الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان)
(*)
لم أباغت أبدا وأنا أقتحم غرفة نومي فأكتشف بأن يد العبث قد أثارت فيها الفوضى والاضطراب. إنهما ابنتاي البالغتان من العمر ثلاثة عشرة، وأربعة عشر عاما، حتى لتحسبهما أنهما توأم واحد. وها هما وقد تمددتا فوق كومة من الصور والأوراق القديمة، التي يضمها عادة (صندوق الذكريات) وقد أفرغ من محتواه، ونثر بإهمال على الأرض. وصرخت:
- .......... لقد منعتكما من تحويل غرفة نومي إلى اسطبل! أين هي أختكم الكبرى؟
وقفزدت الصغيرتان لدى سماع صوتي، واستدارتا برأسهما نحوي وقالت كبراهما:
- .......... لقد أثرت الروع في نفوسنا. والتقطت ابنتي (فضيلة) طرف الحديث وقالت:
(*) كاتبة الموضوع هي مديرة لمدرسة ابتدائية - حاليا - في الجزائر، واسمها (أنيسة زموشي) وكانت صديقة لبطلة الشهيدة (فضيلة سعدان) - وهي تستعيد هنا ذكرياتها عنها.: والمرجع
REF: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED ALGER.(1977) P. P. 329 - 341.
- أجل، لقد أفزعتنا. وعندئذ قلت لهما: حسنا، تحدثا بصوت ناعم حتى لا يستفيق أخوكما الصغير من نومه وأثناء هذا الاضطراب، سقطت من يد (البنات) صورة، سارعت لالتقاطها وتأملتها طويلا، فانقلب كياني رأسا على عقب.
كانت الصورة تحمل خلفها الكتابة التالية: (فضيلة: 27 تشرين الثاني - نوفمبر - 1956) وكانت هذه الصورة جانبية (بروفيل) التقطت لفضيلة أثناء فترة اعتقالها.
وسألت فضيلة بكثير من الفضول الطبيعي: لمن هذه الصورة يا أماه؟
غير أنها لم تنتظر الإجابة، بل راحت تبحث بنظرها عبر الصور المتناثرة فوق السرير. في حين كانت أصابعي تتشبث بالصورة خوفا من سقوطها مرة أخرى - وقلت: -
يا فضيلة! هذه هي صورة فضيلة!
وزلقت يدي إلى جيب مئزري، ووضعت فيها الصورة، وتراجعت مترنحة، وتركت نفسي أهوي على مقعد كان موجودا هناك. وهيمن علي حزن عميق ومباغت، في حين كانت بناتي مشغولات عني باكتشافاتهن، حتى أنهن لم يشعرن بما أنا فيه، بل ربما نسين وجودي بينهن. وقلت في سري:
- فضيلة! كنت زهرة عمرها 18 ربيعا! (لقد كنت من مواليد 10 نيسان - أفريل - 1938، وكان مسقط رأسك في الحروش (من نواحي سكيكيدة). كنت صبية في مقتبل العمر على كل حال.
لقد مضى زمن غير قصير على غيابك، غير أنني أشعركم أني لصيقة بك، كأن الأيام لم تباعد بيننا. إنك قريبة مني إلى درجة لا أستطيع تصديقها، إنك لا زلت حية
…
كم كنت نضرة، وكم كنت
قوية، فضيلة! أنت بعينيك الضاحكتين أبدا، وبابتسامتك الساحرة الأخاذة. وما أحلى مناجاتك. وبدأ شريط الذكريات يتدفق متسارعا:
هبطت (فضيلة) ذات صباح من معاقل (الثوار) وبرفقتها أخوها في السلاح (عمر كيخيا). وسلكت في طريقها الدرب الذي ينتهي بالقرب من (مدينة البير) حيث كان عليها أن تأتي لزيارتنا بعد ذلك، وكانت تتقدم وأخوها في السلاح بحذر، ولكن كم كان أمرا مباغتا أن يقفا وجها لوجه مع دورية فرنسية، وقد أمسك أفرادها بمسدساتهم الرشاشة، وهم على أتم استعداد لإطلاق النار عند الاشتباه بأية حركة غير طبيعية في وسط المارة. وعلى الرغم من أن الوقت لا زال مبكرا فقد كان هناك عدد من السابلة.
فهل سقط الاثنان ضحية الرعب؟ وهل كانا يحملان وثائق سرية وأسلحة هامة على نحو ما يفعلانه في كل مرة كانا يهبطان فيها من الجبل؟ لا هذا، ولا ذاك، وكل ما فعلاه هو أنهما ركضا بسرعة جنونية، واقتحما منطقة الأبنية القديمة. ثم افترق الشابان المناضلان، ليبحث كل واحد منهما عن ملجأ ينجيه، وهما يعرضان حياتهما بتصميم وشجاعة لكل ما تخبئه مباغتات القدر، ولكل ما قد يقوم به جند العدو. غير أن هذه المواجهة المباغتة وغير المتوقعة للبطلين، لم تكن لتمر من غير أن تسترعي انتباه رجال الدورية الآلية - المتحركة - والتي كان رجالها مشدودي الأعصاب دائما: فأطلقوا النار فورا ومن غير تردد على الهاربين، وانهمر الرصاص على طريق الفرار، وأصابت إحدى الرصاصات كتف (عمر) فتركته يعاني من الآلام المبرحة طوال شهرين كاملين، مع اضطراره للبقاء في الملاجىء السرية تحت العناية الطبية، وكان مما زاد من آلامه
الجسمية تلك المعاناة النفسية المريرة بسبب إلزامه على البقاء من غير القيام بأي عمل أو نشاط له صلة بالصراع ضد أعداء البلاد. وطالما تذمر في تلك الفترة من حجزه، ومن عجزه عن متابعته الصراع. لقد كان أمنه وسلامه مرتبطا بقدرته على الجهاد.
