المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة آل عمران - شرح الشاطبية إبراز المعاني من حرز الأماني

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌خطبة الكتاب

- ‌فصل في ذكر القراء السبعة:

- ‌مقدمة القصيدة

- ‌مدخل

- ‌بعض ما جاء في ذكر القرآن العزيز وفصل قراءته

- ‌بيان القراء السبعة ورواتهم وأخبارهم:

- ‌بيان الرموز التي يشير بها الناظم إلى القراء السبعة ورواتهم:

- ‌باب: الاستعاذة

- ‌باب: البسملة

- ‌سورة أم القرآن:

- ‌باب الإدغام الكبير:

- ‌باب: إدغام الحرفين المتقاربين في كلمة وفي كلمتين

- ‌باب: هاء الكناية

- ‌باب المد والقصر:

- ‌باب الهمزتين من كلمة:

- ‌بب: الهمزتين من كلمتين

- ‌باب الهمز المفرد:

- ‌باب: نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها

- ‌باب: وقف حمزة وهشام على الهمز

- ‌باب: الإظهار والإدغام

- ‌مدخل

- ‌ذكر ذال إذ

- ‌ذكر دال قد

- ‌ذكر تاء التأنيث

- ‌ذكر لام وهل وبل

- ‌باب: حروف قربت مخارجها

- ‌باب: أحكام النون الساكنة والتنوين

- ‌باب: الفتح والإمالة وبين اللفظين

- ‌باب: مذهب الكسائي في إمالة هاء التأنيث في الوقف

- ‌باب: الراءات

- ‌باب: اللامات أي تغليظها:

- ‌باب: الوقف على أواخر الكلم

- ‌باب: الوقف على مرسوم الخط

- ‌باب: مذاهبهم في ياءات الإضافة

- ‌باب: مذاهبهم في الزوائد

- ‌باب: فرش الحروف

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء:

- ‌سورة المائدة:

- ‌سورة الأنعام:

- ‌سورة الأعراف:

- ‌سورة الأنفال:

- ‌سورة التوبة:

- ‌سورة يونس:

- ‌سورة هود:

- ‌سور يوسف

- ‌سورة الرعد:

- ‌سورة إبراهيم:

- ‌سورة الحجر:

- ‌سورة النحل:

- ‌سورة الإسراء:

- ‌سورة الكهف:

- ‌سورة مريم:

- ‌سورة طه:

- ‌سورة الأنبياء:

- ‌سورة الحج:

- ‌سورة المؤمنون:

- ‌سورة النور:

- ‌سورة الفرقان:

- ‌سورة الشعراء:

- ‌سورة النمل:

- ‌سورة القصص:

- ‌سورة العنكبوت:

- ‌من سورة الروم إلى سورة سبأ

- ‌سورة سبأ وفاطر:

- ‌سورة يس:

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص:

- ‌سورة غافر:

- ‌سورة فصلت:

- ‌سورة الشورى والزخرف والدخان:

- ‌سورة الشريعة والأحقاف

- ‌من سورة محمد صلى الله عليه وسلم إلى سورة الرحمن عز وجل:

- ‌سورة الرحمن عز وجل:

- ‌سورة الواقعة والحديد:

- ‌من سورة المجادلة إلى سورة ن:

- ‌من سورة "ن" إلى سورة القيامة:

- ‌من سورة القيامة إلى سورة النبأ:

- ‌من سورة النبأ إلى سورة العلق:

- ‌من سورة العلق إلى آخر القرآن:

- ‌باب: التكبير

- ‌باب: مخارج الحروف وصفاتها التي يحتاج القارئ إليها

- ‌الفهرس:

- ‌مقدمات

- ‌تصدير

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي:

- ‌الشيخ شهاب الدين أبو شامة:

- ‌الدرة الأولى: فيما يتعلق بطالب العلم في نفسه ومع شيخه

- ‌الدرة الثانية: في حد القراءات والمقرئ والقارئ

- ‌الدرة الثالثة: شروط المقرئ وما يجب عليه

- ‌الدرة الرابعة: فيما ينبغي للمقرئ أن يفعله

- ‌الدرة الخامسة: في قدر ما يسمع وما ينتهي إليه سماعه

- ‌الدرة السادسة: فيما يقرأ به

- ‌الدرة السابعة: في الإقراء والقراءة في الطريق

- ‌الدرة الثامنة: في حكم الأجرة على الإقرار وقبول هدية القارئ

- ‌الدرة التاسعة: تدوين القراءات

الفصل: ‌سورة آل عمران

400-

بَنَاتِي وَأَنْصَارِي عِبَادِي وَلَعْنَتِي

وَمَا بَعْدَهُ بِالفَتْحِ إِنْ شَاءَ أُهْمِلا

جميع ما في هذا البيت فتحه نافع وحده، فأهمل، فلم يجر عليه الحكم المتقدم، وهو فتحه لمدلول قوله: أولى حكم بل فتح لبعضهم وأراد: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ} ، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى} في آل عمران والصف1، {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ} في الشعراء2، فحذف الباء ضرورة، وليس في القرآن لفظ "عبادي" بعده همزة مكسورة غير هذا فلا تلتبس هذه العبارة:{لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ، والذي بعده إن شاء هو قوله تعالى:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} حيث جاء، وهو في الكهف والقصص والصافات3، وإنما عبر عنه الناظم بهذه العبارة؛ لأن مثله لا يستقيم في وزن الشعر؛ لكثرة حركاته المتوالية، وليس في القرآن ياء إضافة بعدها إن شاء غير هذه اللفظة فتعينت، وعبر عنها في آخر الكهف بقوله: وما قبل إن شاء، وفي آخر القصص والصافات بقوله: وذو الثنيا أي الاستثناء والله أعلم.

401-

وَفِي إِخْوَتِي وَرْشٌ يَدِي "عَـ"نْ "أُ"ولِي "حِـ"ـمًى

وَفِي رُسُلِي "أَ"صْلٌ "كَـ"ـسَا وَافِيَ الْمُلا

أراد: {وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي} فتحها ورش وحده وأما: {يَدِيَ إِلَيْكَ} في المائدة4، فزاد حفص في أصحاب الفتح، وهم نافع وأبو عمرو وأما:{رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، ففتحها نافع وابن عامر، والملا: جمع ملاءة، وهي الملحفة البيضاء أراد أنها كسوة سابغة وافية، وانتصاب وافي الملا على أنه مفعول ثانٍ لكسا أي كسا الفتح كسوة وافية، ويجوز أن يكون حالا أي هذا الأصل، الكاسي: حاله أنه وافي الملا أي سابغ الكسوة جيدها والله أعلم.

1 آل عمران، آية: 52 والصف، آية:14.

2 آية: 52.

3 الكهف، آية: 69 والقصص، آية: 27 والصافات، آية:102.

4 آية: 128.

ص: 293

‌باب: مذاهبهم في الزوائد

أي في الياءات الزوائد على الرسم، وهي ياءات أواخر الكلم، يقع ذلك في الأسماء الأفعال، نحو:"الْوَادِ"، و"الْمُنَادِ"، و"التَّنَادِ"، و"يأت"، و"نبغ"، و"نرتع"، فهي في هذا ونحوه لام الكلمة، وقد تكون ياء إضافة في موضع الجر والنصب، نحو:"دعاءي" و"أخرتني"، وتنقسم إلى ما هو رأس آية نحو:"المتعالي"، وإلى غير ذلك، نحو:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ} .

فما كان من هذه الياءات ثابتا رسما فلا خلاف في إثباته، وما كان منها محذوفا رسما؛ فمنه ما اتفق على حذفه وهو الأكثر، ومنه ما اختلف فيه، وهو ما يأتي ذكره في هذا الباب، وفي بعض السور، وضابط ما يذكر في هذا الباب أن تكون الياء مختلفا في إثباتها وحذفها في الوصل، أو في الوصل والوقف معا، وضابط في السور أن تكون الياء مختلفا في إثباتها وحذفها الوقف فقط، ومجمعا على حذفها في الوصل، وذلك نحو ما ذكره في: سورة الرعد، وسورة: ق: "مِنْ هَادٍ"، و"وَالٍ"، و"واف"، و"باق"، و"الْمُنَادِ".

وقد سبق التنبيه على:

ص: 304

{وَادِ النَّمْلِ} أنه كان ينبغي أن يكون من هذا، ثم بين ياءات الزوائد فقال:

419-

وَدُونَكَ يَاءَاتٍ تُسَمّى زَوَائِدًا

لأَنْ كُنَّ عَنْ خَطِّ المَصَاحِفِ مَعْزِلا

أي: إنما سميت زوائد؛ لأنها زادت على رسم المصحف عند من أثبتها، والمعزل ههنا مصدر بمعنى العزل كالمرجع أي لأن كن ذوات عزل أي إنهن عزلن عن الرسم فلم تكتب لهن صورة، ثم بين حكمها فقال:

420-

وَتَثْبُتُ في الحَالَيْنَ "دُ"رًّا "لَـ"ـوَامِعًا

بِخُلْفٍ وَأُولَى النَّمْلِ حَمْزَةُ كَمَّلا

أي إن القراء مختلفون في هذه الياءات الموصوفة بأنها زوائد، فمنهم من أثبتها في حالي الوصل والوقف، وهم المذكورون في هذا البيت ومنهم من أثبتها في الوصل دون الوقف، وهم المذكورون في البيت الآتي وليس الأمران على العموم؛ هؤلاء أثبتوا الجميع في الحالين وأولئك في الوصل، بل معنى هذا الكلام أن كل من أذكر عنه أنه أثبت شيئا ولم أقيده فانظر فيه؛ فإن كان من المذكورين في هذا البيت فاعلم أنه يثبته في الحالين وإن كان من المذكورين في البيت الآتي، فاعلم أنه يثبته في الوصل فقط، فحصل من هذا أن ابن كثير من طريقيه أو من أحدهما، وهشاما يثبتان الياء في الحالين في المواضع التي يأتي ذكرها لهما لكن ابن كثير له مواضع كثيرة، وأما هشام فليس له إلا موضع واحد في الأعراف سيأتي ذكره وفيه خلاف عنه وقفا ووصلا، وأثبت حمزة في الحالين موضعا واحدا وهو:"أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ" وهو يقرؤه بتشديد النون على ما سيأتي في سورته، وهذا الموضع هو أول النمل؛ لأن فيها ياءين زائدتين على رأي الناظم، وكلتاهما في آية واحدة وهذه الياء هي الأولى وبعدها:"فما آتان الله"، فاحترز بقوله: وأولى النمل عن ياء "آتاني"، وقوله: كملا ليس برمز؛ لأن الرمز لا يجتمع مع المصرح به، وإنما معناه أن حمزة كمل عدة المثبتين في الحالين، ودرا لوامعا حالان من ضمير الياءات في وتثبت أي مشبهة ذلك؛ لأن هذه القراءة موافقة للأصل؛ لأن الياء إما لام الكلمة أو كناية عن المتكلم وأيًّا ما كان فالأصل إثباتها، وأما حذفها والاجتزاء بالكسرة عنها ففرع عن ذلك الأصل، وحكى ابن قتيبة أن إثباتها لغة أهل الحجاز ثم الإثبات في نحو:"الداعي" و"الجواري" مما الياء فيه لام الفعل وفيه الألف واللام أحسن عند أهل العربية من الحذف إلا في الفواصل والقوافي فالحذف أحسن، وكذا الياء التي هي لام الفعل نحو:"نَبْغِي"، و"يَأْتِيَ" إثباتها أحسن من حذفها، فإن قلتَ: بقي على الناظم ذكر جماعة لهم خلاف في الإثبات في الحالين في ثانية النمل:

ص: 305

{فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} ، وهم قالون وأبو عمرو وحفص كما يأتي وكذا قنبل: له خلاف في الوقف على: "بِالْوَادِ" في سورة الفجر1. قلتُ: هذا كله يجيء مفصلا مبينا، وإنما ذكر في هذا البيت ما يأتي مجملا مطلقا، فتعلم من إجماله وإطلاقه أن الإثبات في الحالين للمذكورين، وأما المبين فمتضح في نفسه فلا يحتاج إلى هذه المقدمة، ثم ذكر المثبتين في الأصل فقط في المواضع التي تذكر لهم فقال:

421-

وَفِي الوَصْلِ "حَـ"ـمَّادٌ "شَـ"ـكُورٌ "إِ"مَامُهُ

وَجُمْلَتُهاَ سِتُونَ وَاثْنَانِ فَاعْقِلا

أي إمامه حماد شكور؛ لأن هؤلاء جمعوا في قراءتهم بين الأصل وموافقة الرسم، وخصوا الوقف بالحذف؛ لأنه الأليق بالتخفيف على ما مضى في تخفيف الهمز في الوقف فالمثبتون في الوصل وحده هم أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع على ما رمز لهم في البيت، فأما الكسائي وورش، فاطرد لهما ذلك، فلم يثبتا في الوقف شيئا، وأما حمزة فقد تقدم أنه أثبت في الوقف والوصل:"أَتُمِدُّونَنِ" في النمل وحدها، وما2 عدها مما سيذكر له أنه يثبته يختص بوصله دون وقفه وذلك موضع واحد:"وتقبل دعائي" في سورة إبراهيم3، وأما أبو عمرو وقالون فلهما خلاف في الوقف على:"آتَانِيَ اللَّهُ" في النمل4، كما يأتي، والباقون على حذف الجميع في الحالين اتباعا للرسم وهم عاصم وابن عامر فقط لكن لهشام خلاف في الموضع الواحد المقدم ذكره، وكذا لحفص موضع واحد وهو:{آتَانِيَ اللَّهُ} في النمل على ما يأتي، فما يصفو من أهل الحذف على الإطلاق أحد غير أبي بكر وابن ذكوان، والحذف لغة هذيل، قال أبو عمرو: وأنشد الفراء:

كفاك كف ما تليق درهما

وجود أخرى تعطِ بالسيف الدما

لقد تخف بشارتي قدر يوم

ولقد تخف شيمتي إعساري

وقال آخر:

وأخو الغوانِ متى يشأن صرمنه

1 آية: 9.

2 آية: 36.

3 آية: 4.

4 آية: 36.

ص: 306

وأنشد سيبويه:

محمد تفدِ نفسَك كُلُّ نفسٍ

إذا ما خفت من شيء تباني

وحمله هو والنحاة على حذف لام الأمر، وجعلوه لذلك شاذًّا والأولى جعله من هذا الباب ثم ذكر الناظم عدد الياءات التي اختلف القراء في إثباتها وحذفها وهي محذوفة في الرسم فقال: جملتها اثنان وستون ياء، وعدها صاحب التيسير إحدى وستين؛ لأنه أسقط:{فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} في النمل، "فبشر عبادي" في الزمر1، وعدّهما في باب ياءات الإضافة.

فإن قلت: فينبغي أن يبقى ستون فما هي الواحدة الزائدة.

قلتُ هي: {يَا عِبَادِيَ} التي في الزخرف2، ذكرها في البابين، وقد تقدم التنبيه على ذلك، وذكر الناظم في هذا الباب لفظ العدد، فقال: اثنان وأنثه في باب ياءات الإضافة في قوله: وعشر وتسعها وثنتان وأربع عشرة وسبع وأربع وثمان والكل في البابين عبارة عن الياءات وكلا اللفظين من التذكير والتأنيث سائغ في العبارة عن الياء؛ لأنها من حروف المعظم، وكلها يجوز فيها الأمران على ما قد ذكرناه مرارا، ثم شرع يذكر الزوائد مفصلة فقال:

422-

فَيَسْرِي إِلى الدَّاعِ الجَوَارِ المُنَادِيَهْ

دِيَنْ يُؤْتِينَ مَعْ أَنْ تُعَلِّمَنِي وِلا

وأراد: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} في سورة الشورى3، دون اللتين في سورة الرحمن وكورت، ودلنا على ذلك أنهما لا يمكن إثبات الياء في الوصل لأجل الساكن بعدهما فتعينت التي في الشورى وهذا بخلاف إمالة الدوري للجواري فإنها في المواضع الثلاثة كما سبق:"والمنادي" في سورة ق4 {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} ، والثلاثة الباقية في الكهف:{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} ، {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} ، {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} .

والولاء5 المتابعة: يعني أن هذه الثلاثة تتابعت في سورة واحدة على هذا النسق ودلنا على أن مراده يهدين التي في الكهف أن التي في القصص مثبتة بإجماع وسيأتي ذلك وليس غيرهما فتعينت التي في الكهف والله أعلم.

1 آية: 18.

2 آية: 68.

3 آية: 32.

4 آية: 41.

5 الآيات: 24 و40 و66.

ص: 307

423-

وَأَخَّرْتَنِي الإِسْرَا وَتَتَّبِعَنْ "سَمَا"

وَفي الكَهْفِ نَبْغِي يَأْتِ فِي هُودَ "رُ"فِّلا

أراد: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1، وأضافه إلى الإسراء احترازا من التي في سورة المنافقين:{لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} 2؛ فإنها مثبتة في الحالين بلا خلاف وأراد: {أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ} في طه3، أثبت هاتين الياءين مع اللآتي في البيت السابق جميعها مدلول قوله: سما فابن كثير أثبتها في الحالين ونافع وأبو عمرو في الوصل فقط وأما: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} و {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ} ، فوافقهم فيهما الكسائي، فأثبتها في الوصل، وإنما قيد:{نَبْغِي} في الكهف احترازا من التي في يوسف: {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} 4؛ فإنها مثبتة بإجماع وقيد يأتي بهود احترازا مما أجمع أيضا على إثباته نحو: {يَأْتِي بِالشَّمْسِ} {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} {أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . ورفل معناه: عظم.

426-

"سَماَ" وَدُعَاءِي "فِـ"ـي "جَـ"ـنَا "حُـ"ـلْوِ "هَـ"ـدْيِهِ

وَفي اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ "حَـ"ـقَّهُ "بِـ"ـلا

سما من تتمة رمز "نبغي" ويأتي وأراد: "وتقبل دعائي"، أثبتها في الوصل حمزة وورش وأبو عمرو وأثبتها البزي في الحالين، {وَاتَّبِعُونِ} في غافر5، أثبتها في الوصل أبو عمرو وقالون وفي الحالين ابن كثير. وبلا معنى اختبر أي اختبر الحق ما ذكرته فكان صوابا دون ما روي من خلاف ذلك فإن قلت: من أين علمنا أن مراده بقوله:

1 الآية: 62.

2 آية: 10.

3 آية: 93.

4 آية: 65.

5 الآية: 38.

ص: 308

{دُعَاءِ} التي في إبراهيم دون التي في نوح: {دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} ؟

قلتُ: لأن تلك دخلت في حساب ياءات الإضافة في عده ما بعده همزة مكسورة وقد نص عليها في قوله:

"دعاءي" و"آباءي".

لكوف تجملا، والفرق بينهما أن التي في نوح ثابتة في الرسم والتي في إبراهيم محذوفة، وذلك فصل ما بين ياء الإضافة والزائدة، وكذلك القول في:{اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ} ؛ إذ لقائل أن يقول: لم لا تدخل هذه في ياءات الإضافة التي بعدها همزة مفتوحة؟ فيكون الجواب: أن هذه الياء محذوفة رسما غير ثابتة فيه وعلم ذلك من موضع آخر، وقيد اتبعوني، بقوله:"أهدكم" احترازا من الذي في الزخرف لأبي عمرو وحده، وسيأتي، ومن الذي أجمع على إثباته نحو:{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} والله أعلم.

