الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجموعة، والسير بهم فورا وبدون إعطائهم أية فترة للراحة، حتى الوصول معهم إلى (قروشة الأربعاء) حيث الغابة الكثيفة التي أظلت الثوار، وهناك، التقت المجموعات كلها، لتبدأ مرحلة جديدة من العمل الثوروي.
و- الولاية الأولى في معركة التحرير
(1)
بدأت الاستعدادات العسكرية للثورة منذ أوائل ربيع سنة 1954 حيث كان القائد (مصطفى بن بولعيد) يقوم بالاتصالات مع أعضاء المنظمة الثورية في بقية أنحاء الجزائر، يعاونه في جهوده (بشير شيحاني)، في حين كان الحاج الأخضر ورشيد بو شمال) يعملان على تجنيد الشبان المناضلين الذين عرفوا بماضيهم المشرف. فكان يتم قبول هؤلاء المناضلين وتنظيمهم في خلايا عسكرية، بعد وضعهم تحت امتحان دقيق للتأكد من تصميمهم على الجهاد، وصلابة إيمانهم، وقوة إرادتهم. وكان من مهمة (الحاج الأخضر وبو شمال) نشر الوعي الثوري في أوساط الشعب، واختبار مدى استعداد الرأي العام لقبول الثورة، وتنمية الاتجاه الثوري الذي أخد في النمو والانتشار بين جماهير الشعب على أثر قيام الصراع المسلح في تونس والمغرب.
وقد استقبلت مناطق الجزائر كلها استقبالا حماسيا مشجعا زيارات
(1) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية. العدد 2، تاريخ 1959/ 5/18. وكاتب البحث هو الحاج الأخضر، والذي عرف في الثورة باسم (الكومندان الحاج الأخضر). وقد تم الاعتماد في البحث على وثائق مركز البحوث في الجزائر - وعلى معرفته الشخصية بمسيرة الأحداث.
(الحاج الأخضر وبو شمال) مما كان يزيد من عزيمتهما ويشد من أزرهما ويدفعهما لتطوير العمل الثوري. ويذكر الحاج الأخضر ذلك فيقول: (كنا نتحدث مع المجاهدين عن مستقبل الجزائر، ونتعرض للظروف المتوافرة والمناسبة لقيام الثورة، ولم نكن نصرح لهم بدهيا بأننا نستعد للقيام بالثورة، ولكننا نشير إشارات بعيدة، فيها من الغموض أكثر مما فيها من الوضوح. فنجد الناس يتساءلون عن سبب عدم إندلاع نار الثورة، ويطالبوننا بالعمل المباشر. وكنا نقدم التقارير الى الأخ- الشهيد- مصطفى بن بو العيد - نؤكد فيها استعداد الشعب للجهاد، وتأييده للعمل الثوري).
توافر بنتيجة الجهود المبذولة عدد من خيرة المقاتلين الأشداء، فتم عقد اجتماع للقادة في شهر تموز - يوليو - 1954. تقرر فيه توزيع الخلايا العسكرية على جهات معينة من منطقة الاوراس.
وطلب الى كل مجاهد انضم الى جيش التحرير الوطني تقديم مبلغ (16) ألف فرنك من أجل شراء بندقية له. وكانت القيادة قد بدأت بجمع السلاح، غير أنه لم يتم توزيعه على المقاتلين، وإنما كان يتم نقله الى جبال الأوراس حيث الغابات الكثيفة تؤمن غطاء جيدا لممارسة التدريب العسكري، وإتقان الرمي واستخدام السلاح. وبينما كانت عمليات نقل الأسلحة مستمرة بفترات متباعدة الى الأوراس، كانت المناورات العسكرية وأعمال التدريب مستمرة أيضا، حتى جاءت ليلة الثورة. وكان المسؤولون في التنظيم قد أعلموا بالموعد قبل أيام قليلة، وعندما تم إعلام المجاهدين بالوقت المحدد للبدء بالأعمال القتالية، اجتاحتهم
الحماسة، وأظهروا استعداد كبيرا لتقديم التضحيات بالغة ما بلغت. كما أظهروا إدراكا عميقا لأهمية اللحظات الحاسمة التي كانوا يعيشونها.
فكانوا يلتزمون بالتعليمات والأوامر وينفذونها بسرية تامة.