أما (فضيلة) فقد اقتحمت بحزم كوخا صغيرا من تلك التي تؤوي الفقراء. فوقع نظرها فورا على سيدة عجوز وقد جلست على جلد خروف، وهي تدير طاحونة القمح اليدوية. فنظرت إليها بقلق خلال جزء من الثانية. لم يكن الوقت يسمح بتبادل الحديث أو شرح الموقف، يجب الخروج من المأزق بأقصى سرعة، وتجنب الخطر قدر المستطاع. واستطاعت المرأة العجوز الطيبة أن تدرك المأساة التي تتعرض لها الفتاة (فضيلة)، وأمكن لها الاحتفاظ بكل برود أعصابها وهدوئها، فقامت بحل شعر الفتاة، حتى ظهرت بشكل (فتاة غندورة) ثم نثرت بعضا من الدقيق عليها حتى غطتها فظهرت وكأنها تمارس عملها منذ وقت غير قصير في (طحن القمح). غير أن ذلك لم يكن كل شيء، فثيابها لا تزال تحمل رائحة جدها، وكذلك منديلها الأسود الذي سقط منها أثناء ركضها الجنوني. وشعرت (فضيلة) أنها وقعت في الفخ، إنه خطر حقيقي في أن تترك ذلك الأثر الذي يفضح أمرها، ويمهد لإلقاء القبض عليها عندما يصل رجال الشرطة بعد هنيهة وبرفقتهم كلابهم البوليسية وناجت (فضيلة) نفسها:(أنقذني يا الله! ماذا أفعل! احفظي يا رب، واحمني يا إلهي) وأخذت أسنان (فضيلة) تصطك رعبا، فهي تعرف ما قد تتعرض له فيما لو تم إلقاء القبض عليها. وفكرت للحظة في أختها (مريم) التي اختطفها الإفرنسيون بطريقة غامضة، ثم أعلنوا عن موتها تحت التعذيب. وخطرت في ذاكرتها أيضا، كلمح
البصر أسماء رفيقاتها (مريم بوعطورة) و (سالمة أم حازم) اللتين لقيتا مصيرا بائسا كمصير أختها (مريم)
…
واستمرت (فضيلة) في مناجاة نفسها: يجب أن أحافظ على هدوئي - يا .. ما. والتفتت إلى المرأة العجوز: هل لديك مسحوق (د. د. ت).؟ وأجابتها هذه: شكرا لله، لدي منه. وأسرعت العجوز الطيبة، من غير تردد أو تلكؤ، لإحضار المسحوق، وأخذت في نثره حول مسكنها البائس، ومن المفروض أن تكون رائحة هذا المسحوق قد أزالت كل أثر لرائحة فضيلة. وأثناء ذلك، كان قلب (فضيلة) يضرب بشدة، ويضرب، حتى ليكاد يقفز من صدرها، وقالت مناجية نفسها؛ ملتجئة إلى ربها: يا الله ساعدني حتى لا أكشف عما بي من اضطراب. وقامت (الغندورة) بإخفاء قنبلة يدوية تحت طيات ثوبها، وأعدتها للتفجير عند الضرورة لقد صممت على عدم الوقوع في قبضة أعدائها وفيها حياة تختلج. وعادت للمناجاة: لن أموت وحدي ياما (يا أماه) وسأقتل معي عددا من (أولاد الكلب).
هيمن السكون والصمت على ما يجاور الكوخ، وخاف المارة من إصابتهم برصاصة طائشة، وقد اعتاد الجميع اللجوء إلى منازلهم في كل مرة يتناهى إلى سمعهم اطلاق النار، أو يمرون بظروف مماثلة. ووصل إلى أسماع (فضيلة) وقع خطوات متسارعة مختلطة بعواء الكلاب، وصوت جندي يحادث آخر - باللغة الإفرنسية - وهو يقول له: من هنا يا بول.
وأخذ الطنين يتردد قويا في أذني (فضيلة) وهي تسمع من جديد:
- من هنا - من هنا - في هذه المرة لن يفلتوا من قبضتي. وخفضت (فضيلة) رأسها، وقد عاودتها شجاعتها، فاستمرت
في عملها وهي تدير الطاحونة وظهر اثنان من رجال الدورية، وهما بهيئة مرعبة، وتحدثا بلهجة قاسية وهما يسألان بصوت واحد: هل لجأ أحدهم للاختباء عندكم؟
وأجابت العجوز الطيبة بلهجة طبيعية تماما: فتش!.
وانطلق الجنديان للنظر في كافة زوايا الكوخ، ثم اقتربا من الفتاة وأعادا طرح السؤال ذاته، فردت هذه بإيماءة سلبية، وهي تشد على القنبلة اليدوية بيدها الأخرى. وانطلق الجنديان نحو الباب بخطوات متعجلة وأحدهما يقول للآخر: فلنسرع للبحث في مكان آخر.