425-

وَإِنْ تَرَنِي عَنْهُمْ تُمِدُّونَنِي "سَمَا"

"فَـ"ـرِيقًا وَيَدْعُ الدَّاعِ "هَـ"ـاكَ "جَـ"ـنًا "حَـ"ـلا

عنهم: أي عن مدلول حقه بلا أراد: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ} و"أتمدونني" في النمل لمدلول سما فريقا، وهذا الموضع هو الذي يثبته حمزة في الحالين، ونصب فريقا على التمييز أي ارتفع فريقه وهم قراؤه، وروي عن حمزة فيه الحذف في الحالين والإثبات في الوصل دون الوقف:{يَدْعُ الدَّاعِ} في سورة القمر1، أثبتها في الحالين البزي وفي الوصل ورش وأبو عمرو، وما أحلا قوله: هاك جنا حلا أي خذ ثمرا حلوا وهو ما نظمه الناظم رحمه الله.

426-

وَفي الفَجْرِ بِالوَادِي "دَ"نَا "جَـ"ـرَيَانُهُ

وَفي الوَقْفِ بِالوَجْهَيْنِ وَافَقَ قُنْبُلا

أي وافق بالوادي قنبلا بالوجهين يعني روي عن قنبل الحذف والإثبات في الوقف وأما في الوصل فيثبت بلا خلاف كورش، وأثبت البزي في الحالين، وما أحسن ما وافقه لفظ الجريان بعد ذكر الواد.

427-

وَأَكْرَمَنِي مَعْهُ أَهَانَنِ "إِ"ذْ هَـ"ـدَ"ى

وَحَذْفُهُمَا لِلْمَازِنِي عُدَّ أَعْدَلا

يعني أن المشهور عن أبي عمرو حذفهما وقد روي عنه إثباتهما في الوصل كنافع وأثبتهما البزي في الحالين أراد:

1 الآية: 6.

ص: 309

{رَبِّي أَكْرَمَنِ} و {رَبِّي أَهَانَنِ} كلاهما في سورة الفجر1، أتبعهما ذكر بالواو؛ لأن الجميع في سورة واحدة.

428-

وَفي النَّمْلِ آتانِي وَيُفْتَحُ "عَـ"ـنْ "أُ"وِلي

"حِـ"ـمًى وَخِلافُ الْوَقْفِ "بَـ"ـيْنَ "حُـ"ـلًا "عَـ"ـلا

يعني جمع هؤلاء بين إثبات الياء وفتحها في قوله تعالى: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} .

ويلزم من الإثبات الفتح وإلا لانحذفت لالتقاء الساكنين والباقون على حذفها اتباعا للرسم فمن حذف في الوصل حذف في الوقف وأما من أثبت في الوصل فقياسه أيضا الحذف في الوقف؛ لأنه ليس فيهم من المثبتين في الحالين أحد، فأما ورش فجرى على القياس فحذفها في الوقف، وأما قالون وأبو عمرو وحفص فاختلف عنهم في إثباتها وحذفها في الوقف، ووجه إثباتها أن هذه الياء أخذت شبها من ياء الإضافة؛ لكونهم فتحوها وياءات الإضافة لا تحذف في الوقف فكذا هذه، وقوله: بين حلا متعلق بقوله علا.

429-

وَمَعْ كَالْجَوَابِ الْبَادِ "حَقَّ جَـ"ـناَ "هُـ"ـمَا

وَفي الْمُهْتَدِ الإِسْرَا وَتَحْتُ "أَ"خُو "حُـ"ـلا

أراد: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} ، {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . وتقدير الكلام والباد مع كالجواب حق جناهما فالباد مبتدأ وحق خبره وجناهما فاعل حق، وهذا أولى بالجواز من قوله: عليك ورحمة الله السلام، والجنا المجنى ويجوز أن يكون خبر الباد ما تقدم عليه كقولك: مع زيد درهم كأنه قال: اشترك هذان في إثبات الياء لقارئ مخصوص، ثم بينه، وحق خبر مقدم، وجناهما مبتدأ وكذا أعرب الشيخ وغيره قوله: وفي المهتدي الإسرا وتحت؛ قال: فإن قلت: كان الوجه أن يقول وفي الإسرا المهتدي قلت: معناه واشترك في المهتدي الإسراء والكهف، وهو أخو حلا، قلت أنا: يجوز أن يكون المهتدي مضافا إلى الإسراء؛ لأن المراد هذه اللفظة والكلمة فلا يمنع وجود الألف واللام فيها من إضافتها كما لو كانت فعلا أو حرفا؛ لأن المراد حكاية ما في القرآن كما قال: وأخرتني الإسراء، فأضاف أخرتني إلى الإسراء، وقوله: وتحت أي والذي تحت أي والإثبات في حرفي الإسراء والكهف الذي هو المهتدي أخو حلا، واحترز بذلك من الذي في الأعراف؛ فإن الياء فيه ثابتة بلا خلاف وهو:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} .

وكذا لفظ ما في الإسراء والكهف إلا أنه بغير ياء في الرسم.

430-

وَفي اتَّبَعَنْ فِي آلِ عِمْرَانَ عَنْهُمَا

وَكِيدُونِ فِي الأَعْرَافِ "حَـ"ـجّ "لِـ"ـيُحْمَلا

عنهما: يعني عن نافع وأبي عمرو أثبتا ياء:

1 الآيتان: 15 و16.

ص: 310

{وَمَنِ اتَّبَعَنِ} في آل عمران1، يريد:{أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} .

واحترز بذكر السورة عن التي في آخر سورة يوسف: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ؛ فهي ثابتة بلا خلاف وقيد "كيدون" بالأعراف؛ احترازا من المجمع على إثباته في هود وعلى حذفه في المرسلات، وقوله: وكيدون حج أي غلب في الحجة بإثبات يائه؛ ليحمل ذلك ويقرأ به، وهذا هو الموضع الذي أثبته هشام في الحالين بخلاف عنه فيهما، وروي عن ابن ذكوان إثباتها في الحالين أيضا، قال أحمد بن يزيد الحلواني: رحلت إلى هشام بن عمار بعد وفاة ابن ذكوان ثلاث مرات ثم رجعت إلى حلوان، فورد علي كتابه يقول فيه: إني أخذت عليكم: {ثُمَّ كِيدُونِ} في سورة الأعراف بياء في الوصل وهو بياء في الحالين يعني الوصل والوقف.

431-

بِخُلْفٍ وَتُؤْتُونِي بِيُوسُفَ "حًـ"ـقُّهُ

وَفي هٌودَ تَسْأَلْنِي "حَـ"ـوَارِيهِ "جَـ"ـمَّلا

إنما أعاد ذكر الخلف عن هشام؛ لئلا يظن أن الذي تقدم كان للوقف وحده، فأبان بهذا أن له أيضا في الوصل خلافا، وقيل: إنما أعاده تأكيدا؛ لأن بعض المصنفين لم يذكر له هذا الخلاف، وقوله:{حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا} أثبتها مدلول حق وأما:

"فلا تسئلني ما ليس لك به علم"، فأثبت الياء أبو عمرو مع تخفيف الكلمة وأثبتها ورش مع تشديدها ويأتي الكلام في التخفيف والتشديد في سورة هود وحواريه ناصره وخفف الياء ضرورة كما تقدم في أول الخطبة.

432-

وَتُخْزُونِ فِيهاَ "حَـ"ـجَّ أَشْرَكْتُمُونِ قَدْ

هَدَانِ اتَّقُونِ يَا أُولِي اخْشَوْنِ مَعْ وَلا

فيها: أي في هود: {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} 2.

وجميع ما في هذا البيت أثبته أبو عمرو في الوصل أراد: "أشركتموني من قبل" في إبراهيم3:

1 الآية: 20.

2 آية: 78.

3 آية: 22.

ص: 311

{قَدْ هَدَانِ} في الأنعام1، و {اتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في البقرة2، وقيد "هدان" بقوله:"قد" احترازا من نحو: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي} ، {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} ؛ فهي ثابتة باتفاق، وقيد اتقون بقوله:{يَا أُولِي} ؛ احترازا من قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} ؛ فإنها محذوفة باتفاق، وقوله:{وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا} في المائدة، فقيده بقوله: ولا أي الذي بعده ولا احترز بذلك عن الذي في أول المائدة: {وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ} ؛ فإنها فيه محذوفة في الحالين باتفاق، ومن الذي في البقرة:{وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي} ؛ فإنه ثابت في الحالين باتفاق اتباعا للرسم فيهما مع أن الذي في أول المائدة واجب الحذف في الوصل لأن بعده ساكنا فأجرى الوقف مجراه.

433-

وَعَنْهُ وَخَافُونِ وَمَنْ يَتَّقِي "زَ"كا

بِيُوسُفَ وَافى كَالصَّحِيحَ مُعَلَّلا

أي وعن أبي عمرو إثبات: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ} في آل عمران، فالواو في قوله: وخافون من التلاوة، وليست عاطفة في النظم، ثم قال: ومن يتقي زكا أراد: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} .

زكا: أي طهر من طعن في قراءة قنبل؛ لأنه أثبت الياء في محل الجزم، ولا شك أنها قراءة ضعيفة؛ لأنه زاد على الرسم حرفا، وارتكب المحذور بزيادته وجها ضعيفا في العربية بخلاف الياءات المثبتة فيما تقدم فإنها لغة فصيحة، وهو من الاختلاف في الهجاء فلم يضر من جهة الرسم كقراءة:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .

1 الآية: 80.

2 آية: 197.