لقد وهبوا أنفسهم لقضية وطنية مقدسة، ووضعوا ثقتهم في قادتهم المؤمنين الصادقين، وتركوا لهم مهمة الإعداد السري للثورة، وقبلوا تنفيذ كل ما يطلب إليهم تنفيذه بدون مناقشة، ومن غير أن يسألوا عن الهدف أو القصد منه، أو عن موعد العمل المباشر، أو غير ذلك من الأسئلة التي قد تحرج المسؤولين أو تعرض الثورة لخطر مدمر- والثورة لا زالت في بداياتها الأولى.
انطلقت الخلايا الثورية الأولى نحو أهدافها المحددة، وهي مسلحة بالإيمان العميق ومحاطة بجو من التنظيم الدقيق والسرية المطلقة والتصميم العنيد. وكان المجاهدون قد وزعوا على الجهات المختلفة، فاتجه ثمانون منهم الى (فم الطوب)، وذهب خمسون الى ناحية (أريس)، واستقر سبعون آخرون في (غابة كامل).
وقام خمسة وثلاثون بالهجوم على (بطنة)، وكان النجاح حليفا لهذا الهجوم، حيث قتل للعدو سبعة جنود وأصيب ثلاثة آخرون بجروح. ونجح هجوم (فم الطوب) أيضا حيث احتلتها قوات الثورة لمدة ستة أيام وغنمت منها تسعة بنادق حربية. وفي الوقت ذاته، وهوجمت أريس وخنشلة وتازولت وقلس وغيرها من جهات أوراس الشاسعة. وواجهت قيادة الثورة منذ البداية مجموعة من الصعوبات الضخمة.
فقد بدأت الثورة مع بداية فصل الشتاء. ولم تكن الظروف المناخية تسمح للمجاهدين بتوسيع آفاق الثورة، غير أن هذه الظروف المناخية كانت بدورها عاملا مساعدا على نجاح الثورة؛ ذلك لأنها أعاقت تحرك الأرتال الضخمة للقوات الإفرنسية، وأعطت لقادة الثورة متسعا كافيا من الوقت لإعداد والتنظيم.
لقد كان الشك يراود جماهير الشعب في بداية الأمر بقدرة الثورة على الصمود والاستمرار، فإذا ما استطاعت الثورة المحافظة على وجودها لأكثر من ثلاثة أشهر، وتمكنت في الوقت ذاته من تطوير صراعها ضد الإفرنسيين طوال هذه المدة، فعندئذ ستقتنع جماهير الشعب بالقوة الحقيقية للثورة، وستتوافر لديها القناعة والثقة بقدرتها على النجاح. وعلى هذا الأساس، فقد كانت الظروف الطبيعية والمناخية أفضل عامل مساعد على إحباط كل المحاولات والمشاريع التي وضعتها السلطات الاستعمارية لتدمير الثورة، والقضاء عليها وهي لا زالت غضة العود في مهدها.
أصبحت الثورة مع بداية العام 1955، راسخة الجذور في قلب الشعب، وتعاظم عدد المجاهدين في صفوف الثورة. وأقبل المواطنون على التطوع بوفرة هائلة في (جيش التحرير الوطني) ودعمه بالأسلحة والذخائر والأموال والتبرع له بكل ما يمتلكونه. وكان من نتيجة ذلك أن أصدر القائد (مصطفى بن بولعيد) أوامره إلى المجاهدين بتوسيع مناطق العمليات، والاتصال بالأخوة المجاهدين في الولايتين الثانية والثالثة. وتم تأمين الإتصال فعلا، وتنسيق التعاون، بين (ولايات الجهاد الثلاث). وانتشر جند الثورة في جميع أنحاء الولاية الأولى، وأرسل ثلاثون مجاهدا الى
منطقة الجنوب الصحراوي فوصلوا الى (وادي سوف) واستقبلتهم جماهير الشعب بحماسة رائعة، وانطلق الدعاة في الأسواق العامة ومناطق التجمع، يحرضون الناس ويدعونهم للجهاد في سبيل الله. وحدثت اشتباكات مع القوات الافرنسية عند حدود الصحراء، تكبد فيها العدو خسائر فادحة تزيد على خمسماية جندي. واستطاعت قيادة الثورة في الشمال تنظيم خلايا ثورية قوية ومتينة (في مدن: العيون وباريكا ومدوكال) وساها من المدن الواقعة على أطراف الولاية، وأصبح الإتصال بالولايات المجاورة منتظما ومستمرا، كما تم الوصول شرقا الى الحدود التونسية.