اختلطت المشاعر القوية في نفس (فضيلة) فلم تعد تعرف أتضحك أم تبكي. وتدفق الدم الى وجهها فأصبح أحمر بعد أن كان أصفر شاحبا. ونهضت وهي تقفز من مكانها وتنفض الدقيق من على ثيابها. فعانقتها المرأة العجوز الطيبة، وقدمت إليها قدحا من الماء مع قطعة من السكر، وقالت لها بلهجة حنون إشربي هذا يا ابنتي حتى تهدئي ويزول ما بك!
…
ألم تكن هذه ملحمة؟ كلا! وهي ليست أسطورة. فقد روتها لي (فضيلة) وهي لا تزال تحت تأثير الصدمة المرعبة. وتأكد لي صدق قولها من حالتها النفسية التي كانت عليها عندما أقبلت لزيارتي بعد الحادث الذي صادفها مباشرة. وقلت لها عندما أنهت حديثها:
- (فضيلة) لماذا تعرضين حياتك للخطر، على مثله هذا النحو؟ ..
وأجابت (فضيلة): حتى يكون لي الحق أن أعيش بشرف.
قالت ذلك بصورة عفوية، وبلهجة تحمل معنى التوبيخ لأنني طرحت عليها مثل هذا السؤال.
كانت الصرخات المباغتة التي تطلقها (البنات) ما بين فترة وأخرى، تكاد تبعدني أو بالأحرى تنتزعني من دائرة (صندوق الذكريات) التي أخذت في محاصرتي، وتضييق الخناق علي. وانتزعني صوت إحدى البنات وهي تهتف قائلة:
- أنظري يا أماه، كم هي شابة جميلة في هذه الصورة؟. وأجبت:
هي لا تزال صبية حلوة، لو عاشت حتى اليوم! كم كانت جميلة؟ وكم كانت رقيقة؟ وكم كانت مجدة مجتهدة. إنني أكاد أراها الآن وهي تحضر حفل توزيع الجوائز في نهاية كل عام دراسي - لقد كان اسمها معروفا من كل الأساتذة ومن كل الطلاب. كان اسمها يتردد على ألسنة الجميع فهي:
فضيلة. س: الحائزة على الجائزة الأولى في اللغة الإفرنسية.
وهي فضلة. س: الحائزة على الجائزة الأولى في اللغة العربية.
وهي فضلة. س: الحائزة على الجائزة الأولى في الرياضيات.
وهي فضيلة. س: الحائزة على جائزة التفوق بامتياز.
كانت ذراعاها مثقلتان دائما بالمجلدات الضخمة. وكانت دائما تلميذة مجدة رائعة. وقيل عنها أيضا أنها (صعبة المراس)
…
وقاطعتني إحدى البنات بقولها: ولهذا أصبحت ثائرة؟ لا، لقد حدث ذلك قبل إضراب الطلاب سنة 1956 بوقت طويل. حيث وقع ما أطلق عليه إسم (العصـ .. يان) وفقا لما كانت تصفه بهذه الكلمة المتقطعة، الآنسة (شفز) المراقبة العامة للفتيات في معهد قسنطينة، والتي انقطعت عن ممارسة مهنتها كان صوتها متهدجا
وحادا، لا سيما عندما كانت تتحدث إلى الفتيات الجزائريات اللواتي كن قليلات في تلك الفترة، يعشن في وسط كله غريب عنهن.
كانت الفتيات ينتظمن في الصف، عند العشاء، للدخول الى قاعة الطعام باعتبارهن طالبات داخليات - مقيمات - في المعهد. حتى إذا ما جلسن إلى الطاولة، قدمت إليهن وجبة العشاء المعروفة: الحساء، وطبقا لا يتغير من الطعام واللحم. وكان هذا اللحم من نوع (لحم الخنزير) في معظم الأحيان. وكانت الطالبات كثيرا ما يتحدثن بعضهن إلى بعض - في الفرصة - عن موضوع هذا الطعام. وكانت (فضيلة) رئيسة للطاولة، وذات يوم أعلنت تذمرها بصوت مرتفع وهي تحتج قائلة:(ما من سبب لحرماننا من لحم الخروف أو لحم البقر). وظهر بوضوح أنه بات من المحال الاستمرار بقبول هذا الوضع الذي مضى وقت طويل على فرضه، غير أنه بات من الواضح أيضا بأننا سنواجه مأزقا صعبا وأياما عسيرة وقيل لنا بأن وجبة العشاء ستتغير، وأنه سيقدم لنا طبق الطعام بصورة ملائمة. فطلبنا بحزم ألا يحتوي الطبق الأخير (لحم الخنزير). وتم قبول طلبنا، غير أننا أصبنا بالإحباط عندما قدم لنا لحم (الكورن بيف، أو العجل) بدمه، وهو غير مذبوح على الطريقة الإسلامية. فرفضنا قبول الطعام أو تذوقه، وبدأ ما أطلقت عليه الآنسة (شفز) اسم (العصـ
…
يان) وذلك عندما اندفعت نحو (فضيلة، صعبة المراس) وقالت لها بلهجتها الحادة:
(إنك أنت يقينا! أنت عنصر التحريض! فهل تريدين شيئا آخر؟ ألا يرضيك شيء؟).
