المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أ - قضية الصحراء - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٤

[بسام العسلي]

الفصل: ‌أ - قضية الصحراء

فزاد موقف فرنسا تدهورا. وتتطلب فقرات (البيان الجزائري) في الواقع، وقفة قصيرة عند كل فقرة من الفقرات.

‌أ - قضية الصحراء

الصحراء الجزائرية هي الجزء الجنوبي من الجزائر، وقد عرفت بأسماء مختلفة مثل (الجنوب القسنطيني) و (جنوب ولاية

الجزائر) و (الجنوب الوهراني)، وليس هناك من وصف آخر يطلق على (الجنوب الجزائري) الذي يشغل أرضا مساحتها مليون ونصف المليون من الكيلومترات المربعة، تعادل أربعة أضعاف مساحة فرنسا ذاتها، وقد اكتشف فيها الغاز الطبيعي والبترول غداة الحرب العالية الثانية.

ويظهر أن تفجر الثروات في الصحراء الجزائرية قد حرك أطماع الاستعمار الفرنسي، تدعمه السياسة الاستعمارية الدولية، وخشية أن يؤدي استقلال الجزائر إلى القضاء المبرم على أهدافه، فقد انبرى يحاول اختلاس القسم الصحراوي من الجزائر متذرعا بمختلف الذرائع الواهية. وفي الوقت الذي كانت تنطلق فيه هتافات مجنونة على غرار (من دنكرك إلى تامانراست) تتغنى بها جماعة تتوهم في غمرة الرقي الحرية أن مجرد ترديد رغبة يكفي لتوليد حقيقة، في ذلك الوقت، كانت الحكومة الفرنسية والبرلمان الفرنسي يقيمان الطقوس ذاتها، فيتخيلان أن سن قانون، وإصداره، يكفيان لإسباع الحياة على وهم خرافي. وعلى هذا النمط، حاولوا أن يعلنوا أن الصحراء الجزائرية هي (أرض فرنسية) بشكل (نهائي ورسمي وسيادي)، ومجرد الادعاء يضاهي بقوة السحر برهانا ساطعا، في نظر جماعة (بوجاد) (إن سيادتنا على الصحراء لا تقبل النزاع. وإذن، فهي أرض من الوطن، ويعود إلى

ص: 144

البرلمان - الفرنسي - أن يرسم ذلك بشكل قانوني، منعا لكل التباس) (1)، وآخرون من رجال السياسة يرون ان فرنسا قد وضعت يدها على (مال متروك لا صاحب له). طبعا، فالمسألة مسألة أرض خالية لا يقطنها أحد ولا يملكها أحد!! وأولئك المليون مخلوق بشري من أبناء صحراء الجزائر؟ إنهم غير موجودين، بإرادة القانون ووقاحة الاستعمار!! لقد أصبحت عادة من العادات تلك الصيحة التي يرددها رجال فرنسا في الجزائر، كلما دخلوا مكانا ليس فيه سوى المسلمين:(لا يوجد أحد)، أما (آل رغيبة) و (الطوارق) و (الهقار) و (العجار) و (سكان الواحات) فليسوا جميعا سوى ذرات من الرمال.

ومعلوم أن الأرض تعتبر خالية - بلا صاحب - منذ الوقت الذي لا تمارس عليها أية سلطة، والصحراء الجزائرية ينطبق عليها هذا التعريف في نظرهم، لأن القبائل التي تقطنها لا عهد لها بمفهوم السلطة والسيادة على النحو المعروف لدى الأوروبيين في قانونهم الدولي العام. وليس بالإمكان الإنحاء باللوم على (قيصر) لأنه كان يجهل البارود، ولكن ذلك مثال التعليل الاستعماري القائم على عناصر يعتبرونها في قاموسهم مطلقة على حين أنها ليست إلا نسبية، وهم لا يلتفتون، مع ذلك، إلى واقع أن هذه القبائل التي يعترفون بأنها (محاربة موهوبة) إنما تقيم لسيادتها واستقلالها مفهوما يتسم بالغيرة، بل حتى بالمغالاة. وتبقى الحقيقة الوحيدة، وهي أن فرنسا لا تملك سندا قانونيا صحيحا يخولها ضم الجزائر اليها، سواء في ذلك القسم الشمالي منها أو الجنوبي، وليست فرنسا سوى سلطة

(1) الثورة الجزائرية والقانون - محمد البجاوي - ص 349 - 381.

