الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعاون من اجل استمثار ثروات باطن الأرض بالصحراء) (1)، وإن مطالعة المحاولات التي سبق عرضها تلقي بعض الظلال على الوضع الذي أمكن تفجيره في قضية (الصحراء) التي باتت تشغل المغرب بقدر ما تشغل الجزائر وبقدر ما شغلت (موريتانيا) من قبل، وهو الوضع الذي يستنزف قدرات المغرب العربي - الإسلامي، ويصرفه إلى صراعات دموية مريرة، لا مصلحة له فيها، لا على المدى القريب، ولا على المدى البعيد، فهل من رشيد؟
…
ب - قضية الأقلية الأوروبية
.
لقد سبق طرح (قضية الأقلية الأوروبية) في تكونها وحجمها ودورها الاستعماري عبر البحث في الدراسات السابقة، وفقا لما كانت تتطلبه طبيعة البحث ذاته، وما يهم البحث هنا هو التعرض لهذه القضية من خلال الصراع السياسي (الجزائري - الفرنسي). فقد أثار الوفد الفرنسي المفاوض - فيما أثاره - أثناء مباحثات (إيفيان) قضية الأقلية الأوروبية، وكان لدى الوفد الجزائري المفاوض كل الحجج الشرعية والقانونية وحتى الإنسانية لمعالجة هذه (القضية) معالجة رائعة. وقد تضمن بيان الوفد الجزائري الذي قدمه يوم (10 حزيران - يونيو - 1961) ما يلي:
(إن الجزائر لا تمنع الجنسية الجزائرية عن الأهلية الأوروبية، ولكنها لا تفرضها عليها. إن الحكومة الجزائرية تعرض الجنسية الجزائرية على الأهلية الاوروبية، من شاء منهم أن يرغب فيها، وإن هذا الحل ينطوي على أقصى قدر من الواقعية والإنسانية والديموقراطية، وإن نتائج هذا الحل واضحة كل الوضوح، سيكون
(1) انظر (قراءات) في آخر هذا الكتاب النص الكامل لترجمة (الإعلان) المشار إليه.
لجميع الجزائريين من غير تمييز، نفس الحقوق، ونفس الواجبات، وسيشاركون في الحياة السياسية العامة للشعب). أما فيما يتعلق بالضمانات المحددة الخاصة بالمستوطنين الأوروبيين، فقد أعلن الوفد الجزائري ما يلي: (نحن حريصون أن نوضح تماما حقوق الجزائريين الذين هم من أصل أوروبي. نحن على استعداد أن نبحث جميع الضمانات التي تكفل لهم الحقوق الإنسانية والمدنية، سواء بالنسبة للأحوال الشخصية، والتعليم، والحرية الدينية، أو في سائر المجالات التي تضمن لهم ممارسة جميع نشاطاتهم من غير إكراه ولا إجبار
…
إن الأوروبيين الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين فذلك حقهم، وبهذا فإنهم يختارون أن يكونوا أجانب، وبهذه الصفة، فإنهم يستطيعون أن يتمتعوا بالضمانات المقررة، أما الفرنسيون الذين يريدون أن يحتفظوا بجنسيتهم فنحن مستعدون أن نبحث موضوعهم بصورة واقعية، مهما كان عددهم، ومهما كانت أوضاعهم، وبإمكاننا أن نحدد الضمانات التي تكفل لهم بصورة مشروعة الاستمرار في الإقامة في الجزائر، في إطار السيادة الكاملة للدولة الجزائرية).
