المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٣

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول

- ‌ المرأة الجزائريةعلى مخططات الاستعمار

- ‌ المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور)

- ‌ لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية

- ‌ زغاريد النساء (اليويو)

- ‌ رسالة من مجاهدة

- ‌الفصل الثاني

- ‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

- ‌ من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان)

- ‌ نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال)

- ‌ أم الشهيد

- ‌ مجاهدة وأم شهيد

- ‌ جميلة بو حيرد

- ‌الفصل الثالث

- ‌ معاناة الإرهاب

- ‌ أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار)

- ‌ مدارس تعليم أساليب التعذيب

- ‌ معسكرات الانتقاء والترحيل

- ‌ معسكرات التجميع

- ‌ الأسرى والجرحى

- ‌ ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية

- ‌الملحق (أ)شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية

- ‌الملحق (ب)قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة

- ‌الملحق (ج)خطاب من الأستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي

- ‌الملحق (د)الجنرال (دو بولارديير) يستقيل من قيادته

- ‌ الكلمة الأخيرة

- ‌قراءات

- ‌(1)من منهج الصومام في موضوع الحركة النسائية

- ‌(2)من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

1 -

‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

(*)

كانت (زمورة) في صيف سنة 1959 خاضعة للاحتلال العسكري الإفرنسي. وقد نظمت القوات الإفرنسية أمورها على النحو التالي: تمركزت القوة الرئيسية في الثكنة الكبيرة بقيادة النقيب - الكابتن - (أموريك). في حين احتل (المكتب الثاني - أو

الاستخبارات العسكرية) بناء هو عبارة عن بيت قديم كان يقيم فيه القائد ثم أعيد إصلاحه ليفي بالمتطلبات التي يحتاجها رجال الاستخبارات وقد تمركزت فيه وحدات فرنسية، ووحدات من (الحركيين) واجبها الرئيسي هو القيام بدوريات ليلية لاعتقال المواطنين واستجوابهم وتعذيهم بمختلف الوسائل:(بما فيها إرغام المعتقلين على شرب البترول وماء جافيل وتسليط الكهرباء على الأعضاء التناسلية والأجزاء الحساسة من الجسم). وأخيرا كانت

(*) كاتب القصة هو (لقمان بن هيزيا) وقد وقعت أحداث القصة في قرية (زمورة) التي تبعد مسافة (33) كيلومترا عن (سطيف). والمرجع:

RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDJAHED ALGER. (1977) P. P 319 - 328.

ص: 57

هناك (الوحدة الإدارية الخاصة)(1) ورمزها (س. آ. س) وهي تمارس دور عمدة الإقليم، وتنافس المكتب الثاني أو الاستخبارات في مجال اضطهاد المواطنين وتعذيبهم. إذ كان أي مواطن مضطرا لسبب من الأسباب أن يلجأ اليها من أجل الحصول على وثيقة إدارية، أو من أجل قضة روتينية - رتيبة - من أمور الحياة اليومية، وعندها يجد أن موظفي هذه الوحدة غير متعجلين أبدا لمساعدته أو تسهيل مهمته، وقد يجد النقيض من ذلك، إذ أن هؤلاء الموظفين الجالسين وراء مكاتبهم ليسوا إلا عسكريين ينتظرون كل فرصة لإجراء استجواب دقيق مع من تعرض له حاجة للاحتكاك بهم، فيطرحون عليه الأسئلة من كل نوع، والتي لا علاقة لها أبدا بالقضية التي جاء المواطن يلتمس المساعدة من أجلها. وكان يرأس هذه الوحدة ملازم من أصل كورسيكي (اسمه سكاربانكي) سبق له أن عاش سنوات في المغرب، وتعلم فيه اللغة العربية فكان يستخدم بعض العبارات (كلازمة أومتكأ) في حديثه للتظاهر بالبساطة، عندما كان يتجول في الأسواق ويختلط بالناس، على أمل الوصول إلى أسرارهم. غير أنه لم يكن من الصعب على القرويين البسطاء اكتشاف أمره، والحذر منه، إذ كانت لكنته الكورسيكية تفضحه عندما يحاول نطق اللغة العربية، لا سيما عندما يقحم نفسه في حديث له أهميته، ولم يبق على القرويين سوى التزام الصمت والتظاهر باللامبالاة عندما يتعرض لهم الملازم (سكاربانكي).