ص: 145

احتلال في الصحراء الجزائرية، كما في باقي أنحاء البلاد. ومن مظاهر هذه الحقيقة أن أراضي الجنوب الجزائري ظلت تخضع للإرادة العسكرية الفرنسية، وتحكم بموجب قوانين خاصة تطورت في ثلاثة مراحل متميزة:

1 -

الفترة الأولى: وفيها حكمت الصحراء بموجب (القانون الصحراوي) من سنة 1902 الى سنة 1947.

2 -

الفترة الثانية: وفيها حكمت الصحراء بموجب قانون 1947حتى سنة 1957.

3 -

الفترة الأخيرة: وفيها حكمت الصحراء بانشاء (المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية).

عندما سنت السلطات الفرسنية عام 1902 قانونا ظل طوال نصف قرن هو النظام الأساسي لأراضي الجنوب الجزائري، لم تشأ تلك السلطات أن تفصل عن الجزائر جزءا من أرضها. وعلى هذا فإن القانون لم يحدث قط كيانا سياسيا، وإنما اكتفى بإقرار تنظيم من النوع الإداري المحض، بعد أن اعترف بأن أراضي الجنوب تؤلف جزءا لا يتجزأ من الجزائر. فالأمر الذي حمل البرلمان الفرنسي على إنشاء وحدة إدارية دعيت (بالجنوب الجزائري) لم يكن الرغبة السياسية في تجزئة الجزائر، وإنما مرده إلى اعتبارات مالية صرف، وقد قال مشرع القانون:

(أيها السادة!. لقد أفصح البرلمان عن رغبته في أن يرى نفقات احتلال أراضي الجنوب الجزائري، مقصورة على ما هو جد ضروري، ومن بين الوسائل المؤدية إلى هذه النتيجة، وسيلة أشارت إليها لجنة الميزانية في المجلس لعام 1902، وهي تقضي

ص: 146

بأن تنتظم أراضي الجنوب في وحدة إدارية متميزة لها ميزانيتها التي تغذيها ضرائب محلية. وقد أقر المجلس على هذا الأسلوب، فصادق في 23/ 12/ 1901، مشروع قرار نص على: أن المجلس يدعو الحكومة إلى دراسة مشروع تنظيم إداري ومالي للجنوب الجزائري).

ومن الملاحظ، إذن، أن أراضي الجنوب كان معترفا بأنها ليست سوى (الجنوب الجزائري) وأن المشروع لم يهدف، ولا أحكام القانون ذاته قد رمت، إلى إقامة وحدة سياسية منفصلة عن الجزائر.

ومن الملاحظ أيضا أن قانون عام 1902، قد أكد حقيقة وحدة الأرض الجزائرية، فالضرائب والرسوم التي تجبى في أراضي

الجنوب، شأنها شأن الضرائب والرسوم المفروضة على أي جزء آخر من الجزائر، كانت فيما مضى، تغذي ميزانيات الجزائر وولايات وهران والجزائر وقسنطينة، وكل ما هدف إليه قانون عام 1902 هو الاقتصاد والتوفير، بتخصيص موارد الموازنات المحلية للنفقات المحلية، أي أن توضع موازنة خاصة لما أسماه المقرر البرلماني (بالصحراء الجزائرية). وما التقرير الذي رفع من (لجنة الجزائر) إلى (مجلس الشيوخ الفرنسي) إلا تأكيد للعوامل ذاتها والهادفة إلى تخفيض نفقات الميزانية لما كان معترفا بأنه يؤلف. دونما ريب، (القسم الجنوبي للجزائر) أو أيضا (الجزء الآخر من الجزائر) وفقا لما تضمنه التقرير المشار إليه: (يبدو أن هذا الجزء من الجزائر يمكن وضعه تحت إدارة خاصة، دونما محذور، بحكم تربته ومناخه وعادات أهله، والدور الذي يضطلع به في مستعمرتنا الأفريقية الجميلة