ص: 312

بالألف، ثم ذكر وجه هذه القراءة وهو أن من العرب من يجري المعتل مجرى الصحيح فلا يحذف منه شيئا من حروفه للجزم كما لا يحذف شيئا في الصحيح ويكتفي بإسكان آخره ومنه قوله:

ألم يأتيك والأنباء تنمى

ووجه آخر وهو أن الكسرة أشبعت فتولدت منها ياء والإشباع قد ورد في اللغة في مواضع ووجه ثالث وهو أن من في قوله: {مَنْ يَتَّقِي} ، تكون بمعنى الذي لا شرطية فلا جزم ولكن يضعفه أنه عطف عليه قوله: ويصبر، فأجيب بأنه أسكنه تخفيفا كما يأتي عن أبي عمرو في "يأمركم" ونحوه، وأكد ذلك أبو علي بأن جعله من باب هل المعطوف على المعنى نحو:{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ} ، {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ، {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} ؛ لأن من يتقي في الجزاء بمنزلة الذي يتقي؛ لدخول الفاء في جوابهما فقد تضمنا معا معنى الجزاء وكل هذه وجوه ثابتة، ولكنها ضعيفة في الفصيح على خلاف في اللغة، وقال الحصري:

وقد قرا "من يتقي" قنبلٌ

فانصر على مذهبه قنبلا

واختار الناظم الوجه الأول، وقوله: وافى أي جاء معللا كالصحيح أي بأنه أجرى مجراه، قال أبو بكر بن مجاهد: أخبرني قنبل عن القواس عن أصحابه أنهم يقرءون: "إنه من يتقي ويصبر" بالياء في الوصل والوقف، وقرأت في حاشية نسخة مقروءة على الناظم، وأظن الحاشية من إملائه قال: معللا أي مروي بعذوب الاحتجاج له فهو على هذا من العلل.

434-

وَفِي المُتَعَالِي "دُ"رُّهُ وَالتَّلاقِ وَالتْـ

ـتَنَا"دِ" رَا "بَـ"ـاغِيهِ بِالخُلْفِ "جُـ"ـهِّلا

"المتعالى" في الرعد و"التَّلاقِ"، و"التَّنَادِ" في غافر، أثبت الثلاثة في الحالين ابن كثير، وأثبت ورش وقالون بخلاف عنه ياء التلاق والتناد في الوصل، ودرا بمعنى دفع، فأبدل من الهمزة ألفا، وباغيه بمعنى طالبه يقال بغيت الشيء إذا طلبته، وجهلا جمع جاهل، وهو مفعول درا أي دفع قارئه الجهال عن تضعيفه بكونه رأس آية، فلا ينبغي أن يثبت الياء؛ لئلا يخرج عن مؤاخاة رءوس الآي فأتى بالخلف ليرضى به كل فريق؛ لأن كلا الأمرين لغة فصيحة.

435-

وَمَعْ دَعْوَةَ الدَّاعِ دَعَانِي "حَـ"ـلا "جَـ"ـنا

وَلَيْسَا لِقَالُونٍ عَنِ الغُرِّ سُبَّلا

يريد قوله تعالى:

1 الرعد، الآية: 9 وغافر الآيتان: 15 و32.

ص: 313

{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، أثبتهما أبو عمرو وورش، وجنا في موضع نصب على التمييز، وليسا-يعني الياءين في هاتين الكلمتين- لقالون أي لم يشتهر إثباتهما له، وإن كان قد روي عنه إثباتهما وإثبات الأول دون الثاني وعكسه، والغر المشهورون جمع أغر أي عن النقلة الغر، وسبلا حال منهم وهو جمع سابلة وهم المختلفون في الطرق يريد أنهم سلكوا طرق النقل، وقبلوها خبره بها، ولو جاز أن يكون جمع سبيل لقلنا: هو نصب على التمييز أي عن القوم المنيرة طرقهم والله أعلم.

436-

نَذِيرِي لِوَرْشٍ ثُمَّ تُرْدِينِ تَرْجُمُو

نِ فَاعْتَزِلُونِ سِتَّةٌ نُذُرِي جَلا

437-

وَعِيدِي ثَلَاثٌ يُنْقِذُونِ يُكَذِّبُو

نِ قَالَ نَكِيرِي أَرْبَعٌ عَنْهُ وُصِّلا

هذا كله أثبته ورش في الوصل وحده أراد: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} ، {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} ، وفي الدخان:{أَنْ تَرْجُمُونِ} ، {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} .

ونذر ستة مواضع في سورة القمر، وجلا فيه ضمير لورش وعيدي ثلاث أي ثلاث كلمات واحدة في إبراهيم واثنتان في ق:{لا يُنْقِذُونِ} في يس، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} في القصص1، وقيده بقوله: قال لأن بعده قال: {سَنَشُدّ} ، احترز بذلك عن:{يُكَذِّبُونَ} الذي ليس بعده، قال نحو:{أَنْ يُكَذِّبُونِ} و {يَضِيقُ صَدْرِي} ، فهذه محذوفة باتفاق في الحالين و"نكيري" أربع كلمات، في الحج وسبأ وفاطر وتبارك، وليس الذي في الشورى من هذا الباب، وهو قوله تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} 2.

1 آية: 34.

2 آية: 47.

ص: 314

والضمير في عنه لورش فهذه تسع عشرة زائدة انفرد بها ورش والألف في فصلا ليست ضمير تثنية فإن الذي تقدم متعدد أي وصل المذكور عنه فالألف للإطلاق.

438-

فَبَشِّرْ عِبَادِي افْتَحْ وَقِفْ سَاكِنًا "يَـ"ـدًا

وَوَاتَّبِعُونِي "حَـ"ـجَّ في الزُّخْرُفِ الْعَلا

لما فتح السوسي هذه الياء في الوصل وقف عليها بالإسكان كسائر ياءات الإضافة وهو القياس كما فعل في حرف النمل: "فما آتان الله"1 على وجه، وحذفها الباقون في الحالين اتباعا للرسم ووقع في نقل مذهب السوسي اختلاف كثير في غير التيسير، فروي عنه الحذف في الوقف، وروي عن أبي عمرو نفسه الحذف في الحالين وروي عنه الفتح في الوصل والحذف في الوقف، وأشار الناظم بقوله: وقف ساكنا يدا إلى ترك الحركة باليد؛ لأن المتكلم في إبطال الشيء أو إثباته قد يحرك يده في تضاعيف كلامه فكأنه قال لا تتحرك في رد ذلك بسبب ما وقع فيه من الخلاف هكذا ذكر الشيخ فقوله يدا في موضع نصب على التمييز، وكأن هذا زجر عن سؤال مقدر واعتراض وارد من حيث القياس والجدل، وذلك أن الخلاف محكي عن أبي عمرو نفسه في:{فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} في النمل والعمل في الاثنين واحد فعرف الناظم أن من سمع من جهة نظمه أن السوسي يقف بياء ساكنة دون الدوري، ولم يذكر خلافا أنه يورد حرف النمل ويطلب الفرق بينهما ويستطيل باعتراضه؛ لأنه وارد، فسكنه وثبته بقوله: وقف ساكنا يدا أي النقل كذا فلا ترده بقياس وجدل وهذا معنى جيد وتفسير حسن لظاهر اللفظ، ولكن يلزم منه أن تكون السين من ساكنا رمزا لأبي الحارث كما لو قال: باسطا يدا فإن الباء حينئذ كانت تكون رمز قالون، وإنما المراد من هذا اللفظ بيان قراءة السوسي في الوقف وهي غير مبينة من هذا التفسير، فإن أريد ذلك جعل ساكنا حالا من مفعول محذوف أي وقف عليه ساكنا ويكون يدًا حالا من الفاعل أي ذا يد، فتظهر قراءة السوسي حينئذ والله أعلم.

ثم قال: و {اتَّبِعُونِ} أراد قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ} ، فأدخل واو العطف على كلمة القرآن وفيها واو فاجتمع واوان؛ ليحصل حكاية لفظ القرآن فهو كقوله في أول القصيدة: بدأت بـ: "بسم الله" كأنه قال: وحرف الزخرف الذي هو "واتبعوني" أثبت ياءه في الوصل أبو عمرو وحده، والعلا مفعول حج وليس برمز، وهو مشكل؛ إذ يحتمل ذلك ولا يدفعه كونه فصل بين الرمزين بقوله في الزخرف فإن هذا فصل تقييد فليس أجنبيا فلا يضر فهو كفصله بلفظ الخلف في أثناء الرمز كقوله: لبى حبيبه بخلفهما برا، وكما قد جاء الفصل بالرمز بين تقييدين كقوله: كما دار واقصر فلقائل أن يقول: كما جاز الفصل بين التقييدين بالرمز كذا يجوز الفصل بين الرمزين بالتقييد، ويؤيد الإشكال أنه

1 الآية: 36.

ص: 315

قد التزم في خطبته أنه يسمى الرجال بعد ذكر الحرف ومتى انقضى ذلك أتى بالواو الفاصلة والواو لم تأت هنا إلا بعد قوله: العلا في أول البيت الآتي فليته قال:

و"واتبعوني"

زخرف حج واعتلا أو: و"واتبعوني" الزخرف اتبع فتى العلا ويكون قد أضاف واتبعوني إلى اسم السورة؛ لأنه لفظ، وكلمة وحرف من حروف القراءة فهو كما قدمنا في قوله:"أَخَّرْتَنِي" الإسراء، وفي "الْمُهْتَدِي" الإسراء والله أعلم.

439-

وَفي الكَهْفِ تَسْأَلْنِي عَنِ الكُلِّ يَاؤُهُ

عَلَى رَسْمِهِ وَالحَذْفُ بِالخُلْفِ مُثِّلا

يعني أنه رسم بالياء فأثبتها الكل وقفا ووصلا، وروي عن ابن ذكوان حذفها في الحالين.

فإن قلت: من أين يعلم أنه أراد في الحالين؟ قلتُ: هو في التيسير كذلك، وإنما لم ينبه عليه الناظم اتكالا على فهم الذكي من جهة أنه لا جائز أن يكون أراد أنه حذفها وصلا لا وقفا؛ إذ ليس في هذا الباب له نظير؛ إذ كل من أثبت ياء في الوقف أثبتها في الوصل، ولا ينعكس هذا القسم، ثم لو كان أراد هذا القسم لذكره في سورته كما ذكر ما يشبه ذلك في الرعد، وإذا بطل هذا القسم فلا يجوز أن يظن بالناظم أنه أراد عكسه، وهو أنه حذفها وقفا وأثبتها وصلا؛ لأنه لم يذكره مع من هذا فعله في سائر الباب في قوله: وفي الوصل حماد شكور إمامه، فبان أنه أراد حذفها في الحالين، وهذه الياء التي في الكهف زائدة على العدة بخلاف التي في هود؛ فإنها منها؛ لأن تلك محذوفة رسما وهذه ثابتة فيه.

