الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
بدايات العمل الثوري
بهذه الحركات الخفيفة المنظمة، تمكن جيش التحرير من بث الذعر والفوضى في صفوف العدو الذي فقد صوابه. وقد تمكنت قوات جيش التحرير من حصار (فم الطوب) و (آريس) وقطع جميع المواصلات الهاتفية والبرقية بينهما وبين بقية المدن، ودام الحصار ثلاثة أيام كاملة، كانت تصل خلالها النجدات والمؤن لحاميتي المركزين بواسطة الطائرات العمودية. وسيطر جيش التحرير على منطقة الأوراس التي تبلغ مساحتها (12) ألف كيلو متر مربع سيطرة مطلقة وقضى على جميع المراكز الاستعمارية في هذه المنطقة. أما في جبال (جرجرة) - القبائل، فقد ظهرت فيها القوات الوطنية فجأة، واستولت عليها، وأحاطت بـ (تيزي أوزو) أكبر مدينة فيها.
وأسرعت الإدارة الإفرنسية في الجزائر بطلب النجدات من فرنسا. وفي 3 تشرين الثاني - نوفمبر - (أي في اليوم الثالث لاندلاع الثورة) نزلت في ميناء عنابة ثلاث كتائب من المظليين تم استقدامهم من فرنسا بأمر من رئاسة الحكومة. وكانت القوات الافرنسية بالجزائر يوم انفجار الثورة، تضم (49،700) مقاتل. وعلى الرغم من ضخامة هذه القوات، فإنها ظلت عاجزة حتى عن حماية نفسها، ولم يتسن لها
التحرك والتجمع إلا بعد وصول نجدات كبيرة من فرنسا. وقد صرح سكرتير الدولة الافرنسية للشؤون الحربية آنذاك (جاك شوفالييه) بما يلي: (إن منطقة الأوراس هي في حالة ثورة حقيقية. وعدد الثوار فيها بين أربعمائة وأربعمائة وخمسون رجلا، وهم يستخدمون الأسلحة الآلية - الأوتوماتيكية، والأجهزة اللاسلكية للارسال والالتقاط، وهم يحوبون أعالي البلاد).
وكان لا بد للقوات الاستعمارية، أن تقوم بعمل يرد لها بعض (الكبرياء المجروح) و (الهيبة المفقودة). ولو بواسطة الدعاية المزورة - الملفقة - التي لا بد منها لحفظ سمعة الجيش الإفرنسي. وقد تجمعت القوات الإفرنسية في (باتنة). وانطلق منها فيلقان يوم 5 تشرين الثاني - نوفمبر - الى الأوراس، بزعم القيام بعملية تطهير، ولم تكن هذه العمليات في الواقع سوى استعراض لعضلات الاستعمار الإفرنسي، ومناورات قمع واضطهاد. وبعدها بيومين، انطلقت ثلاثة فيالق عسكرية في عملية إرهابية داخل البلاد - في اتجاه القبائل الكبرى وجبل (أشمول). وقد عادت هاتان الحملتان دون أن تصادفا أية قوة لجيش التحرير، ولكنها اعتقلت بضع مئات من - المشبوهين -.
لقد أدت عمليات فدائيي المقاومة السرية في شن الهجمات الصاعقة، سواء بطريقة الزي المزيف أو الانقاض المباغت، الى تحطيم أعصاب الجنود الافرنسيين، وعلى الخصوص الدوريات المتجولة، وحراس الثكنات والمستودعات الحربية، الذين يفقدون السيطرة على أعصابهم نهائيا مع اختفاء ضوء النهار. فحين يهجم الليل بسواده الداكن، يخضعون لمشاعر الفزع، ويتصورون كل شبح في الطريق
فدائيا. ويعتقدون كل لمعة هي مدية موجهة لأعناقهم، وكل صوت هو صوت قعقعة سلاح. ويظن الواحد منهم أن كل دورية تبديل إنما هي جماعة من الفدائيين، فلا يلبث أن يطلق النار عليها، وعلى كل شبح أو شجرة أو حركة.
