الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرة الثالثة: شروط المقرئ وما يجب عليه
شرطه: أن يكون: مسلما، مكلفا، ثقة، مأمونا، ضابطا، خاليا من أسباب الفسق ومسقطات المروءة.
أما إذا كان مستورا، وهو ظاهر العدالة، ولم تعرف عدالته الباطنة، فيحتمل أنه يضره كالشهادة.
والظاهر أنه لا يضره؛ لأن العدالة الباطنة تفسر معرفتها على غير الحكام. ففي اشتراطها حرج على غير الطلبة والعوام.
ويجب عليه أن يخلص النية لله تعالى في كل ما يقربه إليه تعالى.
وعلامة المخلص ما قال ذو النون المصري رحمه الله: "أن يستوي عنده المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاؤه ثواب الأعمال في الآخرة.
وليحذر كل الحذر من: الرياء، والحسد، والحقد، واحتقار غيره، وإن كان دونه، والعجب وقل من يسلم منه.
وقد روى الكسائي أنه قال: صليت بالرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط. أردت أن أقول:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فقلت: لعلهم يرجعين.
فو الله ما اجترأ هارون الرشيد أن يقول لي أخطأت، ولكنه لما سلمت قال: يا كسائي، أي لغة هذه؟
قلت: يا أمير المؤمنين: قد يعثر الجواد. قال: أما، فنعم.
ومن هذا قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله.
وليحذر، من كراهة قراءة أصحابه على غيره ممن ينتفع به، وهذه مصيبة ابتلي بها بعض المسلمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته وفساد طويته؛ بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته وجه الله تعالى، وإلا لما كره ذلك، وقال لنفسه: إن أردت الطاعة فقد حصلت.
ويجب عليه قبل أن ينصب نفسه للاشتغال بالقراءات أن يعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، وتندب الزيادة حتى يرشد جماعته في وقوع أشياء من أمر دينهم، ويعلم من الأصول ما يدفع به شبهة طاعن في قراءة ومن النحو والصرف طرفا لتوجيه ما يحتاج إليه، بل عما أهم ما يحتاج إليه المقرئ. وإلا فخطؤه أكثر من أصابته، وما أحسن قول الإمام الحضرمي فيه شعرًا:
لقد يدعي علم القراءة معشر
…
وباعهمو في النحو أقصر من شبر
فإن قيل: ما إعراب لهذا ووجهه
رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
ويعلم من: اللغة والتفسير طرفا صالحا.
وأما معرفة الناسخ والمنسوخ فمن فوازم المجتهدين، فلا يلزم المقرئ، خلافا للجعبري.
ويلزم حفظ كتاب يشتمل على القراءة التي يقرأ بها. وإلا داخله الوهم والغلط في الإسناد.
وإن قرأ وهو غير حافظ فلابد أن يكون ذاكرا لكيفية قراءته وتلاوته به حالة تلقيه من شيخه، فإن شك فليسأل رفيقه أو غيره ممن قرأ بذلك الكتاب حتى يتحقق وإلا فلينبه على ذلك في الإجازة
أما من نسى أو ترك فلا يقرأ عليه به إلا لضرورة، مثل أن ينفرد بسند عالٍ. أو طريق لا يوجد عنده غيره. وإن كان القارئ عليه ذاكرًا، عالمًا بما يقرأ عليه جاز الأخذ عنهه، وإلا حرم.
وليحذر الإقراء بما يحسن: رأيًا، أو وجهًا، أو لغة، دون رواية.
ولقد وضح ابن مجاهد غاية الإيضاح حيث قال:
لا تغتروا بكل مقرئ، إذ الناس طبقات.
فمنهم من حفظ الآية، والآيتين، والسورة والسورتين. ولا علم له غير ذلك. فلا تؤخذ عنه القراءة ولا تنقل عنه الرواية.
ومنهم: من حفظ الروايات ولم يعلم معانيها، ولا استنباطها من لغات العرب ونحوها. فلا يؤخذ عنه؛ لأنه ربما يصحف.
ومنهم من علم العربية ولا يتبع المشايخ والأثر، فلا تنقل عنه الرواية.
ومنهم من فهم التلاوة، وعلم الرواية، ويقصد للقراءات، وليس الشرط أن يجتمع فيه جمع العلوم؛ إذ الشريعة واسعة والعمر قصير "اهـ" مختصرا.
ويتأكد في حقه: تحصيل طرف صالح من أحوال الرجال والأسانيد وهو أهم ما يحتاج إليه. وقد وهم كثير لذلك فأسقطوا رجالا، وسمعوا آخرين، لا بغير أسمائهم. وصحفوا أسماء رجال.
ويتأكد أيضا أن لا يخلي نفسه من الخلال الجيدة من التقلل من الدنيا والزهد فيها، وعدم المبالاة بها. وبأهلها والسخاء، والصبر، والحلم ومكارم الأخلاق. وطلاقه الوجه "لكن لا يخرج إلى حد الخلاصة" وملازمة الورع، والسكينة، والتواضع.
وينبغي أن يكون حريصا على التعلم، مواظبا عليه، في جميع أوقاته، ليلا ونهارا، فقد قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في رسالته:
حق على طلبة العلم بلوغ نهاية جهدهم في الاستكثار من العلم، ويتصبرون على كل عارض بإخالص النية لله تعالى، والرغبة إلى الله تعالى في الهون عليه.
وفي صحيح مسلم: "لا يستطاع العلم براحة الجسم".
"فائدة":
قال الخطيب البغدادي: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة. وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعد عن الملهيات، وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة، وقوارع الطرق؛ لأنها تمنع خلو القلب، وينبغي أن يصبر على جفوة شيخه، وسوء خلقه، ولا يصده ذلك عن ملازمته، واعتقاد كماله، ويتأول أفعاله التي ظاهرها الفساد تأويلات، وإذا جفاه الشيخ ابتدأه بالاعتذار، وإظهار الذنب له والعتب عليه.
وقد قالوا: من لم يصبر على أذى التعليم بقى عمره في غاية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الآخرة والدنيا.
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال:
"ذللت طالبا فعززت مطلوبا".
وبنبغي أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والشباب، وقوة البدن، واستراحة الخاطر، وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
"تفقهوا قبل أن تسودوا".
وقال الشافعي رضي الله عنه:
تفقه قبل أن ترأس. فإذا ترأست فلا سبيل لك إلى التفقه.
ويكتب كل ما سمعه، ثم يواظب على حلقة الشيخ، ويعتني بكل الدروس، فإن عجز اعتنى بالأهم.
وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم إلى مواطن الاشتغال والفائدة، ويذكرهم أهم ما استفاده: على جهة النصيحة والمذاكرة، وبإرشاده يبارك له في علمه، وتتأكد المسائل معه مع جزيل ثواب لله تعالى، ومن فعل ضد ذلك كان بضده. فإذا تكاملت أهليته، واشتهرت فضيلته، اشتغل بالتصنيف، وجد في الجمع والتأليف والله الموفق.