المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ج - قضية (تقسيم الجزائر) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٤

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ج - قضية (تقسيم الجزائر)

‌ج - قضية (تقسيم الجزائر)

بينما كان الوفد المفاوض الجزائري، يمضي قدما في طرح مواقف (الجزائر وحكومتها) بصراحة ووضوح، كانت فرنسا تمضي بدورها قدما في (اختراع المخططات الاستعمارية المتطورة) وكان موضوع (تقسيم الجزائر) في جملة (البدع) التي تفتقت عنها العبقرية الاستعمارية، مستفيدة في ذلك من تجربة تقسيم فلسطين، ومتجاهلة كل حقائق الموقف الجزائري، ولقد كان أول رد فعل للوفد الجزائري على قضية (تقسيم الجزائر) ممثلا بالمقولة التالية:

(إن الوفد الجزائري لم يعالج هذا والموضوع من الزاوية المعروفة، لقد جعله الوفد الفرنسي موضوعا إقليميا تريد فرنسا من ورائه أن تحتفظ عليه بسيادة كاملة، وبهذا فإنها تنتقص من وحدتنا الإقليمية، وسيادتنا الوطنية). وفي موضوع اقتراح الوفد الفرنسي بإقامة مناطق عسكرية تبقى خاضعة لفرنسا، ذكرت البعثة الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، في تقرير لها، ما يلي:(لقد طلبت فرنسا إقامة مناطق عسكرية تابعة لها في الجزائر، لا مجرد قواعد عسكرية فحسب بل مناطق كاملة تمارس فرنسا عليها السيادة الكاملة، ويتنافى هذا الطلب مع الوحدة الإقليمية للوطن الجزائري ومع مبدأ تقرير المصير، لأن هذا المبدأ يجب أن ينطبق على جميع الجزائر وجميع الجزائريين).

جدير بالذكر أن حملة (تقسيم الجزائر) كانت حملة شاملة، بقيادة الرئيس الفرنسي - ديغول - ذاته؛ ففي حفلة كبرى أقامها في حدائق (قصر الإليزيه) تفجر الرئيس ديغول غضبا على الحكومة الجزائرية لأنها رفضت خطة (الجمعية الجزائرية الفرنسية)، وقد بدا في ملاحظاته تهديد صريح بتطبيق فكرة التقسيم في الجزائر،

ص: 167

وتحدث (ديغول) عن (إعادة التجميع)، وهو تعبير ابتدعه وقصد به تجميع الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين في منطقة محددة من الجزائر، إذا اختار الجزائريون طريق الاستقلال. وتنفيذا لهذه الفكرة عكفت وزارة الخارجية الفرنسية على إعداد ملف ضخم خاص لتقسيم الجزائر، وتضمن هذا الملف خطة مفصلة:(يترك بموجبها للجزائريين الصحراء القاحلة والمناطق الجبلية، أما الفرنسيون فقد تركت لهم هذه الخطة منطقة - وهران - أرزو - مستغانم - التي تحتوي (44) في المائة من كروم الجزائر و (27) في المائة من الموالح و (50) في المائة من الإسمنت مع السيطرة على غاز (حاسي الرمل) وتعطيهم كذلك (سهل متيجة - متوجة) وشاطىء الجزائر، بما يحتوي من (20) بالمائة من الكروم و (20) بالمائة من التبغ، و (42) في المائة من الموالح، و (50) في المائة من الانتاج الصناعي، وتعطيهم كذلك منطقة (بوجي) التي تسيطر على نقل مصنوعات الحديد في (حاسي بون) وتحتوي على (60) في المائة من إنتاج القطن، و (50) في المائة من التبغ و (12) في المائة من الموالح و (19) في المائة من انتاج الكهرباء. وبموجب هذه الخطة فإن فرنسا تسيطر على ثلاثة أرباع الشاطىء الجزائري، الذي يضم أجود الأراضي للانتاج الزراعي، وكان هذا الإنتاج خلال تلك الفترة، يقدر بما قيمته اثنين بليون فرنك - جديد - من أصل اثنين ونصف بليون فرنك تمثل مجموع الإنتاج في البلاد. وقد استمرت فرنسا بتهديد الحكومة الجزائرية لهذه الخطة، ولا سيما بعد (مؤتمر إيفيان)، غير أن الجزائر، حكومة وشعبا، لم تضعف أو تصاب بالوهن في مواجهة هذه الخطط الاستعمارية، وبرهنت الجزائر فى مجال الصراع السياسي أيضا أنها أصلب عودا وأشد مراسا مما كانت

ص: 168

تظنه فرنسا، وأن كافة التهديدات والمناورات غير قادرة على تليين إرادتها أو حرفها عن هدفها، لقد قاتل الشعب الجزائري دفاعا عن حياضه طوال مائة وثلاثين عاما، كما خاض الحربين العالميتين الأولى والثانية دفاعا عن فرنسا ذاتها، في الوقت الذي كان فيه قادة فرنسا (مارشالاتها وجنرالاتها) يوقعون صكوك الاستسلام، ويمهرون اتفاقات الذل والعار بتواقيعهم.