أثناء ذلك، كانت البعثة الجزائرية الدائمة لدى الأمم المتحدة، تعمل باستمرار على شرح موقف الدولة الجزائرية المقبلة من قضية (المستوطنين الفرنسيين)، وأكدت باستمرار: (أنها - لجميع الجزائريين جميع الحقوق، من غير النظر إلى أصولهم، غير أن الجزائر ترفض رفضا قاطعا أية فكرة من شأنها أن تمنح أية جماعة عنصرية امتيازات خاصة، وتعتبر هذا العمل منافيا للديموقراطية. إن تصنيف الجزائريين على أسس عنصرية إنما هو تهديد للاستقلال الذي جاهد الشعب الجزائري من أجله زمنا طويلا، غير أن الحكومة
الجزائرية لا يغيب عن بالها الخصائص الذاتية للأقلية الأوروبية في النواحي الثقافية واللغوية والدينية، لقد أعلنت الحكومة الجزائرية. المرة بعد المرة، أنها على استعداد لأن تمنح الجنسية الجزائرية لجميع الأوروبيين الذين يرغبون أن يصبحوا جزائريين، ومن ناحية أخرى، فإن الذين يريدون أن يبقوا فرنسيين، وأن يستمروا في العيش في الجزائر، فلهم الحرية الكاملة في ذلك، وستتوافر لهم الضمانات اللازمة التي ستتفق مع السيادة الجزائرية ومع القوانين المعمول بها، ونحن نتطلع إلى حل يستند إلى مفهوم الديموقراطية الصحيح. نحن نعترف بالخصائص الذاتية للأقلية الأوروبية، نحن مستعدون أن نمنح الجنسية الجزائرية الكاملة والمساواة الشاملة للأقلية الأوروبية وفيها عدوا من أشد أعدائنا)، فماذا تطلب فرنسا أكثر من ذلك، من الحكومة الجزائرية؟؟ إن هذه الضمانات هي ضمانات مميزة، تكاد أن تصبح نظاما مفضلا، لم تمنحه أي من الخمسين دولة التي حازت على استقلالها، منذ أن نشأت الأمم المتحدة.
لقد ذهب الرئيس (ديغول) بعيدا جدا في تمسكه بذريعة (الأقليات الأوروبية) حين قال:
(يوجد في الجزائر ما يزيد على المليون من السكان من أصل أوروبي، ومن المحال ترك هؤلاء تحت رحمة الغير). وهذه حجة فرنسية باطلة ليس لها ظل من الحقيقة والواقع، فالحكومة الجزائرية لم يخطر في تفكيرها لدقيقة واحدة أن تضع الجالية الأوروبية تحت رحمة أحد، وقد أعلنت باستمرار عن استعدادها لمنحهم حق الجنسية، إذا أرادوا أن يكونوا مواطنين جزائريين، وأن تمنحهم حق السكنى في الجزائر، إذا كانوا يريدون أن يصبحوا من سكانها، ومن غير جنسية جزائرية، فماذا يطلب من الجزائر أكثر من ذلك حتى لا
تكون الجالية (الأوروبية) تحت رحمة (الغير)؟؟ .. الأمر المعروف للعالم كله أن الشعب الجزائري قد رزح تحت رحمة الجالية الأوروبية طوال مائة وثلاثين عاما، ولعله من نافلة القول أن تتحقق المساواة في الجزائر بعد هذه الحقبة الطويلة من القهر القومي والاضطهاد الديني بين الأوروبيين وغير الأوروبيين، وإذا كان الرئيس ديغول لا يريد أن يصبح المليون من الأوروبيين تحت رحمة الغير، فكيف يريد للعشرة ملايين جزائري أن يبقوا تحت رحمة الأقلية الأوروبية؟؟ .. لقد عرضت الحكومة الجزائرية حق المساواة التامة بين الجميع، ومن غير تمييز، متجاوزة بذلك كل مخلفات الماضي التعيس، وذكرياته الجارحة المريرة، في حين كان الجنرال ديغول ينادي بالاستعلاء والتمييز العنصري، فأكد بذلك حقيقة الديموقراطية الفرنسية، وأسقط عنها وجهها الزائف.