وابتسمت (فضيلة) ابتسامة ساخرة، ثم اجتاحتها نوبة من الغضب، وأجابتها وهي تشير إلى (اللحم الأحمر) وهي تقول:
(إنكم تعرفون جيدا بأن هذا اللحم محرم علينا نحن المسلمين).
وكانت هذه الكلمات تمثل تحديا صارخا، واجهته (الآنسة شفز) بنوبة من الغضب المحموم، وقد تقلصت أساريرها، فقالت مهددة متوعدة:
(حسنا! سننظر في الأمر).
قامت السيدة المديرة بجمع الطالبات المسلمات في صبيحة اليوم التالي بمكتبها. وكانت (فضيلة) كعادتها، هي التي تولت الدفاع عن قضية الطالبات، وهي التي وقفت في المقدمة لشرح الحقوق الشرعية للطالبات. وتضامنت الطالبات مع (فضيلة) فخرجن من الاجتماع ساخطات، وقررن (الإضراب عن الطعام) حتى تستجاب، طلباتهن مهما تعرضن في سبيل ذلك للخطر. وكان لا بد لهن من هذا الإجراء بعد أن أرغمن عليه ولم يبق أمامهن طريق سواه.
استمرت الفتيات الطالبات في إضرابهن ثلاثة أيام، وعضهن الجوع بنابه، وكانت معاناتهن مع الجوع صعبة وشاقة، غير أنهن قررن التجلد والصبر مهما اشتد عليهن الأمر، ومهما ساءت حالتهن. وزاد من سوء موقفهن أنهن يتوقعن تضامن زميلاتهن، الأجنبيات غير الجزائريات معهن، ولكن رفيقات الدراسة انصرفن عنهن، وأظهرن عدم اكتراث بقضيتهن، بل إنهن لم يظهرن شيئا من الاهتمام بمصيرهن. وعلى كل حال، فقد جاء اليوم الرابع ومعه وعد بتقديم اللحم (المذبوح والمطبوخ - المطهي - على الطريقة الإسلامية) وصاحبت الفتيات فرحات (انتصرنا). غير أنه كان لا بد من الاستمرار في التضحية، بالرغم من كل المعاناة وآلام الجوع، إذ كانت القضية هي قضية مبدأ، كما قالت (فضيلة). ولا يجوز أن
نتناول أي طعام حتى يقدم لنا (اللحم من الخروف أو البقر المذبوح على الطريقة الإسلامية).
وارتسمت ملامح الفتاة المجاهدة على شخصية (فضيلة) منذ ذلك التاريخ.
خلال تلك الفترة، اخترت طريق الزواج في ظروف البلاد المضطربة أما (فضيلة) فقد وجدت نفسها مرغمة على متابعة طريقها، محاولة التوفيق بين الدراسة والصراع. وقد بدأ ذلك في شهر أيار - ماي - 1956، عندما صدر الأمر إلى كل الطلاب بإعلان الإضراب العام عن الدراسة. وكان هذا الإعلان هو القنبلة المدمرة لنظام التعليم الإفرنسي، وقد أدرك الطلاب دورهم، وحددوا مطالبهم الشرعية.
…
كانت (فضيلة) من بين المحرضين على الإضراب ومن قادته، فضحت بذلك بالقسم الثاني من شهادتها الثانوية (البكالوريا). وبدأت الاعتقالات على نطاق واسع. وكانت (فضيلة) في جملة المعتقلين، وألقي بها في سجن (الكدية). واستمرت فترة اعتقالها لمدة سنة كاملة، تعرضت خلالها الفتاة البائسة لكل أنواع المعاملة السيئىة، والأساليب الدنيئة، والأعمال الشائنة التي يندى لها الجبين بالنسبة لفتاة صبية عذراء مسلمة فقد شوه جسدها، ووشم برسم أعقاب لفافات التبغ - السكائر - التي كان يتم إطفاءها على جسمها، مما ترك على بشرتها آثارا واضحة لازمتها طويلا، وتركت حروقا مرعبة. وأرغمت على مشاهدة التعذيب وعمليات الإعدام - الإبادة. وعرفت (فضيلة) من خلال تجربتها نوعا لم تكن تعرفه من المخلوقات البشرية، إنه نوع يتمثل فيه الحقد الكريه والقسوة
الوحشية، وقد دعمت هذه المعرفة حجتها للصراع، وقلبت كيانها المرهف الإحساس.
حصلت (فضيلة) بعدئذ على فترة من الهدنة، وسمح لها بمتابعة دراستها، بشرط ترك البلاد لفترة معينة، إنها فتاة متعلمة ومناضلة، وقبلت. إن هذا العرض سيزيد من صلابتها، وسيشجعها على المضي قدما في الطريق الذي اختارته لنفسها. وكانت هناك فكرة نبتت في ذهنها، وأخذت تلح عليها باستمرار، فبعد الحصول على القسم الثاني من شهادتها الثانوية (البكالوريا) ستتابع دراسة الحقوق في جامعة (كلير مونت - فيراند) في فرنسا.
مضت (فضيلة) الى فرنسا تاركة وراءها فراغا كبيرا، غير أنها كانت هناك على كل حال في مأمن، وبعيدة عن الضغوط التي كان يرزح تحتها شعب الجزائر، مما كان يترك نوعا من الطمأنينة تجاهها في نفوس أولئك الذين يعرفونها ويحبونها. ومضت الأيام متلاحقة، وأشرفت السنة الدراسية على نهايتها. وأخذنا ننتظر عودتها بصبر نافذ، ونعد الأيام التي تقربنا من العطله الصيفية.
