الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
معسكرات الانتقاء والترحيل
أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية ما أطلقت عليه أسماء (معسكرات الانتقاء والترحيل) و (معسكرات الاعتقال) و (معسكرات الإيواء) وذلك في إطار المحاولات لقمع الثورة الجزائرية. ولقي الجزائريون: رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، في هذه المعسكرات، مختلف صنوف التعذيب والبؤس والشقاء. وتلك التقارير التي وضعتها جمعية (الصليب الأحمر الدولية) وأذيع السابع منها في فرنسا (كانون الثاني - يناير - 1960) على غير علم من المنظمة، إنما جاءت في إثر عدد من الشهادات والتحقيقات لتؤلف قرارات اتهام موجهة ضد مجرمي الحرب الفرنسيين. وقد جاء في مقاطع من التقرير السابع - المشار إليه - ما يلي:
(لقد خصصت البعثة زيارتين متتالتيتين لمعسكر (برج أم نايل) ففي 30/ 10/ 1960. وجدت المعتقلين في حالة رعب تام من الإرهاب. وقد توسلوا الى أعضاء البعثة ألا يبوحوا ببياناتهم، مخافة أن يضربوا أو يقتلوا انتقاما، وأتوا على ذكر ما لقوه من ضروب العنف والتعذيب أثناء استجوابهم في أمكنة قريبة من المعسكر
…
ويظهر أنهم قبيل زيارتنا سارعوا فأقصوا عن المعسكر فجأة ستين معتقلا ممن
كانت حالتهم سيئة. ولقيت البعثة جريحا في زنزانة منفردة، فاتضح لها من تصريحات هذا الجريح الملقى على الأرض العراء، دون أن تضمد جراحه، أنه أثخن جراحا أثناء استجوابه. وكان متروكا بلا إسعاف منذ ثمان وأربعين ساعة. ومع أن المصير موجود منذ ثلاث سنين، فإن المعتقلين لا يملكون قصاعا ولا ملاعق أو سواها تحت تصرفهم، وهم يتناولون طعامهم في علب المحفوظات الغذائية. ونعتقد بأن الوضع البائس في هذا المعسكر إنما هو أمر مقصود، قضى به تنظيم خاص.
أثناء زيارة (مركز ترحيل النخلات الخمس) تم اكتشاف زنزانة فيها ستة معتقلين، تبدو على ثلاثة منهم آثار رضوض حديثة العهد، وفي وسطهم تضطجع على الأرض العراء جثة رجل لفظ أنفاسه في الليل، بينما وقعت الزيارة في الساعة الحادية عشرة والنصف نهارا - 30، 11 - وقد طلبت البعثة شهادات الوفاة لخمس وقوعات حدثت بين 12 و18 تشرين الأول - اكتوبر - فتحقق لها أنها جميعا، تعزو الوفاة إلى سبب واحد: التسمم البطيء بالغازات السميلة للدموع. والأمر يتعلق برجال، أخرجوا قبل عدة أيام من أحد الكهوف باستخدام القذائف المسيلة للدموع. ويستخدم الجيش الفرنسي ما يسمى بالغازات المسيلة للدموع، ذات العيار الكثيف، وهي في الحقيقة مركبات - أمينودي كلورو أرسين - أعني أنها غازات ثقيلة جدا ومخربة للأنسجة الداخلية والخارجية ومحظور على المحاربين استعمالها. وعلى العموم، ففي هذه المعسكرات تحاشوا أن يعرضوا على أنظار أعضاء البعثة عددا من المعتقلين، رغم أن أسماءهم مدونة في سجل الاعتقال: لقد سلم هؤلاء الى (جيش الحملة في الريف) من أجل حمل الأثقال أو من أجل استخدامهم في (العمليات الحربية).
وحيثما استطاع المعتقلون أن يتحدثوا إلى أعضاء البعثة على انفراد، كانوا يشكون أنهم عذبوا، وعوملوا بالكهرباء أو بالماء.
وفي مركز الانتقاء والترحيل في (تلاغ) على مقربة من (سيدي بو العباس) تظلم المعتقلون المكدسون في غرفة واحدة، من أنهم كبلوا طوال الليل بالسلاسل أو القيود في أرجلهم، وأنهم عوملوا بالعنف الشديد أثناء استجوابهم من قبل المكتب الثاني -الاستخبارات العسكرية - في المعسكر، مثل (التعليق بالأيدي المشدودة الى الظهر، والكهرباء، والماء، الخ
…
). وكانت آثار الحبال التي شدوا بها بادية على أيدي عدد منهم. وشكا المعتقلون أن أرجلهم قيدت كل الليل بقيد من الخشب القاسي، وقد رأينا هذا القيد بأم العين لأنه لا يفارق غرفة المعتقلين.
