الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور)
لم يكن وضع المرأة الجزائرية، قبل اندلاع الثورة التحريرية، إلا جزءا شديد التلاحم بالوضع العام الذي كانت عليه الجزائر في كل مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبوضع الإنسان الجزائري بصورة خاصة. ويفرض ذلك بالضرورة العودة إلى الوراء، عبر المسيرة التاريخية، لمعرفة مكانة المرأة الجزائرية في مجتمعها. ولما كان من المحال الإحاطة الشاملة بوضع المرأة التاريخي - دون إهمال أي جانب - نظرا لما تفرضه هذه المحاولة من خروج بالبحث عن هدفه، ونظرا لما يتطلبه ذلك من إسهاب يتطلب بحثا مستقلا - بحد ذاته - فقد يكون من المناسب تقديم صورة مختصرة لا تفقد على الرغم من إيجازها الأبعاد التكاملية، ولا يضيع فيها وضوح المعالم. ولا تغيب عنها عملية الربط بين الشكل والمضمون. ويمكن في هذا المجال العودة إلى نقطة زمنية معينة تعتبر البداية لما هو معروف من تاريخ الجزائر.
لقد تميز المجتمع الجزائري - قبل الإسلام - بكل خصائص المجتمعات القديمة ومميزاتها، وتوافرت لهذا المجتمع عوامل جيواستراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية أسهمت في تكوينه تكوينا
منفتحا يضم كل المقومات الإنسانية. ولقد شهدت ذرى الأوراس، من عليائها، تفتح الحضارات التي تنساب على السفوح والسهول الساحلية، بداية من القرطاجيين ونهاية بالرومانيين - ثم البيزنطيين بعد انهيار روما على أيدي البرابرة الغربيين - ونجم عن هذا التفاعل بروز شخصية إنسان المغرب عامة وإنسان الجزائر منه خاصة، حيث تميزت هذه الشخصية بمرونة الإنسان البدائي وبساطته المدفوعة بالفطرة إلى التطور والتجديد والاندفاع. غير أن هذه الشخصية احتفظت أبدا باستقلاليتها، لقد كانت الجبال هي المعاقل الحقيقية التي لم تتمكن الحضارات القديمة من بلوغها، وبقيت السهول هي منطقة الاحتكاك وأداة الاتصال بين سكان البلاد الأصليين وبين موجات الحضارات المتصارعة على سفوح البحر.
في هذا المجتمع كانت المرأة تتمتع بالاحترام والتقدير، وتحظى بالرعاية، مسموعة الكلمة، قوية الشخصية، ولعل كل ذلك، هو الذي جعلها القاعدة القوية لخلية المجتمع الأساسية (الأسرة). في هذا المجتمع، الذي تهيمن عليه القوة والمثل العليا، وتبرز فيه قيمة الحرية وتعشقها، كانت المرأة تبعث الحياة، وتشارك في كل صغيرة وكبيرة. فكان ركوبها للخيل ومشاركتها في الزراعة والحرب أمرا طبيعيا مثل عنايتها بطفلها. ولتكون الصورة التي حفظها التاريخ لمكانة المرأة أكثر وضوحا، خلال تلك الحقبة التاريخية، يمكن تذكر (الكاهنة) التي تربعت على عرش الجزائر من دون الرجال. ويمكن اعتبار التعرض لسيرة من هذا النوع دليلا على ما كانت عليه المرأة الجزائرية القديمة من القدرة والكفاءة، وليس ذلك فحسب بل إنه دليل أيضا على ما كانت تحظى به المرأة من المكانة حتى أن مجتمعها القبلي ملكها عليه، وحكمها في الوطن
والرقاب والأموال. ولم تكن لهذه المرأة القائدة ميزة الشجاعة والبطولة فحسب، بل كانت تعمل بفكرها الثاقب أيضا، وموقفها من الفتح الإسلامي خير دليل على ذلك، فقد تصدت الكاهنة لقوات المسلمين بحزم وشجاعة. واستطاعت إلحاق الهزيمة بهم إذ اعتبرتهم موجة من موجات الغزاة، ثم تعرفت على الإسلام والمسلمين من خلال (خالد بن يزيد) الذي تبنته وجعلته كواحد من أبنائها. وعندما عاد (الحسان بن النعمان) لاستئناف الفتح (سنة 81 للهجرة) وعرفت الكاهنة أنه لا قبل لها بمقاومة جحافل المسلمين، ولا قدرة لها على مقاومة التطور الذي يحمله الإسلام، دفعت بابنيها مع (خالد بن يزيد) للالتحاق بجيوش المسلمين. ورفضت الفرار، حتى لا تحمل عار الهزيمة، وخاضت المعركة في سفوح الأوراس وهي مقتنعة بخسارة المعركة مسبقا. ولقيت مصرعها (عند بئر الكاهنة) تاركة للمجتمع الإسلامي القدرة على النهوض والارتقاء، فكان مصرعها هو نقطة الالتقاء بين عالمي (الجاهلية والإسلام) فوق الثرى الجزائري. وكانت مقاومة الكاهنة شبيهة بمقاومة (هند بنت عتبة). غير أن الأولى لم تستطع التكيف مع المجتمع الجديد، في حين ارتضت الثانية لنفسها الإسلام دينا.
