المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌د - فجر يوم الثورة المسلحة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٩

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌اللهُ أَكْبَرُ - وَانْطَلَقَتِ الثَّوْرَةُ

- ‌الفصل الأول

- ‌ الوضع العام في الجزائر عشية الثورة

- ‌أ - اغتصاب الأرض:

- ‌ب - الموقف السكاني - الديموغرافي

- ‌ج - النهب الاستعماري

- ‌د - البترول والغاز الطبيعي

- ‌هـ - الموقف التعليمي (الثقافي)

- ‌ التعليم الابتدائي:

- ‌ التعليم الثانوي:

- ‌ جامعة الجزائر:

- ‌ الموقع الجيواسراتيجي والطبوغراي

- ‌آ - 1 - إقليم الشواطىء:

- ‌آ - 2 - إقليم الأطلس التلي:

- ‌آ - سهل وهران:

- ‌ب- سهل متيجة (متوجة)

- ‌ج - سهل عنابة:

- ‌آ - سهل تلمسان:

- ‌ب - سهل بلعباس:

- ‌ج - سهل تيارت (أو السرسو):

- ‌د - سهل عين بسام:

- ‌هـ - سهل قسنطينة:

- ‌آ - 3 إقليم النجود:

- ‌آ -4 - الأطلس الصحراوي:

- ‌ جبال العين الصفراء

- ‌ جبال عمور

- ‌ جبال أولاد نايل:

- ‌ إقليم الصحراء:

- ‌ب - وديان الجزائر

- ‌ب -1 - الأودية الشمالية:

- ‌ وادي تفنة (أو تافنه)

- ‌ وادي السيق والحمام

- ‌ وادي الشلف:

- ‌ وادي الشفة:

- ‌ وادي يسر:

- ‌ وادي الصومام:

- ‌ الوادي الكبير

- ‌ وادي الصفصاف:

- ‌ وادي السيبوس:

- ‌ وادي مجردة:

- ‌ب - 2 - أودية النجود:

- ‌ب - 3 - الأودية الصحراوية:

- ‌ج - النطاقات المناخية:

- ‌ مناخ البحر الأبيض المتوسط:

- ‌ مناخ الاستبس

- ‌ مناخ الصحراء:

- ‌د - الغطاء النباتي:

- ‌د - 1 - إقليم البحر الأبيض المتوسط:

- ‌د - 2 - إقليم الاستبس:

- ‌د - 3 - الإقليم الصحراوي:

- ‌الفصل الثاني

- ‌ في فلسفة الثورة

- ‌ البيان الأول للثورة:(بيان فاتح نوفمبر 1954)

- ‌الهدف:

- ‌الأهداف الداخلية:

- ‌الأهداف الخارجية

- ‌وسائل الكفاح

- ‌وفي المقابل

- ‌بيان من جيش التحرير الوطني في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954

- ‌ مكتب جبهة التحرير في القارة، يصدر بيانه عن الثورة

- ‌ بدايات العمل الثوري

- ‌ انطلاقة الثورة في كتابة قائد فرنسي

- ‌ عقبات على طريق الثورة

- ‌ الثورة في وثائق ثوارها

- ‌أ - الإعداد للثورة

- ‌ب - الله أكبر - خالد - عقبة

- ‌ج - لهيب الثورة في أريس

- ‌د - فجر يوم الثورة المسلحة

- ‌هـ - اندلاع الثورة في متيجة (متوجة)

- ‌و- الولاية الأولى في معركة التحرير

- ‌ز - الثورة في ولاية وهران

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌د - فجر يوم الثورة المسلحة

رجلان إفرنسيان يرافقهما دليل معروف بولائه للافرنسيين. وقد رفض هؤلاء الاذعان لأوامر رجال الكمين من المجاهدين. وكان لا بد من تفتيش العربة تنفيذا لتعليمات القيادة الصادرة عشية الثورة والتي اعتبرت منطقة الأوراس بكاملها من المناطق المحررة. وعندما رفض ركاب العربة الخضوع للتفتيش، حاولوا استخدام أسلحتهم، جرى بادل إطلاق النار، وسقط الإفرنسيان ودليلهما قتلى على الفور.

