المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أ - قضية تمثيل الشعب الجزائري: - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٤

[بسام العسلي]

الفصل: ‌أ - قضية تمثيل الشعب الجزائري:

‌أ - قضية تمثيل الشعب الجزائري:

لقد أراد (ديغول) من محاولة (الدمج) و (الاستفتاء) إلغاء دور القيادات الوطنية - وبصورة خاصة في الجزائر - لاختيار ممثلين لديهم الاستعداد لتنفيذ المشاريع الاستمعارية الديغولية وفي الواقع، فإن قضية التمثيل الجزائري أصبحت محلولة، ومنتهية، بالنسبة لجبهة التحرير الوطني الجزائري؛ إذ أكدت جماهير الشعب الجزائري، في مناسبات كثيرة، التفافها حول (جبهة التحرير الوطني) واعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لها، وكان أكبر استفتاء شعبي يؤكد هذا الواقع؛ هو إضراب الثمانية أيام الذي امتد من 28 كانون الثاني - يناير - وحتى 4 شباط - فبراير - 1957 والذي يتطلب في الواقع التوقف قليلا عند بعض التقارير التي وردت عنه؛ وقد جاء في أحد هذه التقارير ما يلي:

(الجزائر - يوم 28 كانون الثاني - يناير -: سكون مؤثر على مدينة شبه مقفرة، لقد بدأت تجربة من تجارب القوة في الجزائر، تحت أكثر الشموس إشراقا وضياء، وهذه التجربة هي الإضراب الذي سيستمر ثمانية أيام، والذي أوعزت به جبهة التحرير الوطني إلى المواطنين المسلمين. يظهر أن المدينة لا زالت نائمة حتى الآن، ولا زال الهدوء مهيمنا حتى على الأحياء المركزية، حيث المخازن الأوروبية مفتوحة كعادتها، ولا يعكر صفو السكون في القصبة والأحياء المتطرفة، إلا الضجة الصماء المنبعثة عن المطارق والمعاول التي يستخدمها الجند، لتدمير أبواب المخازن والحوانيت المغلقة.

لقد لبى التجار المسلمون بكثرتهم الساحقة أمر الإضراب، وكانت السيارات المجهزة بمكبرات الصوت قد أعلنت في الساعة

ص: 83

الثامنة من صباح اليوم - فيما كانت قطعات عسكرية قد رابطت على مداخل الأحياء العربية - أنه بقي للتجار مهلة ربع ساعة لفتح حوانيتهم، ولكن هذه النداءات اصطدمت بصمم مؤثر واجهها به المسلمون القابعون في منازلهم. وفي الساعة الثامنة والنصف كانت ضربات المطارق تخرق السكون

لا شيء أوقع في النفس، في هذه المدينة التي غلبها النوم، من مشهد الدكاكين التي فتحت بالقوة، وتركت هكذا تحت رحمة المارة) (1).

وورد في (صحيفة فرنسية)(2) تعليق عن اليوم الثاني من إضراب الثمانية أيام ورد فيه ما يلي:

(الأبواب المغفورة التي فتحها الجيش عنوة تسمح هنا برؤية (الديكور) التقليدي لمقهى عربي خاو، وهناك ترى أكداس مهملة من الأنسجة ذات الألوان الزاهية - برتقالي ووردي -. وإذا كان التجار المسلمون قد أضربوا عن العمل، فقد حذا المشترون حذوهم

إن هدف (قادة جبهة التحرير الوطني) هو أبسط من ذلك وأكثر خطرا: البرهان على أنهم يمارسون بلا منازع تأثيرا حاسما على المسلمين بالجزائر.

لقد تم استدعاء العسكريين مرة أخرى، إنهم يقرعون الأبواب القديمة المزينة بالورود، في حي القصبة، ويدعون الأهالي للالتحاق بأماكن عملهم، أو لمغادرة منازلهم على الأقل. وإذن، كان بالمستطاع في هذا الصباح أن تقع العين على عدد لا بأس به من المسلمين، يتجولون في شوارع منتصف المدينة، معيدين إليها

(1) صحيفة (لوموند) 29 كانون الثاني - يناير - 1957 و30 منه.

(2)

صحيفة (لوموند) 31/ 1/ 1957.

