الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الجزائر في منظور الاستعماريين
ما أن انطلقت الرصاصت الأولى في الجزائر، في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر-1954، (مع فجر عيد جميع القديسين) حتى أصيب الاستعماريون الفرنسيون بالذعر، لقد أصابت تلك الرصاصات قلب الاستعمار، وكان تحرر الجزائر هو آخر ما يضعه دهاقنة الاستعمار في مخيلتهم، وجاء أول رد فعل رسمي على لسان وزير الداخلية الفرنسي (فرنسوا ميتيران) الذي أعلن:(الجزائر هي فرنسا، من الفلاندر إلى الكونغو، هناك قانون واحد، ومجلس نيابي واحد، وبذلك فهي أمة واحدة، هذا هو دستورنا، وتلك هي إرادتنا). وأعقب هذا الإعلان بتصريح آخر: (إن المفاوضات الوحيدة هي الحرب)(1). وتتابعت التصريجات المتاشبهة، ومنها: (إن فرنسا هنا في ديارها، أو على الأصح فإن الجزائر وجميع سكانها جزء لفرنسا، كما أنها جزء لا يتجزأ منا، إن مصير الجزائر فرنسي، وهو اختيار قررته فرنسا،
(1) 5 و7 تشرين الثاني - نوفمبر - 1954 (ملفات وثائقية-24 - وزارة الإعلام والثقافة -الجزائر) آب - أوت - 1976 ص 79.
وهذا الاختيار يدعى الاندماج) (1) وكذلك (ليس هناك من اختيار آخر نسعى إليه، وهناك أكثر من قرن والجزائر تندمج في فرنسا، إن هدفنا الآن هو بلوغ الدمج الكامل للجزائر)(2).
وانطلق الاستعماريون في فرنسا، يحشدون القوى، ويستنفرون الرأي العمام الفرنسي، وهة ما يبرزه النداء الذي وجهه فريق ممن يحتلون القمة في الفكر الاستعماري الفرنسي إلى الشعب الفرنسي وجاء فيه:
(نداء إلى الشعب الفرنسي (3)
(إن المصير الذي يتقرر الآن في الجزائر هو ليس فقط مصير إخواننا من مسلمين وأوروبيين، وليس فقط مصير شمال أفريقيا والاتحاد الفرنسي، إنه ليس فقط مصير فرنسا كدولة عظمى، مصير دورها الاستراتيجي وتوازنها الاقتصادي، مصير حرياتها الجمهورية ووحدتها القومية التي سيقضي عليها طردنا من أفريقيا في أمد قصير. وإذا لم نستطع أن نجد في كنوز ولائنا لفرنسا وثقتنا بالإنسان، القوى الضرورية لإعادة السلام للجزائر، بفورة دفاقة من الحياة، وإعادتها إلى مركزها المرموق في الجمهورية الفرنسية، فإن أيامنا المقبلة ستكون أكثر شؤما علينا من (سيدان) ومن حزيران - يونيو - 1940، وإننا في هذه المرة لم نحاول حتى الدفاع عن سيادة العدالة، وعندما سنستسلم في قلوبنا، سيلفنا بدون رحمة حكم التاريخ.
(1) تصريح (جاك سوستيل) الحاكم العام للجزائر في 23 شباط - فبراير - 1955 (المرجع السابق).
(2)
تصريح (إدغار فور) رئيس مجلس وزراء فرنسا - في 25 أيلول - سبتمبر - 1955.
(3)
أضواء على القضية الجزائرية (إبراهيم كبة) بغداد- 1956 ص 119 - 122.
من الذي يريد طردنا من بلاد ربطتنا بها (125) سنة من الحضارة المشتركة؟
إلى جانب رؤساء العصابات الدائمين، والسفاكين القساة، ونذر الإرهاب الشرير، توجد بعض النفوس العجلى التي أعمتها الدعاية المضللة، يدعون أنفسهم وطنيين، ولكنهم يجعلونها آلات بيد الاستعمار الثيوقراطي، والتعصب العنصري، استعمار العروبة الذي يهدد إخواننا التونسيين والمراكشيين، كما يهدد إخواننا الجزائريين، والواقع أن التحدي موجة للحرية!.
ومن الطبيعي أن يستطيع هذا الاستعمار، وهو يحمل راية حق تقرير المصير التي تخفي وراءها الاستهانة المطلقة بحقوق الإنسان، تضليل بعض السذج من الغربيين، وأن يحملهم بمدعياته الفارغة على المبالغة في تقدير قواه، إلا أن عدونا الحقيقي يكمن بين ظهرانينا، إنه ترددنا وتلكؤنا، وهو نتيجة للجهل بالنسبة للأكثرية، وخمول الهمة بالنسبة للبعض، وقلق الضمير بالنسبة للآخرين.
لنتخذ فورا القرار الحاسم، فلقد بلغ السيل الزبى!.
يجب أولا أن نكون صريحين: لقد أعلنا في الجزائر نفس المبادىء التي أعلناها للجمهورية الفرنسية، ولكن ماذا بذلنا من أجل تطبيقها ضد المخالفات التي لا تحتمل من قبل المدن والأوروبيين معا، من قبل الإدارة والأفراد جميعا؟ لقد حملنا السلام معنا في كل مكان، وخلقنا حضارة حديثة راقية من لا شيء، فماذا كان نصيب الفئة المختارة من أبناء البلاد منها؟ لقد تضاعف عدد الجماهير العربية بفضلنا، فهل ضاعفنا بنفس النسبة وسائلها المعاشية؟ لقد كثر الكلام عن الكولونيالية الفرنسية في الجزائر، ولكن خطأنا
الحقيقي هو بطء التطور، قلة عدد الأوروبيين، قلة الكوادر اللازمة. على أننا إذا كنا قد أخطأنا بسبب الإهمال، فلا يمكن أن تنسب إلينا جريرة تعمد مخالفة المبادىء؛ إننا لم نحاول قط القضاء على السكان الأصليين، أو انتهاك حرياتهم، أو التمييز العنصري المنظم ضدهم، أو تحويلهم عن دينهم، كما يحاول الآن متطرفو دعاة الإسلام الجدد تأكيده! ولكن إذا كنا قد تقاعسنا عن جزء من مسؤوليتنا، فهل يجب علينا الآن أن نتركها جمعاء؟
…
وإذا كان باستطاعة القلة من أصحاب الامتيازات أن تجد لها ملجأ أنى شاءت على الدوام، فهل يجب أن نترك طعمة لأفظع أنواع الاستبداد، هؤلاء المليون فرنسيا الذين مدوا جذورهم هناك إلى الأعماق، وهذه الملايين العديدة من الفرنسيين المسلمين الذين أراقوا دماءهم
جنبا إلى جنب مع أبنائنا في كل ميادين القتال؟ ومن يستطيع أن يشق لهم طريقا إنسانيا نحو المستقبل غير وطننا، وطن حقوق الإنسان؟
إننا نؤمن إيمانا مطلقا بأن من العدالة التامة استعمال القوة من قبل الفرنسيين لحماية هؤلاء وأولئك من الإرهاب. إن استعمال القوة المذكورة يجب أن ينتهي بالانتصار الحقيقي؛ إدخال السلام إلى القلوب. إن هذا السلام لن يكون سلام الماضي، بل من المؤكد أن المشاركة الحقيقية، ستتحقق عن طريق العمل الجريء في إصلاحات واسعة اقتصادية واجتماعية وسياسية. إن هذا العمل جدير بفرنسا حقا، والتضحيات التي يتطلبها مهما كانت كبيرة ستكون محدودة، إن بذلت قبل الأوان. إن المسألة أوسع من مسألة الحرب أو القتال، وأرحب من ضيق قوانين المال وماذا يمكن أن يشرف الشباب الفرنسي، زراعا كانوا أم مهندسين، أطباء أو إداريين، أكثر من إنشاء هذه المشاركة الرائعة مع رفاقهم المسلمين في خضم العمل
اليومي والجهد الدائب؟ على أن العمل المذكور سوف يولد وئيدا إذا بخلنا عليه بدماء القلوب والأرواح! أو لم نشدد من يقظتنا لتطبيق الحل الديموقراطي للمشكلة الجزائرية فور استتباب السلام. ولهذا الجهد المندفع نحو الانقاذ العام، في ظل الشرعية الديموقراطية، ندعوكم جميعا أيها الفرنسيون على اختلاف آرائكم واعتقاداتكم، وتباين أحزابكم وطبقاتكم؛ لنتعاهد جميعا على هذه اليقظة والحذر، لئلا يرتد ثانية كرم الشعب الفرنسي، ولكي تعود له كلمته النافذة وسلطانه الحق.