‌د - فجر يوم الثورة المسلحة

(1)

كانت ليلة رطبة ومظلمة، غير أن ظلمتها كانت أشد قسوة على المستعمرين، لأنها توافقت مع احتفالات النصارى بعيد (جميع القديسين)(2) ولم يكن المستعمرون، وهم غارقون في ظلمة تلك الليلة يعرفون يقينا، أو يراودهم الشك، بأن ذكرى الليلة الحزينة ستبقى أبدا مرتبطة بأسوأ ما في تاريخهم. ذلك لأنها تسجيل لانهيار اسطورة من أضخم الأساطير الاستعمارية.

كانت ليلة رطبة ومظلمة، وهناك، هبت على جبال الاوراس نسمة منعشة، صفقت لها أشجار الغابات الكثيفة. ووسط تلك الظلمة، كانت الأشباح تتحرك دونما ضجيج، وتتسلق المرتفعات

(1) كاتب هذه الفقرة هو (جلول بوقفة) في كتاب (قصص من النار - افرنسي) إصدار سنيد - المجاهد - الجزائر - 1977 ص 37 - 42. واعتمد الكاتب في كتابته على استجواب المجاهدين الذين اشتركوا في (الحدث التاريخي).

(2)

عيد جميع القديسين (TOUSSAINT) وهو عيد يحتفل به المسيحيون، ويصادف اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر -.

ص: 169

بخطوات سريعة وثابتة، إنها أشباح سكان الجبال (أو الجبليون) الذين اعتادوا على السير الطويل فوق الصخور، وفي الغياض الشائكة. لقد قدموا من كل مكان، من المدن والقرى، من الاوراس ومن مناطق بعيدة عنها. كانت تلك المنطقة هي منطقة قبيلة (توبيس) الشهيرة ببأسها، والمنتشرة على حدود: اشمول وحجاج وأريس. أما (البوسليمانيون) المشهورون بإبائهم وشحمهم فكانوا على حدود- أريس - (وقد عرف عنهم حبهم الشديد لتربية الصقور). ويبقى (الغسيريون العنيدون) هم حراس أبواب الجنوب، وسيكون من نصيبهم الفخر لقيامهم بنصب أول كمين في مضيق - نفق - تيجان أمين - على بعد ثمانية عشر كيلو مترا الى الجنوب، وذلك في صبيحة اليوم الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)1954.

وكانت هناك أيضا قبائل أبناء العمومة من (الأشراف والسراهناس) والذين يتحدثون اللغة العربية بطلاقة، كما يتحدثون بلهجة البداوة - الشوايا - باتقان غريب. وقد عزف أبناء هذه القبائل بشدة بأسهم وصعوبة مراسهم. غير أن عائلاتهم ستتعرض للانتقام الوحشي وأعمال الانتقام من قبل الافرنسسين، وذلك كرد فعل منهم على الاشتباك الأول مع قوات الثورة. وستكون هذه العائلات أول من يعاني الاضطهاد، وأول من يتعرض للتعذيب بسبب قصة الكمين التي تتلخص بالتالي:

قام ثمانون مجاهدا بقيادة بشير ورطان - الملقب بسيدي هاني - بنصب كمين لقافلة فرنسية تضم كتيبتين، واشتبكوا مع القوة الإفرنسية لمدة (24) ساعة، سقط خلالها (300) جندي بين

ص: 170

قتيل وجريح - بحسب ما ذكره سائقو سيارات الأجرة، التاكسي، التي استخدمها الإفرنسيون لنقل قتلاهم وجرحاهم - ومقابل ذلك سقط من المجاهدين (7) شهداء و (25) جريحا. وعلى أثر هذه المعركة أرسلت قيادة العدو، برقية، أبرزت فيها الأسلوب الذي ستعمل على تطويره للتضليل والخداع، فذكرت بأن القوات الإفرنسية لم تتكبد من الخسائر إلا بعض القتلى وبعض الجرحى فقط.