لم يقتنع الجنرال (ديغول) بمنطق الأحرار، فعاد من جديد إلى التهديد (بالتقسيم) في مناورة غير بارعة حيث قال: (إنه إذا لم يتم الاتحاد بين فرنسا والجزائر، فسيكون من الضروري في النهاية أن تجمع فرنسا في منطقة واحدة، جميع السكان الذين يرفضون أن يكونوا في دولة مصيرها الفوضى

) وكشف (ديغول) بذلك الخطة الجديدة لإثارة التخريب والفوضى في الجزائر، إذا ما هي صممت على متابعة طريقها الاستقلالي. وكان رد الثورة الجزائرية ممثلا بالمقولة التالية (سيكون مصير الجزائر المستقلة هو التقدم والازدهار، لا الفوضى والخراب، بل إن هذا التفكير الفرنسي هو الذي سينتهي إلى الفوضى والخراب. إن على السكان الذين يرفضون أن يعيشوا في الجزائر المستقلة أن يخرجوا من الجزائر، عليهم أن يرحلوا عن الجزائر حالا، إننا لا نعرف بلدا يخضع مصيره إلى رغبات جزء من السكان يرفضون أن يتبعوا وطنهم، تماما كما ترفض فرنسا أن تربط الوطن برغبات مجنونة - هستيرية، تنادي بها أية جماعة في فرنسا، ترفض أن تتبع فرنسا).

لقد حاولت فرنسا - بمختلف الوسائل، وبشتى الأساليب - الوصول إلى أهدافها، لإطالة عمر الاستعمار والعمل على تطويره، وكان في جملة وسائلها محاولة الالتفاف من حول هذه القيادة العنيدة

ص: 169

الممثلة للشعب الجزائري وثورته العملاقة. ويذكر في هذا المجال ما قاله أحد وزراء فرنسا، وهو في حالة من الغضب والهياج من أن (المفاوضات معناها الحرب) كما اعتبرت فرنسا أن مطالبة الجزائريين بالاستقلال هو (ضرب من الجنون) ووصفت زعماء الجزائريين:(بأنهم مصابون بالجنون، ويكفي للدلالة على جنونهم أنهم يطالبون باستقلال الجزائر). وعلى هذا لم يكن من الغريب بعد إحباط فرنسا (لمؤتمر إيفيان)، أن يتوجه رئيس وفد المفاوضات الفرنسي، ووزير الشؤون الجزائرية، المسيو جوكس، إلى الجزائر في محاولة جديدة لإنشاء (سلطة تنفيذية) من زعماء الجزائر المسلمين، وهي السلطة التي طالما حاولت فرنسا إنشاءها مرات عديدة وفشلت في مسعاها .. ولقد اتصل - جوكس ومعاونوه -بجميع الزعماء الجزائريين في جميع المدن والمقاطعات الحزائرية، ولقد جرت أحاديث تفصيلية بين الجانبين الفرنسي - الجزائري، ولكن جواب الجزائريين كان حاسما، فقد رفض الزعماء الجزائريون أن يتعاونوا مع السلطة الفرنسية، من غير موافقة الحكومة الجزائرية لقد واجه - المسيو جوكس - كلمة (لا) حتى من أولئك الذين يعرفون بأنهم جماعة (نعم - أو بني وي - وي) في الجزائر، وجماعة (نعم) يمكن لها أن توجد في كل شعب، وعلى هامش كل حركة تحريرية في العالم. وهكذا فقد فشل - المسيو جوكس - وعاد إلى فرنسا ليرفع تقريرا عن فشله الذريع، وثبت مرة أخرى، أكثر من أي وقت مضى، أنه من المحال على فرنسا أن تصل إلى أية نتيجة من غير موافقة الحكومة الجزائرية.

لقد كان ذلك استفتاء لقوة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، واختبارا جديدا لنفوذ جبهة التحرير الوطني، وبرهانا

ص: 170

ساطعا على تلاحم جماهير الشعب الجزائري مع مجاهدي جيش التحرير. وفي الحقيقة، وكما سبق ذكره، فقد بات العالم كله على معرفة أكيدة بهذه الحقائق، ولكن جبهة التحرير (والحكومة المؤقتة) لم تكن تقف جامدة في مجال التحرك السياسي وهي تشهد الهجوم الاستعماري الشامل، وكانت الإضرابات الشاملة، في تلك الظروف، هي أداة التعبير عن (الاستفتاء العملي) وهي وسيلة البرهان على قوة (البيعة الشعبية) التي برهنت على ما تتمتع به (جبهة التحرير وحكومتها) من الدعم والتأييد، وقد يكون من المناسب هنا التوقف قليلا عند بعض ظواهر هذه البيعة الشعبية.

ص: 171