المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التحولات الحاسمة(التمرد في الجزائر) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٤

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ التحولات الحاسمة(التمرد في الجزائر)

6 -

‌ التحولات الحاسمة

(التمرد في الجزائر)

لم يكن السلام الفوري على مرمى النظر عندما أطل العام (1960) على أفق الجزائر، ومع ذلك حدث تقدم هائل عن العام الذي سبقه، فبينما كان يبدو أنه من غير المستطاع التقاء التفكير بين فرنسا والجزائر على الإطلاق، فإن الطريق كانت مفتوحة على الأقل من أجل بدء المباحثات وكانت الموضوعات التي يجب بحثها، والأشخاص الذين سوف يحضرون المفاوصات لا تزال مسائل مفتوحة، وكان رفض الجزائريين أن يفاوضوا قبل أن يتلقوا ردودا مرضية يبدو مانعا من وقف قريب لإطلاق النار، وقد ترك التعديل الوزاري الجزائري الذي أعلن من تونس في 19 كانون الثاني - يناير - والذي قضى بإبعاد المتصلبين (من أمثال الأمين دباغين وأحمد توفيق المدني وبن يوسف بن خده وعمر صديق) من الحكومة المؤقتة، ووضع السلطة الكاملة في قبضة المعتدلين. ومع افتراض أن (ديغول) يستطيع أن يبقى في الحكم، كان يبدو أن المسألة هي مسألة وقت قبل إزالة العوائق عن طريق (حق تقرير المصير).

باتت الأغلبية العظمى من الشعب الفرنسي على استعداد لقبول (خسارة الجزائر في النهاية) وهو شيء كان يبدو من المحال التفكير

ص: 198

فيه قبل مجيء ديغول إلى الحكم، وكانت فئات كثيرة في الجيش والمستوطنون المتطرفون، وأصدقاؤهم، وعملاؤهم في فرنسا، قد تملكهم الهياج، بل وراحوا يتحدثون عن القيام بالثورة مرة أخرى، ولكن كان يبدو (ديغول) ما زال يستطيع السيطرة عليهم.

وبالرغم من أن الكثيرين من المراقبين فسروا العرض الذي تقدم به في 16 أيلول - سبتمبر - بأنه مقامرة، فإنه كان واثقا من الكسب فيها، إنه بدلا من أن يحاول إغراء المسلمين على البقاء مع فرنسا، كان أكثر اهتماما بالقضاء على المحنة الجزائرية، بأسرع ما يمكن حتى يتمكن من السير قدما في تنفيذ مشاريعه بدرجة أسرع.

ومقابل ذلك، ظهر أن جبهة التحرير الوطني باتت أكثر استعدادأ لقبول تسوية سلمية بشروط تقل كثيرا عن مطالبها الأصلية بالاستقلال فورا؛ وكان معنى هذا أن الاستقلال لن يكون فوريا وإنما بعد فترة من الاستعداد. وساد الاعتقاد أن هذا سوف يجعل الانتقال إلى الحكم الذاتي وإقامة النظم الجديدة أكثر يسرا مما كان متوقعا، وكان يبدو أيضا أن الخطط الرامية إلى انشاء إتحاد كونفيديرالي يضم شمال أفريقيا ويرتبط بفرنسا بعلاقات وثيقة، سوف تنفذ كما سبق رسمها. وبالاختصار، كان في وسع أغلبية الفرنسيين والجزائريين، وأصدقاء الطرفين، أن تتنبأ باقتراب نهاية مرضية نسبيا للثورة الجزائرية، وهو أمر كان يبدو إلى عهد قريب أملا خياليا. غير أن الحدث الذي مارس دور المسرع في التحولات الحاسمة هو حركة تمرد المستوطنين في الجزائر؛ ففي يوم الأحد الموافق 24 كانون الثاني - يناير - 1960، تفجر الموقف عن حركة تمرد قتل فيها 25 وجرح 136 من الفرنسيين، وظل حوالي الثلاثة آلاف من المتمردين متحصنين وراء المتاريس التي أقاموها بالقسم الأدنى من المدينة في

ص: 199

الجزائر، في تحد علني للسلطات المدنية والعسكرية في كل من فرنسا والجزائر.

لقد كان هذا التمرد أخطر تهديد حتى ذلك الوقت لسلطة الرئيس (ديغول) وهدد، لبعض الوقت، بأن يؤدي إلى حرب أهلية فرنسية، وبالجزائر إلى الانفصال. ولقد تميز الفاتح من كانون الثاني - يناير- بعدد من التفاعلات التي أدت إلى ظهور حركة التمرد؛ فكان الجيش الفرنسي يشدد حملته الفعالة لإخماد الثورة عسكريا. وإذا نقصت الفاعلية العسكرية للجبهة الوطنية الجزائرية، فإنها زادت من نشاطها الإرهابي، وبخاصة في منطقة مدينة الجزائر. وفصلت حكومة الجزائر المؤقتة، التي أعيد تنظيمها قبل ذلك بوقت قريب، العناصر التي كان يظن أنها تعارض أية مفاوضات لوقف إطلاق النار، وكان المستوطنون يشعرون بخوف متزايد من حدوث تقارب بين باريس وجبهة التحرير الوطني.