وكان سكان قرية (زمورة) شأنهم شأن كل سكان القرى، على

(1) الوحدة الإدارية الخاصة: SECTION. ADMINISTRATIVE SPECIALISEE ورمزها (S.A.S)

.

ص: 58

علاقة وثيقة بالدوار (الماكي). وكان رجال الحركة (التابعين للقيادة الإفرنسية) يعرفون أن المجاهدين يترددون على القرية للتزود بالطعام والمواد التموينية وقد رغب (الملازم سكاربانكي) إعادة تجميع القرويين الذين يسكنون البيوت المنعزلة في القرية، غير أن سكان هذه البيوت رفضوا بدافع وطني الجلاء عن منازلهم أو إخلائها لأنها كانت تتيح لهم فرصة الاتصال بإخوانهم الثوار.

كان من بين سكان قرية (زمورة) فتاة جميلة تحمل اسم (عقيلة) وهي زوجة المجاهد (الملازم حمد الأخضر) تعارف الناس على مناداته باسم (سي الأخضر) واشتهر بإرباك الدوريات الإفرنسية وإزعاجها وتدميرها، لا في الجبال فقط، وإنما في داخل القرى أيضا.

عرف الحركيون (أو رجال الحركة) بأمر الحب العاصف الذي يحمله (سي الأخضر) لزوجته. فعملوا فورا على إخطار رجال المكتب الثاني (الاستخبارات)(والوحدة الإدارية الخاصة. س. آ. س). ومنذئن أصبحت (عقيلة) رازحة تحت عبء كابوس ثقيل ومرعب لا يحتمل ولا يطاق؛ إنها محنة قاسية في أن تثور شكوك السلطات الإفرنسية حول الزيارات المتكررة التي يقوم بها الملازم (سي الأخضر) لزوجته (عقيلة). لقد أخذت دوريات رجال الاستخبارات ورجال. س. آ. س في التردد باستمرار ودونما انقطاع للبحث والتفتيش والتحقيق. وتعرض أهل القرية كلهم لهذا الضغط، ذلك أن جند العدو كانوا يعرفون تلك الروابط الوثيقة التي تشد هؤلاء الجبليين إلى الثوار المجاهدين. وكان لهذه الاجراءات ذريعتها لدى الإفرنسيين الذين كانوا يخافون من هجوم مباغت،

ص: 59

بالإضافة إلى رغبتهم في القبض على واحد أو أكثر من (العصاة - أو الفلاقة)(1) واعتقال أولئك الذين يساعدونهم أو يعملون على إيوائهم.

وعاشت (عقيلة) في حالة رعب دائم: الرعب من القتل، والرعب من أن يصل زوجها في زيارة غير متوقعة، فيصطدم بدورية الأعداء التي باتت كثيرة التردد على منزلها. وفي الحقيقة، فإنه لم يحدث شيء من ذلك، غير أن ما عاشته خلال تلك الفترة كان أكثر قسوة من الرعب ذاته، لقد جفاها النوم، فباتت دائمة السهاد، حتى إذا ما استنزفت أعصابها، أغمضت عينيها قليلا، فالخوف من زيارة أخرى غير متوقعة، والخوف من أن يجدها الجنود نائمة في سريرها، والخوف من كل مجهول، كل ذلك كان يعذبها ويطرد النوم عن عينيها، فتقفز من مقعدها لتستوي واقفة على قدميها تحملق فيما حولها لتتبين أنه لم يتحقق شيء من مخاوفها - حتى الآن على الأقل - وكانت (عقيلة) على حق في خوفها .. فهي زهرة شابة جدا، لم تتجاوز العشرين من ربيع عمرها، ذات قامة متوسطة (طولها 160 سم تقريبا) لها بشرة بيضاء صافية ينعكس عليها سواد شعرها الفاحم وعينان سوداوتان واسعتان ولهما نظرات أخاذة. وقد أخذ الهواء الجبلي النقي والرطب على عاتقه إكساب وجنتيها اللون الوردي، مما كان يثير الشعور بأن وردتين جميلتين قد احتلتا مكانتهما على وجنتيها. وكان ذلك الشعور يظهر وهو أقرب الى الحقيقة عندما كانت

(1) العصاة - أو الفلاقة (FELLAGHAS) اصطلاح أطلقه بعض القادة الإفرنسيين على الثوار الجزائريين - المجاهدين - استحغارا من أمرهم، وتشبيها بهم بقطاع الطرق، ثم أصبح استخدامه عاما من قبل الاستعماريين لوصف (المجاهدين الجزائريين).

