الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
مدارس تعليم أساليب التعذيب
أنشأت القيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر مدارس لتعليم أساليب التعذيب. وما لم يكن في البداية سوى ارتجال دموي، أصبح شيئا فشيئا منظمة لها ملاكاتها (كادراتها) وأساتذتها ومنفذوها، ويمكن القول: أن لها قوانينها أيضا. وهي تحمل اسما سريا يعرف بأحرفه الأولى (د. او. ب) وتمارس نشاطها في الجزائر - كالغستابو النازي ولكن بوحشية أكبر. ولهذه المنظمة تقاليدها وفروع اختصاصها ومخابرها ومعسكراتها. ويمكن الإشارة هنا إلى ما صرح به أحد الرهبان الذي خدم في الجزائر برتبة ضابط من صيف 1958 لغاية صيف 1959. وذلك عند الإدلاء بشهادته إلى (دار الشهادة المسيحية) حيث ذكر ما يلي:
(كيف لا تقع المسؤولية على مجموعة الجهاز الرسمي، وهناك في مدرسة مثل (مدرسة سكيكدة) يقوم مركز التدريب على حرب التدمير. وكذلك في مدرسة معسكر (جان دارك) المزدحمة، حيث يشرحون لنا أثناء الدرس الدائر المعلومات المتعلقة بأساليب التعذيب الإنساني. وها هي بعض الملاحظات التي دونتها من دروس النقيب - الكابتن ل - خلال النصف الثاني من العام 1958. وكنا
أربعة ألوية، وقد أعطانا (النقيب ل) خمس نقاط دونتها بوضوح مع الاعتراضات والأجوبة:
1 -
يجب أن يكون التعذيب نظيفا.
2 -
ألا يجري على مرأى من الصغار.
3 -
ألا يجري على مرأى من الفجار.
4 -
أن يجري من قبل ضابط مسؤول.
5 -
أن يكون إنسانيا. بمعنى أن يتوقف بمجرد اعتراف المعتقل الذي يتم استجوابه. وعلى الأخص ألا يترك التعذيب آثارا بهذه الشروط، وبالنتيجة، لكم الحق باستخدام الماء والكهرياء (1) وأضافت الصحيفة التي نشرت التصريح:(يستفاد من المعلومات الواردة إلينا أن هذه الدروس في موضوع - التعذيب الإنساني - ما زالت تلقى في (معسكرات جان دارك) ويحضر عملية التعذيب طبيب عسكري ليبين ردود فعل المستجوب على الصعيد الفيزيولوجي. وقد أعلن مؤخرا عن نقل الدروس من مدرسة (سكيكدة) إلى (أرزيو) الواقعة إلى الجنوب من ولاية وهران) (2).
هذا التعذيب الذي أنشئت له مؤسسة خاصة، لم يلبث
(1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 18/ 12/ 1959.
(2)
نشرت صحيفة (لوموند) مجموعة تحقيقات عن التعذيب بشكل (مسلسل) من 10 - 21/ 12/ 1959. ويمكن الإشارة هنا إلى مجموعة الكتب التي صدرت في هذا الموضوع مثل (ضد أعمال التعذيب) لكاتبه (بيير هنري سيمون) وهو الكتاب الذي اعتمد على استجواب بعض من تعرضوا للتعذيب (بو معزة وفرنسيس وقبايلي وسوامي والقرح وسواهم) ونشرته (لجنة موريس أودن) وأثار ضجة كبيرة في الرأي العام الفرنسي والعالمي. وكذلك كتاب (حافط قرمان - المسالمة) وهو كتاب أسود عن الحرب الجزائرية في ستة أعوام، منشورات دار الشهادة المسيحية. وكذلك (عائدون من الجبهة يشهدون) و (المجندون يشهدون) الخ
…
المسؤولون الفرنسيون أن اعترفوا بوجوده في شيء من عدم الاكتراث واللامبالاة، فقد جاء في مقطع من التقرير السابع (لجمعية الصليب الأحمر الدولية) ما يلي:(أما عن التعذيب الواقع أثناء الاستجواب، فإن العقيد - الكولونيل - المسؤول في الدرك - الجندرمة - يعلل ذلك بأن مكافحة الإرهاب تجعل من الضروري اللجوء إلى بعض طرق الاستجواب التي تتيح وحدها الحفاظ على أرواح بشرية، ومنع وقوع اعتداءات جديدة. وهو يؤكد لنا مع ذلك أن هذه الأساليب مدخرة لبعض الحالات الخاصة على وجه الحصر، وأنها ليست عامة. وأنها لا تنفذ إلا على مسؤولية أحد الضباط)(1). وفي القضية المعروفة بقضية (يرادو) التي عذب أثناءها فريق من الجزائريين في مدينة (ليون) الفرنسية أكد الكاردينال (جيرلين) رئيس أساقفة إقليم (غول) وقوع التعذيب في فرنسا ذاتها.