ومن القصص المثيرة والمعروفة، ما حدث في مدينة (معسكر) خلال الأيام الأولى للثورة، حيث كان السكون يخيم على المدينة، لا يعكر صفوه سوى سير الدوريات المسلحة. وكان عقربا الساعة يلتقيان عند شارة منتصف الليل، عندما صدرت عن الجهة الغربية للمدينة - قرب محطة الحط الحديدي - نيران رشاشة بغزارة عالية. وعند الصباح تبين أن جنود اللفيف الأجنبي - ليجيون ايترانجيه - الذين يحرسون مستودعات النفط قرب محطة الخط الحديدي، سمعوا صوت حركة بن الأعشاب، ففتحوا نيرانهم الرشاشة في اتجاه مصدر الصوت. ولم تكن الضحية أكثر من حمار شارد!
كان إعدام الخونة، والمتعاونين مع العدو، هو الهدف الأول للمقاومة السرية وجيش التحرير على السواء. فالخائن في العرف الوطني هو عين الاستعمار، وهو الجرثومة الخطرة التي ببتلي بها الوطن. وكما أن الجسم العليل لا يمكن أن يستعيد نشاطه، أو يبرأ من مرضه إلا اذا قضى قضاء تاما على جرثومة العلة .. فكذلك الشعب العربي وشعوب العالم، لا تستطيع أن تحرر أو أن تنطلق على درب الحرية والسيادة، إلا إذا تم لها استئصال عناصر الفساد، وقتل جراثيم العلة والبلاء فيها. وقد نجحت المقاومة السرية في القضاء على الخونة المارقين، أذناب الاستعمار، وعبيد ماله. وأراحت الشعب العربي في الجزائر من لسعاتهم السامة. وكان آخر من سقط منهم مضرجا بدم
الخيانة والفساد (عدة شنتوف) و (علي شكال) الذي نفذ فيه حكم الإعدام في قلب فرنسا. وهذان الجاسوسان ينتميان الى المجلس الجزائري المزيف. (وابن التكوك) شيخ الطريقة السنوسية في (مستغانم). وتتم عملية الاعدام، بعد محاكمة المتهم حضوريا أو غيابيا، وتبحث في هذه المحاكمة الأدلة والبراهين القاطعة التي تثبت إدانة المتهم، وبعد ذلك، يعلن رئيس المحكمة الحكم النهائي. وينفذ هذا الحكم فورا.
وبانتهاء حياة الخونة، أصبح جلاء المستعمر عن الوطن الجزائري حتميا، فبفقدانه عيونه - جواسيسه - أصبح بدون مساعدة أو معين، فكيفما اتجه،، يجد حرابا مسنونة تدميه. وسيوفا مسلولة تقض مضاجعه. ولقد أظهرت عمليات إبادة الخونة أهميتها بسرعة مذهلة، فقد ظهرت الإدارة الإفرنسية في الجزائر، وقيادتها العسكرية، أنها باتت غارقة في الظلام، ولم يعد باستطاعتها تقويم القوات الحقيقية للثورة، أو معرفة أي شيء عن نوايا الثوار ومخططاتهم، فراحت تنعت رجال جيش التحرير بأنهم قطاع طرق (فلاقة) وذلك لتغطية ما ترتكبه القوات الافرنسية من جرائم التقتيل والابادة والتدمير. وقدرت عدد رجال (الفلاقة) ببضع مئات من الرجال، وأحيانا تزيد عددهم الى بضعة ألوف - ثم إلى (15 ألفا).
وبقي جيش التحرير محتفظا بسرية عدده وعدته. وكان يعلن في كل المناسبات بأن: عدده هو مجموعة الشعب، وأن مخازن الجيش الافرنسي هي مصدر سلاحه. وكان جيش التحرير عندما بدأ عملياته. قد قسم البلاد الى ست مناطق عسكرية، وزع قواته عليها توزيعا محكما؛ وجعل على رأس كل منطقة قيادة مهمتها إدارة الحرب
وتنظيم أعمال المقاومة السرية. وحتى تتوافر لعمليات جيش التحرير المرونة وخفة الحركة والقدرة على المباغتة، فقد قسمت القوات الى مجموعات صغيرة، تضم كل واحدة منها حوالي العشرين جنديا؛ مسلحين بالبنادق الرشاشة والقنابل اليدوية، ولدى كل مجموعة جهاز لا سلكي للاتصال بالقيادة وبالمجموعات الأخرى. ولقد أعيى توزيع القوات الجزائرية، على هذا النمط، الجيوش الافرنسية المجتمعة التي كانت تنطلق بين الفينة والفينة، في عملياتها العسكرية ضد الثوار الجزائريين. ولم تعثر هذه الجيوش خلال عملياتها الواسعة على أي أثر لأفراد جيش التحرير، الذين كانوا يراقبون تحركات العدو عن كثب. وبحذر تام. وحين يأتي الظلام، تشرع الدوريات الجزائرية في العمل، بينما تحتفي القوات الافرنسية الضخمة داخل مراكزها الحصينة.