ص: 60

قوة الحياة على حدود الوطن - عائدون ولكن مع الحرية -

ص: 61

(عقيلة) تبكي فتنساب منها الدموع لتتوقف على الخدين، كما يتوقف ندى الصباح على أزرار الورد في بدء تفتحها. وكانت يداها وقدماها مكتنزتين باعتدال وكذلك ساقيها الرشيقتين. مما كان يشكل مع قوامها الأهيف، الرشيق، وصدرها البارز، لوحة تمثل كل ملامح الأنوثة الطاغية. ولم يكن ذلك كله ليغيب عن أنظار الجنود الإفرنسيين والجنود الحركيين، فيثير فيهم الغرائز الوحشية الشريرة. وشعرت (عقيلة) بذلك، فأهملت نفسها طوعا، وامتنعت عن النظافة والاغتسال، وقررت عدم استبدال ثيابها القذرة. فباتت ذات رائحة منفرة لا تستثير إلا عواطف الاشمئزاز.

انصرفت (عقيلة) إلى العمل، تفرق همومها فيه، وتلاحقت لياليها المسهدة البيضاء، بعضها يمسك برقاب بعض، وتتابعت عليها الكوابيس تتصل بعضها ببعض، فكانت أقل ضجة تثير فيها الرعشة، وأية صرخة أو طلقة نار تقلب كيانها رأسا على عقب.

هكذا عاشت (عقيلة) فترة متطاولة من المعاناة، تشاركها همومها أمها العجوز، المضطربة العقل، لما انتابها من الهموم. وكانت (عقيلة) تمضي لياليها في نسج الصوف، وكثيرا ما توقفت عن عملها، وهي مستغرقة فيه، بسبب اقتحام دورية من رجال (س. آ. س) أو (الاستخبارات) باب منزلها، بصورة مباغتة (فقد أرغمت على ترك باب المنزل مفتوحا، وعدم إغلاقه واقفاله بالمفتاح). وعندئذ تبدأ عملية استجوابها بالأسئلة المعروفة وغير المعروفة من كل نوع: هل أقبل زوجها لرؤيتها؟ هل تعرف مركز إقامته؟ الخ .. وهددوها، ثم أخذوا في إزعاجها، وكثيرا ما حاولوا التغرير بها وخداعها غير أنهم كانوا ينصرفون من غير أن يظفروا منها بما يريدون. غير أنهم لا يلبثون طويلا حتى يعودوا، وبمعدل أربعة

ص: 62

إلى خمسة مرات في اليوم والليلة. ويعاودها الكابوس في كل مرة بعد انصرافهم. وتنتابها المخاوف من جديد. ولم تكن هناك دورية واحدة هي التي تتردد على منزلها، فقد كانت - على الأغلب - ترى في كل مرة وجوها جديدة. وكان (الحركيون) في جملة من كان يتردد عليها، غير أن هؤلاء كانوا يستخدمون أساليب مغايرة، فكثيرا ما كانوا يحاولون التبسط معها وملاطفتها وكسب ثقتها، ويعدونها بألف أمنية وأمنية جميلة، على أمل الحصول منها على بعض أسرارها، أو بعض المعلومات عن زوجها، أو حتى تكون (مطواعة لهم ورقيقة في تعاملها معهم، على الأقل؟) غير أنه ما من أحد معهم ظفر منها بنائل. واستطاعت (عقيلة) بالرغم من كل ذلك المحافظة على موقفها بثبات. ولكن إلى متى ستستمر في احتمال هذا الشقاء؟ وما هي حدود قدرتها على التعايش مع هذه المعاناة؟ وحتى متى تستطيع العيش تحت التهديد المستمر بالقتل؟ كانت يد القدر معها، فاستجابت لها، ومهدت لها طريق النجاة، ولكن كيف؟

كان (سي الأخضر) ورجاله يتابعون من مواقعهم في الجبال كل ما كان يدور حولهم. وكان أنصارهم من رجال القرية ينقلون إليهم تباعا كل ما تتعرض له (عقيلة) وما تعانيه على أيدي رجال الدوريات الإفرنسية. بما في ذلك التردد المستمر على منزلها في الليل والنهار، وما يرافق ذلك من تهديد وإغراء، وتحقيق واستجواب، وإهانات ومحاولات انتهاك أو اغتصاب