ص: 84

نشاطها العادي، ولعل حضورهم كاف لإعطاء صورة، وهمية بلا شك، ولكنها مدعاة لإثارة الطمأنينة في المدينة، وبأنه لن يحدث فيها شيء استثنائي، على أن سائر المطلوبين لا يلتحقون بأعمالهم: فنفر يضطربون تحت الشمس، وهم يتعرضون لرحمة نقاط المراقبة والتأكد من بطاقات تحقيق الشخصية - الهويات - وآخرون على الأرصفة: عمال محترفون، يمشون مثنى مثنى وراء جنود الشرطة العسكرية بخوذهم البيضاء. أما الموظفون والمستخدمون، فما زال معظمهم متغيبون عن الإدارات والمصالح، ولم يفت في عزمهم التهديد بعقوبات تبلغ حد العزل، باستثناء قلة منهم).

وعادت (الصحيفة الفرنسية)(1) لتكتب عن إضراب اليوم الثالث، ما يلي:

(مرة أخرى يستيقظ النهار على أصواب المطارق التي تبتر الأبواب، ومرة أخرى يذعن سكان حي القصبة لأوامر العسكريين الفرنسيين. ولا ريب في أن أوامر الدوريات، وعقوبات السجن التي فرضت على العمال والمعلمين والموظفين الذين أضربوا عن العمل، والإجراءات القاسية التي كان يتهامس بها هذا الصباح شباب بلكورت، إذ يساقون إلى المرفىء، كل هذا يبرهن على أن هذا النشاط العارض والجزئي، لم يكن عقويا، وما زال عدد المضربين، رغم التدابير المتخذة، ظاهر التفوق على الذين استأنفوا العمل من المسلمين؛ لقد كانت الجزائر يوم الإثنين مدينة صامتة اختفى منها المسلمون).

وجاء بعد ذلك ما يلي: يلاحظ هذا الصباح، بلا ريب، أن

(1) صحيفة (لوموند) 2 شباط - فبراير - 1957.

ص: 85

المسلمين الذين يضطرهم العسكريون لمغادرة منازلهم، يعمدون إلى نوع من المقاومة السلبية؛ لقد أكرهوا على الخروج، ولكنهم يتنقلون هنا وهناك، بلا هدف، في الشوارع المضيئة، وكثيرون منهم يرفضون العودة إلى المناجم أو المشاريع) (1). وورد بعد ذلك أيضا ما يلي:

(إن الإضراب الذي أطلقته (جبهة التحرير الوطني) يوم الاثنين - ينتهي اليوم، ودللت السلطات على أنها تعتبره منتهيا منذ أمس، حيث رفعت الحصار العسكري الذي كانت فرضته على حي القصبة، بعد ظهر الأمس. وعلى الرغم من أن ظواهر الأمور لا تنم عن شيء من هذا، فإن الإضراب ما زال مستمرا في عدد من المصالح الإدارية، حيث بلغت نسبة المتخلفين (98) بالمائة. وأخيرا، فإن تغيب معظم التجار المسلمين عن مخازنهم وحوانيتهم التي ما تزال مفتوحة وخاوية، يؤكد أن الإيعاز قد روعي تنفيذه حتى يومه الأخير من قبل الكثيرين

).

ووصفت (وكالة رويتر)(2) البريطانية الإضراب بقولها: (بدأ الجزائريون إضرابهم العام عن العمل لمدة ثمانية أيام تنفيذا لإيعاز (جبهة التحرير الوطني)، وفي صباح الإثنين كانت سائر المخازن بمدينة الجزائر معلقة، إلا ما يديره الأوروبيون، وقبيل الضحى، أجبرت القوات الفرنسية التجار المضربين على فتح مخازنهم. وتدل الأنباء التي وردتنا على أن المخازن المغلقة في مدن الجزائر الرئيسية كانت بنسبة تسعين بالمائة، كما أن (75) بالمائة من الموظفين غير

(1) صحيفة (لوموند) 3 و4 شباط - فبراير - 1957.

(2)

الثورة الجزائرية والقانون - البجاوي محمد - ص 109 - 112.