أما الاحتفاظ بهذين الجزئين من الجزائر مدة أطول

ص: 147

تحت إدارة واحدة، وفي حدود موازنة واحدة، فإنه ينطوي على عدم الانصاف، ومن شأن هذه الطريقة أن تلحق الضرر بالجزئين معا). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن قانون عام 1902 قد سبقته استشارة الهيئات الجزائرية المختصة، ولا سيما العناصر المالية والمجلس الأعلى في شأن المشروع الحكومي، وقد انتهت هذه الهيئات إلى الموافقة على نص المشروع بعد أن أجيب إلى طلبها الرامي إلى اخضاع كل مشروعات الموازنة الخاصة بأراضي الجنوب لتمحيصها ودراستها.

وعلى هذا فإن التنظيم الإداري المستوحى من دواع مالية معروفة لم يسفر عن شيء، سوى تعزيز المركزية لا لصالح (حكومة

باريس) بل لمصلحة (السلطة الحاكمة في مدينة الجزائر). ولقد هدف قانون (1902) وجميع النصوص اللاحقة إلى تحقيق ما يلي:

أ - تقليد الحاكم العام في الجزائر (وليست أية سلطة خارج الجزائر -) السلطات اللازمة لإدارة أراضي (الجنوب الجزائري).

ب - الحد من نظام الإدارة الخاصة المقرر لأراضي الجنوب، عن طريق الإبقاء على الوحدة بين الشمال والجنوب في بعض المجالات الإدارية.

ج - المحافظة على مبدأ الوحدة السياسية بين جزئي الجزائر، وتطبيق هذا المبدأ.

وهكذا كان الحاكم العام للجزائر هو الذي يمارس إدارة أراضي الجنوب الجزائري بصورة مباشرة، وعن طريق دائرة تدعى (إدارة أراضي الجنوب) ملحقة بمكتب الحاكم العام في مدينة الجزائر.

ص: 148

وهكذا، وعلى سبيل المثال، وفي مجال القضاء الإداري، كان الاختصاص المعقود لمجالس ولايات وهران والجزائر وقسطينة يشمل أراضي الجنوب المقابلة، أي أراضي عين صفرا، وغرداية، وتقرت والواحات.

وعلى هذا النحو، جاء الأمر الصادر في 17/ 8/ 1945، في شأن انتخاب الجمعية الوطنية التأسيسية الفرنسية الذي نص في مادته (الرابعة عشرة) بوضع مرسوم يحدد كيفيه تطبيقه في الجزائر، وقد صدر مرسوم التطبيق في اليوم ذاته، فمنح الجزائر (26) مقعدا توزع مناصفة بين فرنسيي الجزائر ومسلمي الجزائر:(فكانت ولاية وهران - عين الصفرا تنتخب خمسة نواب عن الفرنسيين وثلاثة نواب عن المسلمين، وكانت ولاية الجزائر - غرداية تنتخب خمسة نواب عن الفرنسيين وأربعة عن المسلمين، وكانت ولاية قسنطينة - تقرت تنتخب ثلاثة عن الفرنسيين وستة عن المسلمين) وواضح أن التمثيل النيابي للجزائر قد شمل الجزائر كلها، بما فيها مناطق الصحراء (1).