وقام المجتمع الاسلامي في المغرب العربي - الإسلامي وفي الأندلس، واحتفظت المرأة المسلمة (عربية وبربرية) بكل الفضائل التي تضمنها الإسلام، وأصبحت هي القاعدة الصلبة التي توحد ولا تفرق، تجمع ولا تبدد، في الأخوة لله ودينه، وانصهر هذا المجتمع تحت راية الجهاد في سبيل الله، وأصبحت قيم المجتمع وفضائله راسخة الجذور في المجتمع المتكامل. وكانت عملية الربط بين الدين الإسلامي وبين الجهاد في سبيله إرثا ثابتا تتناقله الأجيال عبر
توجيه الأمهات وأحاديث الجدات.
وتحول المد إلى جزر، ووقعت الجزائر أول ضحية لهذا التحول وهنا عادت (المرأة الجزائرية) لممارسة دورها التاريخي اعتبارا من اللحظة التي اجتاحت فيها قوات الاستعمار (الجزائر المحروسة) يوم 5 تموز - يوليو - 1830. والأمثلة عن هذا الدور متوافرة بكثرة، لعل من أبرزها وأكثرها شهرة هي قصة إحدى بطلات الجزائر (لالافاطمة نسومر) التي قادت المجاهدين والمسلمين الجزائريين في ثورة عارمة (عام 1857) ضد قادة الجيش الفرنسي - جنرالاته - فكانت مثالا رائعا لجهاد المرأة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. ولم يكن استشهادها هو مجرد إضافة لموكب الشهيدات المدافعات عن الدين والوطن، وإنما إعلاة وتأكيدا لمكانة المرأة المؤمنة القائدة في مجتمع المجاهدين.
ومع التركيز على ذكر المرأة في ميادين الجهاد، فإن الأمر الواضح هو أن هذه المرأة كانت عضوا فعالا في المجالات التعليمية (الثقافية) والاجتماعية والاقتصادية قبل الغزو الفرنسي الاستعماري وكانت لها مكانتها اللائقة بها في أسرتها ومجتمعها، وكانت تشارك في جميع الأعمال - الشاقة وغير الشاقة - مما تتطلبه حياة الريف. وكانت في المدينة أيضا تتبوأ مكان الصدارة في مجالات الثقافة والفكر والأدب، مما ساعدها على الإسهام في رفع المستوى الاجتماعي للوطن الجزائري لقد فرض الاستعمار الفرنسي شكله البغيض، وطبق مخططاته الجهنمية، على شعب الجزائر، الذي عاش فترة تاريخية مظلمة، وذلك لأنه لم يكن استعمارا ماديا (اقتصاديا) فحسب وإنما كان أيضا استعمارا معنويا (روحيا) واستعمارا استيطانيا، كاد أن يقضي على أصالة هذا
الشعب ويزيل شخصيته العربية الإسلامية المميزة، والمتمثلة بدينه ولغته وتاريخه وتقاليده، التي تحتل الحرية فيها المرتبة الأولى.