440-

وَفي نَرْتَعِي خُلْفٌ "زَ"كَا وَجَمِيعُهُمْ

بِالِاثْبَاتِ تَحْتَ النَّمْلِ يَهْدِيَنِي تَلا

ليته وصل هذا البيت بالبيت الذي فيه يتقي؛ لأن إثبات الياءين فيهما لقارئ واحد في سورة واحدة، وكلاهما في موضع الجزم، وما عطف عليهما مجزوم، أو ليته قدم هذا البيت على الذي قبله؛ لتتصل الياءات المعدودة، ثم بذكر الخارج من العدة. أراد قوله تعالى:"أرسله معنا غدا نرتع ونلعب"، وسيأتي الخلاف فيه في سورته، وأما وجه إثبات الياء فإجراء المعتل مجرى الصحيح أو الإشباع، ويجيء الوجه الآخر على أن يكون "نرتعى" في موضع الحال وسكن "ونلعب" تخفيفا على ما تقدم في:{يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} .

والباقون على حذف الياء لكن مهم من كسر العين، ومنهم من أسكنها، وأجمعوا على إثبات ياء:

ص: 316

{يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} في القصص1؛ لثبوتها في الرسم، وإنما نص عليها من بين ما أجمعوا على إثباته؛ لأنه ذكر فيما تقدم من جملة ما اختلفوا فيه "يهدين"، ولم يعين أنها التي في الكهف فخشي أن تلتبس بهذه فاستدرك وبيَّن أن هذه مجمع عليها فتعينت تلك للخلاف وقد نظم الشيخ رحمه الله في الياءات المجمع على إثباتها أبياتا جمعت أشياء مما يشكل منها، ولم يحتج الناظم إلى ذكر غير حرف القصص مما أجمع عليه؛ إذ لا التباس لشيء منه بما ذكره؛ لأنه استوعب ذكر العدة ببيان مواضعها بخلاف ما فعل في ياءات الإضافة، فلهذا ذكر المجمع عليه في الأنواع التي لم يستوعب ذكرها مفصلة على ما تقدم شرحه، ولم يحتج إلى ذكر غير الملتبس بما ذكره من المجمع عليه إسكانا وفتحا هكذا ههنا لم يذكر ما أجمع عليه حذفا وإثباتا والله أعلم.

441-

فَهذِي أُصُولُ الْقَوْمِ حَالَ اطِّرَادِها

أَجَابَتْ بِعَوْنِ اللهِ فَانْتَظَمَتْ حُلا

أي تم الكلام في الأصول وحال اطرادها منصوب على الحال كقوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} ، أو يكون العامل فيه أجابت أي أجابت مطردة لا دعوتها أي انقادت لنظمي طائعة بإعانة الله تعالى فانتظمت مشبهة حلا جمع حلية فيكون حلا في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون تمييزا أي انتظمت حلاها وقد ذكر نحو ذلك صاحب التيسير، فقال بعد فراغه من باب الزوائد: فهذه الأصول المطردة قد ذكرناها مشروحة، وأقول: المراد من إفراد الأصول بأبواب قبل الشروع في السور الفرق بين ما يطرد حكمه وما لا يطرد، والمطرد هو المستمر الجاري في أشباه ذلك الشيء، وكل باب من أبواب الأصول لم يخل من حكم كلي يستمر في كل ما تحقق فيه شرط ذلك الحكم، وهو في جميع الأبواب ظاهر، وهو خفي في ياءات الإضافة والزوائد، وهو في الزوائد أخفى، فوجهه في ياءات الإضافة أن فيه ما يطرد حمله مثل قوله: فتح سما ما بعده همزة مفتوحة، وفي الزوائد وتثبت في الحالين وفي الوصل حماد فإن ذلك مطرد في الجميع وباقي الكلام في البابين أشبه بالفرش منه بالأصول، وشاهده ذكر التاءات المشددة للبزي في الفرش وهي قريبة من الزوائد والله أعلم.

443-

وَإِنِّي لأَرْجُوهُ لِنَظْمِ حُرُوفِهِمْ

نَفَائِسَ أَعْلَاقٍ تُنَفِّسُ عُطَّلا

أي أرجو عون الله أيضا لتسهيل نظم الحروف المنفردة غير المطردة وهو ما سيأتي ذكره في السور وهو معنى قول صاحب التيسير: ونحن مبتدئون بذكر الحروف المتفرقة ونفائس جمع نفيس وأعلاق جمع علق وهو الشيء النفيس يقولون هو علق مضنة أي يضن به ويبخل بإعادته فلا يسمح به، قال الشاعر:

وسلمى لعمر الله علق مضنة

أي لا يسمح بفراقها فمعنى نفائس أعلاق على هذا نفائس أشياء نفائس كقولك: خيار الخيار ثم هو منصوب إما على الحال من حروفهم أو هو مفعول ثانٍ كما تقول: نظمت الدر عقدا فيكون قد كنى بالأعلاق عن القلائد، ويجوز أن يكون كنى بها عن أنواع النظم النفيسة.

1 آية: 22.

ص: 317

فيكون نفائس منصوبا على المصدر وتقديره أنظم حروفهم أنفس نظم تنفس تلك لنفائس أجيادا عطلا أي أعناقا لا قلائد لها أي تجعلها ذات نفاسة، قال الشيخ: ومعنى ذلك أنه إذا نظمها، فحفظها من لا علم له كان كمن تحلى جيده بعقد نفيس. قلت: فهذا مما يقوى جعل نفائس أعلاق مفعولا ثانيا ولم يذكر الشيخ إلا أنها حال من حروفهم.

443-

سَأَمِضي عَلَى شَرْطِي وَبِاللهِ أَكْتَفِي

وَماَ خَابَ ذُو جِدٍّ إِذَا هُوَ حَسْبَلا

أي سأستمر على ما شرطته في الرموز والقيود، والجد ضد الهزل، وحسبل إذا قال: حسبي الله ركب من لفظي الكلمتين كلمة تدل عليهما كما تقدم ذكره في باب البسملة، وقوله: وبالله أكتفي هو معنى حسبي الله، فلهذا أخبر أنه قد حسبل، والمعنى: أني لا أخيب فيما قصدته؛ لأني اكتفيت به سبحانه وتعالى في تتمة ذلك، واستعنت به عليه فأناب رحمه الله وما خاب بل اشتهر ذكره، وطاب، وانتفع بما نظمه الأصحاب والله أعلم.

وهذا آخر شرح الأصول والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه الأكرمين أجمعين:

وحسبنا الله وكفى، ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 318

‌باب: فرش الحروف

‌سورة البقرة

باب: فرش الحروف

وهو الكلام على كل حرف في موضعه، على ترتيب السورة:

سورة البقرة:

قال الشيخ رحمه الله: القراء يسمون ما قل دوره من الحروف: فرشًا؛ لانتشاره، فكأنه انفرش، إذ كانت الأصول ينسحب حكم الواحد منها على الجميع.

قلت: وسماه بعضهم: الفروع على مقابلة الأصول، ويأتي في الفرش مواضع مطردة حيث وقعت وهي بالأصول أشبه منها بالفرش، مثل إمالة التوراة، وفواتح السور، والكلام في "هأنتم" والاستفهامين، وتاءات البزي، والتشديد، والتخفيف في "ينزل" وبابه، ويقع في نسخ القصيدة ترجمة سورة البقرة في هذا الموضع، ولم يزد صاحب التيسير على قوله:"باب ذكر فرش الحروف"، وقدم ترجمة سورة البقرة في أول باب هاء الكتابة، وقد تقدم ثَم معنى ذلك، وبيان صحة ما فعله، وبالله التوفيق.

444-

وَمَا يَخْدَعُونَ الفَتْحَ مِنْ قَبْلِ سَاكِنٍ

وَبَعْدُ "ذَ"كَا وَالغَيْرُ كَالحَرْفِ أَوَّلا

قوله: وما: تقييد للحرف المختلف فيه؛ احترازا من الأول وهو قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} 1؛ فإنه ليس قبله وما والساكن الخاء، والفتح قبله في الياء وبعده في الدال وهذا تقييد لم يكن محتاجا إليه؛ لأنه قد لفظ بالقراءة ونبه على القراءة الأخرى بما في آخر البيت؛ لأنه لا يمكن أخذها من أضداد ما ذكر فهو زيادة بيان.

فإن قلت: احترز بذلك عن أن يضم أحد الياء.

قلت: ليس من عادته الاحتراز عن مثل هذا؛ ألا تراه يقول: سكارى معًا سكرى، ولم يقل بضم السين اكتفاء باللفظ.

فالوجه أن يقال: هو زيادة بيان لم يكن لازما له، وهو مثل قوله في سورة الحج: ويدفع حق بين فتحيه ساكن، وذكا بمعنى اشتعل وأضاء، وأولا ظرف أي وقراءة الغير كالحرف الواقع أولا، وأجاز الشيخ أن يكون حالا، وأطلق الناظم الحرف على الكلمة على ما سبق في قوله: لعل حروفهم، وقوله: وفي أحرف وجهان، وما يأتي من قوله: وفي الروم والحرفين في النحل أولا، وذلك سائغ، ومنه قول أبي القاسم الزجاجي: باب الحروف التي ترفع الاسم وتنصب الخبر يعني كان وأخواتها أي اقرءوا:

1 آية: 9.

