الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات
خطبة الكتاب
…
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب:
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} "قرآن كريم".
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه، وأفاض لدينا مننه. وأنزل إلينا كتابه الذي فصل آياته فأحكمه وأتقنه، وجعلنا من حملته وخدام شرعه الذي علمنا فروضه وسننه. وخصنا بإرسال أكرم الخلق عليه الذي طهر قلبه وأظهر لُسُنَه. وجعل خير الناس أمته، وخير القرون قرْنه الذي به قرَنه، أبي القاسم، "محمد بن عبد الله" خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، وعلم أوليائه، الذي زان عصره وشرف زمنه، صلوات الله وسلامه عليه، ما قصد شام شامه، وبلغ يمان يمنه. وعلى آله الأبرار الممتثلين أمره والمقتفين سننه، وعلى أصحابه الكرام الذين منهم من أواه ونصره، ومنهم من هجر لأجله أهله وماله ووطنه، وعلى كل من تبعهم بإحسان، في جميع الأزمان، ممن اتخذ طاعة ربه سكنه، ووافق في الصلاح سره علنه، وجعلنا ممن أصغى للمواعظ في الدنيا أذنه، وأذهب عنه في الآخرة حزنه، من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
"أما بعد" فإن أولى ما أفنى فيه المكلف عمره، وعلق به خاطره، وأعمل فيه فكره، تحصيل العلوم النافعة الشرعية، واستعمالها في الأعمال المرضية. وأهم ذلك علم كتاب الله تعالى، الذي تولى سبحانه حفظه بفضله، وأعجز الخلائق أن يأتوا بمثله، وجعل ذلك برهانا لتصديق رسالة من أنزل عليه، وأخبر أن الباطل لا يأتيه لا من خلفه ولا من بين يديه. ثم العلوم المتعلقة به كثيرة، وفوائد كل علم منها غزيرة، لكن الأهم أولا إتقان حفظه، وتقويم لفظه، ولا يحصل ذلك إلا بعد الإحاطة بما صح من قراءاته؛ وثبت من رواياته، ليعلم بأي لفظ يقرأ، وعلى أي وجه يروي. والقرآن كلام الله منقول نقل التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أنزل عليه، لم يزل في كل حين وجيل ينقله خلق لا يحصى، ويبحث في ألفاظه ومعانيه ويستقصى، وإنما يعد أهل العلم منهم من كثرت عنايته به، واشتهر عند الناس بسببه.
وذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في أول كتابه في القراءات تسمية من نقل عنهم شيء من وجوه القراءات من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من كبار أئمة المسلمين. فذكر الخلفاء الأربعة، وطلحة وسعدا، وابن مسعود، وحذيفة، وسالما مولى أبي حذيفة، وأبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن
العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله بن السائب وعائشة، وحفصة وأم سلمة، وهؤلاء كلهم من المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين.
وذكر من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبا زيد، ومجمع بن حارثة، وأنس بن مالك.
وعن التابعين بالمدينة: ابن المسيب، وعروة، وسالما، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان، وعطاء ابني يسار، ومعاذ بن الحارث الذي يعرف بمعاذ القارئ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وابن شهاب، ومسلم بن جندب، وزيد بن أسلم.
وبمكة عبيد بن عميرة، وعطاء، وطاوسا، ومجاهدا وعكرمة1، وابن أبي مليكة.
وبالكوفة علقمة، والأسود، ومسروقا، وعبيدة، وعمرو بن شرحبيل؛ والحارث بن قيس، والربيع ابن خيثم، وعمرو بن ميمون وأبا عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وعبيد بن نضلة وأبا زرعة بن عمرو ابن جرير، وسعيد بن جبير، والنخعي والشعبي.
وبالبصرة: عامر بن عبد بن قيس، وأبا العالية، وأبا رجاء، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر وجابر بن زيد، والحسن، وابن سيرين، وقتادة.
وبالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان بن عفان رضي الله عنه في القراءة.
قال: ثم تجرد قوم للقراءة فاشتدت بها عنايتهم، وكثر لها طلبهم حتى صاروا بذلك أئمة بأخذها الناس عنهم ويقتدون بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هذه الأمصار الخمسة في كل مصر ثلاثة رجال. فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع بن أبي نعيم، وإليه صارت قراءة أهل المدينة.