بذلك، ومع بداية العام 1955، بلغت الولاية حدودها الحالية التي تتبع شمالا خط السكة الحديدية القادمة من سوق أهراس الى سطيف، وتنزل غربا نحو (برج بو عريريج - المسيلة) المتقاطعة مع طريق (بو سعادة) وتوازي شرقا الحدود التونسية، وتمتد جنوبا الى أطراف الصحراء الكبرى. وقد أصبحت هذه المنطقة تحمل اسم (الولاية الأولى) منذ أن تم استخدام أسماء الولايات بدلا من المناطق، في أثر مؤتمر الصومام (في 20 آب - أغسطس - 1956)، وقسمت الولاية الأولى إلى ست مناطق رئيسية. من بينها منطقة كبرى محررة تحريرا تاما هي المنطقة الثانية الواقعة الى الغرب من (جبل شيليا) والتي تمتد فيها غابة كامل (كمبل) على مساحة مربعة طول ضلعها ثمانون كيلو مترا. وهذه المنطقة محرمة على القوات الإفرنسية التي لم تكن قادرة على الاقتراب منها إلا بعمليات ضخمة، وبقوات كبيرة يزيد عدد أفرادها على عشرين أو ثلاثين ألف جندي. (الأمر الذي دفع القيادة الإفرنسية لتنظيم
حملة مرة في كل سنة لتمشيط هذه المنطقة). وقد بقيت المنطقة باستمرار قاعدة صلبة للثورة، تنتشر فيها القوات العسكرية للثورة، ويلجأ إليها أعداد المدنيين الكبيرة ليعيشوا فيها ضمن إطار ظروف صعبة بسبب الهجمات المستمرة للطائرات الإفرنسية على أماكنهم، وبسبب فقر المنطقة في الموارد الاقتصادية، وإن كانوا قد نجحوا في حراثة الأرض - بمساعدة جند جيش التحرير وزراعتها ببعض الحبوب والخضار.
لقد هرب هؤلاء المدنيون من جحيم القمع الوحشي للإفرنسيين والتجأوا الى قواعد الثورة بالرغم من كل المصاعب التي كانت تعانيها حياة هذه القواعد. وكانت فرحتهم لا توصف وهم يعيشون حياة النظام التي صنعها لهم جند جيش التحرير في تلك المناطق البائسة. فقد عمل جيش التحرير على بناء المنازل لإيواء اللاجئين، ونظم لهم مدارس الأطفال، وأمن لهم تنظيما صحيا يضمن العلاج للجميع. وفي بقية المناطق الأخرى التي تتمركز فيها القوات العسكرية الافرنسية (وخاصة في منطقة بطنة) نظم الثوار أعمالهم للقيام بهجمات مستمرة بلغ معدلها الوسطي خمسة عشر هجوما في الشهر، مع تنفيذ هذه الهجمات. بمجموعات صغرى من الأفراد واجبهم الاشتباك مع قوات العدو بالنيران - مناوشة - ووضعها دائما تحت شعور التهديد بالخطر، وحرمانها من الراحة والأمن. وشجعت هذه الأعمال الناجحة قوات الثورة، فتعاظم حجم أفواج الفدائيين، وتزايد عدد زمر التدمير، التي استطاعت تنفيذ عمليات رائعة بتسلسلها إلى قلب المدن والمراكز الإفرنسية، وتدميرها لموارد العدو الاقتصادية، وإعدامها للخونة وعملاء
السلطة الإفرنسية وقادة الاستعماريين.
ولم تمض فترة طويلة حتى بات الشعب كله وهو منظم في خلايا وأفواج تنظيما سياسيا وعسكريا، يتوافق مع متطلبات جبهة التحرير الوطني، ويستجيب لتنظيم جيش التحرير الوطني. وأصبح هناك مجالس للشعب في كل دشرة (أو دسكرة) وفي كل قرية ومدينة. وأظهرت جماهير الشعب حماسة لا نظير للتطوع في الجيش، غير أن النقص في الأسلحة أعاق عملية تطويع كل الراغبين في حمل السلاح. لقد نضج الشعب على لهيب الحرب، وأصبح أكثر استعدادا لاحتمال أعظم التضحيات، ورافق ذلك تعاظم في مستوى الوعي الثوري، وبلغ هذا الوعي، من العمق والقوة، ما جعله قادرا على مجابهة التحديات مهما عظمت، وتجاوز الصعوبات مهما اشتدت. وكان دليل ذلك هو فشل كل وسائل الضغط والارهاب في إضعاف مقاومة الشعب الجزائري، وكذلك فشل محاولات فصل جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني عن الشعب.