أدرك (سي الأخضر) أن زوجته باتت تتعرض لخطر حقيقي، كما عرف بأنه من الخطر أيضا محاولة القيام بزيارتها، فقرر مع رجاله تقديم يد المساعدة لها والإسراع لإنقاذها. وشرع بجمع المعلومات

ص: 63

الدقيقة عن الموقف العسكري في القرية، ونوع الدوريات التي تتردد على منزل زوجته، وعدد أفراد هذه الدوريات، وكذلك المواعيد الليلية والنهارية للدوريات وكذلك كل ما هو ضروري من المعلومات لوضع مخطط من أجل دخول القرية. وعلم (سي الأخضر) ان هذه الدوريات عادة ما تكون من (س. آ. س) أو (المكتب الثاني) وأحيانا من (الحركيين). كما علم أيضا بأن معدل الزيارات الليلية هو أقل من معدل الزيارات النهارية.

وما أن توافرت كافة المعلومات الضرورية حتى قرر (سي الأخضر) ورجاله الانتقال إلى العمل، ووضع مخططهم موضع التنفيذ.

شكل (سي الاخضر) القوة التي ستذهب الى القرية من ستين مجاهدا، كلهم من الفرسان، المسلحين أفضل تسليح، والذين تملؤهم الحماسة ولديهم الاستعداد للقيام بأي عمل من أجل انقاذ زوجة قائدهم الشابة (عقيلة). وسارت هذه القوة في عتمة الليل المظلم، حتى إذا ما أشرفت على القرية، عين (سي الأخضر) عددا من رجاله لإكمال المهمة وهي (اختطاف زوجته) في حين بقي هو وبقية رجاله في أسفل القرية، بانتظار عودة المنفذين، وعلى استعداد للتدخل إذا ما تطلب الأمر، وتسارعت الأحداث. وكان (سي الأخضر) قد قرر التوجه بنفسه من أجل إحضار زوجته، وبرفقته عدد من المجاهدين، إلا أن رجاله منعوه من تحقيق رغبته، لأنهم كانوا يعتقدون، بالرغم من تقديرهم لخطورة هذه المهمة، أن هناك أعمالا أخرى أكثر أهمية تتطلب وجوده، من أجل مستقبل الوطن بكامله. وأن مجاهديه أكثر حاجة لشجاعته ولكفاءته العسكرية القيادية، ولجرأته في مواجهة مواطن الخطر. وهكذا، وفي تلك

ص: 64

الليلة الخالدة التي ستبقى ذكراها ماثلة أبدا في أذهان أهل قرية (زموره)، هكذا في الحوليات التاريخية للقرية، اتخذ الرجال قرارهم، وأقدموا على اقتحام الخطر الداهم واتجهوا نحو المنزل الذي تقيم فيه (عقيلة).

كانت الليلة مظلمة كمداد الحبر الأسود، أو كدخان الحريق - الشحار -. وكانت الريح تعصف بقوة غير معهودة حتى أنها اقتلعت ألواح التوتياء التي تغطي سقوف المنازل وقذفت بها كما تقذف الرياح أوراق الأشجار الميتة في فصل الخريف. وبلغت شدة الريح من القوة مبلغا كادت معه تقتلع الأبواب الخشبية من جدران المنازل؛ غير أن المجاهدين، انطلقوا لتنفيذ مهمتهم كما هي عادتهم، في تلك الليلة، غير عابئين بما حولهم، ذلك أنهم رجال (سي الأخضر). رجال الجبال والريح والطبيعة القاسية، وها هم يمضون إلى

هدفهم، ولا يهمهم شيء إلا تحقيق النجاح في تنفيذ مهمتهم. ولدى اقترابهم من المنزل، أطلقوا بعض الرصاصات في الريح، وقذفوا قنبلة يدوية في الفضاء، بهدف خداع قوات الافرنسيين ودورياتهم من جهة، ولاقناع القرويين بأن هذه القوة تقوم بدورية من الدوريات العادية التي يقوم بها (الروم).