لقد عملت الثورة الجزائرية وقياداتها السياسية والعسكرية، على دحض خرافة (الأقليات الأوروبية) وأسقطت ذرائعيتها، وبرهنت على أن كثيرا من الأوروبيين الموجودين في الجزائر، يريدون العيش بسلام في الجزائر، وقد كان تسامحا كبيرا من الجزائر أن تحاول نسيان الماضي وتجاوزه، وأن تقفز من فوق أنهار الدماء التي أهرقها هؤلاء الأوروبيون في الجزائر حتى يتمكنوا من استرقاق شعبها واحتكار ثرواته ونهب خيراته، ويكفي الجزائر كبرياء وتيها أنها كانت في كل ما تفعله تتطلع إلى الأمام لا إلى الوارء، متناسية آلام الماضي ومعاناته، محاولة إسدال ستار العفو والغفران، معلنة تصميمها على بناء الدولة الديموقراطية التي تستطيع الأقلية الأوروبية فيها أن تعيش بطمأنينة وسلام. إن (الحركة الأوروبية) التي يعلن عنها كثيرا - زورا وبهتانا - ليست حركة أوروبية في حقيقتها، إنها من صنع القادة
(الجنرالات) المتقاعدين الباحثين عن السلطة، المتطلعين إلى الحكم، إنها أحلام القادة الكبار (المارشالات) يتآمرون ليمنعوا انقلابا يأتي بالجمهورية السادسة، ويحملون على رأسهم قائدا مغامرا ليصبح رئيسا للجمهورية الفرنسية. ولقد كان موقف الجزائر من أمثال هؤلاء هو التالي: (ليس في الجزائر حركة أوروبية - لا تحت الأرض ولا فوق الأرض - وإن الأوروبيين، حتى المتطرفين منهم، سيتصرفون تصرفا لائقا، وسيسلكون سلوكا سويا، عندما تقوم قوات الجيش الافرنسي الاستعماري بالجلاء عن أرض الوطن الجزائري. إن بعضهم يمثل في ظل حماية الاستعمار له، دور الطفل الذي أفسده الدلال وسوء التربية، ولهذا فإنهم يتصرفون تصرف العابث بالقانون والنظام، وحينما تغادر القوات المسلحة الفرنسية الثرى الجزائري سيخلدون إلى السكينة، وينصاعون لحكم القانون، أو إنهم سيحملون على الانصياع لحكم القانون العادل. انتظروا وانظروا
…
).
على كل حال، لقد انكشف الموقف الفرنسي انكشافا فاضحا على يد الفرنسيين ذاتهم، فلقد ألقى رئيس الوفد الفرنسي للمفاوضات خطابا (بالراديو والتلفزيون الفرنسي) في شهر آب - أغسطس - 1961، هتك فيه أسرارا غير كريمة عن مؤتمري (ايفيان) و (لوغران)، ولقد أباح رئيس وفد المفاوضات والوزير الفرنسي لشؤون الجزائر - المسيو جوكس ، لنفسه، أن يتحدث عن الأقلية الإفرنسية واصفا إياهم بكلمة (مواطنونا) ويوضح ذلك بجلاء تام، ومن غير خفاء أو تستر، الروح التي تعالج بها فرنسا موضوع (الأقلية الأوروبية). وقد أمكن الرد على هذا الموقف بالمقولة التالية: (إذا كان هؤلاء هم - مواطنوكم -
فلماذا لا ترحلوا بهم إلى فرنسا، حيث بإمكانكم أن تسبغوا عليهم كل الامتيازات التي تريدونها، أما إذا كنتم تريدوذهم أن يعيشوا في الجزائر فلا يمكن أن يظلوا مواطنيكم، يجب أن يصبحوا جزائريين، ولا حرج في القول أيضا بأنه يجب عليهم أن يصبحوا أفريقيين. إن الرجل الأبيض في أفريقيا يجب أن يصبح أفريقيا، ليس ذلك فحسب، بل يجب على الرجل الأبيض في أفريقيا أن يسود وجهه ويبيض ضميره
…
إنه لا يستطيع أن يظل أفريقيا وأوروبيا في وقت واحد، إن عليه أن يختار بين الاثنين. وفي كل الأحوال، فإن الأوروبيين في أفريقيا يلقون من المعاملة ما هو أفضل بكثير من تلك المعاملة التي يلقاها الأفريقيون في أوروبا، وهذا وحده يكفى أن يكون مفخرة للشرق وعارا على الغرب).