لقد استخدمت أجهزة الاستعمار الافرنسي وسائل كثيرة، وطبقت أساليب متنوعة، تلتقي كلها عند هدف واحد هو إبادة الشعب الجزائري بطرائق منهجية. وكان في جملة ما طبقته للوصول الى هذا الهدف، حشد الشعب في معسكرات اعتقال أطلق عليها اسم (مراكز التجمع). ويمكن تقسيم هذه المراكز الى قسمين رئيسيين، قسم قريب من الطرق العامة والأراضي المنبسطة (السهلية). وهذا القسم هو الذي كان يتم عرضه على رجال الصحافة والمحققين والباحثين من الأجانب وغيرهم، ولذلك بذل
الجيش الإفرنسي عناية خاصة بنزلاء هذا القسم من المراكز، فأمن للنزلاء المساكن المقبولة، وحدا أدنى من متطلبات الحياة، ليتظاهر بأنه لا يرمي من إقامة هذه المراكز إلى إبادة الشعب الجزائري. أما القسم الآخر، فيشمل المراكز البعيدة، وهي تشكل الأكثرية المطلقة لهذه المراكز، وتمثل الحياة فيها أشد أنواع البؤس، وأقسى صنوف الشقاء، مما يصعب وصفه أو الإحاطة به. ومثال ذلك، أن السلطات الاستعمارية كانت تحشر في المركز خمس عشرة أو ست عشرة عائلة كبيرة في غرفة واحدة؛ هي عبارة عن كوخ؛ لا يضمن لساكنيه ونزلائه أي وقاية ضد البرد والمطر. وانتهى الأمر بمعظم هؤلاء الى الإصابة بمختلف الأمراضا المستعصية، علاوة على ما كان يعانيه المعتقلون من الجوع. والتعذيب، وانتهاك الأعراض، وكل أنواع الضغوط المادية والمعنوية، التي سلطها عليهم جند الجيش الافرنسي. ولم تتوقف السلطات الاستعمارية عند هذا الحد، بل تجاوزته الى تعميم عمليات (تعقيم) الشباب من ذكور وإناث، لمنع الشعب الجزائري من التكاثر والتناسل، كوسيلة في جملة وسائل إبادة الشعب الجزائري.
لم تضعف مقاومة الشعب الجزائري بالرغم من كل هذا العذاب المسلط على رقابهم، فأخذ المواطنون في حض الجيش على المزيد من المقاومة، وتحريضه على الصبر والثبات. وكانت النسوة في مراكز التجمع يرفضن التحدث الى نساء (القوم). ولا يقبلن زيارتهن أو الذهاب معهن لجلب الماء. كما كان الأطفال ينشدون الأناشيد الوطنية، ويغنون الأغاني الحماسية، على الرغم من الأمراض التي كانت تنخر في أجسامهم الغضة الطرية. وكان
هؤلاء الأطفال - البؤساء الجياع- يقلدون في ألعابهم مجاهدي جيش التحرير، فينظمون الكتاب والسرايا، ويسخرون من الجنود الإفرنسيين ويتوعدونهم بالموت على أيدي جنود جيش التحرير الوطني - كان من نتيجة هذه المعاملة الإفرنسية، أن أخد المواطنون في البحث، من داخل هذه المراكز، عن كل وسيلة للفرار نحو الجبال، وكانوا يفضلون أن يهيموا على وجوههم بلا مأوى، وبدون طعام، على أن يبقوا في مراكز التجمع، معرضين للموت البطيء، ولكل أنواع العذاب والذل والهوان مما كان يسلط عليهم جند الاستعمار. ولم يقف جيش التحرير مكتوف الأيدي أمام خطة الاستعمار لإبادة الشعب الجزائري. فكونت الولاية الأولى على سبيل المثال: تنظيما صحيا لتأمين علاج أفراد الشعب يشرف عليه ثلاثة أطباء. كونوا بدورهم جهازا ضم عددا كبيرا من الممرضين والممرضات. وكان جيش التحرير يلتقط الفارين من هذه المراكز، ويبعث بهم الى المناطق المحررة حيث يجدون فيها ما يحتاجونه من العناية الصحية والرعاية الاجتماعية.
وفي الوقت ذاته، كانت مجالس الشعب في القرى والمدن توزع المساعدات على المحتاجين، وضحايا القمع الاستعماري. وإذا كانت خطة الجيش الإفرنسي هي إبادة الشعب الجزائري، فقد جاءت خطة جبهة التحرير لتعمل على صيانة الشعب وحمايته وتنظيم حياته الاجتماعية، وإذكاء روح الصمود والمقاومة في صفوفه. وأصبحت السلطة الحقيقية في الجزائر كلها وهي محكمة في قبضة جبهة التحرير، حتى أن عددا كبيرا من المعمرين