وصلت أصداء الطلقات وصوت انفجار القنبلة إلى رجال (المكتب الثاني) ورجال (س. آ. س) غير أن أحدا لم يحرك ساكنا لاعتقاد كل طرف من الطرفين أن الآخر هو الذي قام بذلك، على نحو ما جرت عليه العادة، بهدف إيقاظ انتباه القوات العسكرية المقيمة في الثكنة، وإدخال الذعر إلى نفوس القرويين وإقناعهم بالعدول عن أية محاولة (لتعكير الأمن والنظام) الذي حرصوا على إقامته

ص: 65

لقد كان كل شيء منظما بدقة، ومر كل شيء بسرعة، ومن غير مجابهة أي عقبة، كانت (عقيلة) تمارس عملها العادي في حياكة نسج - الصوف، وذلك على الرغم من شعورها بحاجتها الشديدة للنوم. وجاءت أصداء الطلقات وصوت انفجار القنبلة واقتراب وقع خيول الفرسان من منزلها، فأثارت في نفسها كل المخاوف، وأخرجت من ذاكرتها كل صور الكوابيس والهواجس التي كانت تنتابها. ولم يساورها الشك أبدا أن ذلك من فعل دورية من دوريات العدو، أو (الحركيين). فتوقفت عن العمل، واكتسى وجهها شحوبا لا يشابهه إلا شحوب وجوه الموتى، وأصاخت السمع

ومرت عليها وهي على هذه الحالة دقائق قليلة خيل إليها أنها قرون طويلة لا تكاد تنتهي. لم تتحرك أبدا، لأن الخوف شل قدرتها على الحركة، فثبتها على الأرض، ومنعها من القيام بأية إيماءة، كان نفسها يتردد بصعوبة، كما لو أن التنفس العميق يفضحها أو يخونها ليكشف عما يعتمل في صدرها الذي بات يتقلص بشدة حتى كاد يخنقها

الانتظار ولا شيء غير الانتظار

في توقع الرعب.

ولم يكن الشك يراود (عقيلة) أبدا في أن تلك الليلة ستكون بالنسبة لها (ليلة المصير). إن خط سير حياتها يجب أن يتغير، يجب أن ينتهي الخوف من الجنود الأعداء، وسينتهي معه التحقيق والاستجواب، وما يرافقه من ضربات وإهانات وبؤس وشقاء طالما نزل بساحتها وأصاب أمها العجوز، سينتهي كل ذلك.

وصل المجاهدون، وتوقفوا أمام منزل (عقيلة). وظهر مصادفة شاب يافع غير بعيد عن المكان، فاستجوبوه. ولم يعرف الشاب الفتى أبدا أن هؤلاء الذين يستجوبونه هم مجاهدي (سي الأخضر). وظن أنهم من الحركيين (رجال الحركة) جاؤوا

ص: 66

كعادتهم لتعذيب (عقيلة) وإزعاجها. فاتجه اليهم، وربت رجل على رأسه، وأمره بفتح الباب من الداخل. وتملك الخوف الفتى الشاب من أن يسقط صريعا، ولم يتمكن من رفض تنفيذ ما طلب إليه تنفيذه. ومضت ثوان قليلة، وانفتح الباب على مصراعيه. واقتحم الرجال المنزل تاركين للشابة (عقيلة) الشعور بأنهم من رجال (المكتب الثاني) أو (س. أ. س). وقد جاؤوا لإلقاء القبض عليها واعتقالها. وكانت الظلمة قاتمة بحيث كان من الصعب على المرء رؤية ما هو أبعد من خطوتين عن مكانه. وبوغتت (عقيلة) بقدر ما بوغتت أمها من هذا الاقتحام لمنزلها بمثل هذه القوة، فشرعتا في العويل والصراخ بكل ما تملكانه من القوة. وأخذ الرجال (عقيلة) وسحبوها الى خارج المنزل، واقتادوها إلى حيث ينتظرها (سي الأخضر) ورجاله.

لم تفهم (عقيلة) لعبة الخداع (ولم تكن لديها القدرة على فهمها وإدراكها) وظنت كعادتها أن مختطفينها من الإفرنسيين، فأرسلت صرخات حادة تفتت الأكباد. واستمرت في الصراع كاللبوءة وهي بين يدي مختطفيها محاولة الإفلات من قبضتهم، هذا فيما استمر الرجال على صمتهم ولا ينبس أحدهم ببنت شفة. وأيقظت صرخات (عقيلة) سكان القرية كلها، وظن هؤلاء بدورهم أن (الحركيين) قد جاؤوا لاعتقال البائسة (عقيلة). ولم يكن باستطاعة أحد منهم التدخل، فكلهم يعانون من هذا الضيق، وكلهم يعيشون مع هذا الكابوس المرعب. ولو أن (صرخات عقيلة تركت في أعماق النفوس أثرا لا يمحى) وفقا لما ذكرته (الممرضة رتيبة) التي كانت تعمل في المركز الطبي. وتمكنت (عقيلة) من الافلات من قبضة مختطفيها، وأسرعت الى منزل مجاور لمنزلها حيث

ص: 67

ومجاهدات في خدمة المجاهدين

ص: 68

كانت تقيم فيه (الممرضة رتيبة) وعائلتها وأبوها الذي كان يعمل خبازا للقرية. وأخذت (عقيلة) في ضرب الباب بكل قوتها وهي تصرخ (لقد جاء العسكر لاعتقالي).

