المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مجاهدة وأم شهيد - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٣

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول

- ‌ المرأة الجزائريةعلى مخططات الاستعمار

- ‌ المرأة الجزائرية (أصالة عميقة الجذور)

- ‌ لوحة شعبية للمجاهدة الجزائرية

- ‌ زغاريد النساء (اليويو)

- ‌ رسالة من مجاهدة

- ‌الفصل الثاني

- ‌ قصة (عقلية) وزوجها (الملازم سي الأخضر)

- ‌ من سلف الذكريات مع (فضيلة سعدان)

- ‌ نساء جزائريات في (معسكر الاعتقال)

- ‌ أم الشهيد

- ‌ مجاهدة وأم شهيد

- ‌ جميلة بو حيرد

- ‌الفصل الثالث

- ‌ معاناة الإرهاب

- ‌ أكثر وحشية من النازيين والمغول (التتار)

- ‌ مدارس تعليم أساليب التعذيب

- ‌ معسكرات الانتقاء والترحيل

- ‌ معسكرات التجميع

- ‌ الأسرى والجرحى

- ‌ ملحقات ضد الاستعمار وأساليبه الهمجية

- ‌الملحق (أ)شخصيات فرنسية ضد الهمجية الاستعمارية

- ‌الملحق (ب)قرار عن الجزائر في اجتماع الكرادلة وكبار الأساقفة

- ‌الملحق (ج)خطاب من الأستاذ رينيه إلى وزير التربية الوطنية الفرنسي

- ‌الملحق (د)الجنرال (دو بولارديير) يستقيل من قيادته

- ‌ الكلمة الأخيرة

- ‌قراءات

- ‌(1)من منهج الصومام في موضوع الحركة النسائية

- ‌(2)من توصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية لتحرير المرأة

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ مجاهدة وأم شهيد

5 -

‌ مجاهدة وأم شهيد

تلك هي قصة أخرى لامرأة مجاهدة، وما أكثر المجاهدات، وهي أم لشهيد، وما أكثر أمهات الشهداء. وقد كان موطن هذه الإمرأة المجاهدة وأم الشهيد في (بني جناد) إحدى ضواحي القبائل الكبرى. وعرف عنها إيمانها العميق، وصبرها على مشاق الحياة وبؤسها، وإخلاصها غير المحدود لوطنها، واعتزازها بالفضائل الأخلاقية التي تحلت بها المرأة المسلمة.

لقد مات زوجها وهي صبية، لما تتجاوز العقد الثالث من عمرها، وترك لها ابنا صغيرا، وقليلا من المال لا يكاد يكفيها لتأمين متطلبات حياتها البسيطة. واحتملت كل ألوان البؤس والحرمان حتى تقدم لابنها ما هو ضروري لنموه وتربيته على فضائل قومها. ولم يكن لها ما يؤنس وحشتها، ويبدد شقاءها، إلا تعلقها بأمل نشوء ابنها نشأة صالحة، يحظى بها برعاية الله وعنايته، حتى يكون لها عونا طالما بقيت على قيد الحياة. ومضت ثلاثة وعشرون سنة من عمر الابن، وأصبح شابا صلب العود، وتحقق أمل الأم، فكان ابنا فاضلا، مسلما مؤمنا على خلق رفيع، أحبه أهل قريته، وأخذوا يضربون به المثل، ويتخذونه قدوة يحفزون أبناءهم على تقليده

ص: 130

والسير على نهجه وخطاه. وكانت وطنيته الصادقة أبرز صفة امتاز بها عن أقرانه. ولم يكن ذلك غريبا عليه، فقد بقيت أمه هي قدوته في حب الوطن، وهي مثله الأعلى في التضحية والفداء. وكان نشاطها الدائم وحيويتها المتدفقة موجهة كلها لوطنها ولابنها، واستطاعت بذلك، وبفضل ما تتمع به من سمعة طيبة، أن تؤثر تأثيرا عميقا فيمن حولها من النساء، حتى تحولن كلهن إلى مجاهدات، عندما دقت ساعة الجهاد، ولقد عرفت السلطات الاستعمارية قوة هذه العقبة في التأثير على مخططاتها الاستعمارية. وكانت ذكرى (لالا عائشة) وأمثالها من المجاهدات عالقة في أذهان هؤلاء الاستعماريين، فمضوا الى اضطهاد الأم وابنها معا، وطالما تجرعت الأم وابنها بنتيجة ذلك مرارة الظلم الاستعماري، من إهانة وضرب وحرمان من كل ضرورات الحياة، وسجن الابن مرات عديدة، غير أن ذلك لم يزدهما إلا إيمانا بحقهما في العيش الكريم على أرض الأجداد، ولم يزدهما إلا نفورا من الاستعماري وغضبا على أساليبه في التنكيل والتعذيب. ولما بلغت الحياة درجة لا تطاق، وبات من المحال على الابن ان يتحرك لكسب عيشه وسدت كل السبل في وجهه، قرر السفر إلى فرنسا، ليبتعد عن مراقبة الطغاة الوحشية في بلده، وليضع في زحام المدينة الصاخبة (باريس).