وقد وصف مندوب وكالة الصحافة الافرنسية الحالة في الأوراس خلال الشهر الأول للثورة بقوله: (تحافظ الجماعات المسلحة على وجودها مختفية، ففي النهار، لا يظهر أحد منهم. وأثناء الليل، تشعل النيران في الجبال، نيران توقد وتخبو كأنها إشارات، وقد تصادف في وقت متأخر من الليل جرارات بأوضاع غير عادية تأكلها النيران وهي مصطفة على جوانب الطريق). ولكن ومع اقتراب الشهر الأول للثورة من نهايته، بدأت القوات الجزائرية بالتحرك نهارا، وأخذت تنشر الرعب في صفوف العدو. وكانت الى جانب أعمال قطع أسلاك الهاتف والبرق، تقوم بهجمات خاطفة على مراكز الجيوش الافرنسية، وقوافل التموين، وأصبحت خطط جيش التحرير تعتمد على مبدئين أساسيين من مبادىء الحرب: الضرب
بشدة وبصورة مباغتة، ثم الانسحاب بسرعة. وقد أذهلت هذه الخطط القادة الإفرنسيين، فوضعوا مخططاتهم المضادة التي تعتمد على الإبادة التامة والتدمير الشامل لقواعد الثورة. وضمن هذا الإطار قامت طائرات سلاح الجو الإفرنسي مساء السبت (20 تشرين الثاني - نوفمبر - 1954) بإلقاء خمسين ألف منشور - بيان - على منطقة الأوراس. وتضمن المنشور المذكور ما يلي:
نداء إلى السكان المسلمين!
(إن بعض المحرضين المدفوعين من جهة أجنبية، أثاروا حوادث دامية في - بلادنا - وهم يتمركزون بصورة خاصة في منطقتكم، ويعيشون على خيراتكم. إنهم يلزمونكم بمساعدتهم، ويسعون الى اقتياد رجالكم في مغامرات إجرامية.
أيها المسلمون!
إنكم لن تتبعوهم، وستجمعون عاجلا قبل الساعة السادسة من مساء يوم الأحد 21 تشرين الثاني - نوفمبر - في مناطق الأمان التي سترشدكم إليها القوات الافرنسية الضاربة في منطقتكم مع موظفي الادارة والدواوين.
أيها الرجال الذين خرجتم على القانون بغير تفكير، إذا كنتم لم تقترفوا جرما يعاقبكم، التحقوا حالا بمناطق الأمان مع أسلحتكم فلن يصيبكم أي أذى. وستنزل المصيبة الهائلة على رؤوس العصاة.
ويسود السلام الافرنسي من جديد).
لم يستجب أحد من أبناء الأوراس لهذا النداء، ولم ينزل أحد الى (باتفة) أو سواها من مراكز الأمان التي حددتها القيادة الافرنسية،
فما كان من هذه القيادة الا أن مددت مهلة الالتحاق بمراكز الأمان لمدة خمسة أيام (حتى 26 تشرين الثاني - نوفمبر -) وأطلقت قواتها لإرغام المواطنين الجزائريين على مغادرة قراهم ومراكزهم. ونجحت في النهاية بحمل (280) عائلة من قرية (أشمول) التي يزيد عدد العائلات فيها على الألف عائلة، بالنزول الى (مراكز الأمان). وقد لوحظ خلو الرجال والاشداء والشبان، من بين الذين حملتهم القوات الافرنسية الى (المعتقلات الاجبارية التي حملت اسم معسكرات الأمان) وجدير بالذكر ان عدد سكان الأوراس كان يتراوح بين (120) و (150) الف مواطن.
