص، ولاسيما معاملة الإذلال والحط من القدر.
د - الإدانات المنطوق بها والإعدامات المنفذة دون محاكمة مسبقة، وحكم صادر عن محكمة منشأة، بصورة قانونية تتوافر فيها جميع الضمانات القضائية، التي تعدها الشعوب المتمدنة أمرا ضروريا.
2 -
إن الجرحى والمرضى يجب إيواؤهم والعناية بهم.
وتستطيع منظمة إنسانية محايدة كجمعية الصليب الأحمر الدولية أن تقدم خدماتها لأطراف النزاع.
ومن جهة ثانية، يعمل أطراف النزاع على تطبيق باقي أحكام هذه الاتفاقية كلا أو بعضا عن طريق اتفاقات خاصة. لا يكون لتطبيق الأحكام السابقة أي تأثير في الوضع القانوني لأطراف النزاع (باعتبار أن فرنسا لم تكن تعترف بالصفة القانونية لجبهة التحرير الوطني، ثم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية واستمرت في التعامل مع الثوار الجزائريين على أنهم (فلاقة) عصاة، خارجين على السلطة الفرنسية) ورفضت فرنسا تطبيق هذه المادة التي كان يجب عليها تطبيقها من غير تدخل الهيئة الدولية. كما رفضت الحكومة الجزائرية تطبيقها. غير أنها تبنت، - من طرف واحد - عددا من التدابير التي لا تقتصر على تنفيذ مقترحات جمعية الصليب الأحمر الدولية، وحسب، وإنما تذهب الى مدى أبعد، لاسيما في مجال التعامل مع الأسرى في حين استمرت فرنسا في تجاهلها للمتطلبات الإنسانية، لا سيما فيما يتعلق بالخدمات الطبية والتعامل مع الجرحى.