انصرف الشاب (محمد) إلى العمل في أحد معامل العاصمة الفرنسية، ونقل معه جذوة الثورة المتقدة ليشعلها في قلوب العمال الجزائريين من إخوانه الذين ضاقت بهم الدنيا في بلادهم، مثله، فجاؤوا يبحثون عن الحياة في بلاد أعدائهم. واستمر في عمله الشاق مدة عامين، يقتطع من قوت يومه ليرسل إلى أمه ما يتوافر له من

ص: 131

المال. وشهدت حياة الأم بعض التحسن، فقد بات باستطاعتها امتلاك قطيع صغير من الأغنام وشراء قطعة أرض صغيرة بها بعض أشجار الزيتون. غير أن هذا التحسن لم يصرفها عن متابعة التحريض على أعدائها، وأعداء قومها، الذين هم سبب كل شقاء ينزل بالقبيل، وبالجزائر كلها. لقد حددت بفطرتها، وبمعاناتها، أصدقاء بلدها وأعداءه، ومضت تبشر بالخلاص عندما يتم القضاء على الاستعمار وأذنابه ومرتزقته من أبناء بلدها.

كانت على موعد مع الثورة، وما أن انفجرت شرارتها في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954، حتى مضت الأم حاملة لشعلتها، مبشرة بانتصارها .......... وفي تلك الفترة من بداية الثورة سيطر الهلع على قلوب النساء والأطفال وهم يرون الخونة وقد أقبلوا بنذالة ووحشية، ليقتصوا من الضعفاء المحرومين من كل وسائل الدفاع. فكانت (الأم) تقف معهم، وتنفخ روح الشجاعة فيهم، وتبعث الإيمان في قلوبهم. وكان لا بد لها من احتمال كل أنواع الأذى بسبب مواقفها الباسلة وعرف المجاهدون فيها شجاعتها العالية، وهمتها النادرة وهي تقترب من عمر الشيخوخة، فكانوا يلجؤون إليها كلما أرادوا القيام بعملية في ناحيتها، وينزلون ضيوفا عليها، فتكرم وفادتهم، وتؤمن لهم احتياجاتهم، وتنفذ لهم كل ما يطلبون بإخلاص وإنكار للذات لا حدود لهما، ليس ذلك فحسب، بل كثيرا ما كانت تثير فيهم الحماسة وهي تنشدهم الأزجال باللغة القبائلية، تتغنى فيها ببطولات جيش التحرير الوطني، ومجاهديه الغر الميامين. كانت تفعل ذلك كله ببساطتها الريفية، حتى إذا ما حاول أحدهم امتداح صنيعها، أسكتته بسرعة وقالت إنها لن تكون جديرة بالمدح إلا إذا التحق ابنها في صفوف المجاهدين. وكان

ص: 132

هناك هاجسا يناديها باستمرار من أعماق نفسها، بأن تستدعي ولدها للالتحاق بالثورة. واستجابت لنداء ضميرها، فكتبت رسالة الى ولدها الوحيد، تحرضه على العودة، وتؤكد له أن الموت في سبيل الوطن هو الحياة الخالدة التي لا نهاية لها. وأن الإحجام عن هذا الواجب المقدس هو خيانة لا تعادلها خيانة وأنها - هي - لا تشعر بأنها أدت واجبها في الحياة، إلا إذا أمكن لها أن تضحي بنفسها وبولدها، أعز من في الدنيا عليها، من أجل الله والوطن.

وتصل الرسالة إلى (العامل محمد) فسرعان ما يتأثر بمضمونها ويستجيب لدعوتها، لقد كان في الحقيقة يعاني صراعا بين البقاء في فرنسا من أجل إعانة والدته، وبين العودة للعمل في ميادين الجهاد. فجاءت الرسالة لتحسم الصراع، ولتنهي المعاناة، وما هي إلا أيام حتى يكون (العامل محمد) قد وصل الى قريته، واستقر الى جوار والدته وكان في نيته أن يمضي أياما قليلة إلى جانبها، يعوض بها بعض ما انتابه من الشوق إليها، بعد غيابه الطويل عنها. ولكن، وفي اليوم الرابع لوصوله، جلست إليه. تحفزه على المضي لما جاء من أجله، وتزوده بنصائحها وتوجيهاتها. ويقف الابن، وتقف الأم تودعه، وتبتهل الله له النصر، وتواعده على لقاء، إما في البيت وقد تحرر الوطن، وإما في الجنة، وقد رضي الله عنه وعنها.