لقد زعمت فرنسا أن من حقها (حماية الأقلية الأوروبية) و (الدفاع عنها) وكان رد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، حاسما، ومعتمدا على القوانين الدولية، قدر اعتماده على المفهوم الصحيح للديموقراطية. وقد تضمن بيان (الحكومة الجزائرية) تجاه هذا الموقف ما يلي:
(.. نحن متشددون فيما يختص بالسيادة الجزائرية في الميدانين الداخلي والخارجي، وإذا توصلنا إلى فترة انتقال فنحن لا نتصور جلاء جميع القوات الفرنسية في فترة الانتقال. إن فرنسا، وهي لا تبعد بأكثر من ساعة واحدة عن الجزائر - بالطائرة - لا يمكن أن تجد نفسها وقد عدمت وسائل الدفاع عن مصالحها أو عن الأقلية الفرنسية في الجزائر. ويصبح من واجب الفرنسيين خلال فترة الانتقال أن يكيفوا أنفسهم مع ظروف المستقبل الجديد. يجب أن يقوم تعاون بالنسبة للصحراء، وفي شمال الجزائر، يجب أن يكون
هناك تعاون في حقول الثقافة والمواصلات، ولا مناص من أن يكون هذا التعاون مع فرنسا (1)، وسيرى العالم كله، أننا سننظم قوة شرطة - بوليس - لحماية منشآت البترول والغاز، الذي سيصدر أكثره إلى فرنسا وأوروبا الغربية، لأننا نحن في أفريقيا لم نبلغ بعد المرحلة الكافية لاستهلاك كميات كبيرة من البترول والغاز. أما موضوع الأقلية الفرنسية فيجب أن نجد له حلا سليما، وكل ما نطلبه أن لا يظل الفرنسيون يعتبرون أنفسهم مواطنين مميزين، نحن مصممون على أن نمنحهم جميع الحقوق التي تكفل لهم حياة كاملة في الجزائر، حتى لو لم تتوافر لديهم الرغبة ليكونوا جزائريين).
…
لقد بذلت (الحكومة الجزائرية) ووفدها المفاوض، كل الجهود الممكنة للوصول بالمباحثات حتى نهايتها، وكان موقف الاعتدال الجزائري، مثيرا للذهول، غير أن جهة واحدة لم يطالها هذا الذهول وهي فرنسا الاستعمار، لقد كانت تعتقد أنها تمتلك كل شيء، ولم تتمكن الحجج الدامغة، والمواقف المعتدلة أن تزحزحها عن اعتقادها (الخاطىء)، فكان لا بد من الاستمرار في الصراع المسلح حتى نهايته، غير أن الثورة الجزائرية وهي تمضي قدما على دروب النصر العسكري لم تتراجع عن اعتدالها، فأصدرت الحكومة الجزائرية بيانا قالت فيه:(نحن ندرك جيدا أن فرنسا لا تستطيع أن ترحل ثمانمائة ألف إنسان في ليلة واحدة) فأي موقف أكثر اعتدالا من هذا الموقف المعتدل.
(1) انظر (قراءات) في نهاية هذا الكتاب حيث خصص مجال لعرض (الإعلانات) التي ألحقت باتفاقيات (ايفيان) في مواضيع التعاون الاقتصادي والمالي، والتعاون الثقافي، والتعاون الفني، والتعاون العسكري