ص: 319

"يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون"1؛ ففي هذه القراءة رد لفظ ما ابتدأ به وأجمع عليه ومن قرأ الثانية: "يخدعون" نبه على أن الأولى بهذا المعنى، وأن فاعلت هنا بمعنى فعلت نحو طارقت النعل وسافرت وعاقبت وقيل: جعلوا خادعين لأنفسهم لما كان ضرر ذلك عائدا إليهم كقوله تعالى في موضع آخر: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} 2، وإنما أجمع على الأول وعدل فيه من فعل إلى فاعل كراهة التصريح بهذا الفعل القبيح أن يتوجه إلى الله سبحانه فأخرج مخرج المحاولة لذلك والمعاناة له والله أعلم.

445-

وخَفَّفَ كُوفٍ يَكْذِبُونَ وَيَاؤُهُ

بِفَتْحٍ وَلِلبَاقِينَ ضُمَّ وَثُقِّلا

عني بالتخفيف إسكان الكاف وإذهاب ثقل الذال والباقون ثقلوا موضع تخفيف هؤلاء، فلزم تحريك الكاف، وإن لم يتعرض له؛ إذ لا يمكن تثقيل الذال إلا بفتح الكاف وضم الياء والقراءتان ظاهرتان فإن المنافقين لعنهم الله قد وصفوا في القرآن بأنهم كاذبون في مواضع كثيرة، ومع أنهم كاذبون هم يكذبون؛ لأن الله تعالى وصفهم بقوله:{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ، ومن لم يكن مصدقا فهو مكذب ولا خلاف في تخفيف:{بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} 3.

كما أنه لا خلاف في تثقيل قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} ، ونحوه، ولا يرد على الناظم ذلك لأنه لم يقل جميعا ولا بحيث أتى ولا نحو ذلك وتلك عادته فيما يتعدى الحكم فيه سورته إلا مواضع خرجت عن هذه القاعدة سننبه عليها في مواضعها منها ما في البيت الآتي:"وَالتَّوْرَاةَ" و"كائن"، وضُمَّ فعل ماض لا أمر بل هو من جنس ما عطف عليه من قوله وثقلا والله أعلم.

446-

وَقِيلَ وَغِيضَ ثُمَّ جِيءَ يُشِمُّهَا

لَدى كَسْرِهَا ضَمَّا "رِ"جَالٌ "لِـ"ـتَكْمُلا

447-

وَحِيلَ بِإِشْمَامٍ وَسِيقَ "كَـ"ـمَا "رَ"سَا

وَسِيءَ وَسِيئَتْ "كَـ"ـانَ "رَ"ـاوِيهِ "أَ"نْبَلا

أراد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا} .

1 آية: 9.

2 سورة النساء، آية:142.

3 سورة التوبة: آية: 77.

ص: 320

وما جاء من لفظ قيل فهو فعل ماضٍ: {وَغِيضَ الْمَاءُ} ، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} ، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ} ، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ} ، {وَسِيقَ الَّذِينَ} موضعان في آخر الزمر، "وسيء بهم" في هود والعنكبوت، و {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

فأطلق هذه الأفعال ولم يبين مواضع القراءة وفيها ما قد تكرر والعادة المستمدة منه فيما يطلق أن يختص بالسورة التي هو فيها كما في "يكذبون" السابقة ولكن لما أدرك مع قيل هذه الأفعال الخارجة عن هذه السورة كان ذلك قرينة واضحة في طرد الحكم حيث وقعت، قيل: وغيرها من هذه الأفعال، ورجال فاعل يشمها وضما مفعول ثانٍ والمراد بالإشمام في هذه الأفعال أن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمة وبالياء بعدها نحو الواو فهي حركة مركبة من حركتين كسر وضم؛ لأن هذه الأوائل، وإن كانت مكسورة فأصلها أن تكون مضمومة؛ لأنها أفعال ما لم يسم فاعله، فأشمت الضم دلالة على أنه أصل ما يستحقه وهو لغة للعرب فاشية، وأبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقته هذه الأفعال من الاعتلال، ولهذا قال: لتكملا أي لتكمل الدلالة على الأمرين، وهذا نوع آخر من الإشمام غير المذكور في الأصول وقد عبروا عنه أيضا بالضم والروم والإمالة، ومنهم من قال: حقيقته أن تضم الأوائل ضما مشبعا، وقيل مختلسا، وقيل بل هو إيماء بالشفتين إلى ضمة مقدرة مع إخلاص كسر الأوائل، ثم القارئ مخير في ذلك الإيماء إن شاء قبل اللفظ أو معه أو بعده، والأصح ما ذكرناه أولا، ومن أخلص الكسر فلأجل الياء الساكنة بعده كميزان وميقات وهو اللغة الفاشية المختارة، وقال مكي: الكسر أولى عندي كما كان الفتح أولى من الإمالة ونافع وابن ذكوان جمعا بين اللغتين، ورسا أي استقر وثبت وأنبلا أي زائد النبل وأما قيل الذي هو مصدر فلا يدخل في هذا الباب؛ إذ لا أصل له في الضم وهو في نحو:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} {وَأَقْوَمُ قِيلًا} .

والرمز في هذين البيتين: رجال لتكملا كما رسا كان راويه أنبلا والله أعلم.

448-

وَهَا هُوَ بَعْدَ الْوَاوِ وَالفَا وَلَامِهَا

وَهَا هِيَ أَسْكِنْ "رَ"اضِياً

"بَـ"ـارِدًا "حَـ"ـلا

أي إذا كانت الهاء من لفظ هو والهاء من لفظ هي بعد واو أو فاء أو لام زائدة نحو: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ} {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} ، {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} ، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} ، {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} .

فأسكن الهاء في هذه المواضع الكسائي وقالون وأبو عمرو؛ لأن اتصال هذه الحروف بها صيرت الكلمة مشبهة لفظ عضد وكتف، فأسكنت الهاء كما أسكنا تخفيفا وقولنا: زائدة احتراز من نحو:

ص: 321

{لَهْوَ الْحَدِيثِ} ، {إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} فالهاء ساكنة باتفاق؛ لأنها ليست هاء هو الذي هو ضمير مرفوع منفصل، وذلك معروف ولكنه قد يخفى على المبتدئ فبيانه أولى وقصر لفظ "ها" في الموضعين ضرورة، والضمير في لامها للحروف أو للفظ هو؛ لكثرة دخولها عليها وراضيا حال وباردا مفعول به، وحلا صفة باردا كما تقول رضيت شيئا جيدًا وباردًا من قولهم غنيمة باردة أي حاصلة من غير مشقة ويمكن جعل الكل أحوالا ويكون راضيا حال من الفاعل وباردا حالا من المفعول نحو لقيته مصعدا منحدرا وقيل باردا نعت مصدر محذوف إي إسكانا باردا حلوا، يروى عن من قرأ به كالماء البارد، وهذا الحكم المذكور في هذا البيت أيضا مطرد حيث جاءت هذه الألفاظ لا يختص بهذه السورة، ولم يصرح بذلك وكأنه اكتفى بضابط قوله بعد الواو وللفاء ولامها؛ لأن المجموع ليس في سورة البقرة والله أعلم.

449-

وَثُمَّ هْوَ "رُِ"فْقًا "بَـ"ـانَ وَالضَّمُّ غَيْرُهُمُ

وَكَسْرٌ وَعَنْ كُلٍّ يُمِلُّ هُوَ انْجَلا

أراد: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} لم يسكنه أبو عمرو؛ لأن ثم ليس اتصالها بهو كاتصال الواو والفاء واللام بها؛ لأن ثم كلمة مستقلة، وأسكنه الكسائي وقالون حملا لثم على هذه الحروف لمشاركتها لها في الحرفية والواو والفاء في العطفية، وقوله: رفقا بان حال أي أسكنه ذا رفق بين أي أرفق به في تقرير وجه إسكانه، والضم غيرهم في لفظ هو بعد هذه الحروف والكسر في لفظ هي بعدها، وإنما بين قراءة الباقين؛ لأنها لا تفهم من ضد الإسكان المطلق فإن ضده -على ما سبق في الخطبة- هو الفتح على أنه كان يمكنه أن لا يتكلف ببيان قراءة الباقين؛ فإنها قد علمت من تلفظه بها في قوله: وها هو وها هي فكأنه قال: أسكن ضم هذه وكسر هذه، ولو قال ذلك تصريحا لم يحتج إلى بيان قراءة الباقين فهذا المذكور في معناه، وأما قوله تعالى في آية الدين:{أَنْ يُمِلَّ هُوَ} فلم يسكن الهاء أحد؛ لأن يمل كلمة مستقلة وليست حرفا فتحمل على أخواتها وإنما ذكره؛ لأن هو قد جاء فيها بعد لام فخشي أن تدخل في عموم قوله ولامها فقال ضمها عن كل القراء ولم يصرح بذلك، ولكن لفظه أنبأ عنه ولهذا قال: انجلا أي انكشف الأمر في ذلك وبعض المصنفين ذكر عن قالون إسكانها.

450-

وَفِي فَأَزَلَّ اللَاّمَ خَفِّفْ لِحَمْزَةٍ

وَزِدْ أَلِفًا مِنْ قَبْلِهِ فَتُكَمِّلا

يريد قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} 1.

1 سورة البقرة، آية:36.

ص: 322

والهاء في قبله تعود إلى اللام فيصير فأزال، ومعناهما واحد أي فنحاهما عنها، وقيل: يجوز أن يكون معنى قراءة الجماعة أوقعهما في الزلة وهي الخطيئة، والفاء في فتكملا ليست برمز؛ لأنه قد صرح بقوله: لحمزة وإنما أتى بالفاء دون اللام؛ لئلا يوهم رمزا، فإن قلت لا يكون رمز مع مصرح باسمه قلت: يظن أنها قراءة ثانية بالألف وقراءة حمزة بالتخفيف فقط فاختار الفاء؛ لئلا يحصل هذا الإيهام وأراد فتكمل الألف الكلمة أو تكمل أنت الكلمة بزيادتك للألف وهو منصوب على جواب الأمر بالفاء.