لنتحد جميعا لإنقاذ الجزائر، وبانفاذها سوف نكتب لفرنسا الخلود.
التواقيع:
الكاردينال (ساييج) أسقف تولون.
(اميل روش) رئيس المجلس الاقتصادي.
(البير باييه) رئيس اتحاد الصحافة الفرنسي.
(روبير دو لافت) الحاكم العام سابقا لبلدان ما وراء البحار.
(جورج ديهامل) الأديب وعضو الأكاديمية الفرنسية.
(مارسيل انكوان) رئيس رابطة المحاربين القدماء الفرنسيين.
(الجنرال مونسايير) قائد فرنسي مشهور.
البروفسور (باستور فاليري رادو) عضو الأكاديمية الفرنسية.
البروفسور (بول رينيه) المدير الفخري لمتحف الإنسان.
(ريمي رور) رئيس تحرير (لوموند) سابقا.
(جان ساري) عميد جامعة باريس.
(جورج لوبو) المفكر الفرنسي المعروف.
(ناجلين) الحاكم العام للجزائر سابقا.
(جاك سوستيل) الحاكم العام للجزائر سابقا.
ومن تصريح للرئيس الفرنسي (رينيه كوتي) أمام وفد الجمعية الوطنية للأوسمة العسكرية، بمناسبة توزيع (أوسمة الشرف) على مرتزقة الاستعمار:
(إننا في أشد الحاجة للشجاعة في يومنا هذا، والواقع، فإنه منذ سكوت المدافع عام 1945،لم ينفك الفرنسيون في حالة نضال مستمر، فقد دخلوا أولا في نضال عنيد من أشد أنواع النضال صعوبة - في الهند الصينية - بالنظر لعدم تعودهم عليه، واليوم، يرتدي الشباب الفرنسي ثانية رداء الشرف، شادا الرحال إلى أفريقيا الشمالية وما أسعدني أن أراه الآن ممثلا بصورة واسعة بين أعضاء وفدكم الكريم؟!
لقد سبق منذ بداية تلسمي هذا المنصب أن عبرت عن رغبتي الملحة لزيارة الجزائر، ومازلت آمل أن تسمح لي الظروف بتحقيق هذه الرغبة لأوزع أوسمة الشرف على صفوف قواتنا المقاتلة هناك.
…
ومن خطاب لرئيس الوزراء السابق (انطوان بينيه) أمام المؤتمر الصحفي المنعقد في (باريس) بتارخ 5/ 5/ 1956، الفقرة
التالية:
(لقد صرحت بتاريخ 30/ 9/ 1955، أمام هيئة الأمم المتحدة، بأن القضية الجزائرية هي قضية فرنسية صرفة، ولا أزال متمسكا بهذا الرأي. لقد قام (روبير لاكوست) بإجراءات جريئة، ولا نزال بحاجة إلى إجراءات أخرى مماثلة، ومن المهم جدا أن يعاد الأمن إلى نصابه، بجيوش ضخمة لتجنب الخسائر غير المجدية
واختصار نفقات إعادة التسلح
…
ويتحدث البعض عن المفاوضة، ولكن مع من؟ إن المفاوضة في الظروف الحالية لا تعني إلا السير على طريق الانفصال، إن صراحة العمل، واتحاد جميع القوى، هما اللذان سيمكنان فرنسا من إنقاذ الجزائر!).
ومن مقال لرئيس الوزراء السابق (بليفان)(1) تحت عنوان (أحلول مقبولة أم مغاوضون مخولون؟) حمل فيه على سياسة الحكومة الحاضرة في سعيها لإجراء انتخابات حرة في الجزائر بعد مرور ثلاثة أشهر، من وقف إطلاق النار، بحجة أن المدة المذكورة غير كافية لتهدئة الخواطر وإعادة السلام بشكل يوفر الحرية الفعلية للانتخابات الموعودة، ولأن إجراءها في الوقت المذكور يهدد بانتخاب المتطرفين والثوار أنفسهم، والذين تحاربهم فرنسا الآن!
ومن خطاب لرئيس الوزراء السابق (جورج بيدو)(2) ما يلي: (إن البحث عن مفاوضين شرعيين في الجزائر، على غرار ما حصل في تونس ومراكش، سيكون خطأ من أعظم الأخطاء، بل إن المفاوضات مع القتلة وسفاكي الدماء الذين تسندهم الخيانات المسترة الآن، سيكون جريمة كبرى، إنني أعتقد أن إطالة المدة المعطاة للثوار، للاستجابة لنداء الحكومة، سوف يتسبب فى إطالة أمد الثورة بدلا من وضع حد نهائي لها).
ومن خطاب لرئيس الوزراء السابق (شومان)(3): (إن المشكلة الجزائرية هي مشكلة سياسية، ونحن نتفق في هذه النقطة
(1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 12/ 5 / 1956.
(2)
صحيفة (لوموند) الفرنسية 7/ 4/ 1956.
(3)
صحيفة (لوموند) الفرنسية 2/ 5 / 1956.
مع رئيس الوزراء - غي موليه - ومع الوزير المقيم في الجزائر - لاكوست -. ولكن هذه المشكلة تثير مسألة أخرى أكثر أهمية بكثير وهي: هل سيرغم ملايين الجزائريين من مسلمين وأورويين، من الذين ولدوا فرنسيين، ويشعرون دائما أنهم فرنسيون، على أن يصبحوا بين عشية وضحاها أجانب في هذه البلاد التي ولدوا فيها؟؟).
كذلك صرح (شومان)(1) أمام الجمعية الوطنية الفرنسية:
(إن من يسمع أنصار الثوار الجزائريين بين نواب هذه الجمعية، يعتقد بأن هناك طريقين لا ثالث لهما: إما المفاوضة مع الثوار بالشروط التي يفرضونها هم علينا، أو الاستمرار في الحرب. والواقع أن هناك طريقا ثالثا، هو طريق (الاتحاد أو الدمج) والذي اختاره - غي موليه - و - لاكوست -. أما وقف إطلاق النار، فيجب أن يوجه إلى العصاة أنفسهم، كما كتبت بحق بصحيفة - البوبلير - كان حال الحكومة الحاضرة - تذكيرا للشيوعيين -!، وإن مناقشة الجمعية يجب أن تستهدف إقناع الثوار بأن إرادتنا حاسمة في موضوع الجزائر. إن الحل النهائي للمشكلة يجب أن يكون سياسيا، ولكن يجب أن نمهد لذلك بالوسائل الحاسمة، أما تحديد مستقبل الجزائر منذ الآن، فإن الوقوع في الفخ الذي يريده لنا الخصوم، وارتكاب خطأ جسيم قد لا يمكن إصلاحه بعد هذا أبدا.
إن القضية الجزائرية هي قضية فرنسية صرفة، ومن أكبر
(1) صحيفة (لوموند) الفرنسية 2/ 6/ 1956، وكان ذلك أثناء المناقشة الحامية التي نوقشت فيها المسألة الجزائرية خلال أيام متتالية، وانتهت بفوز الحكومة بثقة الأغلبية الاستعمارية في الجمعية.