تجدر الإشارة بعد ذلك إلى أن القبائل البعيدة من (النمامشة والعامريين) لم تكن آخر من وصلت في الموعد المحدد إلى جبال الأوراس. وكان رجال منه القبائل قد انطلقوا، ومعهم آخرون، من ضهرة (ولدموسى) ليصلوا الاوراس، وليجدوا فيها إخوانا لهم قد حشدوا (350) مجاهدا من المقاتلين الأشداء. وكان (مصطفى بن بولعيد) هو أول من وافى المكان، الذي ضم المجاهدين من مختلف المستويات الاجتماعية، ومن كل المستويات الثقافية، ومن جميع العناصر الوطنية، فكان ذلك برهانا ساطعا على فشل الجهود الاستعمارية التي طالما جهدت لخلق الانقسام بين المسلمين، من عرب وبربر، وبين أبناء المدن والقبائل، كل ذلك بهدف تكوين مراكز قوى متصارعة تسمح لفرنسا باختيار نخبة منهم وتدريبهم لمحاربة إخوانهم في الدين والوطن. فكان هذا التجمع أول انتصار للثورة. وها هم الآن (350) رجلا، كلهم رجل واحد، لا تفاوت بينهم ولا تنافر. إنهم على وشك البدء في إطلاق شرارة ثورتهم المسلحة، ولم يبق بينهم وبين الشروع في التنفيذ أكثر من ساعات قليلة. إنهم يمثلون ولادة الثورة التي

ص: 171

تستمد لتطهر أعماق الشعب الجزائري، وتصهره، لتوجهه نحو الهدف الواحد، وهو هدف الحصول على حقوق لم يعرفها الجزائريون أبدا منذ اجتاحت جحافل الغزو الإفرنسي بلادهم.

هنا، في الأوراس أيضا، التقت (المجموعات الخاصة) وقد ضمت رجالا ملؤهم الثقة، حملوا السلاح الذي استخرجوه من مخابئه الكثيرة والتي لم يعرف أحد مكامنها سواهم، وكان النجاح حليفهم عندما جاءوا بها من جنوب الأوراس، ومن (واد سوف) ومن (ليبيا). ودفنوها في انتظار اللحظة الحاسمة. وكان (مصطفى بو ستة) هو أول من عمل لتنسيق التعاون بين مختلف القوى في القطاع (تكوت): وكان يعيش في عالم الخفاء منذ سنة 1952. ولم تنجح عمليات التفتيش في العثور عليه، أو اقتفاء

أثره، بالرغم من كل الجهود التي بذلتها قوة (الحرس المتحرك) والتي ضمت ثلاثة آلاف مقاتل، جاءت بناء على طلب (حاكم أريس) للبحث عما أطلق عليه اسم (المجرمين) و (الخارجين على القانون).

وقامت هذه القوة الافرنسية بتمشيط المنطقة مرات عديدة، غير أن (مصطفى بو ستة) ومعه (الخارجون على القانون). استطاعوا البقاء بعيدا وبصورة مستمرة عن قبضة القوات الاستعمارية. وها هم الآن يستعدون لمرحلة جديدة من العمل الثوري، ومعهم (حسين بن رحيل) الذي بدأ العمل السري - متخفيا - منذ سنة 1943، وكذلك (صادق سبشوب) الذي اكتسب شهرة اسطورية باعتباره قناصا من مهرة الرماة. و (مكي عيسى) الذي طالما تعرض للمطاردة، والذي اشتهر منذ قتل أحد

ص: 172

رجال الدرك برصاصة واحدة في جبهته، عندما كان هذا يطارده في وضح النهار. وكذلك أيضا (مسعود مختار) و (غرين بلقاسم) الذي ستتحدث عنه البرقية المرسلة من قبل السلطة الحاكمة، بما يلي:(لقد قتل واحد من كبار قادة المتمردين)، غير أن البرقية تجاهلت العدد الكبير الذين صرعهم غرين بلقاسم - من جند العدو - قبل أن ينال شرف إحدى الحسنيين. ثم هناك (أحمد الجدعا) الذي اشترك في الثورة منذ بدايتها، ولما يتجاوز الرابعة عشرة من عمره (1) وتبقى الظاهرة المثيرة في تجمع هؤلاء المجاهدين، انصهار كافة الفوارق الناجمة عن المنشأ، لقد وقفوا صفا واحدا - كالبنيان المرصوص-فبات من العسير التمييز بين الجبلي وابن المدينة، أو من عرف بؤس الحياة وفقرها، ومن عاش رغدها وبحبوحتها. وها هو الجبلي (ابن - اوولدالغولة) بهامته الضخمة ولونه البرونزي وملامحه القاسية التي تنطق بها قسمات وجهه، وتعبر عنها شفتاه وهما تقذفان الكلمات بطريقته البدائية (الموصوفة بالوحشية) فيدخل بها الرعب إلى قلوب أعدائه. لقد كان يمتلك قوة جبارة طالما كانت له عونا لإنقاد عدد كبير من رفاقه الجرحى أثناء اشتباكاتهم الدموية الرهيبة، غير أن جهله (أميته) كانت تضعه باستمرار في مؤخرة إخوانه، وكان شأنه في ذلك شأن الكثيرين من رفاق طفولته الذين ما عرفوا في الحياة سوى حراثة الأرض الصخرية وزراعة الأرض المجدبة تقريبا، والتي كانت الشيء الوحيد الذي تركه لهم الاستعمار الاستطاني. وقد خضع هؤلاء البؤساء المحرومون، الى حين، لأساليب الدعاية الاستعمارية الافرنسية، حتى