لقد افترضت تعليمات (مدارس التعذيب) أن يكون التعذيب نظيفا، لا يترك آثارا، وأن يتوقف، بمجرد اعتراف المعتقل. ولكن الممارسة العملية أكدت أن (التعذيب لم يكن نظيفا أبدا). كما أن التعذيب لم يكن يتوقف إلا عندما تنتهي حياة المعتقل الخاضع للتحقيق، في معظم الأحيان، والشواهد أكثر من أن تحصى. ويذكر ضابط، سببا من أسباب الانحرافات الإجرامية في التعذيب، بقوله:
(1) صرح السيد (ماكس بتي بيير) يوم 18/ 6 / 1959 في رد على سؤال موجه إلى المجلس الاتحادي السويسري شأن تطوع المواطنين السويسريين في الفرقة الأجنبية الفرنسية بما يلي: (لا ريب أن أعمالا من القسوة قد اقترفت في الجزائر. الأمر الذي يجب أن يحمل السويسريين الذين تستميلهم الفرقة على التفكير
…
إنهم يعرضون أنفسهم لأعمال يستنكرها الضمير)
.
(رأيت ضباطا، لم يمر عليهم وقت حتى أصبحوا مهرة في فن التعذيب، من غير شفقة ولا رحمة. رأيت ضباطا مارسوا التعذيب، ولكثرة احترافهم له أصبحوا اختصاصيين فيه. وبعضهم سبق له أن مارس هذه المهنة، وأصبح يتلذذ فيها، كهذا الضابط الذي سبق له أن مارس التعذيب في (كوريا) وأصبح قائدا لفرقة اتخذت مركزا لها في أحد الجبال، واتخذ قائدها عملا له هو استجواب المواطنين المسلمين وتعذيب المشتبه بهم. وهؤلاء المشتبه بهم، هم كل جزائري تعثر عليه الدوريات في طريقها. وقد رأيت جندا يضربون هؤلاء المشبوهين، ويتنافسون في ضربهم مع رجال الدرك، حتى ان أيديهم ظلت منتفخة ثلاثة أيام. ثم أعادوا الكرة في أول فرصة. ومن المدهش أن في بلدة الشريعة حوضا خصصته فرقة (ج. م. ب. ر.) لتلقي فيه الأظافر المقلوعة، ولتستخدمه في عمليات النفخ بالماء. ومن الذي يجهل أن في مركز الشرطة في (تبسة) حجرة مظلمة للاستجواب حل محل طلاء جدرانها دم الأبرياء، وصبغ أسفل جدرانها بلون أحمر قاني لا يمحى. (1).
وقال ضابط آخر في مذكرته اليومية بتاريخ 8 آذار - مارس - 1956 ما يلي:
(قام الجنود، مساء هذا اليوم، ومعهم ملازم، بتعذيب المساجين، فصفعوهم بالأيدي وضربوهم بالعصي على ظهورهم، ورفسوهم بالأرجل تحت بطونهم، وأرغموهم على ابتلاع الماء بالقوة، وعلقوهم بعضهم من أيديهم وآخرون من أرجلهم، ثم
(1) مجلة (اسبري) الفرنسية عدد نيسان - أبريل - 1957 ص 581.