الإهانات الموجهة لنا، السماح لها بأن تثار على الصعيد الدولي، يجب علينا أن نعارض حتى آخر نفس كل تدخل من قبل الآخرين.
(وبعد أن أثار هذا المسيحي الاستعماري المتعصب سياسة الزعيم نهرو في تأييد استقلال الجزائر، وسياسة تيتو لتهريبه المزعوم للأسلحة إلى الثوار عن طريق ليبيا) أنهى خطابه بالصرخة التالية: لنبن سياستنا في الجزائر على اعتبار أن مفهوم المجتمع الفرنسي المسلم يحقق رغبات الأكثرية الساحقة من سكان الجزائر، إن قوتنا مستمدة من إيماننا بالديموقراطية، ونحن ندعو الحكومة إلى التمسك دائما بمبدأيها الأساسين: عدم الخضوع لأي حل يفرض علينا بالقوة، وعدم فرضنا أي حل استنادا إلى القوة. إن أكثرية الفرنسيين الساحقة مستعدة لتأييد سياسة الحكومة، ولكن بشرط التأكد من أن الحرب الدائرة في الجزائر، هي ليست حرب إعاقة، وإنما هي حرب حماية ورعاية، وإن هذه المناقشات يجب ان تعبر بقوة عن إرادة قومية حقيقية.
…
ومن القادة السياسيين، إلى القادة العسكريين، حيث ألقى (المارشال جوان) خطابا في مدينة (ميتز) (1) جاء فيه:
(لقد عقدنا الاتفاقيات الأخيرة مع تونس، وسنباشر عقدها أيضا مع مراكش - المغرب - على أساس اعتبارنا البلدان المذكورة قد بلغت سن الرشد والأهلية الخاصة لتولي شؤونها العامة، ونحن نأمل أن تباشر هذه البلدان حكمها الذاتي مستوحية من ذلك الأثر العميق لفرنسا في تاريخها! وليس من المتصور أن تستطيع هذه البلدان بين
(1) صحيفة (لوموند) 6/ 3/ 1956.
عشية وضحاها التخلص من وصايتنا عليها، خاصة في ميادين الأمن والدفاع والدبلوماسية، بالنظر لأن الموضوع لا يمس فرنسا وحدها بل التزاماتها الدولية أيضا.
أما عن الجزائر التي ارتبط مصيرها بمصيرنا منذ أكثر من 125 سنة، والتي يعيش فيها أكثر من مليون فرنسي. فقد أعلن رئيس الوزراء بحق اتحادها الأبدي مع الوطن الأم!
وليس من شك في أن سياسة التهدئة تحتاج لمزيد من الجهود العسكرية الدائبة للقضاء على نظام الإرهاب غير المحتمل السائد الآن في الجزائر؟ إن المشكلة الأساسية الآن هي المشكلة العسكرية، ولن تحل هذه المشكلة إلا بتصميم الشعب الفرنسي على بذل كل التضحيات اللازمة لتطبيق المنهاج الحكومي المعلن، ذلك المنهاج الحازم الكريم الذي يستهدف تنفيذ سياسة واضحة المعالم، نيرة الأهداف. وإننا إذ نقدم هذه التضحيات في سبيل الجزائر، انما نرد بعض الذين علينا تجاه المجتمع الجزائري الفرنسي الإسلامي (؟)
الذي لم يبخل حتى بدمائه في سبيل الوطن الأم، تجاه الفرنسيين المسلمين الذين يسقطون يوميا صرعى في سبيل إخلاصهم وولائهم لفرنسا! وتجاه الفرنسيين الأوروبين الذين نعلم جميعا مبلغ ارتباطهم بوطنهم الصغير - الجزائر - قدر ارباطهم بوطنهم الكبير - فرنسا - سواء بسواء.
انني أنتهز هذه الفرصة لأحيي على رؤوس الأشهاد القادة والجنود الفرنسيين الذين يقومون في شمال أفريقيا بواجبهم العسير في ظروف صعبة للغاية. إن جنودنا من مهنيين واحتياط يحاربون هناك بشجاعة فائقة، في ظروف أدبية غدت مرهقة نتيجة جهل فريق من الرأي العام الفرنسي وإهمال الفريق الآخر؛ إنهم يتألمون عندما
يرون فئة من بني جلدتهم لا تتورع أن تسير في خضم الدعايات الأجنبية المسمومة التي تصورهم آلات للعسف والعدوان، ضد السكان المحليين الأبرياء، في الوقت الذي يقومون فيه على العكس بحماية هؤلاء السكان من بعض العصابات الوحشية التي لم تتورع عن استعمال جميع الوسائل البربرية لإشباع تعصبها العنصري. وانني أعتبر، كما يعتبر الكثير من الخبراء، أن ميدان شمال أفريقيا هو محك نهائي لاختبار حيوية الشعب الفرنسي وعظمته! ولا شك أن نجاح التجربة متوقف علينا، نحن أبناء هذا الجيل، على إرادتنا وتضحيتنا، على الأقل في بلد فرنسي صرف، مثل بلد الجزائر! فهل يستطيع الجيل الحاضر تجنب هذه المسؤولية المخزية أمام التاريخ، مسؤولية إنهيار فرنسا، واللعنة الأبدية لإخوانه الأوروبيين والمسلمين؟!).
وفي مقال كتبه هذا الماريشال الاستعماري (جوان) جاء ما يلي (1):
(إنني أحذر الرأي العام الفرنسي من جوقة الإنذارات المدفوعة من دون شك بإمارات الإعياء البادية في معسكر العصاة، والتي تدعونا من دون كلل ولا ملل إلى المفاوضة مع الممثلين الحقيقيين المزعومين للوصول لوقف إطلاق النار. إن هذا الإجراء الأخرق في مثل هذا الوقت غير المناسب، لن يفسر علينا إلا كعلامة من علامات الضعف
…
إنه لمن المستحسن جدا أن نزيد اهتمام (قصر شايو) بأمن الجزائر، هذا البلد الذي تشمله منظمة معاهدة الأطلسي بشكل
(1) أضواء على القضية الجزائرية - كبة - ص 127 - 128.
مباشر، وإلى حمل الدول المجاورة على قبول نظام انتقالي يسمح بتنفيذ الالتزامات الدولية. إن هذا جزء من التزام (التكافل والتضامن) المفروض على تونس ومراكش، والواجب تحويله إلى حقائق عملية، عن طريق الاحتفاط فيهما بالقوى الفرنسية اللازمة والعدد المطلوب الذي هيأته فرنسا فيهما من موازنتها الخاصة في عهد الحماية. كذلك من الضروري إعادة تنظيم قيادة منظمة حلف شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي، لإمكان التكيف مع الرسالات الكبرى للشعوب العظمى كانكلترا وفرنسا في هذا الميدان الحيوي!
…
ويجب الاعتراف بأن مهمة منظمة حلف شمال الأطلس تقتضيها التفرغ لدراسة هذه المشكلة الخطيرة، مشكلة أمن البحر الأبيض المتوسط، التي تتوقف عليها مشكلة أمن القارة الأفريقية جمعاء، بدل الاهتمام بالمباديء الغامضة للأوجه الاقتصادية والثقافية للمجتمع الأطلسي، ولكن، ترى من ذا الذي سيتولى المبادأة لإفهام مجلس ميثاق (حلف الأطلسي) هذه الحقائق الخطيرة؟).
وجاء الجنرال (ويغان) ليدلي بدلوه، فكتب مقالا (1) تضمن ما يلي:
(بصيص من الضوء ينبعث بعد حوالك الأيام، لقد أعلن سفيرا بريطانيا العظمى والولايات المتحدة قرار حكومتيهما بتأييد فرنسا في نضالها المفروض عليها في أفريقيا الشمالية، كما أن الجميعة الوطنية ومجلس الشيوخ الفرنسيين منحا الحكومة - بأكثرية ساحقة - السلطات المطلقة الضرورية لتحقيق سيطرتها في الجزائر، كذلك
(1) صحيفة (لوموند) 30/ 3/ 1956.