أصبحت قصة (العامل محمد) وأمه، أغنية حلوة على لسان أهل القرية، يرددونها باعتزاز فتثير حماسة الجميع، الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال. ويلتقط أحد الخونة أطراف القصة، وينقلها - بأمانة وصدق - للسلطات الإفرنسية، وتحركت هذه على الفور، فأرسلت فرقة من الجند وقد شحن أفرادها حقدا أسودا

ص: 133

وكراهية قاتمة، فمضوا لاسجواب الأم، واستخدموا أبشع أساليبهم في العنف والإرهاب. غير أن الأم التي عرفت كل هذه الأساليب، أسلمت أمرها لربها؛ واحتملت كل ما تعرضت له من القسوة بصبر لا حدود له، وإيمان لا يتزعزع. وزاد ذلك من حقد رجال الاستعمار، فمضوا إلى التنكيل بها بوسائل أخرى، إذ عملوا على سلب ممتلكاتها، وإحراق أثاث بيتها البسيط تحت بصرها، وقطع شجرات الزيتون التي تخصها، وصادروا لها بعض أغنامها، وانتزعوا منها حليها، حتى لم يبق لها إلا سوارين أهدتهما فيما بعد لأحد المجاهدين، وعلم الابن بما صنعه الاستعماريون مع والدته، فمضى إليها مواسيا، ومعه قائده في قوات جيش التحرير. ولشد ما كانت دهشة الابن وأخوه في السلاح كبيرة وهما يجدان (الأم) أكثر حزما، وأشد عنادا، وأكبر تصميما، على متابعة طريق الجهاد.

وقع اشتباك عنيف في ناحية (أزفون) وذلك في يوم من أيام مارس - أذار - 1956. واشترك في القتال عشرة من المجاهدين فقط ضد عدد كبير من القوات الإفرنسية، واستمرت المعركة من الساعة الثامنة صباحا، حتى الثالثة من بعد الظهر، وأسفرت عن قتل عدد كبير من الأعداء الإفرنسيين، وإصابة عدد أكبر من الجرحى.

ومقابل ذلك، استشهد مجاهد واحد، وجرح أربعة آخرون كانت جراحهم خفيفة. ومضت ساعة واحدة فقط على انتهاء المعركة، عندما أقبلت ثلة من الجنود الإفرنسيين، يتقدمهم أحد الخونة من العملاء، واتجهوا جميعا الى القرية، لينقلوا إلى الأم خبر مصرع ابنها، إرواء لحقدهم، وشماتة بالأم الثكلى. وبوغتت الأم، غير أنها تحاملت على نفسها لتقول لهذا الخائن الذي نقل لها الخبر على

ص: 134

لسان سادته: (إنني أعلم ما تنطوي عليه نفوسكم أيها الخونة من الشر، لقد أسرعتم إلي بنبأ استشهاده، وكان حريا بكم أن تسرعوا إلي بنبأ وصوله من فرنسا يوم عودته. ولكن أنى لكم ذلك، وقد ماتت نخوتكم، وفسدت فطرتكم. رحم الله ولدي محمد، فقد صعدت روحه إلى بارئها طاهرة مطهرة). وشعرت بالحاجة إلى البكاء، غير أنها تجلدت حتى لا تظهر تضعضعها أمام الخطب، فدخك بيتها، وأوصدت الباب دونها، واختلت مع حزنها، وفي الوقت ذاته، مضى الخائن وقد ضاق صدره لما سمع، لقد وقفت امرأة ثكلى لتلقنه درسا لا ينسى في الوطنية.

جاء الجنود الافرنسيون في ساعة مبكرة من الغد، وهم يحملون جثة الشهيد التي مزقها الرصاص - وعفرها تراب المعركة، وطرحوها في ساحة القرية، حيث احتشد خلق كثير من الرجال والنساء، بأمر السلطة. وأقبلت الأم، حتى إذا ما وقع نظرها على جثة وحيدها وهو على مثل تلك الصورة التي تمزق أقسى القلوب، أجهشت بالبكاء، ثم عادت، بسرعة، وأظهرت تجلدها، وتقدمت إلى ابنها الشهيد تنعيه بصوت تخنقه العبرات:(في سبيل الله والوطن مت أيها العزيز، ومثلك حي خالد أبدا، ومثلي جديرة أن تفخر باستشهادك). ثم تراجعت قليلا، وتقدم إليها الخائن مترجما لما يقوله الضابط الإفرنسي (يظهر أنك نسيت إلحاحك عليه وهو بباريس حتى يلتحق بالعصاة - الفلاقة - في الجبال، ويجب أن تكون فلاقة شجاعة، وصبرا أليس كذلك ايتها المغرورة؟).

سمعت ذلك وقالت: (انظر، أتظن أنني أبكي استشهاده؟ كلا، إنما أبكي لأنني لا أملك غيره، يخلفه فى الجهاد، ويؤتى به يوما كما أتي بأخيه هذا!).

ص: 135