بعد انتهاء أجل الانذار، خرجت خمسة فيالق فرنسية في اتجاه القرى التي رفضت الانذار الافرنسي، وقامت بعمليات اعتقال وإبادة واسعة النطاق، اشترك فيها سلاح الجو الافرنسي وقذف فيها قرى الأوراس بقنابل النابالم الحارقة. ولم تؤثر هذه العمليات الوحشية في نفسية الشعب. فظل صامدا يدعم قوات جيش التحرير في المنطقة، إلى أن ظهرت المجموعات الجزائرية فجأة في جبال (جرجرة)، وكان لظهور هذه المجموعات في هذه المنطقة من ولاية (عمالة) الجزائر، وقع الصاعقة على رؤوس الاستعماريين، إذ اعتبروه بداية التطوير لعمليات جيش التحرير المنظمة. وأخذت تحركات قوات الثورة تتوالى في منطقة الاوراس مع انتهاء الشهر الأول لبداية الثورة. وحدثت اشتباكات عنيفة مع القوات الافرنسية أدت الى مصرع عدد كبير من الافرنسيين. وكانت خسائر الثوار محدودة جدا، نظرا لافادة هؤلاء من عامل المباغتة في توجيه الضربات. وحاولت الادارة الافرنسية وقياداتها العسكرية قلب الحقائق، واتباع الأساليب الاعلامية الخادعة،
فأخذت تزعم أنها قتلت عشرات ومئات الثوار، بينما كانت البلاغات الافرنسية تكاد تخلو من ذكر القتلى الافرنسيين.
غير أن هذا الأسلوب من الكذب والخداع، لا يلبث أن يكشف ذاته بسرعة، ليفضح الأساليب التضليلية. وقد ظهر ذلك واضحا في عملية حدثت في بداية شهر كانون الأول - ديسمبر - 1954. ففي هذا التاريخ كانت قوة فرنسية تضم (150) جنديا تقوم بعملية (التطهير) في الأوراس. وقد أوغلت هذه القوة في تقدمها حتى وصلت الى منطقة مكشوفة، وكانت إحدى المجموعات الجزائرية العاملة في هذه المنطقة تتابع تحركات القوة الافرنسية عن كثب، وتحكم الخناق عليها، حتى إذا ما وصلت الى المنطقة المكشوفة، انقضت عليها بالنيران والالتحام، وأبادتها إبادة تامة. وفي الغد، جاء تصريح القيادة الافرنسية بالصيغة التالية:(بينما كانت إحدى فرقنا تقوم بعملية تطهير في الأوراس، هاجمتها عصابة مسلحة من - الخارجين على القانون - وتمكنت قواتنا من قتل (49) ثائرا، أما خسائرنا فلم تتجاوز قتل جندي واحد وإصابة آخر بجراح).
قامت قوات فرنسية كبيرة بعمليات حصار وتفتيش في بلاد القبائل، يوم 14 كانون الأول - ديسمبر - 1954، وكان هدفها الأول هو إرهاب المواطنين، لا سيما بعد ظهور قوات الثورة الجزائرية في هذه المنطقة. وقد تلتها في 30 كانون الأول - ديسمبر - حملة أخرى تضم (4) آلاف جندي للبحث عن الجماعات المسلحة، ولم تصادف هاتان الحملتان أحدا من رجال جيش التحرير، الذين كانوا كعادتهم يراقبون تحركات العدو، وينتظرون انسلاخ قوات صغيرة عن القوات الكبيرة ليهاجموها. غير أن الافرنسيين كانوا شديدي الحذر، فلم
يجرأوا على تقسيم قواتهم. بل أبقوها مجتمعة تعمل كتلة واحدة، وهذا ما سبب لهم الفشل، لأن تحرك مثل هذه القوات التي ترافقها الدبابات والمدرعات الخفيفة، وتحرسها الطائرات من الجو، لا بد وأن تكون بطيئة عبر الدروب المتفرقة في المنطقة والخفيفة الحركة.
وكان الافرنسيون يعتقدون أنهم بحملاتهم الضخمة هذه يستطيعون إيقاف الثورة وخنقها وهي في مهدها. غير أن الثورة نجحت في نشر قواتها وزيادة نشاطها .. فبعد أن كانت عمليات الجيش محصورة في الأوراس إذا بقوات الثورة تنتشر في بقية ولاية (عمالة) قسنطينة. ثم تمتد إلى بلاد القبائل (جبال جرجرة)، ومن هناك بدأ انتشار الثورة داخل ولاية (عمالة) الجزائر ذاتها.
