المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ زغاريد النساء (اليويو) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٣

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول

- ‌ المرأة الجزائريةعلى مخططات الاستعمار

- ‌ المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور)

- ‌ لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية

- ‌ زغاريد النساء (اليويو)

- ‌ رسالة من مجاهدة

- ‌الفصل الثاني

- ‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

- ‌ من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان)

- ‌ نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال)

- ‌ أم الشهيد

- ‌ مجاهدة وأم شهيد

- ‌ جميلة بو حيرد

- ‌الفصل الثالث

- ‌ معاناة الإرهاب

- ‌ أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار)

- ‌ مدارس تعليم أساليب التعذيب

- ‌ معسكرات الانتقاء والترحيل

- ‌ معسكرات التجميع

- ‌ الأسرى والجرحى

- ‌ ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية

- ‌الملحق (أ)شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية

- ‌الملحق (ب)قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة

- ‌الملحق (ج)خطاب من الأستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي

- ‌الملحق (د)الجنرال (دو بولارديير) يستقيل من قيادته

- ‌ الكلمة الأخيرة

- ‌قراءات

- ‌(1)من منهج الصومام في موضوع الحركة النسائية

- ‌(2)من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ زغاريد النساء (اليويو)

4 -

‌ زغاريد النساء (اليويو)

نحن بنات تبع وحمير

وضربنا في القوم ليس ينكر

لأننا في الحرب نار تسعر

اليوم تسقون العذاب الأكبر

ذلك هو نموذج من رجز الحرب، أطلقته المجاهدات في سبيل الله يوم فتح الشام. وكانت خولة بنت الأزور، وعفرة بنت غفار، وأم إبان بنت عتبة، وسلمة بنت النعمان تتقدمن جموع النساء وهن تحملن أعمدة الخيام لقتال الروم. وتشتد المعركة في اليرموك، وتقف مجموعة من النساء خلف المجاهدين، وهن تستثرن الحماسة بما ترتجزنه من الشعر، وما تطلقنه من الزغاريد:

أين أين عز الإسلام والأمهات والأزواج.

قبح الله رجلا يفر عن حيلته، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته.

والله لستم بعولتنا إن لم تمنعونا.

يا هاربا عن نسوة ثنيات

فعن قليل ما ترى سبات

ويبقى الرجز، وتبقى صيحات النسوة، من الظواهر المميزة لحروب الإسلام والمسلمين، حيث وقفت المرأة إلى جانب الرجل، تشاركه أمجاد انتصاراته وتشاطره مرارة هزائمه وانتكاساته ويغمض التاريخ عينه في إغفاءة، ليستيقظ على رؤية الصورة ذاتها،

ص: 46

ولكن مع بعض التطور. لقد بقيت المرأة الجزائرية صامدة صابرة على البلاء، مقتدية بسيرة خولة وهند وسلمة في الحروب والمعارك، غير أن طبيعة المعركة تغيرت وأسلوبها تبدل وسلاحها تطور. وكذلك تطور (أسلوب الرجز في الحرب). فحلت الزغاريد - اليويو - وكان الرجز التقليدي. وكانت هذه الزغاريد - سلاحا حير الاستعماريين وأرهب جنودهم. ولم تفت صحيفة (لوموند الفرنسية) الإشارة إلى غيظ جند الاستعمار وعجزهم أمام صرخات (اليويو) الداوية تطلقها (فاطمات هستيريات).

إنها لظاهرة مذهلة! كيف يمكن للتغريد الشعبي - الفولكلوري - في حناجر المسلمات الجزائريات أن يحطم أعصاب المرتزقة محترفي القتل، ويشعل نار الغضب وكراهية المرأة في قلوب الضباط المتخرجين من كلية الحرب (سان سير)؟.

كانت (اليويو) قبل الثورة صيحة فرح تطلقها المغربيات المسلمات في الحفلات التقليدية: في الخطبة والعرس والولادة والختان والعودة من الحج، الخ

ثم صارت الهتافات المعبرة عن الفرح نادرة في سنة 1955. ثم اختفت نهائيا من الحياة الاجتماعية الجزائرية باختفاء كل مظهر من مظاهر المرح واللهو اختفاء عفويا، تلقائيا، ابتداء من الغناء ومرورا بالرقص الشعبي ونهاية بالموسيقى وعزف الناي وقرع الطبول. ولم يكن ذلك بوحي من (سوق عكاظ جبهة التحرير الوطني). إن ما أوحى بالرقابة الذاتية هي الحشمة وحدها. هذا الشعور بالحياء الذي يمتزج في الإنسان بخوفه من احتقار نفسه إذا هو أظهر فرحه الأناني، والتعبير الصامت عن التحسس العميق بأحزان الأمة. لقد ابتلعت المآسي والأحزان كافة ظواهر الفرح.

ص: 47

إنه لتحول عجيب! إن عودة (اليويو) بذلك الشكل المباغت هي في حد ذاتها لعز غامض يثير التساؤل والدهشة لا سيما وأن هذه العودة ترافقت مع تصعيد الحرب الرهيبة. وهذه هي (الولولة) القديمة البريئة والهزيلة، والتي لم تكن تتجاوز حدود المنازل، قد تحولت بغتة إلى (صيحة حرب) تطلقها جوقة من النساء، جوقة لا يحصى عدد أفرادها، جوقة خفية، مثل زئير الهزة الأرضية، أو تفجر البركان من أعماق المدينة كلها.

