الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الوضع العام في الجزائر عشية الثورة
لم تكن الثورة التي انفجرت في الجزائر في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 مجرد رد فعل على سياسة معينة، أو نتيجة إجراء استعماري محدد. فلقد كان نسيج الثورة متصلا بعرى وثيقة ومتلاحمة مع مجموعة الحروب، والثورات والانتفاضات، وأعمال المقاومة التي اضطلع بها شعب الجزائر، طوال ليل الاستعمار الذي بدأ بالغزو الإفرنسي البربري للجزائر المحروسة في سنة 1830، والذي انتهى بانفجار الثورة التحررية الكبرى في سنة 1954.
قرن وربع القرن؛ وشعب الجزائر المجاهد يحمل السلاح ضد الغزاة البرابرة .. لم يهن له عزم، ولم تلن له قناة، وهو يدفع بقوافل الشهداء، القافلة في إثر القافلة، والموجة تلو الموجة، حتى حقق أهدافه.
ولقد تحمل الشعب الجزائري من عنت المستعمرين، وجور أجهزة الاستعمار؛ ما لم يحتمله شعب من شعوب العالم، دونما تحيز أو مبالغة، وعلى الرغم من ذلك فقد استمر في مقاومته، وأتعب فرنسا ولم يتعب، غير أن هذه الحرب طويلة الأمد، عملت على تغيير مجمل أوضاع الجزائر تغييرا كبيرا؛ لا في مجال الاقتصاد وحده، ولا في مجال التكون
الاجتماعي والثقافي أيضا. وإنما في مجموع الأوضاع التي يعيشها المواطن الجزائري والوطن الجزائري. هذا من ناحية، ومن ناحية
ثانية - وعلى نحو ما سجق عرضه في الكتب السابقة من هذه المجموعة.
فقد جاءت الثورة الرائعة ثمرة إعداد طويل .. بدأ على وجه التحديد بالنشاط السياسي الذي قام به الأمير (خالد الهاشمي) في العشرينيات من هذا القرن، واستمر بعد ذلك عبر (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) من جهة، والتنظيمات السياسية من جهة ثانية، وعلى هذا فإن الثورة الجزائرية الكبرى تتصل بمجموعة الأوضاع الناجمة عن الوجود الاستعماري ذاته، والذي دفع البلاد ومواطنيها إلى أوضاع لا يمكن معالجتها إلا بإجراء تغيير جذري وشامل، ومضاد بالضرورة للاستعمار الاستيطاني. وقد جاءت مذبحة أيار - مايو - 1945، وأعمال القمع التالية لتشكل الحافز المباشر للثورة. ومن هنا قد يكون من الضروري استقراء بعض ملامح الوضع العام للجزائر عشية ثورتها المباركة.
…
لقد عرفت الجزائر، منذ أقدم العصور، بغنى ثروتها الطبيعية، شأنها في ذلك شأن كل أقطار المغرب العربي - الاسلامي. ولقد أقام الفينيقيون على شواطئها عددا من المراكز (الزراعية - التجارية) التي سميت فيما بعد باسم (أهراء روما) قبل أن يطلق عليها اسم (افريقيا ذات الأرض الخصبة). وقد عاشت الجزائر قبل أن تجتاحها جحافل الغزو الاستعماري الافرسي في سنة (1830) حالة ازدهار حقيقي، وعرفت رغد العيش. فالزراعة فيها كانت متطورة،
والتجارة البحرية ناشطة ومزدهرة .. . فكانت تمون بالحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى كثيرا من بلدان الغرب الأوروبي؛ وتموين حملة نابليون دليل على ما كان يتوافر للجزائر من الثروة الزراعية؛ كما كانت تصدر أدوات فنية ذات شهرة واسعة. وبعد مرور قرن على استعمار هذه البلاد، لم تتوقف الجزائر عن التقدم في المضمار الاقتصادي فحسب، بل إنها شهدت تقهقرا وتراجعا في مستوى حياة معظم المواطين الجزائريين، بالمقارنة مع مستوى حياة أسلافهم. هذا بينما كان العالم يتطور في هذا القرن، ويتقدم بقفزات واسعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
وقد ظهر في الواقع أن ازدهار المواطن الافرنسي، وارتفاع مستوى دخله، إنما هو ازدهار اصطناعي على حساب المواطن الخاضع للاستعمار. والأمر مماثل بالنسبة لفرنسا - كمجموع - والتي طورت تقدمها على حساب الشعوب التي أخضعتها لنير عبوديتها. ولم تكن مثل هذه المقارنة بعيدة عن أنظار المواطن الجزائري الذي كان يعيش حياة البؤس والشقاء فوق أرضه الخيرة المعطاء، وزاد الأمر سوءا بمحاولات السلطات الاستعمارية تغطية نهبها واستنزافها بالحاق سبب التخلف بأنظمة الجزائر قبل الاستعمار (النظام العثماني -الاسلامي). ولقد اعتاد القائمون على حكم الجزائر أن يبرزوا - في كل مناسبة - ما حققه الاستعمار الافرسني من إنجازات في البلاد، معددين الطرق الكثيرة التي أنشأوها، والخطوط الحديدية التي نظموها، والمراكز الكهربائية التي شيدوها، وما أقاموه من سدود ومستشفيات ومدارس وكنائس (منارات الحضارة الغربية بزعمهم) والمدن الحديثة ذات العمارات المتعددة الطوابق.
ولم يكن هذا الأسلوب الدعائي ليخدع الجزائريين أو يضللهم .. فقد كانوا يعرفون بأن معظم ما يطلق عليه اسم (منجزات) إنما هو لخدمة أهداف الاستعمار الاستيطاني، وتطوير عملية النهب الاستعماري للموارد والثروات. وأن المواطن الجزائري لم يفد من هذه (المنجزات) شيئا، وإنما على النقيض أيضا، فقد جاءت (المنجزات) لتضيف إلى بؤسه بؤسا، وإلى شقائه مزيدا من الشقاء. وقد ترك ذلك آثاره السيئة التي لم تقتصر أضرارها على جيل جزائري واحد.
ومما لا ريب فيه هو أن الجزائر ذات وضع خاص كبلاد مستعمرة
…
فالحركة العمرانية بقيت امتيازا - حكرا - للأقلية الأوروبية، ولمصلحتها. والمدارس، إنما أقيمت للمستوطنين بالدرجة الأولى، ولخدمة أهداف استعمارية محددة وواضحة. كما أن طرق المواصلات إنما أقيمت لتحقيق هدفين مزدوجين أولهما: تسهيل التحركات العسكرية، وثانيها الوصول إلى مواطن الثروة السطحية والباطنية (المناجم). كما أن المستشفيات والخدمات الصحية لم تتجاوز فائدتها المستوطنيين إلا في حدود ضيقة. وبقي سواد الشعب الجزائري المسلم نهبا للأمية والفقر المدقع، والأمراض الفتاكة.
ولقد كان هذا التناقض الفاضح بين حياة أقلية مترفة وأكثرية ساحقة محرومة هو الصورة الغريبة والمثيرة لما كانت عليه الجزائر طوال فترة الاستعمار. وإن مستوى المواطنين الجزائريين المسلمين في حياتهم ودخلهم هو الذي يجسد بصورة حقيقية وواقعية الصورة البشعة لقذارة الاستعمار. ولقد تطور الاقصاد الاستعماري تطورا سريعا ومذهلا، ولكن هذا التطور إنما كان على حساب الملكية الوطنية الجزائرية