ص: 86

صورة من صور إضراب الجزائر - شكل من أشكال المقاومة

ص: 87

الأوروبيين لم يلتحقوا بمراكز عملهم، ويقوم ألوفا من الجند الفرنسيين بدورياتهم في شوارع العاصمة والمدن الجزائرية الهامة، وعزل حي القصبة، وتقوم المصفحات بمراقبة كافة الطرق المؤدية إلى الجزائر، وألقت الطائرات العمودية - الهيليكوبتر - مناشير تدعو الجزائريين إلى مقاطعة الإضراب وتتوعد، بأنه سيجري اعتقال المحرضين وإدانتهم فورا، ولكن الإضراب مستمر في مختلف القطاعات وعلى امتداد التراب الجزائري، ابتداء من (مارني) على الحدود المغربية، إلى (تبيب) على الحدود التونسية).

وكتبت صحيفة (فرانس أوبسرفاتور) في الموضوع ذاته: (

لم يثن الشعب الجزائري ركبتيه - ولم يركع - على الرغم

من طوفان الحديد والنار الذي يغمره منذ سنتين، وإن الاضراب الذي أوعزت به - جبهة التحرير الوطني - لهو البرهان الساطع على ذلك، وإنه لمن غير المتوقع أن يركع هذا الشعب الآن، حتى لو أضفنا مائة أو مائتي ألف إلى عدد ضحايانا).

وكتبت صحيفة (ليبيراسيون) الباريسية: (الجزائريون يمضون في الامتثال الأمر بالإضراب الذي أصدرته - جبهة التحرير الوطني -؛ ففي العاصمة يعد المسلمون الذين غادروا منازلهم على الأصابع، وما تزال كافة المخازن مغلقة، والقطعات الفرنسية ماضية في تنفيذ أوامر (الجنرال ماسو) بتحطيم الأبواب الحديدية - للمتاجر -، ولقد استدعت السلطات عددا من العمال الأوروبيين لتسيير حافلات النقل (الباصات) والحافلات الكهربائية، ولكنها، كما قال مراسل وكالة الأنباء الأمريكية - الأسوشيتد برس - جهدت في أن تخلع على عملهم صفة الحملة النفسانية. هكذا وهنالك عسكريون فرنسيون تجولوا في شوارع القصبة، وحاولوا توزيع

ص: 88

السكاكر على الأطفال المسلمين، وتطلب سيارات مجهزة بمكبرات الصوت إلى المسلمين أن يثقوا بقوات الأمن، قائلة: إن الجيش والشرطة سيحميانكم، وبين كل نداءين للانضباط تذيع السيارات المذكورة بعض الموسيقى الخفيفة - لبعث الطرب في النفوس -. وقد شوهدت موسيقى الفرقة التاسعة وهي تطوف شوارع حي القصبة، وهي بكامل لباس المراسم (السترة البيضاء مع صدارة من الجلد فوق البنطال الأحمر، وهي عزلاء من السلاح، إنما يقودها عقيد، كولونيل)، وكانت تعزف ألحانا مما يسخدم في التدريب العسكري، وذلك لاجتناب الأهالي إلى الشارع، ولكن النتائج على ما يبدو كانت تستدعي الرثاء، ويظهر أن حركة الإضراب لم تعارض حتى الآن بصورة حاسمة وفي القصبة، اقتيد آلاف العمال، تحت حراسة القوى العسكرية إلى مراكز عملهم، بينما كانت سائر الأزقة تحت الحراسة، وطائرات الهيليكوبتر تطير على ارتفاع منخفض لتطارد المنهزمين، وتلافي الاغتيالات التي قد تدبر من فوق الأسطحة

).

أما في ولايتي الجزائر ووهران، فقد نجح الإضراب يقينا، بالرغم من التأكيدات الرسمية التي تحاول الانتقاص من نجاحه. وكان شموله بنسبة (90) بالمائة، سواء في الإدارات أو في المصالح الكبرى: النقل والمواصلات والبرق والهاتف، أو حتى في المجالات ااتجارية وأسواق بيع الماشية، وحتى الأوروبيين الذين روعتهم الاغتيالات الصارخة التي حدثت يوم السبت، شرعوا يهجرون شوارع المدينة التي زايلها نشاطها العادي. وثمة نفر من التجار المسيحيين من أصل اسباني الذين اضطروا إلى فتح مخازنهم، كانوا ينتظرون، تحت حماية الجيش، زبائن شاردين،

