المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الكلمة الأخيرة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٣

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول

- ‌ المرأة الجزائريةعلى مخططات الاستعمار

- ‌ المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور)

- ‌ لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية

- ‌ زغاريد النساء (اليويو)

- ‌ رسالة من مجاهدة

- ‌الفصل الثاني

- ‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

- ‌ من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان)

- ‌ نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال)

- ‌ أم الشهيد

- ‌ مجاهدة وأم شهيد

- ‌ جميلة بو حيرد

- ‌الفصل الثالث

- ‌ معاناة الإرهاب

- ‌ أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار)

- ‌ مدارس تعليم أساليب التعذيب

- ‌ معسكرات الانتقاء والترحيل

- ‌ معسكرات التجميع

- ‌ الأسرى والجرحى

- ‌ ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية

- ‌الملحق (أ)شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية

- ‌الملحق (ب)قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة

- ‌الملحق (ج)خطاب من الأستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي

- ‌الملحق (د)الجنرال (دو بولارديير) يستقيل من قيادته

- ‌ الكلمة الأخيرة

- ‌قراءات

- ‌(1)من منهج الصومام في موضوع الحركة النسائية

- ‌(2)من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ الكلمة الأخيرة

8 -

‌ الكلمة الأخيرة

تثير الحروب بصورة عامة نوعا من التخلخل الاجتماعي، الذي بات معروفا لعلماء النفس والاجتماع، فالتأرجح بين الضغوط العالية والاسترخاء أو الهمود المنخفض، والعيش تحت ظروف التوتر الشديد، يترك في النفس عصابات قد تصل إلى حدود مرضية خطيرة في أحيان كثيرة يضاف إلى ذلك ويلات الحرب ومآسيها والقلق على المصير وفقد الأهل والأحباء ومعاناة الجوع والمرض، وأهوال التخريب والدمار والتشرد، كل ذلك مما يترك أشكالا مختلفة من الجنوح غير السوي. فكيف الأمر بالحروب الاستعمارية التي تتعاظم في أهوالها ومصائبها على كل أشكال الحروب التقليدية؟ ثم كيف الأمر بالنسبة للاستعمار الفرنسي بالذات، والاستعمار الفرنسي للجزائر منه بصورة خاصة؟

لقد أظهرت الصفحات السابقة بعض ملامح (المأساة الجزائرية). وهي مأساة تبقى على الرغم من كل ما كتب عنها، وعلى الرغم من كل ما أمكن معرفته عنها، غامضة في كثير من جوانبها. وهنا، لا بد من القول على ضوء ما سبق عرضه - بأنه إذا ما كان من شأن الحرب، وكل حرب، إثارة اضطراب في تكوين

ص: 210

المجتمع وبنائه، فإن الاستعمار الفرنسي قد زاد من عمق المأساة بتعمده إحداث هذا الاضطراب، فانتهاك المحرمات، وإشاعة الفواحش، وتعهير المحصات، ونقل كل مساوىء الحضارة الغربية وتعميمها، كل ذلك قد تم في إطار محكم من التخطيط والتنفيذ. وترك ذلك كله بصمات عميقة على المجتمع الجزائري. وقد يكفي التوقف لحظة لتأمل الوجوه عند (نهح المصارف) أو في المجمعات عند بداية الطريق (للقصبة) حتى يصطدم الإنسان بكل معالم البؤس التي بقيت واضحة بعد ربع قرن من زوال الاستعمار الإفرنسي.

قد يكون من الطبيعي، ومن المتوقع، ظهور انحرافات مرضية تبتعد بالشعب عن أصالته، ولا بد من فترة زمنية حتى يستعيد المجتمع توازنه المفقود. غير أن إعادة التوازن تتطلب عملا مخلصا دؤوبا، وجهدا واعيا مستمرا. وتتزايد صعوبة إعادة التوازن - بدهيا - بتأثير عاملين:

أولهما وأخطرهما: استمرار الدور التخريبي الاستعماري - من خلال الاستطالات المرضية للاستعمار ورواسبه، ومن خلال استمرار التحريض الخارجي.

ثانيهما: ظهور الصراع بين الأجيال، الجيل التقليدي المحافظ والجيل الصاعد المتمرد. وصورة العاملين واضحة في رد (الاستاذ أحمد طالب الإبراهيمي) على رسالة فتاة وصلته وهو في سجنه في (فرين) بعد أربع سنوات ونيف من الاعتقال. واذا كات رسالة الفتاة لم تطالعنا، فإن الرد عليها كافيا لايضاح مضمونها (1).

(1) رسائل من السجن (أحمد طالب الإبراهيمي) تعريب: الصادق مازيغ - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر - 1973 ص 197 - 199.

ص: 211

وقد كان الرد هو التالي:

الى مناضلة جزائرية،

فرين، 27 جويلية 1961،

أختي العزيزة ح

إن حالة الأرق، وهي الأليفة الوفية لي، تهيب بي أن أكاتبك، وأن أقول لك أنني انشرحت لقراءة رسالتك.