كنا نردد باستمرار القول: ستكون (فضيلة) بيننا عما قريب. وكانت تصلنا ما بين فترة وأخرى معلومات متفرقة عن أختها (مريم) التي كانت تعاني بدورها من ظروف العيش في سجن المدينة. ولم يرحم أحد حياتها البائسة، فسقطت شهيدة بين أيدي جلاديها. (مريم) تلك السجية التي كانت تشدني إليها عواطف الصداقة العميقة. لقد انضمت إلى قافلة الضحايا الذين مضوا إلى ربهم، إنها ضحية جديدة من ضحايا (النشاط الاستعماري) ورجاله الذين تجردوا من الضمير، وحرموا من كل عاطفة إنسانية. ولكن المشكلة الراهنة: هي كيف يمكن إعلام (فضيلة) بموت أختها؟ إنها
ستكون هنا بعد بضعة أيام، لا أكثر، فهل ستكون قادرة على احتمال هذه الصدمة الجديدة؟ لقد كانت (فضيلة) ذات (إرادة صلبة) تدفعها للسير نحو مثلها الأعلى، غير أن صحتها لم تكن جيدة، وهذا ما كان يخيفنا.
عندما وصلت (فضيلة) عانقناها عناقا حارا حمل كل الشوق بعد طول غياب. وكنا ونحن نعانقها نخاف على قوامها الرقيق من أن يتحطم. غير أنها كانت تمتلك من الروح المعنوية العالية والفضائل الأخلاقية ما يمكنها من التعويض عن ضعفها الجسدي، ويرفعها صعدا نحو أهدافها، وإذا كانت لا تزال فتاة شابة صغيرة العمر، غير أن ذلك لم يمنعها من استيعاب مشكلات بلادها، بكل اتساع تلك المشكلات وعمقها. وكان ينتظرها - علاوة على كل معاناتها - ألم مرير لعله أكثر قسوة من كل آلامها ومعاناتها، إنه اختفاء اختها الحبيبة في ظروف تشكل مأساة قائمة بحد ذاتها. وكانت (مريم) هي الوحيدة التي تفهم (فضيلة) بعمق، وتحبها بشغف، وتشجعها على المضي قدما في طريق الجهاد، وذلك ضد رغبات كل من يحيط بهما من الأهل والأقارب وحتى الأصدقاء. وكان تأثير (مريم) على أختها (فضيلة) كبيرا، فأخذت عنها الشجاعة والثقة بالنفس، وغذت فيها الإيمان، وتعلمت منها حب العمل على طريق الخير والعدل. وها هي تسير على طريقها حتى نهايته. وهو الطريق الذي سبقهما إليه عمهما (الدكتور سعدان). ثم ها هي (فضيلة) تعلم بصورة مباغتة باستشهاد أختها (مريم) والظروف التي أحاطت بمصرعها وهي تحاول خدمة قضية بلادها. وقالت (فضيلة): (هذا شيء لا يحتمل! من أي نوع هؤلاء البرابرة الذين يطلقون نيرانهم على الأبرياء؟ وكيف السبيل للتعبير عن مشاعر الاحتقار
تجاه تلك الوحوش الاستعمارية؟ كم أنت بائسة يا (فضيلة)؟. وما أحوجك إلى قدر إضافي من الشجاعة؟ وكم هو صعب ما تواجهينه؟ ولكن لا بد من مواجهة الأمر الواقع، هذا الواقع الذي أصاب نفسك بجرح عميق سيبقى نازفا. إبتهلي إلى الله حتى يحفظ لك ملكاتك العقلية!.
جاءت (فضيلة) لزيارتنا في اليوم التالي لوصولها. واستقبلتها مع أفراد عائلتي. كانت منهارة القوى، وكانت نظراتها ساهمة شاردة، تنظر إلينا محدقة وهي لا ترانا. وكانت نفسها تفيض مرارة بأكثر مما تفيض غضبا وهي تقول:(لقد ماتت مريم، كيف يمكن احتمال ذلك؟ يجب ألا يستمر ذلك!) ترى بماذا كانت (فضيلة) تفكر وهي تنطق بهذه الكلمات؟.
لقد كانت (فضيلة) تعيش في تلك اللحظة ذروة الانفعال، وأقصى درجات التأثر والاستثارة. كانت دموعها تنهمر بغزارة، فشاركناها جميعا البكاء وكان صوتها المختنق بالعبرات يتلجلج بكلمات أخرى غير واضحة ومتقطعة بسبب إجهاشها بالبكاء. كانت عيناها متورمتين، منتفختين، وصمتت قليلا، ثم عادت وأجهشت منتحبة، وانتصبت واقفة وارتسمت على وجهها خطوط قاسية، وعاد صوتها حادا، يشبه الزئير.