إن (المثقفين الفرنسيين) بارعون ملاعين، لديهم خبرات كثيرة في شؤون العالم. فقد تعلموا جميع أنواع حيل الحرب في صراعهم مع شعب الهند الصينية (فييتنام). وكثيرا ما كان الفلاح الفييتنامي أو المرأة الفييتنامية يضللانهم ويحيرانهم. فكيف يتحسبون لما قد تبتكره (الفواطم المسلمات) من أساليب للعمل محض جزائرية، جديدة في مفهومها، جديدة في تطبيقها، جديدة حتى في بساطتها وديناميكيتها وفعاليتها؟

كيف يفسرون هذه القدرة (ولولة النساء أو زغاريدهن) على مسح عقدة الخوف، وإطلاق المجال لآلاف الثوار (الفلاقة) للعمل في (المدن المقموعة - المكبوتة). والتصدي لوسائل الفاشيين المرعبة، وإيقاف تظاهرات الاستعماريين؟

لقد أصبحت صيحات (اليويو) مصدر وحي للشعراء الناشئين في جزائر الثورة، إذ وجدوا فيها تعبيرا عن عبقرية الشعب الخلاقة المبدعة المجددة، فهل يمكن وضع تحديد أو تعريف لهذه الولاويل أو الزغاريد الوطنية؟

إنها المد المعروف، المألوف، لحرف واحد على أنغام عديدة يؤديه شخص واحد، ثم يشاركه عدة أشخاص ثم يتسع المد ويكبر

ص: 48

شيئا فشيئا ودون توفف. فكلما توقف أو انتهى فريق من إرسال النداء، تولى فريق آخر المهمة عنه ويرتدي (اليويو) مسحة من الرتابة، غير أنها رتابة زائفة، وغير حقيقة، فالصوت يتبدل بتبدل قوة الاصوات المختلفة وكثافتها وتنوعها. كما يحدث في جوقة مؤلفة من عشرين ألف مغنية. إنها فرقة (كورال) لا مثيل لها في العالم تنشد (اليويو) بطريقة مثيرة للأعصاب بقدر ما هي مؤثرة في النفس، تصل قوية فتهز أعماق الوجدان، وتخاطب العقل فتصفعه وتفقده الشعور والإحساس. و (اليويو) تحمل معان مختلفة، فهي في وقت واحد (صفارات الإنذار) و (أنين التأوهات الساحرة) و (زئير الغضب) و (تلاوة مقدسة)، ولقد مارست (اليويو) المعادية للاستعمار تأثيرا لا يقاوم. وكانت قادرة باستمرار على التقمص في البطولة الجماعية وقد أعجزت (اليويو) حتى خبراء (السكان الأصليين) عن فهمها. ووقف الرجعيون والصوفيون السياسيون في حيرة من تفسيرها: أهي نوع من الوباء؟ أم هي نوع من الذهول المعدي؟ أم هي نوبة من نوبات جمهور هادر؟ أم هي مس من فعل الشيطان؟

على أنه ليس ما هو أقرب من (اليويو) إلى العقل. وليس أكثر منها وعيا وهدوءا كوسيلة جديدة وفذة من وسائل العمل الجماعي. وتعبئة مجموع سكان (قصبة) ما، أو مدينة ما، و (اليويو) أيضا صرخات مشحونة بالمعاني المحددة المتنوعة بحسب الظروف. فقد تكون (كزقزقة العصافير) في الليل، إشارة إنذار تعلن قدوم دوريات الأعداء، أو (صرخة تحذير) من أجل تجنب خطر كمين أو تهديد صادر عن (منظمة الجيش السرية - الإفرنسية). وهي أيضا (نداء للمساعدة) أو (استنفار للمقاومة) ضد الاعتقالات. وهي فوق ذلك

ص: 49

كله (تقدير إجماعي لبطولة جيش التحرير الوطني ومآثر رجاله).

وحين يتظاهر الوطنيون فاتحين صدورهم لنار المظليين الوحشية وقنابل المتطرفين الجبناء المختبئين وراء الشرفات والمتاريس.

كانت (اليويو) تتصاعد من الجزائريات وهن على سطوح منازلهن أو في نوافذ غرفهن أو حتى وهن سائرات في الطرقات، فتكون صرخات تشجيع في بداية الأمر، ثم تتلاحق من غير توقف ولا انقطاع لتتحول في النهاية إلى نوع من الصلاة على الشهداء، تمجيدا لتضحية فتيان العشيرة الذين مضوا للقاء ربهم وقد نالوا (خير الحسنيين).

كانت هذه (اليويو) أقوى من الرصاص الذي عجز عن إسكاتها، فكانت تخترق آذان قاتلي الأطفال والنساء مجرمي الحروب الاستعمارية، فترهقهم وتعذبهم وتبقى كابوسا يطاردهم حتى في أوكارهم ومعسكراتهم. وكان (يويو) النصر بالنسبة لهؤلاء الذين (أكلوا خبز المساوىء) هو الرعب المسيطر في العاصفة. مع هذا الوسواس بأن هناك موسيقى قادرة على تدمير كل شيء.

موسيقى الثورة الجزائرية الأصيلة، والتي ترافقها تهاويل أحلام تتراقص فيها نيران هائلة. كما لو أن تفتح الجزائر الشعبي ليس إلا امتدادا لذلك الموج العربي - الإسلامي الذي أتعب الدنيا ولم يتعب، وهو ما شكل مصدر الرعب للاستعماريين. قبل الثورة وأثناءها وبعد انتصارها.

ص: 50