كان قائد المظليين، وحاكم إقليم الجزائر (الجنرال ماسو) هو بطل المستوطنين المحبوب، بسبب تطرفه الاستعماري، وقد أدلى بحديث لمراسل صحيفة (سوديت زيتونج) التي تصدر في (ميونخ) يوم 19 كانون الثاني - يناير - جاء فيه:(لعل الجيش قد ارتكب خطأ حين جاء بالجنرال ديغول إلى الحكم، وأنه قد يستعمل القوة ضده، وأن الرئيس قد أصبح من رجال اليسار). وغضب (ديغول) واستدعى (ماسو) وفصله بعد ذلك بثلاثة أيام (يوم 22 كانون الثاني - يناير). وأطلق هذا التصرف اضطرابا بالغا في الجزائر، بلغ ذروته بعد يومين في صدام بين المتظاهرين من معارضي ديغول وبين قوات الأمن. وادعت الشرطة (البوليس) أن المتظاهرين هم الذين بدأوا باطلاق النار، ولكن الفرنسيين، على كل حال، قتل بعضهم بعضا لأول

ص: 200

مرة في الجزائر. تفرق معظم المشاغبين، عند حلول المساء، ولكن أقل من ألف من المتطرفين أقاموا الحواجز في الشوارع (المتاريس) وبقوا طوال الليل، ولكن رجال المظلات الذين استدعوا لإخماد هذا التمرد، تجنبوا إطلاق النار على هذه الجماعة، بالرغم من التعليمات العامة الصادرة لهم بإعادة النظام.

وفي الأسبوع التالي انضم حوالي الألفين إلى هؤلاء المنشقين، وكانوا يتسلحون ويتمونون تحت سمع رجال المظلات وبصرهم، إذ كان هؤلاء المظليون يتعاطفون مع المتمردين بوضوح. ودعي إلى إضراب عام، وبعد قليل توقف معظم النشاط العادي في المدينة (الجزائر) وقامت مظاهرات التأييد في مدن أخرى.

تمسك (ديغول) في باريس بموقفه في صلابة وثبات، وأكد سياسته عن (حق تقرير المصير للجزائر) وأعلن:(أن التمرد ضربة سيئة ضد فرنسا، ضربة سيئة ضد فرنسا في الجزائر، وضربة سيئة ضدها أمام العالم، وضربة سيئة ضد فرنسا في داخل فرنسا). وحيث بدا واضحا أن جمهرة الرأي العام الفرنسي كانت تقف وراءه، تحرك ديغول إلى إلهاب حماسة بعض وزرائه الأقل حماسة ليقفوا إلى جانبه، وإلى تحقيق حياد بعض الشخصيات السياسية التي كرست نفسها لتخريب سياسته في الجزائر. وحوالي منتصف الأسبوع، بدا أن العطف على المتمردين قد زاد إلى حد ان القيادات المدنية والعسكرية انتقلت من المدينة (باريس) إلى مركز قيادة سري. وامتنع (ديغول) فترة طويلة مؤلمة، عن التدخل المباشر بشخصه، حتى يوم الجمعة 29 كانون الثاني (يناير) حيث خاطب فرنسا والجزائر عن طريق الإذاعة والتلفزيون، فأمر الجيش في عبارات حازمة بإعادة النظام. وبالرغم من أنه بنوع خاص، امتنع عن الأمر

ص: 201

باستخدام القوة، بدا واضحا أنه كان مستعدا للذهاب إلى هذا الحد إذا دعت الضرورة، وكرر أن خطته (لتقرير المصير) هي (السياسة الوحيدة الجديرة بفرنسا)، وعزل معظم السكان الأوروبيين في الجزائر عن (الكذابين المتآمرين) و (المغتصبين) الذين كانوا يقودون التمرد، وأكد أن الجيش لا يستطيع أن يفرض شروطا لولائه، وأن عليه أن يطيعه. واستجابة لنداء (ديغول) الحماسي، أزال رجال المظلات الحواجز (المتاريس) وفي الصباح التالي كان التمرد قد انتهى.