نجد استعدادات أكيدة من قبل بعض الفئات المنشقة في مراكش للخضوع لإرداة السلطان، كما أن الانتخابات الأخيرة التي جرت في تونس انتهت بمنح إجماع الناخبين تقريبا ثقتهم بالحكومة التونسية التي عقدنا معها الاتفاقيات الأخيرة.
إن هذه الوقائع التي جرت في فترة محدودة جدا من الزمن، أحدثت انطباعا ممتازا في الرأي العام الفرنسي، فحل محل التشاؤم والخضوع لصروف القدر أمل جديد بإمكان حل المشاكل المفروضة في الشمال الأفريقي حلا موفقا، كذلك برزت مزايا الوزير المقيم الجديد في الجزائر، ومنها روح العزم التي أبداها، وحسن تقديره لصعوبات الموقف، وخلقه الرائع تجاه المسؤوليات الكبيرة التي يواجهها، والإجراءات الاجتماعية المختلفة التي اتخذها حتى الآن، مما أحدث الأثر البالغ على الفرنسيين داخل فرنسا، كما أدى إلى بعث الثقة من جديد في أوساط واسعة من الفرنسيين -المسلمين!. يضاف لكل ذلك أمثلة الشهامة والشعور بالواجب التي تبديها الجيوش الفرنسية في الجزائر كل يوم! وروح الفهم والإنسانية التي تبديها قوات الأمن الفرنسية - الاستخبارات - هناك، مما ساعد إلى حد كبير على إحداث النتائج الحسنة المشار إليها أعلاه.
إذن هناك حقا بصيص من الضوء يلوح في الأفق، ولكننا ما زلنا بعيدين عن منبع الضوء، ولذلك لا يجدر بنا أن نستنيم للدعة والهدوء، بل يجب علينا أن نضاعف الجهود، فالمشاكل الكبرى لا تزال ماثلة أمامنا تنتظر الحل. لقد منحنا الحكومة القائمة السلطات المطلقة فيما يختص بمسألة الجزائر فلأي غرض ستسعملها هذه الحكومة؟ وما هو هدفها الأساسي الذي تريد بلوغه؟ إن تحديد الهدف المذكور بوضوح هو أمر لا غنى عنه بالمرة، لحسن سير
التنفيذ والعمل من قبل مجموعة الموظفين، عسكريين ومدنيين، في كل درجات السلم الإداري. هل تستهدف الحكومة مجرد إعادة الأمن إلى نصابه؟ أم تريد خوض حرب حقيقية طويلة الأمد؟. ذلك لأن المسألة، ليت مجرد عصيان بسيط تقوم به قلة من المواطنين الفرنسيين، بل هي حرب صريحة مكشوفة أعلنتها علينا ولا تزال تمولها وتمدها بالسلاح أمم أجنبية تديرها من الخارج!
إن من الضروري جدا المبادرة فورا لتحديد الرسالة التي عهدت بها الحكومة للحاكم العام، وإعلانها من دون تأخير على الجيش المحارب في شمال أفريقيا، والذي لا يعلم على وجه الدقة لماذا يحارب هناك!
إن جميع الضباط على اختلاف رتبهم لا يزالون يشكون من الضرر البالغ، من الوجهة الأدبية ووجهة التنفيذ على السواء، والناجم عن جهلهم بهدف الحرب، والاضطراب الذي يعيشون في كنفه.
هل المقصود مجرد إعادة الهدوء؟ هذا هو الهدف الظاهر من حركات جيشنا في الجزائر، ولكن الدلائل قاطعة على الفشل المريع لهذا الهدف. ان كل يوم يمر على الجزائر يشهد ضحايا جديدة في أرواح الفرنسيين، في صفوف جنودنا الفرنسيين والجزائريين، كما يشهد تطورا مستمرا في أعمال الإرهاب والاغتيالات وهدم المدارس، وتخريب المواصلات وإبادة الحقول وإهلاك المواشي، الخ
…
إن استمرار هذا الوضع المتردي لسوف يؤدي دونما شك ببصيص الثقة الذي لم يكد يرى النور في أجل قصير، ويبعث اليأس في نفوس أصدقائنا وحلفائنا، ويحملهم على أن يظنوا بضعفنا الظنون. تصوروا مدى النقمة والسخط المستحوذين على مواطنينا في الجزائر عندما يرون جهود أجيال طويلة متعاقبة من عملهم
الدائب، وهي تذهب أثرا بعد عين، بين أكوام من النساء والأطفال المذبوحين الأذلاء المتروكين رهن الأقدار! وماذا تكون نتيجة هذا الوضع المتفسخ؟ لا شك أن استمراره سيؤدي إلى إجراء انتخابات (حرة)! تنبثق عنها جمعية مؤلفة من الثوار العصاة وأصدقائهم، فهل لهذا نحن سائرون؟
…
إن القرار الوحيد الصائب - في نظري - هو إثارة الحرب بكل الوسائل، والاستمرار فيها حتى النهاية، إلى أن يتم القضاء على خصم عنيد، لا تستحق أعماله أي شعور بالرحمة. إن هذه هي رسالة الحاكم العام، والتي يجب إعلانها لكل السلطات العسكرية، لتبديد أي شك يحوم في هذا الصدد، كما هو جار الآن. واستنادا لهذا القرار فقط، يستطيع السيد (البير لاكوست) الوزير المقيم طلب النجدات العسكرية من الشعب الفرنسي، ولقد أنبأتنا الصحف بأنه دعى كدفعة أولى قوة مائة ألف جندي.
يجب أن يلبى هذا الطب فورأ 0 بالتأكيد، ولكن لس بالاقتطاع من الوحدات الغربية المثتركة في قوى حلف ثمال الأطلي، والتي لا يمكن المزيد من إضعافها دون اعتراض حلفائنا الوجيه، ولكن بدعوة القوى الاحتياطية. إننا نعلم عن طرائق العمل لدى هيئة أركاننا الشيء الكثير، لنؤكد عن علم بأن الوسائل التحضيرية يجب أن تهيأ كل التهيئة قبل أن يدعو الداعي إلى الخدمة العسكرية فيلبي فورا النداء.
إن تنفيذ مثل ذلك يتطب أمدا طويلا، ربما بضعة أسابيع، لدعوة وجمع وتسليح ونقل القوى الكبيرة التي يتطلبها ميدان القتال
الواسع في شمال أفريقيا، لذلك من حقنا أن نطلب توجيه الدع; ة المذكورة منذ اليوم. إن المسألة مستعجلة جدا، والنظم العسكرية الحالية لا تسمح للأسف إلا بالتنفيذ الجزئي وعلى مراحل متباعدة. إن الوقت يضايقنا، وإذا ما حل فصل الربيع، أمكن للثوار الجزائريين الاستفادة من الظروف الجوية التي لا تتوافر لديهم في فصل الشتاء، كذلك يحاول أعداؤنا الأجانب، القيام بحملة عامة مشتركة ضدنا في أقرب وقت، وينتظر أصدقاؤنا قرارنا الحاسم بفارغ الصبر.
أضف إلى ذلك الأثر الهائل لقرارنا في معنويات الجيش واضطرارنا لبذل تضحيات هائلة في المستقبل، إن تأخرنا أكثر من هذا في اتخاذ القرار المذكور. والأهم من كل ما سبق أن شمال أفريقيا يكون وحدة لا تتجزأ، وإذا كانت قراراتنا في تونس ومراكش واضحة التأثير في سياستنا في الجزائر، فكذلك لسياستنا الجزائرية تأثيرها المباشر في مفاوضاتنا المقبلة مع تونس ومراكش، فهل سنترك الفرصة تفلت منا لنفقدها بعد ذلك إلى الأبد؟ إن تحسن الأحوال في هذه الفترة لصالحنا، يجب أن لا يلهينا عن إدراك الخطر، بل يجب على العكس أن يدفعنا لمضاعفة الجهود. إن منح الحكومة السلطات المطلقة يجب أن يحملها على تحديد سياستها فورا وبكل دقة، لا من حيث بواعثها فقط، بل من حيث أهدافها. إن الضرورة تقضي بوضع كل الوسائل اللازمة تحت تصرف الحاكم العام في الجزائر.