لقد استعمل المستعمر ضد الجزائر والجزائريين مختلف أساليب الظلم والوحشية، وحاول تجريدهم من المقومات والمبادىء الوطنية، بتبديل علمهم، ومحاربة دينهم ولغتهم، وقلب نظام حياتهم الاجتماعية فقرا وحرمانا، وحضارتهم وتطورهم تخلفا وانحطاطا. ثم بعد أن تم له ذلك بدأ يوهمهم أنه الكريم صاحب الغاية الحضارية السامية. وصار يعطيهم جرعاته المسمومة باستمرار من فكره ولغته وتقاليده طمعا في الوصول إلى عملية (فرنسة عامة) فهل تم له ذلك بالنسبة للمجتمع عامة وللمرأة بصفة خاصة؟
إنه بالنسبة للمجتمع لم يقدر إلا على تشويه السطح والمظهر، أما المضمون والروح فبقيت نقية أصيلة، وكان يوم ثورته أهم عوامل انتصاره.
وأما المرأة، فنجدها رغم جهلها، وحالة التخلف والجمود التي تجرعت منها أكثر من أخيها الرجل، بسبب وضعها داخل البيت، ينقسم كفاحها ضد عمليات القمع والتشويه الاستعماري إلى نوعين اثنين:
أولهما: كفاح ظاهر ومباشر، ويتميز في المظاهرات والتنظيمات والنشاطات الحزبية والإصلاحية.
وثانيهما: كفاح ضمني وغير مباشر، وهو ذلك الموقف الإيجابي الذي وقفته كمسؤولة عن مقومات الأسرة وعاداتها وتقاليدها الروحية والحضارية. وبالتالي موقفها إزاء مقومات وخصائص المجتمع عامة، حيث أشاحت بوجهها عن كل ما هو أجنبي واستعماري بما في ذلك الثقافة والتعليم، متفطنة لدور الإغراء
والإثارة الذي يمثله المستعمر معها قصد كسب ثقتها، لأنها على رأس خلايا المجتمع. ولقد رأى أنه لا طريق أحسن وأضمن للوصول إلى تدمير شخصية هذا الشعب وأصالته وفضائله إلا بالاستيلاء على عقل المرأة، حتى تكون بعد ذلك أداة لتحويل الأسرة وبالتالي المجتمع عن هذه الأصالة. ولقد تعمدت - أكثر - التمسك (بالحجاب) واستماتت أكثر في التمسك - بالعادات والتقايد حتى لا تترك للمستعمر ثغرة ينفذ منها لمحاربة شخصيتها.
هذه لمحة تاريخية وجيزة عن دور (المرأة الجزائرية) عبر التاريخ، والتي برهنت عن وعيها ووطنيتها واسماتتها من أجل الحفاظ على الوطن وقيمه وشخصيته. وما المرأة المجاهدة إلا امتداد طبيعى لتلك المرأة الجزائرية التي ما بخلت يوما أو تأخرت عن العطاء والتضحية.
…
لقد كانت الحرية أبدا هي الشيء الذي لا بديل له لتقدم العقل وتطور الروح. وقد كان غياب الحرية باستمرار هو أداة تجميد العقل وإصابة الروح بالشلل. وبرهنت التجربة التاريخية عامة، وتجربة التاريخ العربي - الإسلامي منها خاصة بأن أي تقدم للبشرية، وأي تطور للانسانية مرهونان بالحرية والعدالة. والحرية شيء لا بديل له، لأنه ليس كالأشياء الأخرى التي تكتب بالبيع والشراء، وإنما هي شيء لا يمكن تحقيقه إلا ببذل الأرواح والدماء رخيصة في سبيله، شيء لا يمكن شراؤه ولا بيعه ولا التفاوض على كسبه. وهنا يمكن القول بأنه ليس من قبيل المصادفة أن ترتبط الدعوة إلى تحرير الوطن بالدعوة إلى تحرير المرأة. وقد كان ذلك هو هدف جهاد المتعلمين والمفكرين والمصلحين - بل إن الرواد الأوائل الذين
تصدوا للدفاع عن المرأة كان معظمهم من المدركين بثاقب فكرهم مدى الحاجة إلى تحرير المرأة كضرورة اجتماعية وحضارية من أجل اللحاق بالمجتمعات الإنسانية المتقدمة. وهكذا، فعند اندلاع الثورة التحريرية، كان المناخ الاجتماعي الذي تعيشه المرأة متشبعا بالاستعداد للتفاعل والحركة والعطاء. مثلها كمثل الجماهير الجزائرية بصورة عامة. لتعيش أخصب الفترات في تاريخ الجزائر الحديث. ووجدت لها المتنفس في غرة نوفمبر (تشرين الثاني)1954.