اتخذ (ديغول) في أعقاب انهيار التمرد، مجموعة من الاجراءات التأديبية التي لم يسبق لها مثيل، ضد المتمردين في الجزائر والعناصر الهدامة في فرنسا ذاتها، وأعفيت الشخصيات العسكرية والمدنية التي اشتركت في الانقلاب من وظائفها، وحددت إقامتهم في منازلهم أو زجوا في السجون، وأتبع (ديغول) ذلك بعملية هز شديد لكل من قيادة الجيش ومجلس الوزراء، ولعل أبرز ضحية كان (جاك سوستيل) أقوى مؤيدي بقاء الجزائر فرنسية. وفي أوائل كانون الثاني - يناير - كان الرئيس قد طلب من الجمعية الوطنية سلطات استثنائية ليحكم فرنسا بالمراسيم لمدة عام، وحصل عليها.

لقد أوضح التمرد عدة عوامل حيوية كان لها أثرها الحاسم في إنهاء الحرب الفرنسية - الجزائرية، وفي دور فرنسا المستقبل في الحلف الغربي. وأهم ما في ذلك أنه وضح اعتماد فرنسا الكامل على شخص واحد، هو ديغول، وإذا كان ثمة شيء واحد مؤكد، فهو أن الحكومة الفرنسية كانت عرضة للسقوط، لولا السلطة الهائلة المعنوية والقانونية للرئيس ديغول. لقد عمل منذ مجيئه إلى الحكم

ص: 202

خط من الاسلاك والحواجز والاسلحة عجز عن عزل الجزائر عن جاراتها العربيات

ص: 203

في سنة 1958، على تغيير أنظمة الحكم وعملياته في فرنسا تغييرا جذريا - على نحو ما سبقت الإشارة إليه -، وفصل دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة أساسا حتى يناسب شخصة (ديغول) الفريدة، وقد أهمل أو عطل كثيرا من الطابع الديموقراطي الذي كانت تتسم به إدارة الحكم الفرنسي. وبينما ساعدت هذه التغييرات (ديغول) على معالجة كثير من المشاكل الخطيرة التي واجهت فرنسا، فقد جعلت فرنسا أيضا تعتمد عليه باطراد. والحقيقة البسيطة هي أنه لم يعد في فرنسا شخص يمتلك القوة ليأخذ السلطة من (ديغول)، وظهر أنه من غير المحتمل أن تعود الديمقراطية التقليدية بطريقة نظامية إلى فرنسا دون تسوية للحرب الجزائرية، وفي ظل هذه الظروف، يتعلق الأساس الذي تقوم آمال الغرب في وجود فرنسا قوية، بأكتاف الجنرال (ديغول) تماما، كما يتعلق به أي أمل في تسوية للحرب الجزائرية.

تعلم المستوطنون، من ناحيتهم، درسين هامين، أولهما: أنهم فقدوا التأييد الشعبي الذي كان لهم يوما في فرنسا، وبدون هذا التأييد، لم يكن باستطاعتهم فرض إرادتهم على الحكومة الفرنسية. والدرس الثاني: أنه على الرغم من أن لهم بعض التأييد الواضح في صفوف جماعة ضباط الجيش المحترفين، إلا أن هذا التأييد لا يصل إلى درجة كافية من القوة لتقييد أيدي (ديغول) أو إضعاف تحركه. وقد انهارت آمال المستوطنين في الإنقلاب، في اليوم الأول، حين رفض الجيش الاشتراك فيه بصورة إيجابية. وبارغم من أن المستوطنين لم يكونوا قد فقدوا الأمل، بأي شكل، فقد باتوا، لأول مرة، عاجزين عن ممارسة (الفيتو) ضد سياسة الحكومة.

ص: 204

أدركت جبهة التحرير الوطني بدورها أيضا أهمية الدور الذي اضطلع به الرئيس (ديغول) في ضمان بقاء فرنسا، وانتزاع الطاعة من الجيش، فلم يكن ثمة معنى لوعد ديغول بانتخابات حرة بعد عودة السلام، إلا إذا كان يستطيع أن يضمن عدم تدخل الجيش أو المستوطنين في عملية الانتخاب، فقبلت الجبهة - من حيث المبدأ - العرض الخاص، (بتقرير المصير) غير أنها أمرت على توافر الضمانات حتى تكون الانتخابات حرة في الواقع، قبل أن توقف اطلاق النار. ولم يكن باستطاعة (ديغول) - من ناحية أخرى - إعطاء الضمانات إلا إذا اعترف بأن جبهة التحرير الوطني الجزائرية هي الممثل الشعبي الوحيد للشعب الجزائري، وهو اعتراف كان يرفضه حتى ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن (ديغول) قد أظهر أنه يستطيع حكم كل من الجيش والمستوطنين، فهناك شك كبير في أن يتمكن فرنسي آخر من أن يفعل ذلك، ولذلك فقد وجدت (الجبهة) حتى لو أعطيت الضمانات، واتفق على وقف إطلاق النار، أنها تقامر على بقاء (شارل ديغول) رئيسا لفرنسا.

ص: 205