وعلى كل حال، فعندما تم إلغاء نظام أراضي الجنوب في العام 1947، ألحقت هذه الأراضي بجزائر الشمال؛ وكان ذلك تأكيدا جديدا، بوحدة التراب الجزائري، جاء بتوجه القانون الصادر في

(1) تضمنت مواد القانون 23/ 9/ 1948 ملحقا يضم قائمة الدوائر الانتخابية في ثلاث مجموعات:

أ - ولاية وهران وأراضي عين صفرا: (توات، وقرارة، ومراكز ناغيت، وبني عباس، الخ

).

ب - ولاية الجزائر وأراضي غرداية: (ملحقات غرداية، ومركز القليعة الخ

).

ج - ولاية قسنطينة وأراضي تقرت: (الواد، وتيد يكلت، وهقار، وعجار الخ

).

ص: 149

20/ 9/ 1947، الذي تضمن نظام الجزائر الأساسي، فقد ألغت المادة - 50 - من هذا القانون أراضي الجنوب في نصها القائل:

(يلغى النظام الخاص بأراضي الجنوب، وتعتبر هذه الأراضي ولايات، وتحدد بقانون، بعد استطلاع رأي الجمعية الجزائرية، الشرائط التي بمقتضاها تؤلف هذه الأراضي كلا أو بعضا، ولايات متميزة، أو ولايات مندمجة في الولايات الموجودة أو التي ستشأ.

يلغى المرسوم الصادر في 30/ 9 / 1903 وتدمج ميزانية أراضي الجنوب في ميزانية الجزائر اعتبارا من أول كانون الثاني - يناير - 1948).

لم ينجم عن صدور هذا القانون أي تغيير، باستثناء إلغاء موازنة أراضي الجنوب، وإدخالها في صلب موازنة الجزائر، وحتى صلاحيات الحاكم العام بقيت كما هي، وقد مارس (مكتب التنقيب عن المعادن في الجزائر) الذي أنشىء منذ شهر آذار - مارس - 1948، نشاطه الرئيسي في المناطق التي أصبحت تؤلف منذ العام 1957 مجموعة (ولايات الواحات وسواره)، وكانت مدينة الجزائر تتحمل في موازنتها قسما من نفقات هذا المكتب. وجدير بالملاحظة أن المرسوم الصادر في 7/ 7/ 1957، بتعديل النظام الأساسي للمكتب المذكور، لم يخرج القسم الصحراوي من دائرة نشاط المكتب في حين أن هذا المرسوم صدر بتاريخ لاحق لإنشاء المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية. ويلاحظ أيضا أن الحاكم العام للجزائر هو الذي منح الرخص الثلاثين الأولى لتنقيب عن الفحوم الهيدروجينية في الصحراء الجزائرية.

تبع إلغاء قانون (1947) طرح مشاريع عديدة ومتنوعة، لم يكتب لأحدها النجاح، وكما أن عوامل اقتصادية تتعلق بالموازنة،

ص: 150

هي التي أدت في العام (1902) إلى وضع تنظيم إداري جديد للقسم الجنوبي من الجزائر، كذلك، فإن المصالح الاقتصادية الرأسمالية الكبرى تدخلت منذ العام (1950) وانتهى بها المطاف إلى تنظيم آخر جديد. وهناك عاملان مارسا دورا قويا؛ فمن جهة، أثار اكتشاف البترول والغاز بكميات كبيرة مطامع الرأسماليين، ومن جهة ثانية فإن تصميم الشعب الجزائري على انتزاع استقلاله جعل هؤلاء الرأسماليين يخشون ضياع ثروات الجزائر الصحراوية. ومنذ أن طرح في العام (1955) مشروع تأميم الصحراء، برزت إلى الوجود - في باريس - مجموعة من الاقراحات ومشاريع القوانين.

كان من أخطر المشاريع المقدمة مشروع فصل الصحراء عن الوطن الجزائري، وقد تصدت الإدارة الاستعمارية في الجزائر لمحاولات التقسيم، ويمكن في هذا المجال العودة إلى ما أعلنه رئيس الجمعية الجزائرية من على منبر الجمعية، وبحضور الحاكم العام للجزائر (روجيه ليونار) يوم 27/ 11 / 1951.