…
ومن القادة العسكريين إلى رجال الدين، حيث ألقى الكردينال
(فلتان) محاضرة في قاعة (الميتواليتيه) في باريس - جاء فيها (1):
(مهما يكن التطور التاريخي، ومهما تكن الحجج القانونية لتأسيس المستعمرات، فإن التبرير الوحيد لبقاء السيطرة الاستعمارية على البلاد المستعمرة، هو دور الدولة المستعمرة في رسالتها التثقيفية ومساعداتها المختلفة لسكان البلاد الخاضعين للاستعمار. إن الكنيسة تصرح بأن الاستعمار الحقيقي يخلق بين البلاد المستعمرة والبلاد الخاضعة لها روابط لا يمكن أن تفصمها رغبة المستعمرات في التحرر، لأن الاستعمار، مثله كمثل أية خدمة أخرى أو أي واجب آخر، من شأنه أن يكون كذلك مصدرا للحقوق، وإن الاستعمار قد جلب معه الى البلاد التي أخضعها طوائف كبيرة من التجار والفنيين والموظفين يساهمون، بالرغم من بعض الأخطاء المرتكبة، في العمل الثقافي الملقى على عاتق الوطن الأم؛ إذ أن أموال هؤلاء التي اكتسبوها بشرف (؟) وإن كانت من ثمار الاستعمار حقا، إلا أنها تعويض عادل مقابل مساهمتهم في الرسالة المشار إليها أعلاه، ومن الظلم البالغ تخييب آمالهم في ملكيتها المشروعة. إن المهمة التي ألقيت على عاتق الشباب الفرنسي المدعو للخدمة في الجزائر هي مهمة سلام وتهدئة إعادة النظام إلى نصابه، وحماية السكان الآمنين من إرهاب العصابات المسلحة، وتحقيق الأمن العام في سائر أنحاء البلاد.
…
وكتب القس (غابيل) رئيس تحرير جريدة (الصليب) مقالات
(1) صحيفة (لوموند) 27/ 4/ 1956.
عن القضية الجزائرية (1) جاء فيها:
(ليس هناك أي شك، كما ذكرنا ذلك عدة مرات، في أن من الواجبات الدينية على الشبان الفرنسيين المدعوين للخدمة تلبية النداء، على أن الكمال الأخلاقي لهذا الواجب العظيم لا يقاس بالانصياع الأعمى له، بل بالاختيار الحر. إن هؤلاء الشبان لم يعودوا مجرد مرتزقة بل مواطنين ناضجين، طلب إليهم أن يتركوا وراءهم كل شيء، وأن يضحوا حتى بالحياة نفسها في سبيل قضية عادلة!.
إن الشاب المسيحي الذي يدعوه نداء العلم إلى ترك زوجته وعائلته والاشتراك في أعمال القتل والتدمير، إنما يدرك، عبر هذه التضحيات والأخطار الجسام، أن الشعور بالتضامن الذي هو باعثه، وروعة السلام الذي هو هدفه، إنما هما ثمرة من ثمرات المحبة (؟) إن هذه المحبة لجميع سكان الجزائر على اختلاف أحوالهم ودينهم وعمرهم هي التي تملي على هؤلاء الشبان واجباتهم كمقاتلين) - ومن الحب ما قتل، المؤلف -.
…
ومن مقال للأب (دوكانيون)(2) في تحديد مفهوم (واقع الوطنية) جاء ما يلي:
(من المهم جدا التدليل على أن مفهوم الوطن ليس مفهوما مسيحيا بالضرورة، وأنه حتى في حالة تلونه باللون المسيحي، يمكن أن يتحول إلى مجرد إحياء لمفهوم الوثنية، أي رفع الوطن
(1) صحيفة (لوموند) 22/ 5/ 1956.
(2)
صحيفة (لوموند) 16/ 5/ 1956.
لمصاف العبادة، وأنه إذا كانت هناك وطنية صحيحة، فيجب أن لا ننسى أن هناك بجانبها وطنية مزيفة. إن حقوق الوطن يجب أن تكون محدودة لأن فوقها حقوقا أخرى أعلى منها هي حقوق الرب، ويجب أن لا يخلط بين النوعين، كذلك يجب التدليل على أن المسيحية، أكثر من اهتمامها بمفهوم الوطنية، تعنى على وجه أخص بمفهوم حقوق الإنسان، أي الإنسان المطلق، أي الإنسانية جمعاء منظورا إليها كمجتمع عالمي واحد.
إن العلاقة بين مفهوم الوطن وقضية السلام أهم بكثير من العلاقة بين الوطنية وقضية الحرب، على أننا يجب أن لا ننتقل من وضع متطرف إلى آخر أكثر تطرفا منه، والواقع أن أزمة الوطنية في الوقت الحاضر إنما تنبعث فعلا من هذا التحول المباغت! فباسم الاعتبارات والضرورات الدولية يقلل من شأن الاعتبارات الوطنية، بل يتم سحق هذه الاعتبارات سحقا كاملا! وباسم السلام العالمي، يشجب استعمال القومة مهما كانت ضرورة استعمالها! وباسم العدالة والإنسانية تجاه الشعوب الأخرى تتجاهل العدالة والإنسانية تجاه أبناء الوطن، وهكذا تضرب الوطنية في الصميم، وهي الحب المفضل نحو بلادنا الخاصة!. وإن من أولى واجباتنا الآن، أن نعيد التوازن المفقود، فنشجب العزوف عن الوطن، ونتغلب على شلل الانهزامية، ونؤكد من جديد على حقوق الوطن ومفهوم الوطنية، ولا نتأخر لحظة عن استعمال القوة للدفاع عنه، ونسارع لتوجيه النداء في هذا السبيل لتجنيد أبنائه! إن الحقوق الطبيعية، والدعاية المسيحية، وضرورات التطور العالمي، لا تبرر أبدا ترك الأوطان أو التخلف عن استعمال القوة للدفاع عنها وفق مقتضيات العدالة!. إن حق الشعوب في تقرير مصيرها ليس حقا مطلقا بدون قيد
وشرط؛ إن الأرض للجميع، وليس لشعب من الشعوب الحق في احتكارها لطائفة معينة من أبنائه، إن حقوق الاتصال والاجتماع والهجرة والانتقال هي أهم مبادىء القانون الدولي القائم!! وإن من واجبات الوطن الأم حماية أبنائه المقيمين في البلاد المستعمرة إن هددهم مهدد في أمنهم وطمأنينتهم أو أرواحهم وأموالهم، ولعل هذا ما يبرر للوطن الأم فرض سيادته على البلدان المذكورة تحقيقا للحماية اللازمة! وهذا هو الأساس الحقيقي للحق السياسي في إقامة المستعمرات! إن متابعة السير نحو التحرر من قبل الشعوب الموضوعة تحت الوصاية مخالف للعدالة (؟) لأنه يضر بمصالح السكان الجدد في البلاد المستعمرة! كذلك ليس لأي شعب من الشعوب التشبث بحقوقه الوطنية مهما كانت شرعيتها وصحتها بالوسائل المتصلة من قريب أو بعيد بالإرهاب، ومن الضروري في كل الأحوال القضاء من دون رحمة على هذا الإرهاب).