وإنه ليبهجني أن قد حظيت بلقيا ذويك (وخاصة والدتك) بعد طول البعاد. ويقيني أن عودتك هذه إلى أحضان الأسرة ستروح عنك، مهما كان من الصدمات الحاصلة بموجبها.

وقد أشرت إلى مدى الهوة بينك وبين أسرتك، وهو أمر لا محيد عنه، فإنك لتعلمين حق العلم انتسابك إلى ذلك الجيل الانتقالي الذي كثيرا ما فرض عليه الصمود في واجهتين .. ولعمري إن النزاع لمعقد كل التعقيد: ذلك أن جيل والدك قد اضطلع بكفاح جدير بإعجابنا للحفاظ على شخصيتنا القومية، وهو الكفاح الذي ما كان يتسنى بدونه تصور اندلاع الثورة، ولا إبرازها إلى الوجود. وباعتبار الظروف التاريخية السائدة آنذاك، اتخذ الكفاح في جوهره شكلا دفاعيا. وأمعن فوق ما يجب في تقديس ما هو في حد ذاته شيء رمزي، أي شكلي صرف. وإن أبناء ذاك الجيل لمصيبون في تنبيههم الشبان إلى الأخطار المهددة لهم من جراء مسخ الشخصية وطمس معالمها. على أنهم يعمدون إلى ذلك في غير ما لباقة، ولربما في أسلوب شرس. ولا غرو، فإن موقفهم ذلك لينم في الوقت نفسه عن حنقهم وغيظهم لعدم المساهمة في (حركة التحرير). وعن شبه الشعور بالخيبة والإفلاس: فهم يدركون ما كان من عجزهم عن تلقين

ص: 212

أبنائهم هذه الحقيقة، وهي أن تفتحنا للعالم المعاصر لنا لن يكون ذا جدوى، ولن يكون مأمون العقبى إلا على شرط أن نبقى أوفياء للصميم، والخلاصة من ذاتيتنا.

وإذا ما سلمنا بهذا أصبح من الضروري القيام بتنازلات من الطرفين، بغية التقريب من مسافة الخلف بينهما. ولقد أحسنت صنعا من جانبك إذ قبلتها، ولن تندمي على موقفك هذا، فلسوف تعلمين يوما أن لا شيء يضارع حب الوالدين في نفاسته وعلو قدره. فهو الحب الوحيد البالغ صلابة الصخر.

وهذا هو نفس ما خاطبت به عشية اليوم صديقاتك الأربع، حيث أسعفني الحظ بالتعرف عليهن، وأتيح لي من خلال التحادث معهن أن أقدر من جهة مبلغ الشوط الذي قطعته امرأتنا، وأن أدرك من جهة أخرى وإلى أقصى حد أن لقب (الجيل الانتقالي) إنما هو مجاز خلاب لتغطية مفهوم (الجيل المضحى به) وقد تعرضت في رسالتك، بلهجة التأثر لمباهج حياة الأكواخ، وما حفها من الدعة والاطمئنان. وكم بودي أن لا يخمد على الدهر في قلب كل مناضل ومناضلة، ذلك التوق إلى الكوخ. وذلك التشوق الحالم إلى السعادة. مهما كان من عدم تحققها في واقع الأمر. ولا غرو، فالثورات ليست بمنجاة عن تجريد البشر من إنسانيتهم، فلربما خلقت أمساخا مشوهة، ونماذج آلية صرفة، فتعين إذن مواصلة الكفاح تفاديا للتحجر الذاتي.

إلى هنا وتنتهي رسالة الأستاذ (أحمد طالب الإبراهيمي). وهي في الواقع رسالة لا تطرح مشكلة (المرأة) في فجر استقلال، وإنما تطرح مشكلة اجتماعية - سياسية تأخذ أبعادها في

ص: 213

حينها وتطل منها على أفق المستقبل.

عند هذه الرسالة تظهر مشكلة (العالم العربي - الإسلامي) كله.

الذاتية. مشكلة الحافظة على قواعد الصمود في عصر تتعاظم التحديات ضد الدول (حديثة العهد بالاستقلال) وفي طليعتها بدهيا دول العالم العربي - الإسلامي، وهي المتميزة - بصورة خاصة - بإرث حضاري متقدم، وأصالة ذاتية عريقة وأصيلة حفظها لها الإسلام.

لم تحمل مجاهدة الأوراس السلاح، ولم تفتح فتاة وهران والجزائر صدرها للنار، حتى تأتي صورتها مشوهة في أعمال (لوكور بوزييه) كنموذج لا يمت إلى فتاة الجزائر الطاهرة بصلة قرابة على الإطلاق (1) فأين صورة المجاهدة، ترتدي عباءتها (برنسها) وتحمل السلاح تخفيه في طيات ثيابها من هذه الصورة العارية البشعة. وليست هذه على كل حال هي الصورة الوحيدة التي تصدم المسلم المجاهد، والمسلمة المؤمنة التقية الورعة.