451-

وَآدَمَ فَارْفَعْ نَاصِباً كَلِمَاتِهِ

بِكَسْرٍ وَلِلْمَكِّيِّ عَكْسٌ تَحَوَّلَا

أي القراءة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1، فيكون آدم فاعلا وكلمات مفعولا وعلامة نصبه الكسرة وعكس ابن كثير، فجعل آدم مفعولا فنصبه، وكلمات فاعلا فرفعها، والمعنى واحد؛ لأن ما تلقيته فقد تلقاك وكذا ما أصبته، فقد أصابك وقوله: وللمكي عكس أي عكس ما ذكر، وحقيقة العكس لا تتحقق هنا من جهة أن نصب آدم ليس بكسر بل بفتح فهو عكس مع قطع النظر عن لفظ الكسر، ولم يمكنه أن يقول: وللمكي رفع؛ لأنه لا يعرف الخلاف في آدم حينئذ لمن هو؛ لأن رفع المكي مخصوص بكلمات وقوله: تحولا أي المذكور إليه أو عكس تحول إلى هذا والله أعلم.

452-

وَيُقْبَلُ الُاولى أَنَّثُوا "دُ"ونَ "حَا"جِزٍ

وَعُدْنَا جَمِيعًا دُونَ مَا أَلِفَ "حَـ"ـلا

يريد قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} 2.

يقرأ بالتأنيث والتذكير أي بالتاء والياء، فوجه التأنيث ظاهر؛ لأن الشفاعة مؤنثة، ولهذا قال: دون حاجز أي مانع، ووجه التذكير أن تأنيث الشفاعة غير حقيقي، وكل ما كان كذلك جاز تذكيره لا سيما وقد وقع بينه وبين فعله فاصل وسيأتي له نظائر كثيرة، واحترز بقوله الأولى أي الكلمة الأولى عن الأخيرة وهي:{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} .

فإن الفعل مذكر بلا خلاف؛ لنه مسند إلى مذكر وهو عدل وبعده: {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} ، لم يختلف في تأنيثها؛ لأنه لم يفصل بينهما كلمة مستقلة بخلاف الأولى وقرأ أبو عمرو:{وَعَدَنَا} في البقرة والأعراف وطه بغير ألف بعد الواو؛ لأن الله تعالى وعده وقرأ غيره "واعدنا" بألف بعد

1 الآية: 37.

2 الآية: 48.

ص: 323

الواو على معنى وعدنا كقوله: "فحاسبناها" وقيل يصح فيه معنى المفاعلة فإن قلت: من أين يعلم من النظم أن قراءة الباقين بألف بعد الواو دون أن يكون بألف قبلها فيكون أوعدنا؛ لأنه قال دون ما ألف ولم ينطق بقراءة الجماعة ولو كان لفظ بها لسهل الأمر قلت: يعلم ذلك من حيث إنه أراد أوعدنا للزمه أن يبين إسكان الواو وتحريكها، فلما لم يتعرض لذلك علم أنه غير مراد وأيضا فإن حقيقة الألف ثابتة في لفظ:{وَاعَدْنَا} ، وأما أوعدنا فهي حمزة قبل الواو فإطلاق الألف عليها مجاز، والأصل الحمل على الحقيقة فيزول الإشكال على هذا مع ظهور القراءتين واشتهارهما وعدم صحة معنى الوعيد في هذه المواضع ولو قال: وفي الكل واعدنا أو وجملة واعدنا بلا ألف حلا بطل هذا الإشكال لكن في "وعدنا" و"واعدنا" ألف بعد النون كان ينبغي الاحتراز عنها أيضا، فإن قلتَ: تلك لا يمكن حذفها، فإن قلت: وليس كل ما لا يمكن حذفه لا يحترز منه فإنه سيأتي في قوله: وقالوا: الواو الأولى سقوطها ولا يمكن إسقاط الثانية مع بقاء ضمة اللام ثم إنه أيضا يرد عليه ما في سورة القصص: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} 1.

فهو بغير ألف بلا خلاف، وكذا الذي في الزخرف:{أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} 2.

فإن اعتذر له بأنه قال: "وعدنا" بغير هاء والذي في القصص بزيادة هاء، والذي في الزخرف بزيادة هاء وميم فلا ينفع هذا الاعتذار فإن الذي في طه بزيادة كاف وميم وهو قوله تعالى:{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} 3.

وصاحب التيسير نص على أن الخلاف في "وعدنا"، و"وعدناكم"، فخرج الذي في القصص فإنه لفظ ثالث والذي في الزخرف فإنه لفظ رابع فلو قال: الناظم وعدنا وعدناكم بلا ألف حلا لخلص من هذا الإشكال ولكن خلفه إشكال آخر، وهو أنه لم يقل جميعا ولكن يكون له أسوة بما ذكر في بيتي الإشمام ويبقى عليه الإشكالان المتقدمان في موضع الألف وما في قوله دون ما ألف زائدة والله أعلم.

453-

وَإِسْكَانُ بَارِئِكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ لَهُ

وَيَأْمُرُهُمْ أَيْضًا وَتَأْمُرُهُمْ تَلا

454-

وَيَنْصُرُكُمْ أَيْضًا وَيُشْعِرُكُمْ وَكَمْ

جَلِيلٍ عَنِ الدُّورِيِّ مُخْتَلِسًا جَلا

أي أسكن أبو عمرو في هذه المواضع كلها حيث وقعت حركة الإعراب تخفيفا، وقد جاء ذلك عنه من طريق الرقيين كذا ذكر الداني ومكي وغيرهما، ورواية العراقيين عن أبي عمرو الاختلاس، وهي الرواية الجيدة المختارة؛ فإن الإسكان في حركات الإعراب لغير إدغام ولا وقف ولا اعتلال منكر فإنه على مضادة حكمة مجيء الإعراب وجوزه سيبويه في ضرورة الشعر؛ لأجل ما ورد من ذلك فيه نحو:

1 آية: 61.

2 آية: 42.

3 آية: 80.

ص: 324

وقد بدا هنك من الميزر

فاليوم أشرب غير مستحقب

ولا أعلام قد تعلل بالمناة

فما تعرفكم العرب

ونحوه: إذا اعوججن قلت: صاحب مقوم.

قال أبو علي في الحجة: أما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها فمن الناس من ينكره فيقول: إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب، قال: وسيبويه يجوز ذلك في الشعر، قال الزجاج: روي عن أبي عمرو ابن العلاء أنه قرأ: "بَارِئْكُمْ" بإسكان الهمزة، قال: وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسر، قال: وأحسب الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط؛ لما روي عن أبي عمرو، والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو؛ لأن حذف الكسر في مثل هذا وحذف الضم إنما يأتي في اضطرار الشعر وفي كتاب أبي بكر بن مجاهد قال سيبويه كان أبو عمرو يختلس الحركة:

"من بارئكم"، و {يَأْمُرُكُمْ} ، وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات فيرى من يسمعه أنه قد أسكن ولم يسكن قال أبو بكر: وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو؛ لأنه كان يستعمل في قراءته التخفيف كثيرا كان يقرأ: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} ، {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} يشم الميم من يعلمهم، والنون من "يلعنهم" الضم من غير إشباع وكذلك:{عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} يشم التاء شيئا من الخفض وكذلك: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ} .

يشمها شيئا من الضم، وفي كتاب أبي علي الأهوازي عن المازني عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلا قال سمعت أعرابيا يقول:{بَارِئِكُمْ} ، فاختلس الكسر حتى كدت لا أفهم الهمزة قال أبو علي الفارسي وهذا الاختلاس وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط وأخفى فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك قال: وعلى هذا المذهب حمل سيبويه قول أبي عمرو: "على بارئكم"، فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك فمن روى عن أبي عمرو الإسكان

ص: 325

في هذا النحو فلعله سمعه يختلس فحسبه؛ لضعف الصوت به والخفاء إسكانا، وقال أبو الفتح بن جني في كتاب الخصائص الذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة لا حذفها البتة وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القراء الذي رووه ساكنا، قال: ولم يؤت القوم في ذلك من ضعف أمانة لكن أتوا من ضعف دراية، قال الشيخ في شرحه: وقد ثبت الإسكان عن أبي عمرو، والاختلاس معا، ووجه الإسكان أن من العرب من يجتزى بإحدى الحركتين عن الأخرى قال: وقد عزا الفراء ذلك إلى بني تميم وبني أسد وبعض النجديين، وذكر أنهم يحققون مثل:"يأمركم" فيسكنون الراء لتوالي الحركات.

قلت: وكان الناظم رحمه الله مائلا إلى رواية الاختلاس، وهو الذي لا يليق بمحقق سواه، فقال: وكم جليل أي كثير من الشيوخ الجلة جلوا الاختلاس عن الدوري، وكشفوه، وقرروه، وعملوا به، ومختلسا حال من الدوري أي جلا عن مذهبه في حال اختلاسه، ونسب الناظم ذلك إلى الدوري، وهو محكي عن أبي عمرو نفسه كما نسب إبدال الهمز الساكن إلى السوسي، وهي محكي عن أبي عمرو كما سبق، وسبب ذلك أن رواية الرقيين هي رواية السوسي ومن وافقه، ورواية العراقيين هي رواية الدوري وأضرابه قال أبو علي الأهوازي ومعنى الاختلاس أن تأتي بالهمز وبثلثي حركتها فيكون الذي تحذفه من الحركة أقل مما تأتي به قال: ولا يؤخذ ذلك إلا من أفواه الرجال.

قلت: وقراءة الباقين بإشباع الكسر في: {بَارِئِكُمْ} .

وإشباع الضم في البواقي.

فإن قلت: من أين يؤخذ ذلك؟

قلت: ما بعد: {بَارِئِكُمْ} قد لفظ به مضموما فهو داخل في قوله: وباللفظ أستغني عن القيد إن جلا

وقد سبق في شرح الخطبة أن قوله وإسكان: {بَارِئِكُمْ} لا يفهم منه القراءة الأخرى؛ فإنه ليس ضد السكون الكسر، ولو حصل التلفظ بالكسر لصار كالذي بعده، ولو قال: وبارئكم سكن لاستقام وقوله: له أي لأبي عمرو.