بقيت (فضيلة) شديدة التعلق بنا قدر تعلقنا بها، فكانت كثيرا ما تفتح لنا صدرهما لتبوح لنا بأسرارها. غير أنها بقيت صامتة في هذه المرة. وهي لم تكن في حاجة للإفصاح عما ستفعله، كان تصميمها واضحا، يغني عن كل بيان. وعرفنا أنها لا زالت تملك معينا لا ينضب من الحزم و (المراس الصعب). وكل ما كان باستطاعتنا قوله لها: كوني حذرة
…
انضمت (فضيلة) إلى الثوار الذين استقبلوها كما لو كانوا في انتظارها. وحملت السلاح في الجبال مع إخوانها المجاهدين وأخواتها المجاهدات. ولقد حملت السلاح في هذا المرة وهي أكثر ثقة بقدرتها على الانتقام من الأعداء. إنها ستنتقم لأختها (مريم). ولن يثنيها عن عزمها شيء، هنا ستعيش مع وطنها الحقيقي، وطن الحرية، وستنال حريتها وتمارسها قبل أن يتحرر وطنها.
…
استخدمت (فضيلة) منزلنا ملجأ لها باستمرار، فلم تنقطع اتصالاتنا بها، وعندما كانت تنقطع عن زيارتنا، كانت أيامنا تمضي ثقيلة، حزينة، رتيبة، حتى جاء ذلك اليوم الحاسم عندما أقبلت علينا، وانتحت بوالدتي (ليلى) جانبا لتتحدث إليها بأمر يهمها، ولتسر إليها بكلمات أمكن لأذناي التقاطها: (يجب أن أقابلك غدا على الرصيف - ظهر! - بكل تأكيد
…
).
وتناولنا طعام الغذاء معا. كانت (فضيلة) على غير عادتها، مرحة حتى أبعد حدود المرح. وضحكنا كثيرا. وتحدثنا عن أيام الدراسة في المعهد. وتذكرنا (العصـ
…
يان) والسيد (غروس) أستاذنا في تدريس اللغة العربية، وسخريتنا منه، وهزأنا به، عندما كان يلقي دروسه. واستعدنا كلماته:(آنسة سس - أو آنسة ي - هيا اخرجي من الدرس)(وأنت يا آنسة فضيلة - كوني على حذر). وكان الأستاذ (غروس الأصلع والسمين) يصطبغ أثناء ذلك باللون الأحمر. وهو يحدجنا بنظراته من فوق نظاراته. فكان يظهر لنا وهو يكاد يتفجر غيظا، ثم لا يلبث حتى يعود إلى هدوئه ليشرع في توجيه نقده اللاذع ضد الجميع، وضد أي موضوع. ويبدأ بعد ذلك برواية القصص المضحكة والتي لم يكن يضحك لها إلا هو وحده. وعلى
هذا خيم على منزلنا جو من المرح لم نعرفه منذ وقت طويل. وأثناء ذلك قالت (فضيلة): (إنهم سيشرعون بإجراء المفاوضات في (مولون) وسنحصل في هذه المرة على الاستقلال بكل تأكيد).
لقد كانت اليوم شديدة التفاؤل، صافية النفس، خلافا لعادتها، إذ كانت باستمرار تظهر متفرقة في تفكير عميق، وتتصرف بجدية مطلقة. وكان ذلك مبعث بهجتنا، فضحكنا كثيرا ومن أعماق قلوبنا. وكان يوما لا ينسى. غير أن أختي الصغرى قطعت علينا مرحنا، وأثارت تشاؤمنا عندما قالت:(إن من يضحك الجمعة، سيبكي يوم الأحد). وكان ذلك اليوم هو يوم الجمعة.
تركتنا (فضيلة) وكلها مرح وتفاؤل، وكانت قسمات وجهها تعكس ما يعتمل في نفسها من صفاء وطهر ونقاء، فمضت والابتسامة الحلوة على شفتيها. لقد كانت مقتنعة باقتراب موعد السلام. فغرست في نفوسنا نواة الأمل باقتراب فجر المستقبل الذي سيشرق بإذن الله. وقالت لأمي (ليلى) التي كانت مثل أمها أيضا، وهي تودعها: إذن! إلى الغد!. وأجابتها أمي: إلى اللقاء غدا. ولما كنت على وشك الوضع لمولودي الثالث، فإن (فضيلة) لم ترغب بالذهاب قبل أن تهمس لي بأمنيتها:(أتمنى أن تضعي لنا هذه المرة مولودا ذكرا).
لم أتمكن من منع نفسي عن التفكير بأمر (فضيلة) بعد أن غادرتنا، فقلت مناجية:
(ماذا ينقصك في هذه الحياة وماذا تفتقدين؟ إنك يا (فضيلة) فتاة لا تقاوم! ويحبك الجميع حيثما ذهبت وأين حللت. إنك برقتك تجتذبين كل من حولك! وباستطاعتك رعاية أسرة سعيدة. إنك زهرة متفتحة، تعيشين في يسر وبحبوحة! ابتسامتك البريئة تظهر غمازتيك
الحلوتين. ولون بشرتك الصافي، وعينيك البراقتين، وشعرك الأسود الحريري الذي يحيط بوجهك الملائكي. ويعترف كل من عرفك بأنك مثال للفتاة الجميلة والرقيقة والفاتنة. إنك تمتلكين كل شيء؛ الأنوثة والرقة، البساطة والشجاعة، الحزم والعقل والذكاء والخيال الخصب، فماذا ينقصك؟ إن ما ينقصك هو (العدالة والحرية). إنك لا تريدين العودة مرة ثانية إلى الوحل. ولهذا اخترت طريق الثورة، فمضيت لإيقاظ النيام من سباتهم، وأشعلت فيهم لهيب الثورة. لقد خضت صراعا مريرا، ونذرت نفسك لخدمة بلادك.