في نشرة (المرأة الجزائرية (2)) صورة لعرض فتيات كتب تحتها (العمل على انجاح الاختيار الاشتراكي للبلد). لو تأمل الإنسان الصورة، بالصدور البارزة،

(1) في مجلة تاريخ وحضارة المغرب (كلية الآداب - الجزائر) يناير 1968 - العدد 4 = 4 تحقيق عن (لوكور بوزييه: LE CORBUSIERS عن نساء الجزائر ص 50 - 66. وبه صور فاضحة - على طريقة (بيكاسو). ولو صدرت هذه الدراسة في عهد الاستعمار لأحدثت ثورة.

(2)

المرأة الجزائرية - وزارة الإعلام والثقافة - الجزائر - 1976 ص 58 - 59.

ص: 214

والسيقان العارية لأنكر أن يكون لهذا الجيل علاقة (بفاطمة) و (عائشة) و (جميلة) و (مليكة) وأخواتهن من عشرات آلاف المجاهدات.

عند هذه النقطة تبرز مجموعة من الأسئلة، ومرة أخرى، فالمشكلة ليست مشكلة خاصة (بالجزائرية) ولو أن (النموذج الجزائري) يبرز التناقض الحاد للمشكلة.

- ترى هل انتصر العربي - المسلم على العدو الخارجي، ليهزم من داخله؟.

- وهل انتصرت المرأة العربية المسلمة على كافة التحديات طوال أربعة عشر قرنا لتهزم خلال جيل واحد؟.

إن ذلك يبرز قوة المحرض الخارجي من جهة، واستمرار عمله من جهة ثانية.

مثال ذلك: لم تهزم الجيوش العربية - عسكريا - في الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة (1973) غير أن عدم هزيمتها خارجيا تحول إلى هزيمة داخلية، والمشكلة معروفة.

مثال آخر: نحتفل بذكريات الشهداء - وفاء لأرواحهم الطاهرة - ونرقص على أجداثهم ونهرق الخمور أيضا

تلك هي مأساة العالم العربي - الإسلامي. وهي سبب التفجرات الذي تطفح على سطحه باستمرار. إنها البراكين الثائرة الذي تجثم فوقها قوى هائلة لتمنعها من الانعتاق. عودة إلى (مشكلة المرأة الجزائرية).

لقد ظهرت هذه المشكلة، وجيل الثورة، الأمين على تراثها، لا زال ممسكا بالسلطة والحكم، فكيف سينتهي الأمر بعد جيل من

ص: 215

الزمن؟ وهل ستصبح الثورة مجرد ذكريات في متحف (المجاهدين) لا يلتفت إليها أحد، ولا يتوقف عندها إنسان.

إذن فستدفن قيم الثورة أيضا وعندها يقال {وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت} .

هنا تظهر الحاجة لإعادة تقويم (أساليب التعليم والتربية) و (ازدواجية التعليم).

إن المرأة التي تحدت (لاكوست) يوم حاول إرغامها على رفع الحجاب: قد تعرت طواعية بحكم تقليد الضعيف للقوي.

ولكن:

هل يمنع الاحتشام المرأة من الحرية، حرية التعلم ، وحرية العمل.

المسؤولية عامة ومشتركة، وإعادة التقويم، والنقد الذاتي، كافيان حتى يضطلع كل بمسؤوليته لحل هذه المشكلة.

لقد ناضلت الفتاة لرفع الحجاب، وآن لها بعد إعادة التوازن للمجتمع، أن تجاهد للعودة إلى آداب اللباس.

وكم هو رائع، للطبيبة المسلمه في عيادتها، والمهندمة المسلمة في مكتبها، والمعلمة المدرسة في محراب العلم المقدس، والموظفة في عملها. وكل واحدة تمارس دورها وهي في زيها الإسلامي - المتحجب، المحتشم.

ليست موعظة، وما أكره الموعظة على النفس.

إنما هي وفاء لأرواح الشهيدات، ودعما لقواعد الصمود، ومحافظة على الأصالة الذاتية.

وليست القضية قضية تقليد، أو عادات، إنها قضية ترتبط بجوهر الدين، فالقضية أعمق من أن تكون قضية شكل، وإنما هي

ص: 216

قضية مضمون (مضمون المرأة المسلمة).

انتهت الحرب، ولا زالت الحرب مستمرة.

والشواهد كثيرة، يعرفها كل إنسان بحكم ممارسته.

إن (المجاهدة الجزائرية) التي انتصرت على ذاتها، وانتصرت على غيرها، مدعوة اليوم، وأكثر من أي يوم مضى. لإبراز المضمون الحقيقي (للمجاهدة العربية المسلمة) وعندئذ (ستشرق الشمس من الغرب).

ص: 217