(1) وهو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من أفراد مجموعته، وانصرف بعد انتصار الثورة للعمل في الإشراف على مزرعة بناحية بطنة.

ص: 173

أنقذتهم منها جهود دعاة الثورة (الحركيين). ومالبثوا أن استردوا الشعور بعظمة أمتهم، فأقبلوا تباعا - الواحد بعد الآخر - وانضموا لقوات جيش التحرير الوطني الذي جسد لهم أهداف وجودهم.

وإذا كان (ولد الغوله) يمثل هذه الفئة، فقد كان (جيلاني حداد) يمثل الفئة المقابلة، فقد نشأ جيلاني في المدينة، وعاش بيسر وبحبوحة، وتميز منذ أيامه الأولى في الحياة بذكائه الحاد، فكان من السهل عليه أن يؤمن بضرورة استخدام العنف الثوري، وبحاجة لخوض الصراع المسلح. وكان يعيش في وسط جماهير المدينة فأمكن له الاتصال بمنظمات الثوار (الماكي). وكان هذا الاتصال خطرا في حد ذاته، لا سيما وأن جيلاني كان معروفا بأفكاره الثورية ونزعاته التحررية. وسيمضي عام على موقفه مع رفاقه في الأوراس، عشية الثورة، قبل أن يودعه هؤلاء الرفاق الوداع الأخير بعد أن حملوه من ميدان المعركة، وصعدوا به لمواراته إلى جانب رفيق له سبقه الى قبر مهجور. لقد سقط (جيلاني) وهو يحمل سلاحه يرد به العدوان الإفرنسي عند مدخل القرية التي لم يتجاوز حدودها ولم يغادرها أبدا منذ بدأت حرب التحرير، وكثيرا ما كان أخوانه المجاهدون يتحدثون عنه بعد ذلك وهم يستعيدون ذكريات الحضارة الإفرنسية، التي لم يعرفوا منها إلا أعمال الإبادة ضد الوطنيين المسلمين الذين كانت تصفهم فرنسا (بالمتوحشين).

يبقى هناك مجال للحديث عن (بو عيسى) أو (رجل المستنقع) الذي لم يكن قد عرف طائرة في حياته - قبل الثورة - شأنه في ذلك شأن معظم مواطنيه، ولكن ذلك لم يمنعه من توجيه

ص: 174

نيرانه في معركة (تكوت) ليسقط طائرة فرنسية فوق أرض المعركة. وكان من المرغوب فيه التعرض لذكر كل أولئك الأبطال الذين اشتركوا في معركة (ضهر ولدموسى) الشهيرة والتي وقعت في اليوم الأول من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. وهو اليوم التاريخي الذي انطلقت فيه مجموعات كثيرة، تضم الواحدة منها أحد عشر رجلا، لتنتشر في وهاد جبال الأوراس وشعابه، وهي تتعارف بعضها على بعض بكلمتي السر والتعارف السحريتين (سيدي خالد) و (سيدي عقبة). ففي تلك الساعة (س-صفر) قام الثوار بتدمير (جرس تكوت) وتم بذلك عزل رجال الدرك الذين كانوا يستقرون في القرية. وهناك، على بعد مائة كيلو متر من تكوت، اجتاح الثوار (فم الطوب) حيث كانت أرتال المجاهدين قد غادرتها على عجل وهي متجهة الى (بطنة). وعلى مسافة أكثر بعدا، كان الثوار يهاجمون مراكز الجيش والدرك والشرطة في (خنشلة).