…
ومن رجال الدين إلى (النواب) حيث ألقى النائب الفرنسي المستقل (بارشان) خطابا في (الجمعية الوطنية) جاء فيه (1):
(إنني أؤكد بعد عودتي من الجزائر بأن الحرب التي نخوضها هناك هي حرب نفسية - بسيكولوجية - بالدرجة الأولى، وإني أخشى أننا لا نستطيع أن نكسبها؛ وكيف تأملون أن نكسب أكثرية الجماهير العربية إلى جانبنا، في الوقت الذي تتسع الدعاية القذرة ضدنا، وتزعم الصحف الخائنة بأننا على وشك الرحيل من الجزائر؟
…
(1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.
إن هناك صحفا باريسية يقرأها الجميع بمن فيهم الثوار العرب والجنود الإفرنسيون مثل (الإكسبرس) و (فرانس أوبسرفاتور) وهذه الصحف لا تزال تردد بعناد بأن الحرب الجزائرية معلومة النتائج، وان جيش التحرير الوطني المزعوم سوف يرد على الحرب المفروضة عليه بحرب أشد منها.
وهنا صرخ النواب المستقلون في الجمعية الوطنية، ضد الصحافة المضادة بقولهم: إلى المقصلة! إلى المقصلة! وتابع (بارشان) خطابه صائحا: إما أن تطبقوا سياسة معينة مرسومة، أو لا تطبقوا أية سياسة إننا نؤيد السياسة التي اتخذتموها في الجزائر، ولكن يجب أن تسيروا فيها إلى آخر الشوط، فلا تسمحوا للسفن التي تحمل جنودنا أن تحمل معهم الوريقات التي تخونهم!
…
...
ومن خطاب (لمارسيل بلزان)(1) عضو مجلس الجمهورية الفرنسي أمام (الاتحاد الراديكالي) جاء ما يلي:
(إن بقاءنا في شمال أفريقيا يقرر مصير الحضارة الغربية وأمن البحر الأبيض المتوسط مما يوجب أن تتحالف معنا جميع الدول التي تشعر بخطورة المصير المذكور).
أما النائب الاشتراكي (نجلان) الحاكم العام السابق في الجزائر، فقد ألقى خطابا أمام (الاتحاد الاشتراكي لمنطقة الجيروند) (2) جاء فيه: (إن الجزائر هي من خلق فرنسا، إنها
(1) صحيفة (لوموند) 2/ 5/ 1956.
(2)
صحيفة (لوموند) 28/ 5/ 1956.
إنشاء فرنسي، والمشكلة هي مشكلة التعاون بين طائفتين من الفرنسيين! إن الحلول السهلة والسطحية لا تنفع أحدا. إن التهدئة الحقيقية لا يمكن أن تتم بالوسائل العسكرية وحدها، بل بالوسائل السياسية والنفسانية أيضا. يجب أن نتوخى هذا التعاون قدر الإمكان، ونقوم بإصلاحات سريعة للقضاء على البؤس، واستصلاح الأراضي والقضاء على البطالة، أما المسألة السياسية، فلا يمكن أن نمسها قبل إعادة السلام إلى نصابه!).
وجاء في خطاب النائب (البوجادي - ديد)(1) في (الجمعية الوطنية) ما يلي:
(بالرغم من الهستريا التي تدفع البعض إلى خيانة الاتحاد الفرنسي، فإن هناك أملا كبيرا في هذه الاندفاعة الوطنية الظاهرة لدى عدد كبير من الشخصيات السياسية من كل الاتجاهات! وهنا لا بد من الإشادة بالسياسة التي يتبعها حكام من أمثال (سوستيل ونيجلن ولاكوست وماكس لجوت) - وكلهم من دهاقنة الاستعمار - المؤلف - لا بد بالمقابل من شجب هؤلاء الذين ما انفكوا يحقنون الرأي العام الفرنسي على الدوام بسمومهم المدمرة للروح المعنوية.
وبعد أن أشار إلى بعض الحوادث السياسية الأخيرة في الجزائر، وفرنسا، التفت (النائب البوجادي) إلى رئيس الوزراء، مؤشرا بيده إلى النواب الأحرار في الجمعية الوطنية، وصرخ بحماسة:
(يجب عليك أن تقرر موقفك الحاسم فورا من هؤلاء الخونة!)
(1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.
فصرخ في وجهه أحد هؤلاء: (أنت الخائن، وجلاد الوطنيين).
فأجابه النائب (البوجادي - ديد): (لقد كنت تتجسس على
رجال المقاومة عام 1941
…
).
فصرخ في وجهه نائب آخر من الأحرار - اسمه غرينييه - بقوله: (كم من الوطنيين سلمتهم للغستابو، وكم تقبض الآن ثمن مهمتك كجاسوس أمريكي؟).
وتابع الخطيب (البوجادي) صارخا: (يجب عليك أيها الرئيس - غي موليه - أن تسحق الخيانة من رأسها، وأن تحل
منظمات الخونة!).
وبعد أن عاد الهدوء نسبيا للجمعية الوطنية، بعد المناقشات الصاخبة، ختم الخطيب ما يريد قوله - بالعبارة الآتية:(أيها الرئيس! - إنني مقتنع بأنكم ستبرهنون على أن الاتحاد الفرنسي لا يباع ولا يشرى، وأن أسماء أبطالنا من أمثال (الأب فوكو)(1)
(1) الأب فوكو: من المبشرين ورجال الدين المسيحي المتعصبين والمشهورين بعدائهم للإسلام والمسلمين، ومن آثاره المعروفة رسالته إلى (الدوق فيتزجيمس) سنة 1912، والتي أعادت صحيفة (لوموند) نشرها بعدد 17/ 5/ 1956 وفيها:(أعتقد بأنه إذا لم نتمكن من تحويل المسلمين بالتدريج عن دينهم، وحملهم على اعتناق المسيحية، فإن النتيجة الحتمية هي تكون روح قومية جديدة تؤدي إلى طردنا من الامبراطورية الاستعمارية في شمال افريقيا. إن الروح الوطنية، العربية والبررية، سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة التي ستسعمل الإسلام كسلاح فعال لإثارة الجماهير الجاهلة في امبراطوريتنا الفرنسية، في أيامنا السود. وإن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الامبراطورية هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسيحيين).
سوف لا نتبدل بأسماء الخونة من أمثال (مايو)(1) و (ليون فيليكس)(2).
ومن خطاب رئيس المجلس الاقتصادي الفرنسي (أميل روشيه)(3) يمكن قراءة ما يلي:
(هل كانت توجد هناك حقيقة قومية في الجزائر عام 1830؟
وأي دور لعبه الإسلام في الازدهار الزراعي والثقافي والاجتماعي والديموقراطي لهذه الأرض التي بقيت بعد قرون طويلة من السيطرة العربية في حالة يرثى لها من الركود السياسي والاقتصادي والثفافي؟
لقد اكتسب الفرنسيون في الجزائر حقوقا لهم منذ أجيال عديدة، وامتلكوا حقائق الكرامة والسلطة التي لا يمكن أن تنفصل أبدا عن قدم التعاون والتحالف مع أبناء البلاد الأصليين!
…
)
…
ومن خطاب الأمين العام لحركة المقاومة الشعبية - حزب الوسط المسيحي - (سيمونيه)(4) ورد ما يلي:
(لم يتحول الاتحاد السوفييتي أبدا عن سياسته التوسعية، بل على العكس، فقد زاد اندفاعه نحو البلاد الإسلامية، ومن جملتها الجزائر، ولمقاومة هذا الضغط الشيوعي، يجب على جميع، دول
(1) مايو: هو عريف فرنسي، انضم الى صفوف المجاهدين الجزائريين، وأحدث انضمامه هزة هائلة في جميع الأوساط الاستعمارية.
(2)
فيليكس: من أبرز قادة النضال الفرنسي الحر ضد الاستعمار الفرنسي، في تلك الفترة. وقد نشر مجمومعة من الأبحاث والدراسات المضادة للاستعمار.