(

لما كنت عالما بمشاعركم جميعا، فقد أعلنت لرئيس الحكومة ووزير الداخلية في باريس، أن الجنوب الجزائري يؤلف بلا جدال، جزءا لا يتجزأ من الجزائر).

وعندما ازدحمت مكاتب الجمعيات الفرنسية المختلفة بمشروعات واقتراحات القوانين الهادفة إلى تجزئة الجزائر، ثارت من جديد مناقشة حادة حول الموضوع في (الجمعية الجزائرية) في تموز (يوليو) 1952، وكان (السيد لوهورو) في جملة المتحدثين، باعتباره مندوب أراضي الجنوب في (الجمعية الجزائرية) وباعتباره واضع تقرير ربط هذه الأراضي بالجزائر، فقال ما يلي:

ص: 151

(

إن القول بأن الجزائر تنتهي عند الأطلس الصحراوي، لا يعدو أن يكون مجرد بدعة، إن هذا معناه إنكار حقائق الجغرافية البشرية، بل إنكار أبسط مبادىء الجغرافية. وإذا كانت لجنة الداخلية قد اعتبرت هذا النتوء حدا فاصلا بين الشمال والجنوب، فلا ريب أنها لم تقدر خطأها، فهي إنما تقتطع عامدة أراضي تطواف بعض القبائل البدوية، وتخضع هذه الأراضي لنظامين إداريين مختلفين، وبذلك تهيء تعقيدات متعددة ومتنوعة تحمل في ثناياها آثارا سيئة على النظام العام).

وقد انتهت المناقشات إلى تبني قرار، واقتراح، فالقرار قد نص على ما يلي:

(

الجمعية الجزائرية.

تحتج على كل بتر يطرأ على جزء من أرض الجزائر، ابتغاء دمجه في أرض مستقلة، ترتبط مباشرة بالحكومة الفرنسية،.أما الاقتراح، وعنوانه مثير في حد ذاته لأنه:(يتعلق بالمحافظة على وحدة الأرض الجزائرية) ونص على ما يلي: (الجمعية الجزائرية، مضطربة من جراء مشروع قانون تأميم الصحراء الذي يقتطع من الجزائر أراضيها الجنوبية. نحتج بشدة ضد أي مشروع يفضي إلى مثل هذه النتيجة). وهكذا، فحتى المدافعون عن الاستعمار الفرنسي المجنون في الجزائر، قد انبروا، بدافع من حب الاستئثار بكل شيء، يؤيدون بحماسة شديدة الفكرة التاريخية والقانونية القائلة بوحدة الأرض الجزائرية.

استمرت (الجمعية الجزائرية) في صراعها من أجل المحافظة على وحدة الأرض الجزائرية، حتى توارت عن المسرح بمقتضى المرسوم الصادر في 12/ 4 / 1956. وفي كانون الأول (ديسمبر)

ص: 152

من السنة ذاتها، رفع إلى البرلمان الفرنسي مشروع قانون يقضي بإحداث:(منظمة مشتركة للمناطق الصحراوية)، ولم يقو إحداث هذا القانون على المساس بالوحدة السياسية لشمال الجزائر وجنوبها.

لقد قدمت خلال تلك المرحلة، إلى البرلمان الفرنسي، مشاريع قوانين كثيرة، بهدف إخضاع الصحراء، تعسفا، لنظام أساسي فرنسي، ويمكن من خلال هذه المشاريع، ملاحظة وجود تيارين فكريين:

1 -

كانت بعض مشاريع القوانين تهدف إلى إقامة تنظيم إقليمي للصحراء، ذي طابع سياسي - إداري. وبمقتضى هذا التنظيم يفصل عن كل من (الجزائر) و (موريتانيا) و (السودان) و (النيجر) و (تشاد) أقسامها الصحراوية، ثم يجري تجميع لأراضي المفصولة، ويوضع لها من طرف واحد نظام أساسي يجعل منها (إقليما وطنيا فرنسيا).