ذهبت والدتي (ليلى) إلى (الرصيف) في الموعد المتفق عليه. وكان تفكيرها مركزا على ما ستتسلمه من (فضيلة). إنها ستأخذ منها رزمة من البريد لتنقلها بدورها إلى (السيد العربي).
قرأت (ليلى) وهي تقترب من مكان اللقاء، إمارات الحزن على وجوه المارة. كان المكان مكتظا بالناس. وقد احتشد الدهماء بأعداد كبيرة في المكان المحدد للالتقاء. وكان الناس يتحدثود بأصوات مرتفعة، ويلوحون بأيديهم بإشارات غامضة، وكأنهم يعلنون احتجاجهم ضد عمل من الأعمال. وانتاب (ليلى) شعور من القلق، وتجنبت الاقتراب من الجموع المهتاجة. وكان من المحال عليها - في كل الأحوال - شق طريقها من أجل الوصول إلى حيث تريد. وصادفت رجلا منفردا، وحاولت أن تعرف منه جلية الأمر؛ وسألته:(ماذا حدث؟). وأجابها هذا: قتلوا اثنين من الفدائيين - رجلا وامرأة -. وأسروا رجلا ثالثا. وفي ذروة الانفعال عاودت (ليلى) السؤال: ومن يكونون؟. وأجاب الرجل: لا أحد يعرف أبدا؟ فالحي مطوق بكامله ولا أحد يستطيع أن يرى شيئا ..
وشعرت (ليلى) فجأة بضيق يعتصر صدرها، وفكرت على الفور (بفضيلة). إذ كان عليها مقابلتها في هذا المكان ذاته. وتلاحقت أنفاس (ليلى) حتى لتكاد تختنق. وعادت بخطى متسارعة حتى تصل إلى منزلها، وعندما دخلته كانت بادية الاضطراب بحيث لم تتمكن من إخفاء انفعالها. وأخذت فور وصولها بإتلاف الوثائق والرسائل التي كانت بحوزتها. ماذا حدث؟ وماذا يمكن أن يحدث؟ ..
وهيمن على منزلها مناخ من الهياج والانفعال. وبات القلق شعورا قاتلا لا يمكن احتماله. وأظلمت السماء، معلنة اقتراب هبوب العاصفة.
ماذا حدث؟ لم يكن هناك من يجرؤ على التعبير عما كان يجيش في خاطره. كانت الحقيقة تخيفنا جميعا. وتعاظم قلقي حتى أنني قضمت أظافري دون أن أشعر بذلك. وعلى هذا أمضينا ليلتنا، ومضى الظلام ولم يغمض لأحدنا جفن، كانت ليلة لا تنسى. وما أن طلع النهار، حتى أسرعت إلى بائع الصحف الذي كان دكانه يقع في أسفل المبنى حيث يقع منزلنا. واشتريت صحيفة (ديبيش - دو - قسنطينة) وأمسكتها بضيق، وبيد مرتجفة فيما كان جدي كله يرتجف ويهتز بعنف، وفتحت صفحات الجريدة، فصدمتني على الفور ثلاثة صور تغطي الصفحة الأولى: إنها صور (فضيلة) و (عمر كيخيا) و (رواج). وصرخت بصوت مختنق: فضيلة ماتت؟ كيف، وهل هذا ممكن؟ وشعرت بقواي تنهار حتى لتكاد قدماي تخوناني وأنا أهرب مسرعة. وأطلقت صرخة وأنا أجهش بالبكاء، ولم أعد أرى الطريق بعد أن أسدلت الدموع ستارا على عيني، وشعرت بألم حاد في أحشائي، لقد أخد الجنين في التحرك بعنف،
وكأنه يشاطرني ما أنا فيه؛ واستمر لساني في الهذيان: فضيلة، يا الله، لماذا؟ وعمر! و (رواج)! .. ولا زالت الصحيفة في يدي وأنا أقتحم باب المنزل صارخة، - أماه - أبتاه - أنظروا! لقد ماتت (فضيلة).
وبكت والدتي حتى احمرت عيناها، وانتحت بي جانبا لتقول لي اهتمي بنفسك، وانظري إلى حالتك. هل نسيت أنك ستضعين مولودك .. قريبا.
…
مضت (فضيلة) عن هذه الدنيا، ولم تخطئها يد القدر في هذه المرة غير أن الأسئلة لا زالت تلح علينا وتشغل تفكيرنا، كيف ماتت؟ وهل تعذبت قبل أن تلفظ أنفاسها؟
وذهبت والدتي (ليلى) فورا لتعزية والدة (فضيلة) في مصابها، ومعرفة تفاصيل ما حدث. وكانت الام البائسة قد جلست تحت ثقل كارثتها حتى لم تعد قادرة على الوقوف، كانت متهدمة محطمة، قد تغيرت كل ملامح وجهها، وتورمت عيناها لكثرة البكاء. وكان رجال الشرطة قد وصلوا إلى هناك. لينقلوا إليها تفاصيل المأساة الجديدة. وكانت كل كلمة من كلماتهم كافية لتمزيق أشد القلوب قسوة إلا قلوب الاستعماريين:
كانوا ثلاثة قد وصلوا إلى منزل (الرصيف) حيث الموعد. واكتشف الإفرنسيون أمرهم، وأرادوا أخذ (فضيلة) وهي على قيد الحياة. فنادوها مرات كثيرة حتى تخرج إليهم، واستمرت في الرمي حتى نفذت ذخيرتها، ثم صعدت الى السطح وهي تصرخ بملء صوتها القوي:
لا!