ص: 89

ولكن في معظم الحالات ظل أصحاب المخازن مختفين، وتركوا للسلطات أن تخلع الباب والواجهة، ولم تسلم بعض هذه المخازن من النهب

وفي الأحياء القريبة من المدينة العربية، والمأهولة بالأوروبيين اكتفت السلطات بدك الواجهات وتخريب المبيعات

أما في وهران وتلمسان وسيدي ابن العباس ومستغانم، فقد أغلقت معظم المخازن، وشمل الإضراب قسنطينة، حيث خلت سائر الأسواق والمخازن من أهلها وكذلك بالنسبة للمناطق المجاورة لها حيث كانت نسبة المضربين عالية جدا، حتى في أوساط الموظفين، رغم العقوبات الشديدة التي توعدتهم بها السلطات.

وفي فرنسا ذاتها، سجلت حركة الإضراب، في بداية الأسبوع، انتصارات واضحة جدا، وقد اضطرت المصالح الرسمية ذاتها للاعتراف بأن نفوذ الجبهة في أوساط العمال الجزائريين المهاجرين إلى فرنسا أخذ في التعاظم. وأيا كانت النتيجة التي سيؤول إليها الموقف، في الأيام القادمة، سواء في الجزائر أو في فرنسا، فثمة حقيقة باتت مقررة، وليس لأحد أن ينتقص من أهميتها، ولو لم نستتع آثارها المباشرة تلك أن نفوذ الجبهة يتعزز باستمرار وانتظام سواء في أوساط العمال المهاجرين، أو بين جماهير الحضر بالجزائر).

يظهر العرض السابق أن جبهة التحرير باتت بعد المراحل الأولى من الصراع المرير وهي واثقة من قدراتها، عارفة لإمكاناتها، مؤمنة بالتفاف الشعب الجزائري حول أهدافها. ولهذا فلم يكن هناك ما تخشاه من محاولات (ديغول) للعزف على إسطوانة (الدمج) المهترئة، غير أنه لم يكن باستطاعتها في الوقت ذاته ترك المبادءات

ص: 90

السياسية للخصم، بعد أن أمكست بحزم في قبضتها بالمبادءات العسكرية، ولهذا، فقد أقدمت على إجراء حاسم قبل عملية الاقتراع المزعوم - والمزيف -. ففي يوم 19 ايلول - سبتمبر - 1958، تم الإعلان في كل من (القاهرة) و (الرباط) و (تونس) عن تشكيل (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة فرحات عباس، واختيار احمد بن بللا الزعيم السجين نائبا أول لرئيس الوزراء).

كان هذا الإجراء من قبل جبهة التحرير الوطني استجابة طبيعية للتحدي الذي حاول (ديغول) فرضه على الجزائر، وتلقى ديغول اللطمة، فعمل على تصعيد التحدي، وأعلن يوم 23 تشرين الأول أكتوبر - 1958: (أنه على استعداد للتفاوض مع - مندوين - يأتون لتسوية قضية إنهاء القتال مع السلطة الفرنسية في باريس، وعلى هؤلاء المندوبين اذا أرادوا ذلك أن يتقدموا أولا إلى السفارة الفرنسية بتونس أو المغرب أو غيرها

ثم دعا المجاهدين إلى الاسستلام وإلقاء السلاح بقوله: أما الذين يقاتلون فعليهم أن يوقفوا إطلاق النار، ويعودوا إلى ديارهم وأعمالهم).

لقد كان عرض (ديغول) شاذا في شكله، غريبا في مضمونه، منطويا على كل أصجاب الرفض والاحتقار، فهو يدعو المجاهدين للاستسلام وإلقاء السلاح، و (ديغول) لا يمانع في استقبال مندوبين - أو ممثلين - للتفاوض في مسألة (إنهاء القتال) من الناحية العسكرية فقط، وذلك بصفته صاحب السلطة العليا. وقد أعلن بعد ذلك أنه لا يقبل التغاوض مع هؤلاء المندويين في (المشكلة السياسية) لأنه يعتبر بأنه لم يعد هناك وجود لهذه المشكلة بعد أن أعلن سياسة (الدمج)، وبعد أن وافق عليها الشعب الجزائري -

ص: 91