استمرت القيادة الافرنسية في محاولاتها بالرغم مما أصابها من الفشل، فوجهت يوم 19 كانون الثاني - يناير - 1955 قوة مكونة من خمسة آلاف جندي مدعمة بالمدرعات والطائرات للبحث عن مجموعات جند جيش التحرير في الأوراس. ثم أتبعتها بقوة ثانية تضم أربعة آلاف جندي لتطوير عمليات البحث في شمال الأوراس. وعادت الحملتان بعد أيام دون تحقيق نتيجة تذكر. وخلال ذلك كان جيش التحرير قد وسع دائرة نشاطه حتى أمكن له السيطرة على منطقة الجنوب كلها ، ووقعت مجموعة من الاشتباكات الضارية في (كولون بشار) و (عين الصفراء) و (بوسعادة) واختفى رجال جيش التحرير بعدها ليعاودوا ظهورهم في منطقة (وهران). وأصيبت الادارة الاستعمارية وقيادتها العسكرية بحمى الغضب لهذا التطور، إذ كانت تعتقد حتى تلك المرحلة بأن ولاية (عمالة) وهران مسالمة، لأن طبيعة وهران وتكونها الديمغرافي لا يساعدان جيش التحرير عل
ى
التحرك والعمل في منطقتها.
وعلى أثر امتداد نفوذ جيش التحرير، وتعاظم نشاطه في كل أنحاء القطر الجزائري، عملت فرنسا على إقالة الحاكم العام (ليونارد) وخلفه في منصبه (جاك سوستيل). وفي أول نيسان - أبريل - 1950 أقرت الجمعية الافرنسية لمدة سنة العمل (بقانون الطوارىء) وهو قانون يمنح القوات الافرنسية حرية العمل العسكري بالجزائر، وتطورت بنتيجة ذلك أعمال القتل والسلب واقتحام مساكن المسلمين الجزائريين عنوة في الليل والنهار بحجة البحث من الثائرين، مع فرض رقابة صارمة على الصحف والاعلانات ومحطات الاذاعة والافلام السينمائية والمسرحيات وكل أنواع النشاطات الاجتماعية الأخرى. وقد أدى ذلك الى انتشار الفوضى، وازدياد أعمال الاضطهاد، وانتشار الرعب. فما كان من القوات الجزائرية الثائرة في منطقة الأوراس. إلا أن زادت من هجماتها على القوات الافرنسية، وعملت على تصعيد الصراع، بزيادة الكمائن والهجمات على مخازن حلفاء الافرنسيين الاستعماريين. ووقعت في هذا الشهر (نيسان - أبريل) حوادث تدميرية هامة في مدينة الجزائر، حيث دمر فدائيو المقاومة السرية معامل (باسطوس) للسجائر، ومصنعا للفلين.
جابهت الادارة الاستعمارية في الجزائر، والقوات الافرنسية المسلحة، ثورة شعب الجزائري بأساليبها التقليدية التي طالما مارستها منذ أن وطئت قواتها أرض الجزائر. ولقد صرح رئيس بلدية الجزائر، وكاتب الدولة السابق للقوات المسلحة (جاك شوفالييه) بقوله:(إننا لن نحارب بوسائل عادلة ضد - الخارجين على القانون - إننا نحاربهم وفقا لقانون الثأر، إنه الدفاع الشرعي من أجل مصلحة البلاد).
وهكذا، وانتقاما من هجمات الثوار الجريئة في شهر أيار - مايو -وبداية شهر حزيران - يونيو - 1955، قام سلاحا الطيران والبحرية وفرق المغاوير والمظليين بعمل ثأري، فدروا القرى العربية المحيطة بمدينة (سكيكدة) الساحلية ومحوها وسكانها من الوجود، وأصبحت هذه القرى أثرا بعد عين. وفي أواخر شهر تموز - يوليو - وافقت الجمعية الوطنية الافرنسية على تمديد العمل (بقانون الطوارىء) بأغلبية (382) صوتا ضد (233) صوتا لمدة ستة أشهر. وقد أعلن النائب الافرنسي (لويس فالون) الهدف من فرض قانون الطوارىء بقوله:(إنني أؤكد بأن طلب الحكومة القاضي بتجديد - حالة الطوارىء - هو اعتراف ظاهر بفشل سياستها المبنية على القمع والاضطهاد، وليس على الكفاح ضد الأسباب الحقيقية للثورة). وانطلاقا من هذه الحقيقة وقعت مذبحة (سكيكدة) التي يمكن تلخيص مأساتها بالتالي:
قامت قوات الثورة بمهاجة (سكيكدة) في العشرين من شهر آب - اغطس - وحاصرتها حصارا محكما، واشتبكت في معارك ضارية مع حامية المطار الحربي فيها، وقتل خلال هذه المعارك (60) جنديا فرنسيا. وعلى أثر هذا الهجوم الصاعق، قامت القوات الاستعمارية بعدوان انتقامي من سكان (الحي العربي) في المدينة والقرى المحيطة بها. وبما أن الرجال كانوا قد غادروا منازلهم والتحقوا بجيش التحرير، فقد وقعت أعباء المذبحة الرهيبة على النساء والأطفال والشيوخ العجز. واعترفت السلطات الإفرنسية بمقتل النساء والأطفال، وجاء في هذا الاعتراف:(بأن قتل النساء والأطفال كان نتيجة اشتراكهم في المعارك الحربية). ولكن المعارك حدثت يوم
تلاحم قوى الشعب في المعركة - الفلاح والجندي يتبادلان العون والدعم
هجوم الوطنيين على سكيكدة - أي السبت 20 آب - أغطس - في حين وقعت مذبحة النساء والأطفال يوم الثلاثاء 23 آب - أغسطس - وعلى هذا فإن اعتراف المسؤولين الافرنسيين لم يكن إلا ستارا لتمويه الحقائق وإخفاء الجرائم الوحشية. وقد نقلت الصحيفة الافرنسية (لومند) صورة عن هذه المذبحة، بالكلمات التالية:
(إنني أكرر ما شاهدت، فقد رأيت كلبا مشدودا الى وتد، جعل يزأر حين شاهدنا، وآخر ينبح من الجهة الأخرى للطريق، ورأيت دجاجا ينقر بين الجثث بكل هدوء
…
لقد ميزت بين الضحايا بكل سهولة كثيرا من الأطفال الذين لم يبلغوا العاشرة من عمرهم؛ كما أنني لا أذكر أن شاهدت رجالا كهولا بينهم. وإنني أرى جيدا لأعطي بعض الأمثلة: فتاة جاتية على ركبتيها، ورأسها بين يديها
…
وأرى شيخا ومجموعة مكونة من ثلاث نسوة، لم يزلن يحملن أطفالهن بين أيديهن، أما بقية السكان، فإنهم عبارة عن جثث هامدة مبعثرة بين الأكواخ
…
الحقيقة أنه لم تكن تنبعث أية رائحة من هذه المنطقة مما يبعث على الدهشة إذا صح أن المجزرة حدثت يوم السبت، أي يوم المعركة، ولقد تحققت كذلك أن الدماء المتجدة لم تزل حمراء
…
لقد كانت الفوضى عامة، مما يفسر بأن الأهالي كانوا يفرون في كل اتجاه أثناء المذبحة
…
وبإمكاني التأكيد: بأنه إذا لم تكن المذبحة قد حدثت صباح الثلاثاء كما تبين لي من كل شيء، فإنه ليس من المعقول أن تكون قد حدثت يوم السبت).
كانت مذبحة وحشية، أكدت للحزائريين مرة أخرى - بعد الألفين - طبيعة الاستعمار الافرنسي، وما تميز به من القسوة والتطرف، وبرهنت من جديد أيضا للجزائريين المسلمين أن الطريق
الوحيد لبناء مستقبلهم هو طريق طرد الاستعمار الصليبي الافرنسي مرة واحدة وإلى الأبد، مهما بلغ حجم التضحيات. وعلى هذا فقد زادت المأساة من تصميم المجاهدين على تطوير الجهاد؛ فقامت قوات جيش التحرير بحصار مدينتي (سكيكدة) و (كولو) وقطعت عنهما سبل الاتصال بداخل القطر، وحرمتها من الماء والكهرباء. واستحال الساحل القسنطيني إلى جحيم لا يطاق، لا سيما بعد تدخل الاسطول الإفرنسي في العركة، مما حمل المسلمين في المدن الى الفرار بأنفسهم نحو قواعد الثورة للخلاص من الارهاب الاستعماري. ولم تلبث قوات جيش التحرير أن انسحبت تنفيذا لخططها الحربية، وعادت لممارسة عملياتها الصغرى في نطاق - الاغارات والكمائن -. وما كادت الحالة تهدء نسبيا في عمالة (ولاية)(قسنطينة) حتى اشتدت في مدينة وهران. كما برزت قوات جيش التحرير بصورة مباغتة في دائرة (تلمسان) والتحمت بالقوات الافرنسية التي كانت مركزة جهدها على الساحل القسنطيني، والتي لم تكن تتوقع وجود مثل هذا العدد من الثوار في (تلمسان). وأسفرت المعارك عن انتصار قوات الثورة انتصارا رائعا، أرغم الافرنسيين على التقوقع في ثكناتهم ومعسكراتهم.