إن عدد النساء في كل بلد يقدر بنصف سكانه على الأقل، وبقاؤهن في الجهل والسلبية والتواكل يعد حرمانا من الانتفاع بأعمال نصف المجتمع، ويكون سببا في فشل عمل الرجل ذاته بنسبة كبيرة.
بهذا المفهوم المنطقي للثورة استقبل مناضل ومجاهد ثورة الفاتح من نوفمبر (تشرين الأول) 1954، أخته وأمه وابنته، ملقيا عليها أعباء كثيرة من مسؤوليات الصراع المسلح. وكانت عند حسن الظن بها وقد اشتركت جندية وممرضة ومسؤولة عن التموين والسلاح. ومسؤولة عن الاتصالات السرية في جميع جبال الولايات الست، زيادة على دورها المعروف في المدينة كفدائية ومسبلة وكان ما كان
…
مما يقابل الكفاح والفداء من معاملات استعمارية ضد كل الثوار. فعذبت المرأة أشنع أنواع التعذيب. ولفظت روحا سعيدة مع أنفاسها، لأنها لم تعترف على مواقع إخوانها. واستعملت معها أبشع وأقذر أشكال الإهانة لإنسانيتها وطبيعتها، وعوملت بوحشية وعذبت بالسجون والمعتقلات وحكم عليها بالإعدام. ورغم ذلك بقيت صامدة حتى النصر.
البيعة الشعبية (الفواطم) تحمي الثورة وترفع رايتها
وقد كانت (صحوة الموت) بالنسبة للاستعمار الفرنسي في الجزائر هي ثورة المستوطنين في 13 - أيار - مايو - 1961.وإسقاط الجمهورية الرابعة في فرنسا واستيلاء ديغول على الحكم. يومها، فتش الاستعمار في دفاتره القديمة عن كل سلاح يحاول تجربته لأخر مرة. ومن بينها سلاح (السفور) و (تحرير المرأة).
وعقد (سرستيل) اجتماعات أطلق عليها صفة (شعبية) حشد الناس فيها بالقوة، وخطب داعيا إلى (تحرير المرأة الجزائرية). وتحت ضغط السلاح، أكرهت بعض النساء على خلع الحجاب وإحراقه، في حركة مسرحية، أمام الجماهير بعد انتهاء الخطب في ساحة أفريقيا بالعاصمة (الغروم سابقا). وكان هذا الحادث كله كأنه الإشارة السرية، ففي اليوم التالي لم تظهر امرأة جزائرية واحدة في الطريق سافرة، حتى اللواتي كن قد أسفرن عن وجوههن قبل الحادث عدن إلى الحجاب. كانت مظاهرة تقول للمستعمر أن الجزائرية لا تخلع حجابها بدعوة من المستعمر، ولكنها تخلعه في ساحة القتال، لترتدي ثياب الجهاد والاستشهاد.
لقد توافرت مجموعة لا نهاية لها من الشواهد التي تبرز دور المرأة أثناء الحرب، وما تميزت به من الإقدام وروح التضحية. فوقفت نساء المدن وهن يتحدين قوة العدو التي كانت تواجههن وكن يزحفن للقاء الموت من أجل الكرامة. ولا زالت ذكريات المرأة الريفية نابضة بالحياة وهي تحتمل كل الصعوبات، وتعاني من كل ويلات الاستعمار. وتضحي بنفسها وأولادها وزوجها لمساعدة المجاهدين. وكم من مرة رأت كوخها وهو يحترق أمام عينيها. أو أطفالها يقتلون، أو زوجها وهو يحفر قبره بيده. ورأينا المرأة الجزائرية في الجبال وهي تحمل السلاح أو تعمل كممرضة أو
طبيبة، وهي تنتقل من دشرة إلى أخرى. وخاضت المرأة المعركة بجميع جوانبها، بكل حزم، مثلها كمثل الرجل، يدا بيد.
وصمدت لكل أهوال الحرب حتى ساعة النصر. وبرهنت بذلك أنها عضو كفء لتحمل أصعب المسؤوليات، وتنفيذ أخطر أعمال الفدائيين وسجل لها التاريخ ذلك بأحرف لا تنسى على مدى الأيام. وأصبحت قدوة يقتدى بها، ومثالا تحتذي به كل نساء الشعوب الباحثة على الكرامة والحرية (1).
(1) - المرجع: (المرأة الجزائرية) - بتصرف - وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 9 - 14 و20.