أخذوا في استعراض هذا المنظر، متلذذين بسماع صياح ضحاياهم وأنينهم) (1).
وكتب شاهد عيان ما يلي: (قام أحد المحققين باستجواب متهم (مشتبه بأمره) يوم 7 تموز - يوليو - 1956، وأرغم على النطق بكلمة (تحيا فرنسا) وصاح (تحيا فرنسا) مرة وثانية وثالثة الخ
…
وأخيرا أرغموه أن ينادي (تحيا البطاطس المقلية) وقد عجز عن تكرار هذه الكلمات بسبب جهله اللغة الإفرنسية، وحينئذ قتلوه.
وعلى بعد مائة كيلومتر من مدينة - قسنطينة - نظمت إحدى الفرق إدارة للاستخبارات في شهر أيلول سبتمبر - 1956 وجهزت مكتبين إضافيين أحدهما لبحث الاستعلامات والآخر للاستجواب والتعذيب والتحقيق. وجهز هذا المكتب بآلة (المحرض الكهربائي) و (الأنبوبة) و (التغريق) وسواها من الوسائل التي كثيرا ما أودت بحياة (المشتبه بهم). والمؤكد هو أن بعض الوحدات نظمت إدارات تحقيق واستعلامات خاصة بها، وجلبت الاختصاصيين في التعذيب، والخطر الفادح هو أنها تسببت في القضاء بسرعة على عدد كبير من (المشتبه بهم) ممن يلقي بهم قدرهم تحت رحمة الجلادين) (2).
…
وتضمن مصدر فرنسي عرضا لأبرز أعمال (التعذيب النظيفة) وأساليبها بالقول:
(يجب أن أحدثكم طويلا عن عمليات التعذيب، إنها عمليات
(1) ضد أعمال التعذيب (بيير هنري سيمون) ص 81.
(2)
المجندون يشهدون. ص 32.
تقوم بها فرقة خاصة من المجندين تحت قيادة عشرة من الضباط وأربعة من صف الضباط، وهم يقولون إن التعذيب هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن من معرفة الحقيقة. وفي قرية (تابلاط) اجتاز نحوا من (150) عربيا مسلما من الذين يتهمون (بالاشباه بأمرهم) هذا الامتحان الرهيب، الذي تضمن العمليات التالية:
- تسليط التيار الكهربائي على الخصيتين والأذنين.
- وضع (المشتبه به) في قفص، تحت الشمس الحارقة.
- وضع (المشتبه به) على عصا، ورفعه فوق فرس، وهو مقيد اليدين والقدمين.
- الضرب المبرح بالسياط (الكرباج).
- وضع يد الإنسان خلف الباب ثم إيصال الباب عليها والضغط بشدة.
- قبض على رجل، وتقرر إرساله إلى الجزائر - العاصمة - لكنه قضى طوال الليل (تبابلاط) وقد أوثقوا كتفيه، وربطوا رجليه إلى شجرة، وأسندوا ظهره إلى سياج الأسلاك الشائكة، وسقوه كمية من مياه الغسيل القذرة.
- بقي اثنان من أعز أصدقائي في (سريات) وشاهد العقيد - الكولونيل - من الفرقة (14 - ر. س. ب) وإلى جانبه اثنين من قادتنا وهم يستجوبون جماعة من العرب، جاء بهم المظليون. وقالوا عنهم أنهم من (المشتبه بأمرهم) وشملت عملية تعذيبهم - وضع السلك الكهربائي في المكانين المعلومين، وزادوا هذه المرة تضميخ الجسم بالماء حتى يكون تأثير التيار الكهربائي أقوى وأكبر، ثم أخذوا في إدخال سكين في جسم المشتبه بأمره شيئا فشيئا. وقد شاهدت أحد هؤلاء المعذبين وقد صبغته الدماء، وترك
ملقيا على الأرض طوال يوم وليلة. كما شاهدت أحد هؤلاء البؤساء وهو مشدود إلى طائرة عمودية - هيليكوبتر - ثم ألقت به الطائرة على الأرض من ارتفاع مائتي متر تقريبا. أما جميع المشتبه بأمرهم، والذين تم تعذيبهم بهذه الطريقة، فقد سلموا لجماعة جنود المظلات الذين أجهزوا عليهم جميعا، وبصورة فورية.