أسرع المجاهدون للامساك بزوجة (سي الأخضر) من جديد، واقتيادها إلى حيث بقية المجاهدين الذين يقفون بانتظار وصولهم. ومضت دقائق قليلة. وتوقف الصراخ بصورة مباغتة. ولم يعد هناك من يسمع إلا صفير الريح وهي تعصف بسقوف المنازل. لا صراخ، ولا همس، لقد أصبحت (عقيلة) في أيد (مأمونة).

أردف (سي الأخضر) زوجته على حصانه، وأعطاها منديله (فولار) الاخضر القاتم، ومضى مع رجاله على الطريق، محاولا تضليل هؤلاء الذين قد يطاردونه .. حتى إذا ما وصل إلى نقطة يتفرع عنها دربين من المسالك الضيقة، ترك أحدهما، وسار على الآخر الذي يصل إلى (تاسامرت) التي تبعد مسافة كيلومتر تقريبا عن (زمورة).

في هذه الفترة، كانت القوات الإفرنسية تحاول معرفة حقيقة ما حدث، وأمضت وقتا غير قصير حتى أدركت الموقف، وإذ ذاك بدأت عملية المطاردة، غير أن الوقت كان متأخرا جدا. فقد وصل (سي الأخضر) ورجاله في هذه اللحظة إلى مسافة بعيدة جدا بات من المحال معها اللحاق به. وعلاوة على ذلك، فقد سار (سي الأخضر) على دروب جبلية ضيقة لا تستطيع السير عليها إلا قطعان الماعز، متجنبا ورجاله السير على الطريق الرئيسية التي يعرفها القرويون باسم (طريق البيلك) والتي غالبا ما تسير عليها السيارات الخفيفة للجيش الإفرنسي - الجيب - وهي تقوم بدورياتها الرتيبة.

ص: 69

توجه (الملازم سكاربانكي) ومعه بعض رجاله في صبيحة اليوم التالي لمقابلة خباز القرية، (والد رتيبة) وهدفه معرفة ما إذا كان قد عرف بأمر حضور (سي الأخضر) إلى القرية. وكان الخباز يتمتع بسمعة طيبة في القرية، فأنكر أن يكون على معرفة بالأمر، وقال له: بأنه يعتقد، مثله مثل أهل القرية جميعا، بأن رجال (المكتب الثاني) أو رجال (س. آ. س) هم الذين جاؤوا لاعتقال (عقيلة) وهكذا فإن أهل القرية، لم يعرفوا إلا بعد هذا الاستجواب، بحقيقة ما حدث لقد استطاع (سي الأخضر) السخرية من شجاعة الجنود الإفرنسيين، واقتحم عليهم ملجأهم، وانتزع زوجته من تحت مخالبهم وهو تحد حقيقي لمحترفي العسكرية الإفرنسية وقادتهم من أصحاب (الأدمغة المفكرة).

عرفت (أم عقيلة) ما عرفه الجميع عن أمر اختطاف ابنتها، غير أنها أصرت بالرغم من ذلك، على القول بأن (الروم) هم الذين اختطفوها، سواء كان المتحدثون معها من أهل قريتها، أو كانوا من رجال الدوريات الإفرنسية - بصورة خاصة - ممن استمروا في التردد على المنزل لاستجوابها.

وصل (سي الأخضر) مع رجاله إلى قرية (تاسامرت) واستراح قليلا ثم استأنف السير حتى وصل (بيرقسطلي) الواقعة على بعد (64) كيلومترا من (زمورة). ومن هناك ذهب (سي الأخضر) إلى رجل كان يعرفه جيدا ويثق به، إنه (سي طيب) المعروف بقامته الضخمة ولونه الأسود وشاربيه الكثيفين. وأوكل اليه أمر العناية بزوجته والسهر عليها. وبدأت (عقيلة) منذ هذه اللحظة حياتها السرية في المقاومة.