2 -

وكانت هناك مشاريع قوانين أخرى لا تتجاوز في طموحاتها حدود إجراء: (تنظيم اقتصادي لمجموعة الصحارى الجزائرية والموريتانية. الخ

من غير ما مساس بالنظام الأساسي لكل من هذه الأجزاء. ولعل من الأهمية بمكان، ملاحظة أن أنصار اقامة وحدة إقليمية باسم (أفريقيا الصحراوية الفرنسية) أو (الاقليم الوطني الفرسي) قد أخفقوا في مساعيهم، فلم يتخذ أي قرار بالتجميع، كما استبعدت فكرة التنظيم السياسي، وتغلبت فكرة التنظيم الوظيفي، ولا تعدو المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية من أن تكون جهازا ذا أهلية اقتصادية واجتماعية، وهي بحكم نوعية اختصاصها عاجزة عن المساس بالسيادات الاقليمية، واسقلالها. وعلى هذا، فإن قانون 10/ 1/ 1957، لم ينشء (إقليما) وإنما

ص: 153

خط (محيطا). وهذا التعبير الأخير ورد في المرسوم الصادر في 16/ 10 / 1957 بخصوص التركيب الإداري والمالي (للمنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية). وقد أقر قانون عام 1957 الصفة الجزائرية الخالصة لأراضي الجنوب المجمعة بقصد الاستثمار داخل محيط (المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية)، حيث نصت (المادة الأولى) من مشروع القانون الحكومي على ما يلي:

(أحدثت منظمة مشتركة للمناطق الصحراوية، غايتها استثمار المناطق الصحراوية من الجمهورية الفرنسية، وتنميتها الاقتصادية، ورفع مستواها الاجتماعي، وتشترك فيها الجزائر وموريتانيا والسودان والنيجر وتشاد). والنص الذي رجحت كفته، وأصبح آخر الأمر قوام (المادة الأولى) من قانون 10/ 1 / 1957.

ليس أقل وضوحا إذ يقول: (أحدثت منظمة مشتركة للمناطق الصحراوية، يشترك في إدارتها كل من الجزائر وموريتانيا والسودان والنيجر والتشاد). وتجدر الإشارة إلى أن هذه المؤسسة الجديدة لم تكن تمتلك في حد ذاتها قاعدة إقليمية، ذات تنظيم قانوني خاص، وتلك ظاهرة تتجلى أيضا في واقع أن هذا الجهاز المنضد، ذا الاختصاصات الوظيفية من النوع الاقتصادي والاجتماعي البحت، يقع مركزه في (باريس) وليس داخل المحيط الصحراوي.

وعلى كل حال، فقد جاءت الثورة الجزائرية لتقلب المخططات الإفرنسية رأسا على عقب، في شمال الجزائر وجنوبها، وتبع ذلك نقل المشاكل التي تتعلق بالجزائر - بما فيها قضايا الجنوب - إلى (باريس)، حيث أصبحت معالجتها من اختصاص رئيس مجلس الوزراء الفرنسي، يعاونه وزيران يختص أحدهما (بالقضايا

ص: 154

الجزائرية) ويختص الآخر (بقضايا الصحراء)، وقد تم ذلك بموجب مرسوم 7/ 8 / 1957 حيث تم إحداث ولايتين في الجزائر الصحراوية:(ولاية الواحات) ومركز إدارتها (الأغواط)، وولاية (سوارة) ومركز إدارتها (كولومب بيشار)، وتخضع هاتان الولايتان لنظام إداري وتشريعي مماثل، من جميع الوجوه، للنظام المطبق في ولايات شمال الجزائر، بحيث أن التوزيع الوظيفي بين الوزيرين لا يبدو مخلا بالوحدة الجزائرية.