وفي اليوم التالي، كانت أخبار الفرحة التي طال انتظارها وقد ملأت كل بيت جزائري، في الشمال كما في الجنوب، وفي الشرق كما في الغرب. لقد انبعث ضياء الأمل من قلب الظلمة الحالكة. وإذا كانت طلقات النيران قد ألهبت القرى والمدن في السهل والجبل، فإن أصداءها القوية قد ترددت عالية في جبال القبائل والأوراس. بل وفي كل مكان، فكانت زغاريد نساء القبائل (يويو) هي أصداء زغاريد أخواتهن من نساء الأوراس، ومعهن جميعا كانت نسوة المدن وصحارى الجنوب يرددن (يويو) الفرحة.

ص: 175

لقد ارتبطت الأسماء السابقة كلها بالعملية التي اشتهرت باسم (عملية تاغيت) أو (كمين تيجان أمين) والتي كانت أول عملية من نوعها سقط فيها: الدليل معونيش، والمدرس الافرنسي مونروت). واستشهد بعد ذلك كل أبطالها، ولم يبق منهم على قيد الحياة سوى المجاهد (طغروري المبارك) وهو رجل كما يقال عنه (لا ماضي له قبل الثورة، وأن كل قصة ماضيه قد بدأت في هذه العملية)

.. حيث تقدم مع جماعته التي ضمت أحد عشر رجلا لنصب كمين (تيجان أمين) في المضيق الذي يفصل شمال أريس عن الجنوب، والذي تغطيه من الجنوب سلسلة من الجبال المكسوة بأشجار النخيل. وكان هدف العملية، وفقا للتعليمات التي أصدرها رئيسهم وصديقهم - مصطفى بن بو العيد - هو منع رجال الدرك - الجندرمة - من التحرك، وعزلهم، وتدمير روحهم المعنوية، وإرغامهم على البقاء في مراكزهم وثكناتهم لا يبرحونها. وتم نصب الكمين، ولم تقترب أية مركبة من موقع الكمين حتى الساعة الثامنة صباحا، عندما وصل باص (بسكرة - أريس) وفي داخله الدليل - القائد - معونيش، عميل الافرنسيين، والى جانبه المدرس مونروت ومدرس آخر، بالإضافة الى الركاب من المواطنين الجزائريين المسلمين. وظن الدليل أن العملية تتعلق بجماعة (خارجين على القانون) كما كانت تسميهم السلطة الاستعمارية، وأراد (معونيش) على ما يظهر إضافة خدمة جديدة لسجله في الاخلاص لسادته، فأشهر مسدسه، محاولا إطلاق النار على المجاهد الثائر الذي أوقف الحافلة (الباص) والذي كان خلف

ص: 176

النافذة تماما حيث كان يجلس الدليل والمدرس الإفرنسي. ورأى اثنان من أفراد الكمين هذه الحركة وهما في موقعهما المرتفع بين الصخور، فأطلقا عليه النار وأردياه قتيلا، وأصابت رصاصة المدرس (مرنروت) فقتلته. كما أصيبت زوجة المدرس برصاصة ثالثة لم تقتلها.

وصعد (طغروري المبارك) إلى الحافلة، فأوضح لركابها مهمة الكمين، وشرح لهم ما كان يحدث خلال تلك اللحظة من أعمال ثوروية، لا في المنطقة وحدها وإنما في كل أنحاء الجزائر. واستأنفت الحافلة رحلتها، وأوصلت الجريحة الى مستشفى أريس في الساعة الحادية عشرة، ولم تلبث أن أقبلت طائرة عمودية - هيليكوبتر - فنقلت الجريحة الافرنسية من مستشفى بسكرة إلى مستشفى بطنة. ولقد أثار وصول هذه الطائرة العمودية كثيرا من الصخب والضجيج، حيث حاول رجال الدرك وأعوان السلطة الإفرنسية تصنيع قصة تراجيدية للبرهان على العظمة الافرنسية والقوة الإفرنسية، ولم يعرف رجال الدرك في حينه أن هؤلاء الذين لم تقع أنظارهم قبل ذلك اليوم على (طائرة عمودية) سيعتادون عما قريب على التعامل مع كل أنواع الطائرات، وتركها طعمة للنيران.

كان الافرنسيون جميعهم من مدنيين وعسكريين مسلحون تسليحا حديثا وجيدا، وبصورة خاصة منهم المدرسون الذين يختلطون أكثر من سواهم بالمواطنين المسلمين.