فما أبعدنا عن (عمليات التهدئة) التي قالوا أنهم أتوا بنا إلى هنا من أجلها، إن قلوبنا لتكاد تتفجر غيظا، ونحن نرى هذا الدرك الأسفل الذي انحدرت إليه طبيعتنا البشرية، ويكاد يعترينا اليأس والقنوط عندما نرى جماعة من الفرنسيين يعمدون لارتكاب نفس الأسلوب الفظيع الذي كان النازيون يستعملونه بوحشية وقسوة. على أن القوم لم يكتفوا بهذه الأعمال؛ بل إن الشر قد غمرهم، فأصبحوا يريدون الشر من أجل الشر، فيزيدون على أعمال الفظاعة أعمالا هي السهول بعينه. وعلى سبيل المثال: جاء رجال فرقتنا إلى
قائدهم برجلين من العرب، عثروا عليهما في المزارع. وقرر القائد أنهما من المشتبه بأمرهما، ولا أحد يعرف ما حمله على اتخاذ هذا القرار. وباشر القوم عملية التعذيب فورا، إذ لم ينتظروا تهيئة المولد الكهربائي، فانهالت أيدي رجال الفرقة ذات الخواتم الغليظة، وانهالت السواعد المفتولة، وانهالت الأرجل التي تحمل الأحذية ذات المسامير، انهالت كلها دفعة واحدة على وجهي الرجلين وعلى بطنيهما وعلى معدتيهما وكبديهما، واستمر هذا العمل إلى أن تخضبت الأرض بما برز فيها، وبما سال من جسديهما، وارغما عندئذ على الانحناء، من أجل لحس ما لصق بالأرض، ثم انهالت على وجهيهما وهما على هذه الحالة ضربات الأرجل ذات الأحذية المصفحة. ويظهر أن ذلك كله لم يكن كافيا، فارغما على نقل
حجارة ضخمة من مكان إلى مكان، لا لسبب، إلا لزيادة رشح الدماء التي كانت تسيل منهما. ثم جاء الليل، فأطلق سراحهما، لأنه تأكد للقائد أنهما لا يملكان أية معلومات مفيدة؟) (1).
ومزيد من الأمثلة عن (مدارس التعذيب) على لسان أحد مجندي الجيش الفرنسي:
بدأ الاستجواب والتعذيب عند القائد بصورة هادئة، ثم انتقل إلى الضرب باليد وبشدة حتى تعب القائد، فأخذ في استعمال عصا غليظة، وإذ لم تنفع هذه العملية مع (المشتبه به) فقد تم تحت (الدوش) أو - رشاش الماء - حيث مكان التعذيب الحقيقي المجهز بمولد الكهرباء وأدوات النفخ بالماء الخ
…
واقتلاع الأظافر أثناء تلك العمليات، ووضع الملح مكان الأظافر المقلوعة، ووخز كل أجزاء الجسم بالأبر، واقتطاع أجزاء من الجلد بواسطة ملاقط الشعر. ولقد ربطوا أيدي (المشتبه بأمره) من رجليه وفق طريقة أطلقوا عليها اسم (وضع الضفدعة). ثم شدوه إلى السقف وهو على تلك الحالة، عاري الجسم تماما، وبقي كذلك ليلة كاملة، وهم يتعهدونه بتسليط الماء عليه حتى يتجمد من شدة البرد. وبين حين وآخر يأتيه (المحقق) ليحاول انتزاع اعتراف منه، دون جدوى، حتى مات الرجل.