كانت تلك لمحة تاريخية لعلاقة فرنسا بالصحراء، وعندما عادت فرنسا في محادثات (إيفيان) لطرح قضية الصحراء، تقدم

الوفد المفاوض الجزائري ببيانه (يوم 10 حزيران - يونيو - 1961) وجاء فيه: (إن الجزائر لن تنسى بأن الصحراء تحت السيادة الجزائرية، ستكون مفتوحة أمام الانتاج الكامل، وأن تستغل ثروتها إلى أبعد حد، وستأخذ بعين الاعتبار مصالح الأقطار المجاورة، وكذلك مصالح أفريقيا وفرنسا ذاتها، وسيكون المجال مفتوحا كذلك أمام جميع الدول الراغبة في التعاون معنا على قدم المساواة). ثم صدر عن الحكومة الجزائرية بيان جاء فيه: (إن الحكومة الجزائرية، تميز بين السيادة على الصحراء، وموضوع استثمار ثرواتها الطبيعية. إن الثروة الطبيعة يجب أن تنتفع بها أفريقيا عن طريق التعاون المثمر، وإن هذا التعاون يمكن أن يتحقق مع فرنسا، خصوصا وأنها قد بدأت فعلا في مشروعات الاستثمار). ولكن فرنسا لم تقتنع بهذا المنطق الحر، فحاولت استثمار فترة وقف مباحثات (مؤتمر ايفيان) للقيام بمحاولة جديدة - على طريقة الأسلوب الاستعماري القديم والمكشوف وهو فرق تسد - فاتصلت

ص: 155

بالدول المجاورة للصحراء، وهمست في آذان المسؤولين بأن:(مطالب الجزائر بشأن الصحراء لن تترك لمصالحهم أي مجال، وستسد الطريق على جميع ادعاءاتهم). ولكن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تمكنت من إحباط الخطة الفرنسية، واتصلت بوزارات الخارجية في تلك الدول، وأوضحت لها موقف الجزائر من (قضية الصحراء)، وكانت النتيجة نصرا للجزائر وهزيمة لفرنسا. وتجلى ذلك في الموقف الرائع الذي أعلنته الدول الأفريقية، في أن (موضوع الصحراء يمكن أن يحل بصورة ودية بين الدول الأفريقية ذاتها، ولكن بعد استقلال الجزائر).

اسؤنفت المباحثات الجزائرية - الفرنسية من جديد في (لوغران) يوم 20 تموز - يوليو - 1961.

وفي هذه المرة تم إعداد جدول أعمال دقيق بناء على طلب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ولم يترك هذا الجدول أي

موضوع يتصل بتطبيق مبدأ (تقرير المصير) أو في الأمور التي يجب أن تقرر بالنسبة لمستقبل الجزائر، وتولى الوفد الجزائري بسط القضية الجزائرية بصورة كاملة مفصلة وفي موضوع الصحراء (أكد الوفد الجزائري أنه يجب استطلاع جميع آفاق التعاون، وأعلن من جديد استعداد الجزائر للوصول إلى اتفاق بشأن استثمار الصحراء، ولكن على أساس انها جزء لا يتجزأ من الجزائر المستقلة). ولكن الوفد الفرنسي بقي متخندقا في خنادقه، لا يتراجع خطوة واحدة عن مواقفه السابقة، وربط مصير المفاوضات والمؤتمر بالصحراء، كما ربط مصير الصحراء بالمصالح الفرنسية، واعتبر أن الصحراء كانت لفرنسا، وهي لذلك تشكل قضية (مستقلة بذاتها)، متجاهلا بذلك، أن الصحراء تؤلف أربعة أخماس