…
ثم لا!
…
ثم لا!
…
وقامت القوات الإفرنسية بتطويق المنزل وإحكام الحصار حوله، فلم يكن من الصعب تمزيق جسد (فضيلة) بالرصاص، فهوت الى الأرض وقد فارقت الحياة.
كانت (فضيلة) تعرف أن استسلامها لأعدائها يعني البوح بأسرارها. إنها تعني الخيانة، وليس باستطاعة فضيلة أن تخون أحدا أو تغدر بأحد.
سقطت (فضيلة) ميتة، وغير بعيد عنها كانت ترقد جثة (رواج) وسط بركة من الدماء. أما (عمر كيخيا) فقد حاول الهرب حاملا معه جراحه، غير أنه لم يذهب بعيدا، فقد ألقي القبض عليه، ولم يتأخر عن اللحاق بأخويه المجاهد والمجاهدة.
يا للمسكين (عمر)، لقد كان يفكر وهو يهرب - يقينا - بأمر زوجته الشابة التي ستصبح أرملة وهي في نضرة العمر، وكذلك بابنه الصبي الصغير الذي سيتركه لقدره ولعل شجاعته قد خانته في هذه اللحظة بالذات وهو يحاول الفرار. وعلى كل حال، فإن (عمر) لم يقتل لسبب تافه، وإنما استشهد مجاهدا بطلا، ما عرف عنه إلا أنه شاب شجاع حتى حدود التهور. ولقد مضى على الطريق الذي سبقته إليه بثوان قليلة (المجاهدة فضيلة) ومن قبلها شقيقتها (مريم). وهو ذات الطريق الذي مضت عليه قافلة (شهداء الثورة).
قدمت والدتي (ليلى) العزاء بكلمات قليلة إلى الأم البائسة بمصابها الجديد، ثم ودعتها وعادت إلى المنزل. وقد كان مصاب أم (فضيلة) بابنتيها أكبر من كل عزاء. وإن أكبر محنة تتعرض لها امرأة هي فقد أحد أبنائها.، فكيف بها وقد فقدت (مريم) من قبل
وهي تبتلى بعد ذلك بابنتها (فضيلة). لقد باتت أما لشهيدتين على التتابع! ولم يبق لها في هذه الدنيا إلا ابنتها الثالثة (عزيزة) وهي ابنتها البكر، فكانت تضع رأسها على كتفي ابنتها وعلى صدرها، ما بين فترة وأخرى، وتبكي بحرقة، لعلها تتنسم في صدر ابنتها ريح أختيها، وتتشبث بها بكل ما بقي لديها من قوة، ولعلها كانت تخشى أن تفقد أيضا ما بقي لها من عون ومن أمل في هذه الحياة.
ومضت أسابيع،
وجاءت ليلة تحمل معها آلام المخاض، وشعرت بالقلق ينتابني في بداية الأمر، واشتد الالم فأخذت أتعجل طلوع النهار. كان البيت هادئا، ساكنا. وتحسست الجدران في الغرفة نصف المظلمة، وأنا أفكر في كل شيء، إلا فيما أنا فيه، غير أن نوبة من الألم زادت في شدتها على كل ما سبقها حملتني على القفز من سريري. يجب استدعاء سيارة الإسعاف. غير أن أمر منع التجول، حظر تحرك أية مركبة أو آلية في الليل - حتى سيارات الإسعاف - فحملني أهلي إلى المستشفى التي وضعت فيها ابنتاي من قبل. وقالت لي ممرضة كنت أعرفها إنك ستضعين لنا في هذه المرة صبيا
…
ومضت فترة قصيرة، وضعت بعدها بنتا - إنها ابنتي الثالثة وسمعتهم يتحدثون من حولي:
- سنطلق عليها اسم (فضيلة). واتفق على ذلك زوجي وأهلي والجميع، من غير اعتراض أو مناقشة، لقد أحبوا أن يبقى اسم (فضيلة) حيا بيننا. أما أنا، فلم أحاول إتاحة الفرصة أمامهم لأخذ رأيي في الموضوع. وأخذت ابنتي، وضممتها إلى صدري. لقد استشهدت (فضيلة) يوم 18 حزيران - جوان - 1960.
وها قد مضت على الحدث الأليم أربعة عشر عاما - عند إعادة تسجيل الحدث من خلال ما يحتويه (صندوق الذكريات)، وأصبح عمر ابنتي فضيلة أربعة عشر عاما. وعدت الى أولادي بعد رحلتي مع أحداث الماضي، وقلت لهم:
- هيا! أعيدوا ترتيب كل شيء.
وتمضي السنوات، وتبقى ذكرى (فضيلة) نابضة بالحياة في قلوب كل من عرفها. إن ذكراها ستبقى ماثلة أبدا في عيون الوطن وفي عيون أبناء مدينتها. وسيذكرها أبناء معهدها كل يوم عند مرورهم باللوحة التي حملت اسمها:
(معهد فضيلة سعدان)