المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٤

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية

3 -

‌ الاستفتاء العملي والبيعة الشعبية

عندما كانت فرنسا تتنكر للصفة التمثيلية التي تتمتع بها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعب الجزائر المجاهد، كانت هذه الحكومة قد أصبحت راسخة الجذور، ثابتة الأركان، وليس أدل على ذلك من أنها كانت قد اكتسبت الاعتراف الرسمي لأكثر من ثلاثين دولة، تمثل نحو ثلثي سكان العالم. وعلى هذا فقد كان من الطبيعي أن ترد (الحكومة الجزائرية) على تهديدات الجنرال ديغول - بالتقسيم - بإعلان الإضراب في الجزائر كلها، في مدنها وقراها، في جبالها وسهولها، الى آخر أكواخها وخيامها. لقد أعلنت الحكومة الجزائرية اليوم الخامس من شهر تموز - يويو - 1961 ليكون (اليوم الوطني ضد التقسيم). ولقد أصبح ذلك اليوم تاريخيا في حياة الجزائر، وكانت النتيجة فوق ما يتوقع أكثر الناس تفاؤلا؛ فلقد أضربت الجزائر لمدة (24) ساعة، وأخفقت كل وسائل الإرهاب لإحباط الإضراب. وفي الجزائر - العاصمة - وحدها، حشدت السلطة الاستعمارية أكثر من (35) ألفا من رجال الجيش والشرطة ليقمعوا المظاهرات العامة، ولم تكن هذه مظاهرات عادية، في

ص: 172

ذلك اليوم، كان الشعب الجزائري كله في الشوارع، وفي الساحات وفي الميادين العامة، احتجاجا على مشاريع (التقسيم)،واهتزت الجزائر كلها وهي تردد مع آلاف الحناجر المنطلقة من الأعماق وهي تصرخ بصوت واحد (لا تقسيم في الجزائر). وسقط مئات القتلى والجرحى، وتناقلت وكالات الأنباء تعليقا واحدا:(من ذا الذي يشك في قوة الحكومة الجزائرية، بعد هذا الاستفتاء الشعبي الذي سالت فيه الدماء الغزيرة، على أرض شوارع الجزائر). وكتبت صحيفة إيطالية - معروفة بمناصرتها للسياسة الفرنسية - ما يلي: (لقد أثبت اليوم الخامس من تموز - يوليو - القدرة الفائقة للحكومة الجزائرية التي استطاعت في الوقت المناسب أن تعبىء شعور المسلمين جميعا في الجزائر، والواقع أن المسلمين في الجزائر يعتبرون أن الحكومة الجزائرية هي حكومتهم الشرعية

وأن اليوم الخامس من تموز - يوليو - كان انتصارا مجيدا للثورة، من الناحيتين السياسية والمعنوية). وكان مدير دائرة الأنباء في الإدارة الفرنسية في الجزائر - السيد كودي فرجيك - قد توقع نجاح الإضراب، من قبل أن يبدأ هذا الإضراب بقوله:(إن مائة في المائة من المسلمين في الجزائر سيلبون نداء الإضراب، وقد جاء الإضراب ليشل شللا كاملا النشاط الاقتصادي في جميع البلاد)(1).

لقد أعلنت (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) الإضراب احتجاجا على (مشاريع التقسيم) في يوم (5 تموز - يوليو -

(1) قصة الثورة الجزائرية - أحمد الشقيري - دار العودة - بيروت - ص 147.

ص: 173

فرنسا تفتح مخازن التجار المضربين بالقوة

ص: 174

1961) وهو اليوم المصادف لذكرى احتلال الجزائر (في سنة 1830)، فكانت مناسبة تضم مناسبتين معا. وقد تردد صدى دعوة الحكومة الجزائرية على كافة الصعد والمستويات، وقد يكون من المناسب هنا استقراء نص (النداء التالي) الذي كتب بلغة بسيطة، غير أنه يظهر المضمون الحقيقي للاستجابة المناسبة (1):

الجمهورية الجزائرية

ولاية (1) منطقة (2) ناحية (4) قسمة (2)

إلى لجنة رقم (2) تحية عسكرية وبعد:

دون شك، إنكم على يقين بأن حكومتنا نادت على شعبها الجزائري الثائر بأن يعمل الإضراب يوم 5/ 7/ 1961م، وعليه، بكل عزم يجب عليكم إبلاغ هذا الأمر الأكيد إلى كل طبقات الشعب لتعمل الإضراب، برجالها ونسائها، وشيوخها وأطفالها، وتغلق كل الحوانيت والمقاهي والطحونات، وتحبس تحركات كل السيارات والأعمال مهما كان نوعها. واعلموا بأن هذا الإضراب سيعم كل أرض الجزائر المجاهدة، وأنه ضد لرغبة الاستعمار في (تقسيم الجزائر)، وأنه هو الذي سيبين للاستعمار مرة أخرى تضامن الشعب الجزائري مع بعضه بعضا، ورغبته في السيادة الكاملة على كل أرض الجزائر.

أيها الأخوان! إننا لفي انتظار برهانكم لتقدموا عنكم تقريرا إلى القيادة العليا لوطنكم الحر المستقل، فكونوا عند حسن ظننا بكم وبالشعب العائش الآن تحت مسؤوليتكم الثورية، واعلموا بأن

(1) وثائق الثورة.

ص: 175

العالم أجمع في ترقب إضرابكم وانتظاره، كما أن الشعوب الشقيقة والصديقة هي الأخرى ستقوم معكم بهذا الإضراب لتعلموا أنكم لستم وحدكم في معركة تحرير الجزائر العظيمة المجيدة.

في 3/ 7 / 1961

الإمضاء - عن - مجلس القسمة (2)

المساعد عبد القادر

كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قد أجرت استفتاء مماثلا، قبل ستة أشهر، تمثل باضرابات كانون الأول - ديسمبر - 1960، وكانت بيعة الشعب الجزائري لحكومته مماثلة، وهو ما تبرزه المقولات التالية:

(في رأي معظم زملائنا، إن هذا الأحد الدامي كان ساعة الحقيقة، ونهاية للأكاذيب والأوهام)(1)، (حولي رجال يهتفون (عاشت الجزائر مستقلة) و (حرروا ابن بللا) و (هذا صوت الشعب المتعطش للحرية). وعلى البعد، تجلجل أصوات أخرى، إنهم ينشدون نشيد (الجزائر الحرة) وفي شارع (بروتمر) مركبة علقت عليها ست لوحات كتب عليها (الجزائر مسلمة)، ويدنو مني فتى موظف في إحدى الإدارات كما قال، ويؤذن له بالكلام: نحن نريد أن يشرع ديغول في مفاوضة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، لا استفتاء إلا هذا، الانتخابات في هذا البلد لم تكن قط حرة، لسنا أعداء - ديغول - ولا فرنسا، بل نحن أعداء الاستعمار، وقد لقينا منه ما كفانا، إننا نقولها اليوم، ونقدم عليها الدليل، وإننا لن نتوقف

(1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 13/ 12 / 1960.

ص: 176

جزائريون في فرنسا تحت حراسة الشرطة

ص: 177

أبدا. وتظهر الحقيقة، وهي أن سنوات التهدئة لم تحل شيئا، لا في العاصمة (حيث كانوا يتباهون بالنجاح) ولا في سواها. الحقيقة هي أن الرغبة التي تضطرب بها أعماق المسلمين، لا تلبيها (الجزائر الجزائرية) كما يفهمها ديغول، بل (الجزائر المستقلة) لأنهم حتى وهم يهتفون:(الجزائر جزائرية) فإنما هم (بالجزائر المستقلة) يفكرون).

وكتبت (صحيفة أمريكية)(1) ما يلي: (إن الرأي القائل بأنه ليس ثمة إلا عصابة من المتمردين والمتعصبين تنادي بفكرة استقلال الجزائر، وأن كثرة المسلمين لا تحفل بهذا، إن لم تكن ترى خلافه، هذا الرأي بات من الصعب الدفاع عنه على ضوء النزاع الدامي في شوارع الجزائر).

وكتبت (صحيفة فرنسية)(2) أيضا: (الإضراب شامل حي (القصة) بأسره، وها هو ذا جمهور هائل، جمهور عربي نموذجي يحدق بي، بحر بشري، بحر من البرانس والجلابيات. أرفع طرفي وأرى ثمة علما خفاتا في الساحة، إنه علم جبهة التحرير الوطني، إنه لشيء مذهل، إنه لا يصدق، ولكنني أؤكد أنه حقيقي، ليست هنا، أو لم تعلن هنا الجزائر، هنا عالم جديد، عالم قائم بذاته. أمس مساء، أقيم احتفال لجبهة التحرير الوطني في (ساحة راندون)، مدينة في المدينة).