قامت القوات الإفرنسية بحمة مشتركة ضمت كل صنوف

ص: 177

الأسلحة، وذلك بعد كمين (تيجان أمين) بثلاثة أيام، واقتحمت هذه القوات - أريس - وتوجهت بعدها الى موقع الكمين الذي تعرض للقصف طوال ساعات عديدة بنيران المدفعية والطيران. وانتقلت قوات الحملة بعدها الى تكوت، وأصلحت الجسر الذي يقع عند مدخل القرية. وفي اليوم التالي (4 تشرين الثاني - نوفمبر) طوقت القرية والأكواخ المنتشرة حولها، وبدأت بعملية اعتقال المواطنين واستجوابهم وتهديدهم بالحرق. كما أخذت بقتل أهالي الثوار وأفراد عائلاتهم وذلك بعد الاحتفاظ بهم كرهن لمدة خمسة عشر يوما على أمل أن يقوم الثوار خلالها بتسليم رقابهم للجلادين. ورفع المحققون الى رؤسائهم خلال الأيام الثلاثة الأولى قوائم - لوائح - تتضمن أسماء (الخارجين على القانون).

وكانت السلطات الاستعمارية وهي تمارس أعمال الإرهاب، تعتقد أنها قادرة بهذه الأساليب على عزل الثوار وحرمانهم من كل دعم. فأقدمت على تعذيب المعتقلين وقتل بعضهم، معتقدة أن ما تم تنفيذه من أعمال ثورية لا يتجاوز نطاق (الهيجان المحلي) مما يجعلها قادرة على إخماد الهيجان الجماهيري بسهولة، بنفس الأساليب التي سبق استخدامها في سنة 1945 لإخماد هيجان سطيف، وجيرالدا، وأعلن الضباط الافرنسيون أنهم تلقوا تعليمات تقضي بإعادة تنفيذ فصول القصة البائسة، كما أعلن هؤلاء الضباط عن استعدادهم لإعادة تنفيذ مثل تلك العملية، غير أن ذلك لم يزد المجاهدين الجزائريين، إلا تصميما.

ولم يزد الشعب الجزائري إلا عنادا لاحتضان الثورة، حديثة العهد بالولادة، ودعمها ورعايتها. وأصبح جيش التحرير الوطني

ص: 178

الجزائري هو الملاذ الوحيد من أجل حمل السلاح. وخوض الصراع ضد الظلم والظالمين، إذ أنه على الرغم من كل التهديدات والممارسات الإرهابية، فقد استطاع المواطنون الجزائريون إحاطة القوات الإفرنسية، في كل مكان، بمناخ من التهديد وفقدان الأمن، وقام الأنصار الجزائريون (المسلمون) الشجعان، بتأمين الاتصال بين المواطنين وبين جيش التحرير الوطني في كل مكان من البلاد.

ونظرا لمنع الرجال في (تكوت) من مغادرة المدينة - تحت طائلة التهديد بالقتل - الا بعد الحصول على تصريح - إجازة - من السلطات الرسمية، فقد وقع على النساء واجب تأمين هذه الاتصالات. واضطلعت النسوة المجاهدات بكل ما كان يطلب إليهن تنفيذه من الأعمال الشاقة والخطيرة. فكانت جهودهن وأعمالهن ذات أهمية لا تقل من زوجة البطل (بلقيس ولد الغولة) التي لم تكن زغاريدها (اليويو) وزغاريد أخوتها، في المعركة الا لهيبا يرتفع على صخب القتال وضجيح الأسلحة، مما كان يثير حماسة المجاهدين ويدخل الرعب في قلوب جند الأعداء.

وقد كان صوت (العمة الغولة) دونما مبالغة أشد وقعا وأعمق تأثيرا من كل وصف. وكانت العمة الغولة ضخمة الجثة، قوية البنية، سوداء اللون تقريبا، ذات شجاعة لا تطالها مقاييس اختبارات الشجاعة، إنها لم تتذمر في يوم من الأيام، ولم ينل منها التعب أبدا وهي تجوب الجبال باستمرار، لتنقل الأخبار إلى المجاهدين. ولتؤمن لهم الاتصالات الضرورية، طوال سنوات الحرب. فنسجت بذلك - للتاريخ - أسطورة ملحمة طويلة جدا

ص: 179