وهنالك (مشتبه آخر) اسمه (عامر بن الطيب - شيخ طريقة بقرية - ت) وقد استمروا في تعذيبه ثمانية ليال تباعا. وكانت عملية التعذيب تستمر حتى يشرف الشيخ على الموت، فيعملون عندها
(1) مجلة (اسبري) الفرنسية - عدد نيسان - أبريل - 1957 ص 582 وكراس (الشهادات المسيحية) ص 18.
على إنعاشه بحقن، ليعودوا إلى تعذيبه من جديد. وهكذا إلى أن أصبح الرجل عجينة طرية بين أيديهم، وتعفنت أجزاء جسمه. فأجهزوا عليه، من غير أن يحصلوا منه على كلمة واحدة (1).
وقال مجند في اعترافاته: (اليوم هو 25 أيلول - سبتمبر - 1956. وأنا الآن مع النقيب - الكابتن - وقد زالت بيني وبينه الحواجز الرسمية، إنه يباشر عمليات التعذيب بنفسه بعد ارتداء ثياب الألعاب الرياضية. ولقد رأيته مرة يعمل طوال ست ساعات مع اثنين فقط من (المشتبه بأمرهم). أما الأول منهما فقد بدأت معه عملية الضرب لمدة عشرين دقيقة، ثم بدأت عملية نفخ البطن بالماء حتى حد انفجار المعدة، ثم الضغط بواسطة اليد على جزء حساس جدا من الجسم (ويقولون أن هذه العملية ناجعة جدا) ثم الضرب المبرح على الوجه حتى يتورم وتتغير كل ملامحه. أما (المعتقل الثاني المشتبه بأمره) فقد قضى كذلك ثلاث ساعات أمام المحقق، وقد اقتلعت أظافر يديه، واستعمل معه التيار الكهربائي، وطبقت عليه وسائل تعذيب فيها تفنن وابتكار. وكان هذا النقيب قد جرب كل هذه الوسائل أثناء حرب فييتنام، ولديه خبرة واسة. ويقال إن لديه وسائل تعذيب هائلة لا تترك أثرا على الجسم) (2).
وذكر مجند معترفا: (كان يوم الأحد الأخير مؤلما رهيبا. وكان العمل فيه هو استجواب (استنطاق) رجل اتهم بإنه من الثوار (الفلاقة) واستمرت عملية التعذيب من الثامنة صباحا حتى الساعة التاسعة ليلا. ولقد تفنن كل رجال فرقتنا المؤلفة من قدماء حرب
(1) المجندون يشهدون. ص 87.
(2)
المصدر السابق. ص 12.
الهند الصينية، في ابتكار وسائل التعذيب طوال اليوم مثل: تمزيق أوصال هذا الرجل، وتسليط العقارب عليه، ولم تترك وسيلة أو مادة إلا واستعملت، التيار الكهربائي والبنزين والإسمنت، والفلفل الأسمر والملح فوق الجروح ونفخ البطن بالماء، وضرب المعدة والوجه والخصيتين بالأحذية ذات المسامير. وإذ لم تنجح معه أية وسيلة، ولم يعترف بشيء، فقد أجهز عليه بأن ألقي في حفرة تجمع القاذورات (الغائط).
يا للهول، لقد كنت استسيغ مرغما استعمال وسائل التعذيب من أجل الحصول على الحقيقة فذلك ويا للأسف من الوسائل اللازمة. أما استعمال جسم بشري كوسيلة من وسائل التسلية والتفنن في ابتكار وسائل التعذيب لمجرد اللهو العبث، فذلك هو الأمر الذي يمزق قلبي ويحطم نفسي، والأدهى من ذلك والأمر هو أن الذين يقومون بهذه العملية المنكرة القذرة، إنما هم شبان فرنسا الذين يبلغون من العمر عشرين عاما، والذين يمثلون الشباب الفرنسي كله. ويا لها من أوصاف وسجايا يتصف بها هذا الشباب وهو يمر بهذه المدرسة: الدناءة، والنذالة، والخسة، والوحشية هذه صورة من صور (طرائق التهدئة) وهذا هو فهمنا للشرف) (1).