ص: 156

الجزائر، وأن وحدة الوطن الجزائري تعبير لا معنى له، اذا كان أربعة أخماس الوطن يؤلف منطقة منفصلة قائمة بذاتها، وأنه لا يمكن أن يكون هنالك وطن جزائري بدون الصحراء. إن الحديد في (تندوف) والفحم في (جنوب وهران) والمعادن المشعة في (الهقار) والزيت في (حاسي مسعود) و (الدحبيلة) والغاز في (الرمل)، كل هذه الثروات الطبيعية يجب أن لا تكون سببا في تجزئة الجزائر بل في وحدتها. إن هذه الثروة الطبيعية يجب أن تكون نعمة، لا نقمة على الشعب الجزائري، فإننا لا نعرف خطرا أدهى وأمر من التقسيم. وفضلا عن ذلك، فإن الأمم المتحدة، منذ إنشائها، وهي مهتمة بالمعاونة الاقتصادية والفنية تقدمها للدول النامية، وأنها تكون، بلا شك، هزيمة منكرة للأمم المتحدة، إذا كان على أي بلد أن يحرم من سيادته على رقعة من أرضه بسبب الثروة الطبيعية الكامنة فيها. إن الجزائر، وهذا أقل واجبات الأمم المتحدة، يجب أن تساعد حتى تساعد ذاتها في استثمار ثرواتها الطبيعية. إن سيادة الجزائر على الصحراء هي أولى المقومات الرئيسية للتنمية الاقتصادية في الجزائر، والجزائر لم ترفض أي اقتراح معقول لاستثمار الصحراء في إطار الدولة الجزائرية المستقلة، ولكن اقتطاع الصحراء يؤدي إلى تهشيم الوطن الجزائري، وإلى إفقار الشعب الجزائري. غير أن الوفد الفرنسي لجأ آخر الأمر إلى محاولة أخيرة، فقد اقترح في محادثات (لوغران) أن تجمد قضية الصحراء وأن توضع في (الثلاجة). إلا أن الوفد الجزائري رفض هذا الاقتراح بكل تصميم، ذلك أن كل شيء يمكن أن يجمد ويوقع في الثلاجة إلا الصحراء. إن الصحراء بطبيعتها تأبى أن تحتويها أية ثلاجة!! وبعد هذا راح رئيس الوفد الفرنسي يهزأ

ص: 157

بالوفد الجزائري والموقف الجزائري، فقال:(أعلن الوفد الجزائري أنه مستعد أن يبحث كل شيء، وأن يذلل كل الصعوبات، وأن يقترح صيغا متعددة وصولا إلى الاتفاق، ولكن الوفد الجزائري، وفي أول جلسة من جلسات المؤتمر وقف جامدا أمام كلمة - الصحراء - ورفض أن يسير خطوة واحدة قبل أن نعترف له بالسيادة على الصحراء). وحاول الوفد الفرنسي، ليبرر موقفه من قضية الصحراء، تجاهل ما أعلنه الوفد الجزائري:(وهو الاعتراف بالسيادة الجزائرية على الصحراء) واقترح: (أن يكون مصير الصحراء مرهونا بما تقرره مجموعات السكان في الصحراء، وأن يقوم ترابط بين الصحراء وفرنسا والجزائر لإنهاء المشكلة)، وقد جاء الرئيس (ديغول) ليؤكد هذا الاتجاه ذاته، وذلك في مؤتمره الصحفي الذي عقده في (5 ايلول - سبتمبر - 1961) في قصر (الإليزيه) حيث أعلن:(إن مجموعات السكان الذين يقطنون في الصحراء، يجب أن يؤخذ رأيهم بشأن مصيرهم وفق شروط تتلاءم مع تفرقهم في الصحراء وتعدد تجمعاتهم).

أكد سكان الصحراء، تلاحمهم مع شعبهم الجزائري، وحملوا السلاح مع المجاهدين لمقاومة الاستعمار الفرنسي، وكان ذلك الاستفتاء الحقيقي (لتقرير مصير وحدة التراب الجزائري) وإحباط المخططات الاستعمارية.

واتحدت الجزائر المجاهدة، بصحرائها وشواطئها، بسهولها وجبالها، بمدنها وقراها، وحققت أهدافها في الاستقلال. غير أن الجهود الفرنسية استطاعت تحقيق بعض ما تريد عبر (إعلان مبادىء

ص: 158

حواجز مرعبة - إلا للمؤمنين المجاهدين

ص: 159