ص: 70

كانت (عقيلة) تعمل في النهار كما يعمل كل من حولها، متجنبة كل ما يثير شبهات القرية بأمرها أو بدفعهم للتعرف على شخصيتها. ولم تكن قرية (بيرقسطلي) أكثر من قرية متواضعة لا يزيد عدد منازلها على (ستين مسكنا). والأمر الواضح هو أنه من المحال في قرية كهذه إبقاء قادم جديد بعيدا عن الأعين الفضولية، أو عدم التعرف على وجوده.

وكانت (عقيلة) تعمل طوال النهار في انتظار قدوم الظلام، حتى إذا ما هبط الليل، خلعت عنها ثوبها (جلابيتها - أو دشداشتها) وارتدت ثوب القتال (لباس الميدان للجنود) ومضت مع زوجها، حتى تعود في صباح اليوم التالي. وعندما لم تكن ترافق زوجها (سي الأخضر) كانت تعمل بوصاياه وتعليماته؛ فتنتقل في كل ليلة من بيت إلى بيت، وتقتصر في حديثها على الحد الأدنى مما هو ضروري. دون أن تذكر شيئا عن المكان الذي جاءت منه، أو تكشف عن هويتها ومن تكون، ذلك لأن الحركيين يترصدونها، والجنود الإفرنسيين قد شددوا البحث عنها. وبات لزاما عدم التعرض لأي خطر عن طريق ترك أي أثر قد يهتدي به (القوم) لمعرفة حقيقتها أو افتضاح أمرها.

عثرت الدوريات التي دفعها الإفرنسيون للبحث عن آثار (الفلاقة) عل المندل - الفولار - الذي كان (سي الأخضر) قد أعطاه لزوجته (عقيلة). وسلموه إلى النقيب (آموريك) الذي قام بإعطائه الى امرأته - الطبيبة في المركز الصحي -. وعملت هذه بدورها على إظهاره أمام (رتيبة) الممرضة التي كانت تهتم بأمر (عقيلة) وتعتني بها، وقالت لها بصوت متهدج، وبلهجة صارمة: (انظري: ها هو منديل - فولار - رفيقتك الفلاقة، وآمل أن تتجنبي فعل ما قامت بعمله، وإلا فإنني سأفك لك رقبتك

).

ص: 71

خلال هذه الفترة، كانت حياة (عقيلة) في قرية (بيرقسطلي) قد شهدت بعض التغيير. إذ باتت تعمل بهدوء، محاولة نسيان كل معاناتها وآلامها التي عرفتها هناك في قرية (زمورة). حتى جاء اليوم الذي واتت فيه أحد الحركيين (رجال الحركة) فكرة شيطانية، وذلك بإرسال أمه الى (قرية بيرقسطلي) بهدف التجسس على مكان القرية، والحصول على بعض المعلومات التي قد تفيده. وكانت المرأة العجوز تعرف معظم سكان القرية، مما ساعدها على تنفيذ مهمتها إلى حد بعيد. ولم يكن من العسير عليها التسلل إلى وسط القرويين، واكتساب ثقتهم، والدخول بسهولة إلى قلب منازلهم. وفي إحدى الأمسيات، دخلت منزلا من المنازل بحجة زيارة أصحابه، ولفت انتباهها وجود فتاة حلوة كانت منصرفة لعملها في حياكة الصوف. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها بصرها على هذه الفتاة، مما أثار اهتمامها. فرسمت المرأة العجوز ابتسامة ماكرة على شفتيها، واقتربت من الفتاة، ثم جلست إلى جانبها. ولم تجد صعوبة كبرى في اكتساب ثقة الفتاة الحلوة، ذات النظرة البريئة والنفس الصافية. وباحت (عقيلة) بسرها.

سار الملازم (سكار بانكي) على رأس مجموعة من رجاله في اتجاه قرية (بيرقسطلي) بعد أن أعلمتهم المرأة العجوز عن البيت الذي تسكنه (عقيلة). وعندما وصلت هذه القوة إلى القرية، قامت بتطويق المنزل وإحكام الحصار حوله. ثم باتوا ينتظرون وأصابعهم على زناد السلاح، وهم ينتظرون أمر الهجوم من الملازم (سكار بانكي). وكان هذا يريد اصطياد عصفورين بحجر واحد. وكان يعرف بأن الملازم (سي الأخضر) سيأتي في ليلة من الليالي لرؤية

ص: 72

زوجته حتى يصطحبها معه. ولهذا فقد انتظر (سكار بانكي) ظهور (سي الأخضر) حتى يقتله مع زوجته. وليحقق الأمل الذي طالما داعب مخيلته منذ أن اختطفت (عقيلة) من قرية (زمورة).