(3)
صحيفة (لوموند) 12/ 5/ 1956.
(4)
صحيفة (لوموند) 17/ 4/ 1956.
حلف شمال الأطلسي التعاون بشدة وتوحيد سياستها في البحر الأبيض المتوسط. إن فرنسا يجب أن تتبع سياسة حازمة تجاه البلاد العربية، وتزيد من تعاونها مع حلفائها الغربيين).
وقال عضو مجلس الشيوخ (ميشيل دوبريه)(1): (يجب الاحتفاظ بالجزائر أولا وقبل كل شيء بالقوة والذكاء الكافيين لجعل التكافل الفرنسي - التونسي، والفرنسي - المراكشي، حبقة واقعة وليس كلمة جوفاء!).
كما قال وزير الدولة للشؤون الجزائرية (مارسيل شمبيكس)(2) ما يلي: (الجزائر فرنسية ويجب أن تبقى كذلك، إذ لا يمكن أن يعترف بحقيقتها القومية المزعومة، إن مثل هذا الاعتراف لا يعني إلا الانفصال!).
وكتب (هنري بيير سيمون)(3) مقالا افتتاحيا جاء فيه:
(هل انتهى عهد فرنسا كدولة عالمية عظمى؟ أو على العكس! فإن هذه الإهانات المستمرة سوف تنفض عنها غبار النوم وتنقذها من هذه اللامبالاة التي يسميها الأجانب بالانحطاط؟ وهل سيتم دور الانحطاط هذا ويصل إلى نهايته أم تبدأ الانتفاضة القومية المنتظرة الكبرى؟
إن لكل فرنسي وفرنسية جوابه الخاص على هذا الأمثلة المفزعة، فهؤلاء الذين لا يهمهم شيء بقدر ما يهمهم سقوط فرنسا، ما انفكوا منذ البداية يبذرون الرعب في النفوس، وقد رأوا
(1) صحيفة (لوموند) 21/ 4/ 1956.
(2)
صحيفة (لوموند) 2/ 5/ 1956.
(3)
صحيفة (كارفور) الباريسية 28/ 12/ 1955.
في المشكلة الجزائرية فرصتهم الذهبية، فراحوا يعيدون للأذهان مآسي الهند - الصينية، فتونس فمراكش، وما غرضهم إلا أن يصفوا أملاكنا الجزائرية، بعد أن انتهوا من تصفية امبراطوريتنا العالمية. إن من واجب الشعب الفرنسي المجيد، هو مقاومة هذه النداءات التهريجية، وإعادة إدماج الجماهير الفرنسية، إلى أحضان أمها الرؤوم، وتحقيق الوحدة الفرنسية المهددة اليوم بأخطر الانقسامات من جراء الموقف الانشقاقي للأكثرية المذكورة!).
وجاءت التنظيمات النقابية والعمالية لتسهم بدورها في حشد الطاقات كلها من أجل دعم (الاستعمار) تحت شعارات وذرائع محتلفة، وقد تضمن بيان (اللجنة التنفيذية لقوة العمل) أي اتحاد العمل اليميني المرتبط بالحزب الاشتراكي، الذي كان يحكم تحت رئاسة (غي موليه) ما يلي:
(لقد لاحظ اتحاد قوة العمل بأن القوى الاستعمارية والرجعية تحاول باسم تحرر الشعوب وحقها في تقرير مصيرها أن تلغي الوصاية أو الإدارة الفرنسية في الجزائر، لتستبدلها بسيطرتها الخاصة، وهو يشجب بصورة خاصة مناورات جامعة الدول العربية والحكومة المصرية. إننا لا نستطيع أن نترك سكان الجزائر نهبا لسياسة العنف والقوة، بل يجب أن نحاول إيجاد الحلول السريعة لإنهاء حالة النزاع السائدة الآن!).
ومن قرار (اللجنة االجزائرية لاتحاد النقابات الديموقراطية لقوة العمل)(1) يمكن قراءة ما يلي:
(1) صحيفة (لوموند) 10/ 5/ 1956.
(إن استقلال الجزائر ليس في مصلحة فرنسا، ولا في مصلحة الجزائر أيضا. إن على فرنسا متابعة رسالتها في الجزائر، إلا أن الشعب الإسلامي يجب أن يتمتع بالمساواة في سائر الحقوق، وفي جميع الميادين. إن الحكومة الجزائرية يجب أن تكون تابعة لحكومة الجمهورية الفرنسية خاصة من وجهة التمثيل الدبلوماسي، إلا أن النواب الجزائريين في الجمعية الوطنية يجب أن يستشاروا في كل عمل دولي يمس مصلحة الجزائر. والخلاصة، يجب أن تتمتع الجزائر بحكم ذاتي من الوجهتين السياسية والإدارية).
…
لقد أثير في منتصف العام (1956) موضوع تقسيم الجزائر إلى قسمين (عربي - إسلامي) و (فرنيي - مسيحي)، وارتفعت على الأثر ضجة كبرى في الأوساط الاستعمارية الفرنسية التي هاجمت مشروع التقسيم باعتباره مظهرا من مظاهر (الانهزامية) أمام العرب (على حد زعمها) و (تنازلا سخيا جدا لهم عن جزء من الجزائر الفرنسية) وكان المقيم العام السابق في الجزائر (جاك سوستيل) من أشد الاستعماريين هجوما على المشروع. وقد يكون من المناسب التعرض لبعض هذه المقولات.
كتبت صحيفة فرنسية (1) ما يلي: (لقد قرأت باهتمام بالغ رسالة أحد قرائكم المنشورة في عدد 10/ 4/ 1956، حول إيجاد حل للقضية الجزائرية. إن الحل المقترح من قبل القارىء وإن كان عسيرا تطبيقه، بالغة تضحياته، إلا أنه في الواقع حل واقعي
(1) صحيفة (لوموند) 16/ 5/ 1956.
وجريء. لقد زرت بنفسي الجزائر أثناء تأديتي واجب الخدمة العسكرية، ولقد رأيت بعيني كيف أن التقسيم الإقليمي للجزائر هو الحل الوحيد لإنهاء المأساة الجزائرية، وإن على فرنسا أن تفكر جديا في حلول (المسألة الفلسطينية) و (القصة الباكستانية) وتستفيد من تجارب هذين البلدين، ولكن من الضروري أيضا أن تتجنب إيجاد حدود إقليمية نهائية بين قسمي الجزائر، ولا شك أن الحل المذكور يتطلب الشيء الكثير من الذكاء والابتكار، إلا أن المساعدات المادية والأدبية التي ستستمر فرنسا على تقديمها للطائفة العربية، مما يسهل كثيرا من الحل المذكور، ولعل أهم اعتراض يمكن توجيهه لاقتراح
التقسيم هذا، هو صعوبة نقل السكان من منطقة إلى أخرى. وبالرغم من وجاهة الاعتراض المذكور، إلا أن من الحقائق التي يجب التسليم بها بأن هذه الصعوبة سنواجهها في جميع الحلول المتصورة، سواء أكان إنشاء دولة جزائرية مستقلة، أو إنشاء دولة اتحادية.
ففى حالة الحل الأول، سوف تصبح حياة السكان الأوروبيين مما لا يمكن احتماله، لا ماديا ولا أدبيا - معنويا -؛ إذ أن منع الحياة السياسية عن أقلية ضخمة يبلغ عدد أفرادها مليونين ومائتي ألف نسمة، كان لها الفضل الأول في خلق الجزائر الحديثة، باسم حق تقرير المصير، لن يحل دراما الجزائر بحال من الأحوال. أما أولئك الذين يتصورون بأن تمتع هذه الأقلية بالسلطات الاقتصادية سوف يعوض عليهم فقدان الحقوق السياسية، فما عليهم إلا أن يقارنوا بين اختصاصات إحدى الغرف التجارية وبين سلطات البرلمان. أضف إلى ذلك أنه من الضروري في حالة الجزائر، أخذ العوامل الدينية والأثنولوجية - البشرية بعين الاعتبار. ولذلك فليس من التشاؤم توقع هجرة العدد الكبير من الأقلية الفرنسة من الجزائر،
وإذن فمشكلة هجرة السكان تبرز هنا أيضا.