وكان يمكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس الأعرج، ومحمد بن محيصن، وأقدمهم ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة.
وكان بالكوفة: يحيى بن وثاب، وعاصم بن بهدلة، وسليمان الأعمش ثم تلاهم حمزة رابعًا، ثم الكسائي.
وكان بالبصرة: عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وابو عمرو بن العلاء، وإليه صار أهل البصرة في القراءة واتخذوه إماما، وكان لهم رابع وهو عاصم الجحدري.
وكان بالشام: عبد الله بن عامر، ويحيى بن الحارث الذماري، وثالث نسيت اسمه.
قلت: قيل هو خليد بن سعد صاحب أبي الدرداء. وعندي أنه عطية بن قيس الكلابي أو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر.
ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا: وخلفهم أمم بعد أمم عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم. فمنهم المحكم للتلاوة المعروف بالرواية والدراية. ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بسبب ذلك الاختلاف، وقل الضبط واتسع الخرق، والتبس الباطل بالحق، فميّز جهابذة العلماء ذلك بتصانيفهم، وحرروه وضبطوه في تآليفهم، وقد أتقن تقسيم ذلك الإمام أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس
1 هو أبو عبد الله بن عبيد الله التميمي، توفي سنة 118.
ابن مجاهد رحمه الله تعالى في أول كتاب السبعة له، ثم قال. والقراءة التي عليها الناس: بالمدينة. ومكة، والكوفة والبصرة، والشام هي القراءة التي تلقوها من أوليهم تلقيا، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين، اجتمعت الخاصة والعامة على قراءته، وسلكوا فيها طريقه. وتمسكوا بمذاهبه على ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزيد بن ثابت. ثم عن محمد بن المنكدر، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وعامر الشعبي رضي الله عنهم، يعني أنهم قالوا: إن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرءوا كما علمتموه.
قال زيد بن ثابت: القراءة سنة. قال إسماعيل القاضي رحمه الله: أحسبه، يعني هذه القراءة التي جمعت في المصحف الكريم.
وذكر عن محمد بن سيرين قال: أنبئت أن القرآن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم كل عام مرة في شهر رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه مرتين. قال ابن سيرين: فيرون أو يرجون أن تكون قراءاتنا هذه أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة.
وعنه عن عبيدة السلماني قال: القراءة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي التي يقرؤها الناس اليوم.
قلت: وهذه السنة التي أشاروا إليها هي ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-نصا، أنه قرأه أو أذن فيه على ما صح عنه أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. فلأجل ذلك كثر الاختلاف في القراءة في زمانه بعده إلى أن كتبت المصاحف باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة. ونفذت إلى الأمصار. وأمروا باتباعها وترك ما عداها، فأخذ الناس بها وتركوا من تلك القراءات كل ما خالفا وبقوا ما يوافقها نصا أو احتمالا، وذلك لأن المصاحف كتبت على اللفظ الذي أنزل، وهو الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم-كما عرضها هو على جبريل عليهما الصلاة والسلام، وكل ذلك ثابت في الأحاديث الصحيحة مفرقا في أبوابه، قد وقف على ذلك من له بها عناية.
فمن ذلك ما في الصحيحين من رواية عائشة عن فاطمة عن أبيها صلى الله عليه وسلم: "أنه أسر إليها في مرض موته أن جبريل عليه السلام كان يعارضني بالقرآني في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: "كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه".
وذكر المحققون من أهل العلم بالقراءة ضابطا حسنا في تمييز ما يعتمد عليه من القراءات وما يطرح، فقالوا: كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها، ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة. فإن اختل أحد هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة. أشار إلى ذلك كلام الأئمة المتقدمين، ونص عليه أبو محمد مكي -رحمه الله تعالى- في تصنيف له مرارا، وهو الحق الذي لا محيد عنه على تفصيل فيه، قد ذكرناه في موضع غير هذا.
وقد كثرت تصانيف الأئمة في القراءات المعتبرة والشاذة، ووقع اختيار أكثرهم على الاقتصار على ذكر قراء