وفي معسكر (بوسوية): شكت البعثة أن موظفا في الاستعلامات العامة ملحقا بهذا المعسكر، كان يتبعها طوال المدة التي استغرقتها زيارتها. ومن الواضح أن مهمة هذا الموظف هي كشف أولئك الذين كنا نتحدث إليهم من المعتقلين) (1).
يمكن أن يضاف الى معسكرات الانتقاء والترحيل أعمال الإبادة التي كانت معروفة باسم (سخرة الحطب) حيث كانت تأتي سيارة جيب عسكرية الى مكان تجمع الرهائن والمعتقلين، وينادي الحراس على أسماء الذين وقع الاختيار عليهم لكي يكونوا (ضحايا اليوم) - فيساقون الى سيارة الجيب، ويركبونها، ثم يسار بهم الى
جبل مشرف على البحر، وهناك يتم إعدامهم. ومن العسير معرفة عدد الذين كانوا يقتلون أسبوعيا ضحايا (سخرة الحطب) بصورة
(1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 4/ 1/ 1961.
دقيقة. فهم على الأقل خمسة أو ستة كل أسبوع - في كل معسكر - أما الثوار (الفلاقة) الذين كانوا يقعون في الأسر وهم يرتدون اللباس العسكري (من مجاهدي جيش التحرير الوطني) فإن مصيرهم لم يكن أفضل من مصير الرهائن المعتقلين. وأذكر أنه قد وقع أسر سبعة من هؤلاء الرجال يوم 31 تشرين الأول - اكتوبر - 1956. فطافوا بهم المدينة تحت حراسة مشددة، ثم سلموهم بعد ذلك للفرقة التي أسرتهم. وقادتهم هذه الفرقة الى (سخرة الحطب) الشهيرة (1).
وجاء في مصدر فرنسي: (ذهبت الجماعة الثالثة ومعها عشرين من المشتبه بهم، كلفوا (بجلب الحطب) وعندما وصلوا الى مضيق - بيكارت - المكان الذي وقع فيه كمين للثوار ضد الفرقة (2/ 117) والتي تركت (13) قتيلا في ميدان المعركة، أجهزوا عليهم رميا بالرصاص، في رؤوسهم، وتركوهم من غير أن يواروهم التراب، وأخبروا الدرك - الجندرمة - بأنهم قتلوا (20) أسيرا حاولوا الفرار وختمت هذه المأساة بالجملة التي نطق بها الرائد - الكومندان -: لقد أخذت بالثأر لرفاقكم؛ فهؤلاء هم العرب الذين قتلوهم، ولنفرض جدلا بأنهم لم يكونوا هم، فقد دفعوا الثمن بدلا عنهم) (2).
وفيما ذكره أحد المجندين ما يلي: (ذكر لي بعض الجنود من فرقة المظليين الثانية، ومن الذين مضى عليهم وقت طويل في خدمة الجيش الاستعماري - الطريقة التي يتبعونها مع الموقوفين عند تكليفهم (بسخرة الحطب) حيث يكلفونهم أولا بحفر خندق في
(1) المجندون يشهدون. ص 79.
(2)
مذكرات الجندي (جان ميلير) ص 13.
الأرض ثم ينزلونهم فيه، وبعد قتلهم يردون فوقهم التراب، وينتهي الأمر هكذا ببساطة) (1).
وأكمل مجند آخر - وصف الموقف بقوله: (ذكر لي (أ. ز) قائد الكتيبة التي أنتسب إليها أنه يشاهد منذ ثمانية أيام منظرا لا يحتمله بشر، فقد قتل رقيب أول فرنسي منذ ثمانية أيام، وجاء الفرنسيون بمن حفر خندقا ضيقا، وأخذوا يلقون فيه أعدادا من الرجال (المشتبه بأمرهم) أو الذين يتم إلقاء القبض عليهم أثناء عمليات البحث (التفتيش). ويقوم الجنود بالحراسة على حافة الخندق. وقد لاحظت أن هؤلاء الناس يصابون بالفزع عندما يدفعون الى الخندق، اذ يعرفون بأن هناك من قتل قبلهم بهذا المكان، حيث كانت أطراف الخندق تحمل علامات دموية ظاهرة جدا) (2).
(1) المجندون يشهدون. ص 27.
(2)
المصدر السابق. ص 11.