أما بالنسبة للحل الثاني (أي خلق دولة اتحادية لا تلبث أن تطالب بالاستقلال فيما بعد)، فأنه يفترض حتما الاعتراف بمبدأ وحدة الكتلة النيابية - الانتخابية - وإذن فسوف يؤدي بالضرورة إلى التفرق العددي الساحق للعرب على الأقلية الفرنسية. وإذن فسوف ننتهي في الأمد البعيد إلى نفس نتائج الحل الأول، وتبرز عندئذ من جديد مشكلة نقل السكان. على أن من الإجراءات التي نعتقد أنها ستساعد على حل هذه المسألة، هناك إجراء السماح للعرب الساكنين في المنطقة الفرنسية أن يتجنسوا بالجنسية الفرنسية، ويكتسبوا بذلك حق البقاء في المنطقة المذكورة، ولا شك أن عدد العرب الراغبين في ذلك كبير جدا، كذلك يمكن التساهل في حق انتقال السكان من إحدى المنطقتين للأخرى، كما هو جار الآن بين شمالي فرنسا وبلبجيكا مثلا. ولكن ماذا ستكون حدود المنطقة الفرنسية القترحة؟
…
أعتقد أن مناطق سكنى الأقلية الأوروية في الجزائر الآن، هي الواجب اعتبارها أساسا لحدود التقسيم المقترح في هذا المجال! وهناك من يعتقد بأن تطبيق هذا الحل سوف يثير ثائرة جامعة الدول العربية، وربما كانت هذه المخاوف صحيحة. ولكن هل يجوز للدولة التي حاربت بشجاعة من أجل المحافظة على (ممر دانزيغ) أن تترك مليونين ومائتي ألف نسمة من لحمها ودمها في سبيل إرضاء حفنة من المتزعمين العرب؟ إن الشباب الفرنسي سوف يحسن الاختيار، ومن المؤكد أننا إذا تركنا أبناءنا فرنسيي الجزائر، فإننا لن نفقد بلادنا الأفريقية فقط، بل سوف نقضي على فرنسا ذاتها كأمة!).
وجاء الكاتب (كريستيان كردينال)(1) فعالج الموضوع ذاته، فتعرض للحلول المقترحة الثلاثة (الاندماج) و (الفيدرالية) و (التقسيم) وانتهى إلى القول بأنه:(لا تقسيم للجزائر! وأن الجزائر لنا - للفرنسيين!) وتضمن بحثه ما يلي:
(هب أن مشروع التقسيم المقترح طبق على أساس خطوط الطول، أو خطوط العرض، الجغرافية، فلمن ستكون حصة الأسد؟ لا شك أنها ستكون من نصيب السكان العرب بحكم أغلبيتهم العددية! ولكن كيف سنقسم الثروات الطبيعية بين المنطقتين المقترحتين؟ ولنكن منطقيين أكثر ونتساءل: من الذي شيد هذه الموانىء الضخمة؟ نحن الفرنسيين! ومن الذي استصلح هذه الأراضي الخصبة؟ نحن الفرنسيين! ومن الذي اكتشف هذه المناجم الغنية؟ نحن الفرنسيين! وهذه المدارس والأحواض والمعامل من الذي فتحها وبناها وأقامها؟ وتلك الطرق والخطوط الحديدية من الذي اختطها؟ نحن الفرنسيين أيضا! فهل كتب علينا أن نخضع لغيرنا لمجرد كوننا أقلية عددية؟ صحيح أننا ما زلنا أقلية، ولكنا أقلية فعالة، نشيطة على كل حال
…
!
يقولون لنا: (بأن الناس يولدون
…
أحرارا) ولكن هل نسي هؤلاء، (بأن لكل حسب استحقاقه) أفلسنا نحن الأكثر استحقاقا؟ كلا! إن حل التقسيم حتى في حالة إمكانية تنفيذه، ليس هو الحل العادل المرغوب فيه. إذن ما هو طريق الخلاص؟
لقد أعلن (برتولد بريخت) ما يلي: (يعود الشيء لمن يجعله الأحسن) وهذه هي نقطة الانطلاق في حلول القضية الجزائرية!
(1) صحيفة (لوموند) 16/ 5/ 1956.
ومن السخف التساؤل عن الذي جعل الجزائر الأحسن، نحن أم العصاة؟ إن الحق في هذا المجال حقنا، فإذا ما نازعنا عليه أحد، كان من حقنا مواجهته بالحرب وسحقه في النهاية! فإذا ما جر أذيال الهزيمة سهل علينا فرض شروطنا عليه، وطالعناه بكرمنا وسخائنا، وكسبنا ثقته وعطفه.
إننا نحن فرنسيي الجزائر، لا نريد إلا أن نحيا ونموت في أرضنا ووطننا، في ظل علمنا المثلث الألوان، أفلا يستحق ذلك خوض الحرب؟).
…
ويمكن بعد ذلك التوقف عند بعض ما تضمنه خطاب وزير الدفاع في تلك الفترة (بورجيه مونوري) في مؤتمر رابطة المحاربين القدماء في باريس (1) وفيه:
(إن الشباب الفرنسي الذي يغادر الآن فرنسا إلى الجزائر، بإرادة حديدية، وتصميم قاطع، رغم الاضطرابات الخارجية المخجلة، ليسجل صفحة مشرقة في تاريخ شبابنا! إن هذا الشباب الراحل للجزائر، ليلزم كل وطننا بضرورة مقاومة العدوان، وإنه لن يتساهل في أن يرى جهوده تذهب أدراج الرياح.
ليعلم الجميع بأن الشعب الفرنسي قد صمم على مواجهة كل محاولة عدوانية قد تفكر بالقيام بها أية كتلة للتوسع العنصري والتعصبي للعالم العربي باتجاه أفريقيا الشمالية أو أفريقيا السوداء وكل حملة صليبية جديدة ليس لها أي غرض محدد إلا غرض القضاء على الحضارة والمدنية! وحاشا بلاد الحرية أن توافق على أن حكم
(1) صحيفة (لوموند) 3/ 6/ 1956.
الظلام والبربرية البدائية، يحل محل حكم التقدم البشري والعدالة الاجتماعية!).
…
تلك هي بعض مضامين (الفكر الاستعماري) الذي حاول التصدي للثورة الجزائرية، ولا حاجة لشرح تلك المضامين، فهي واضحة كل الوضوح. غير أن ما يجب قوله هو أن هذه المقولات - ومضامينها - لا زالت تعيش في عقلية (القادة الاستعماريين) رغم غروب شمس الاستعمار. وقد يكون من الضروري تذكرها أبدا عند تفسير الأحداث المعاصرة، كما أنه من الضروري تذكرها حتى (لا ننصرف عن الاستعداد الدائم لمجابهة المخططات المتطورة التي قد لا تحمل الصياغات اللفظية ذاتها ولكنها تحمل ما هو أخطر من المضامين). وهنا، لا بد أيضا من القول أنه قد صدرت عن فرنسا ذاتها بعض المواقف المضادة لا سيما خلال السنوات الأخيرة من الصراع المسلح (1960 - 1962) غير أن هذه المواقف المضادة كانت إما (تجميلية إصلاحية) لكسب ما يمكن اكتسابه لمصلحة فرنسا على حساب الثورة وعلى حساب أرواح شهدائها، وإما تعبيرا عن (ضمير حر) في عالم (غير حر) ولهذا فقد بقيت كالعملة الزائفة التي تفتقر للرصيد في سوق التداول.