مضت الليلة الأولى، ولم يظهر (سي الأخضر). وفي الليلة التالية، وصل ممتطيا صهوة جواده، ومعه بعض فرسانه، ودخل المنزل. وبوغت فرسان (سي الأخضر) بالهجوم عليهم، فلم يتمكنوا من استخدام أسلحتهم، وسقطوا شهداء على الفور. وشرع رجال (الملازم سكار بانكي) بتوجيه نيرانهم إلى المنزل الذي دخله (سي الأخضر). وأمسك الرجل وزوجته سلاحهما بشجاعة، ووجها نيرانهما إلى الأعداء، فقتلا بعض الجنود الإفرنسيين. غير أن المعركة لم تستمر طويلا فلم تمض أكثر من ثوان قليلة حتى صمتت الأسلحة. وخيم السكون. ثم استؤنف إطلاق النار بكثافة عالية، وتهدمت جنبات المنزل. وعاد الهدوء من جديد وعندما تبدد الدخان والغبار الخانقين، تقدم رجال (سكار بانكي) بخطى مترددة وجلة وأصابعهم ترتجف على الزناد. وعندما وصلوا إلى عتبة المنزل، دفعوا الباب بأخمص السلاح. واقتحموا المنزل، فوجدوا (سي الأخضر) و (عقيلة) وهما قتيلين وسط بركتين متجاورتين من

الدماء، وهما ممسكين بسلاحيهما اللذين أفسدهما كثرة ما أصابهما من الرصاص. وعرف فيما بعد أن (عقيلة) كانت حاملا في أسبوعها الثالث.

اجتاحت الجزائر في يوم 5 جويليه - تموز - 1967 موجة من البهجة والفرح. فقد تفتحت كل الأمال، وكل الأحلام التي طالما أحبطت خلال سنوات عديدة، وارتفع العلم الجزائري أخيرا، في

ص: 73

هذا اليوم المشرق ليرفرف عاليا فوق أبنية العاصمة كلها، وفوق كل مدن الجزائر، إنه علم انتصارات الشهداء الأبرار. إن الجزائر تعيش عيدها، لقد حصلت أخيرا على استقلالها.

أخذ الاحتفال بالعيد في قرية (زمورة) طابعا مثيرا من الفرح والسعادة. وكان لا بد أيضا من التفكير بأولئك الذين كانت تضحياتهم هي التي مهدت لظهور فجر هذا اليوم. فقرر الفلاحون أن ينقلوا إلى قريتهم رفات أبنائهم، ولم يتأخروا عن تنفيذ فكرتهم. وكان بين العظام التي ضمها الكفن الأبيض عظام (سي الأخضر) وزوجته (عقيلة) لقد كان الحديث على كل شفة يتردد بذكر قصة الزوجين، وشجاعتهما وميتتهما البطولية. ولم يتعب الناس أو يشعروا بالملل من ترديد القصة، وتناقلها، والإشارة في كل مرة إلى (عقيلة) الفتاة الحلوة والزوجة الأمينة التي كانت أول امرأة في القرية انضمت إلى الثوار وهي تحمل السلاح.

كان حفل التأبين الجنائزي مؤثرا وعظيما بقدر ما كان بسيطا. وقد أقيم في داخل الثكنة الكبرى التي ظلت حتى الأمس رمزا للقهر والظلم. وشاركت في الحفل كل بيوت القرية التي عملت على طهو الطبق الشعبي (الكسكس) مع تقديم الحليب واللبن الرائب - العيران -. لقد قام أهل كل منزل في تقديم الطعام تعبيرا عن مشاركتهم بهذا الحدث. وفي الحفل، كان الجو غريبا، اختلطت فيه المشاعر بطريقة تعجز الكلمات عن وصفها، لقد وصلت مشاعر الفرحة بالحرية والاستقلال حتى ذروتها، غير أنها فرحة اقترنت بالحزن العميق لغياب أشخاص أحبهم الجميع، وافتقد الجميع.

ودخلت اسطورة البطولة للزوجين الشجاعين في حكايات

ص: 74

الأطفال، الذين كانوا ينشدون قصة حياة (عقيلة) وزوجها (سي الأخضر) في أغنية، تقول لازمتها:

عقيلة يا عقيلة

يا من لوجناتك جمال الورد

سيأتيك سي أحمد الأخضر

ليحملك معه على حصانه

أنتم أحق مني بهذا الطعام

ص: 75