وجهت جمعية (الصليب الأحمر الدولية) في مستهل سنة 1960، تقريرا إلى الحكومة الفرنسية، أنقض ظهرها على ما يبدو، وقد نشر هذا التقرير بطريق التهريب. وكان فيما تضمنه التقرير على لسان - الملازم س - ما يلي: (لشد ما صدمني أن الناس - مدنيين وعسكريين - يتحدثون عن ذلك جهارا في غير ما
(1) المجندون يشهدون. ص 60.
حياء، حديثهم عن شيء طبيعي، أو عن فيلم سينمائي، أو عن مباراة في كرة القدم .. وهذه الفظائع التي عممت في الجيش، على وجه يملأ الصحف كل يوم، هي مقبولة ومعتبرة أمرا عاديا. الجميع يتكلمون عنها علانية، المدنيون في المقاهي والملاهي، والعسكريون في كتائبهم ومظابخهم، والجميع يستخفون .. هناك البحر الأبيض المتوسط بين الجزائر وفرنسا. وعلى كل حال فنحن أمة تعلم المدنية) (1).
…
وكتب مجند في موضوع (مدرسة التعذيب) التي كان هدفها إبادة أكبر عدد من شعب الجزائر ، (نصب الثائرون كمينا في الساعة السادسة من صباح يوم 2 حزيران - يونيو - 1956، وأسفر الكمين عن مقتل (14) من رجالنا. وتمكن الثائرون من الانسحاب بسلام. ولما لم تتمكن القوات الفرنسية من مجابهة الثائرين -كعادتها - فقد صبت جام غضها وانتقامها على المدنيين العزل.
وهكذا، ففي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، انطلقت مجموعات من الجنود - رفاق القتلى على ما يزعمون للانتقام لرفاقهم - وأخذوا يجوبون القرى الواقعة على مسافات قريبة من منطقة الكمين، وجمعوا ما أمكن لهم جمعه من الرجال، فاستحوذوا على (35) رجلا. ثم أوقفوا هؤلاء الرجال (المشتبه بأمرهم) ستة وراء ستة، في مزرعة قمح - بين السنابل - وبقوا ينتظرون على قارعة
(1) يمكن هنا الإشارة إلى منكرات المظليين الذين يمعنون في التعذيب والذبح، بصورة خاصة، بعد سنة 1958 والتي تضمنها كتاب (بنواري) بعنوان (الذابحون) الصادر في باريس سنة 1961.
الطريق. وفي هذا الأثناء، مر بالطريق العام خمسة أو ستة من العمال الفلاحين العرب قاصدين سبيلهم، وكانوا يركبون عربة تحمل الحجارة، فما كان من جندنا إلا أن ألقوا القبض عليهم جميعا، وأوقفوهم مع المعتقلين الآخرين، بين سنابل القمح، وذلك رغم توسلات زوجة المقاول صاحب العربة - وهي فرنسية -وتأكيدها بأن هؤلاء أبرياء وأنهم يعملون مع زوجها المقاول. وبقيت أنظر ساعة كاملة مدى ما قاساه هؤلاء الناس من ضرب مبرح بالأرجل وأعقاب البنادق (الأخمص) على البطون والضلوع والوجوه، وسقط رجل منهم وقد أغمي عليه من شدة العذاب، فصبوا عليه وعاء ماء، وانهالوا عليه بضرب السياط - الكرباج - حتى ينهض من جديد ليتلقى المزيد من الضرب. لكن البعض منهم سقط ولم تنفع معه أية وسيلة لإنهاطه. وهكذا مات ثلاثة فورا أما الباقون فقد تبين أنهم أعدموا تلك العشية بمن كان معهم من نساء وأطفال. وكانت البيانات التي أمكن الحصول عليها بعد ذلك تؤيد صحة هذه الواقعة) (1).
(1) المجندون يشهدون. ص 68.