هذا فيما كتبت صحيفة (سويسرية)(3): (تدخل المسلمين

(1) صحيفة (نيويورك هيرالد تريبيون) 13/ 12 / 1960.

(2)

صحيفة (باريس جور) 13/ 12 / 1960.

(3)

غازيت (دو لوزان) 12 كانون الأول - ديسمبر - 1960.

ص: 178

المأساوي يقلب الموقف في الجزائر، الرجعيون ينتحرون سياسيا، المسلمون سيصوتون لجبهة التحرير الوطني، وتحت هذه العناوين المثيرة ورد ما يلي: في باريس كما في الجزائر، ينسبون إلى قلة من المحرضين الاضطرابات الإسلامية في العاصمة ووهران، ولكنهم يوجسون قلقا من النتائج التي قد تترتب على الدماء المهراقة إبانها، إن الشعب المسلم قد خرج على لامبالاته الظاهرية، بل إنه عبر بصورة لم يسبق لها مثيل عن طموحه العميق إلى السلام، والولاء الذي يكنه لحركة التمرد.

لقد بات لزاما علينا أن نصرف النظر عن الدعاوة الرسمية التي باتت ترهق حتى الذين يفرزونها (بهمة) بقدر ما ترهق الذين توجه إليهم، وبات كثير من الفرنسيين يعتقدون بعدم جدوى الأعمال الحربية، كما يعرفون كذب تلك الدعاوة القائلة بأن (المسلمين لا يؤيدون جبهة التحرير الوطني)، والذي يبدو أن هذا الاستنتاج الأخير هو ما يذهل الناس هنا، لقد قصوا عليهم خلال شهور وأعوام:(بأنه يجب عزل مجموعات المسلمين عن الانحرافات والجرائم التي تقوم بارتكابها عصابات من المتمردين لا يمثلون شيئا) ولكن الصور والشهادات التي التقطها بشجاعة مراسلو الإذاعات، وتم إرسالها قبل فرض الرقابة، وكذلك تعليقات رجال الصحافة مجمعة على أنه يوم يستشار المسلمون بحرية، فإنهم جميعا سيصوتون للاستقلال، ولا يقتضي إدراك هذا أن يكون المرء فقيها كبيرا، ولكن، وكما أسلفنا، فإن دعاوة جاهلة بالحقيقة عن سوء نية، أو ميل مرضي للأوهام، قد كونت على هواها ذهنية الفرنسيين الذين يكتشفون اليوم، بذهول، ما له اسم: الحقيقة الوطنية

ص: 179

وعادت (صحيفة فرنسية)(1) للقول على لسان مراسلها:

(يقودني جزائري نحو زاوية محصنة، ويريني علما أخضرا مخضبا ببقع حمراء كبيرة ويقول لي: انظر إلى هذا العلم، هذا دم إخواننا. ولقد جرى هذا اللقاء الصحفي في عرض الشارع، تحت أنظار رجال القوى الخاصة الذين تجاوزهم وطغى عليهم الحادث الرهيب.

فتى مسلم

يقترب منا، إذ نوجس خيفة أن تطغى بين دقيقة وأخرى الآلاف المحتشدة على قوى المحافظة على النظام، ويقول لأحد رجال الشرطة: لو أعرتني مكبر الصوت، هذا، فإني سأحاول تهدئتهم. وعندها يعطي الشرطي مكبر الصوت السيار الخاص بمصلحة الأمن إلى الفتى المسلم الذي يمسك بالمكبر، ويستدير نحو الجمهور الهادر الذي ما فتىء يرفع الرايات الخضر ذوات الهلال والأنجم الحمر، ثم يبدأ بالهتاف:(عباس إلى الحكم! عاشت جبهة التحرير الوطني!). .

ومعروف أن مظاهرات وطنية مماثلة قامت في المدن الجزائرية الأخرى وخاصة في وهران وعنابه (بونه) وتيهرت وسعيده وسطيف وبليدا؛ وهي المظاهرات التي استمرت بعد ذلك طوال شهر رمضان الأول - ديسمبر - 1960 وشهر كانون الثاني - يناير - 1961.

(1) صحيفة (باريس جور) 12 كانون الأول - ديسمبر - 1960.

ص: 180