فإن قلت: لِمَ لَمْ يكن رمزًا لهشام كما قال في موضع آخر بخلف له، ولا يكون له ثوى، قلت له لفظ صريح حيث يكون له ما يرجع إليه كهذا المكان وإن لم يكن له ما يرجع إليه فهو رمز، وعلامة ذلك اقترانه في الغالب برمز آخر معه ومتى تجرد وكان له ما يرجع فحكمه حكم الصريح وقوله: تلا ليس برمز وهو مشكل؛ إذ لا مانع من جعله رمزًا، ويكون إسكان يأمرهم وما بعده للدوري عن

ص: 326

الكسائي، وكان ينبغي أن يحترز عنه بأن بقوله: وتأمرهم حلا أو غير ذلك مما لم يوهم رمزا لغير أبي عمرو وأما جلا فظاهر أنه ليس برمز لتصريحه بالدوي والله أعلم.

454-

وَفِيهَا وَفِي الأَعْرَافِ نَغْفِرْ بِنُونِهِ

وَلَا ضَمَّ وَاكْسِرْ فَاءه [حِـ]ـينَ [ظَـ]ـلَّلَا

فيها يعني في البقرة: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} 1، ولا ضم يعني الفتح في النون فتأخذ للغير بالضم وفتح الفاء وضد النون الياء ووجه النون أن قبله:{وَإِذْ قُلْنَا} ، فهي نون العظمة، فأشار بقوله: حين ظللا إلى أنهم في ظل غفرانه سبحانه وتعالى:

455-

وَذَكِّرْ هُنَا "أَ"صْلًا وَلِلشَّامِ أَنَّثُوا

وَعَنْ نَافِعٍ مَعْهُ في الأعْرَافِ وُصِّلا

ذكر في هذا البيت مذهب من بقي وهو نافع وابن عامر فقراءة نافع هنا على الضد من قراءة الجماعة بضم الياء وفتح الفاء وقراءته في الأعراف كقراءة ابن عامر في الموضعين: بضم التاء المثناة من فوق وهو معنى قوله أنثوا وقوله: وذكر أي اجعل موضع النون ياء مثناة من تحت، وقد تقدم أن التأنيث غير الحقيقي يجوز فيه التذكير، فلهذا قال: أصلا؛ لأن الخطايا راجعة إلى معنى الخطأ ونافع يقرأ في الأعراف: "خطيئتكم"2 على جمع السلامة ففيه تاء التأنيث لفظا، فترجح اعتبار التأنيث، فلهذا أنث فيها، وفي البقرة يقرأ:"خطايا" وهو جمع تأنيثه معنوي، فضعف أمر التأنيث فذكر، وابن عامر أنث اعتبارا للمعنى، وهو في الأعراف آكد؛ لأنه يقرأ فيها بالإفراد:"خطيئتكم".

والضمير في "وصلا" راجع إلى التأنيث المفهوم من قوله: أنثوا؛ أي وصل التأنيث إلينا بالنقل عن نافع مع ابن عامر في الأعراف.

456-

وَجَمْعًا وَفَرْدًَا فِي النَّبِيءِ وَفي النُّبُو

ءَةِ الهَمْزَ كُلٌّ غَيْرَ نَافِعٍ ابْدَلا

جمعا وفردا حالان من "النبيء"، والهمز مفعول أبدل وتقدير البيت: كل القراء غير نافع أبدل الهمزة في لفظ النبيء مجموعا ومفردا فالمجموع نحو: "الأنبياء""والنبيين" و"النبيون".

والمفرد نحو: النبيء "ونبيء" ونبيئا وفي لفظ: "النبوءة" أيضا يريد قوله تعالى:

1 آية: 58.

2 آية: 161.

ص: 327

{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} .

فلهذا كانت في البيت منصوبة على الحكاية وفي تقدم حال المجرور عليه خلاف عند النحويين فإن كان جائزا فإعراب جمعًا وفردًا على ما ذكرناه، وإن لم يكن جائزا كان ذلك منصوبا بفعل مضمر؛ أي وخذ جمعا وفردا في لفظ -النبيء-أو دونك ذلك، ثم بين ما يفعل به، فقال: أبدل كل القراء الهمز فيه غير نافع؛ يعني أن أصل هذه اللفظة الهمز؛ لأنه من أنبأ إذا أخبر ثم فعل فيه بطريق تخفيف الهمز ما يفعله حمزة في نحو: "خَطِيئَةً"، "قُرُوءٍ"، و"لِئَلَّا" من البدل الإدغام في نبيء و"نبوة" ومن البدل في "أنبيا" أبدلت الهمزة الأولى ياء والأصل الهمز كما قال العباس بن مرداس:

يا خاتم النبئاء إنك مرسل

فلما جمعه على فعلاء ظهرت الهمزتان ولما جمع على أفعلاء أبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها فعلى هذا القراءتان بمعنى واحد؛ لأن الهمز وإبداله لغتان؛ لأن لغة الإبدال هي الفصيحة الفاشية حتى أن بعض النحاة رحمهم الله يقول: التزمت العرب الإبدال في "النبي" و"البرية"، وقال أبو علي في الحجة: قال سيبويه: بلغنا أن قوما من أهل التحقيق يخففون "نبي" و"برية"، قال: وذلك رديء، قال: وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف على وجه البدل من الهمز، وذلك الأصل كالمرفوض.

قلت: وقيل إن قراءة الجماعة يجوز أن تكون من نبا ينبو إذا ارتفع والنباوة الرفعة فلا يكون في الكلمة همز والأول أصح لمجيء الهمز فيه فيكون "النبيء" فعيلا بمعنى مفعول بمعنى أنه مخبر من جهة لله تعالى بما لا يخبر به غيره صلوات الله على جميع الأنبياء وسلامه.

قال أبو عبيد: الجمهور الأعظم من القراء، والعوام على إسقاط الهمز من "النبي" و"الأنبياء" والنبيين في كل القرآن وكذك أكثر العرب مع حديث رويناه مرفوعًا إن كان حفظ: حدثنا محمد بن ربيعة عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيء الله فقال: "لست بنبيء ولكني نبي الله"، قال أبو عبيد: ومعناه أنه أنكر عليه الهمز، وقال لي أبو عبيدة: العرب تترك الهمز في ثلاثة أحرف: "النبي" و"البرية" والخابية، وأصلهن جميعا الهمز، قال أبو عبيد: وفيها حرف آخر رابع: "الذرية" وهو من قوله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} .

قلت: سأذكر إن شاء الله تعالى شرح هذه الأربعة الأحرف في شرح ما نظمته في النحو، وأما هذا الحديث الذي ذكره أبو عبيد، فقد أوله شيخنا أبو الحسن رحمه الله في شرحه بعد أن قال: إنه غير صحيح الإسناد، وقد أخرجه الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه المستدرك، فقال: حدثني أبو بكر أحمد بن العباس بن الإمام المقرئ حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا خلف بن هشام حدثني الكسائي حدثني حسين الجعفي عن حمزان ابن أعين عن أبي الأسود الدؤلي عن أبي ذر قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قلت: ولا يظهر لي في تأويله إلا ما قاله أبو عبيد: إنه أنكر عليه الهمز؛ لأن تخفيفه هو اللغة الفحيحة،

ص: 328

وما أول الشيخ به الهمز لا ينفيه تخفيفه فإن "النبي" سواء كان من الإخبار أو غيره فتخفيف همزه جائز أو لازم والله أعلم.

457-

وَقَالُونُ فِي الأَحْزَابِ فِي لِلنَّبيِّ مَعْ

بُيُوتَ النَّبيِّ اليَاءَ شَدَّدَ مُبْدِلا

يريد قوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} ، خالف قالون أصله في الهمز في هذين الموضعين فقرأهما كالجماعة اعتبارا لا أصل له آخر، تقدم في باب الهمزتين من كلمتين لأجل أن كل واحد من هذين الموضعين بعده همزة مكسورة، ومذهبه في اجتماع الهمزتين المكسورتين أن يسهل الأولى إلا أن يقع قبلها حرف مد، فتبدل، فيلزمه أن يفعل ههنا ما فعل في:"بِالسُّوءِ إِلَّا"؛ أبدل ثم أدغم غير أن هذا الوجه متعين هنا لم يرو غيره، وهذا يفعله قالون في الوصل دون الوقف؛ لأن الوقف لا يجتمع فيه الهمزتان فإذا وقف وقف على همزة لا على ياء، وقد أشار صاحب التيسير إلى ذلك حين قال، وترك قالون الهمز في قوله في الأحزاب:{لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ} 1، و {بُيُوتَ النَّبِيِّ} 2 إلا في الموضعين في الوصل خاصة على أصله في الهمزتين المكسورتين.

458-

وَفي الصَّابِئِينَ الهَمْزَ وَالصَّابِئُونَ خُذْ

وَهُزْؤًا وَكُفْؤًا في السَّوَاكِنِ "فُـ"ـصِّلا

أي خذ الهمز فيهما؛ لأنه الأصل، وروي الهمز رفعا على الابتداء، أي وفي "الصابئين" في البقرة والحج3، وفي "الصابئون" في المائدة4 الهمز، ثم قال: خذ أي خذ ما ذكرت بنية واجتهاد، يقال: صبأ يصبأ إذا خرج من دين إلى آخر، وأبدل نافع الهمز فكأنه من صبا بلا همز كرمى ورعى، فقرأ "الصابون" و"الصابين" كقولك الداعون والداعين، ومثل هذا البدل لا يكون إلا سماعا؛ لأنه همز متحرك بعد متحرك فهو كما قرئ:{سَأَلَ سَائِلٌ} بالهمز وبالألف كما يأتي فاجتمع في قراءة نافع همز "النبي" وترك همز "الصابئين" والعكس الذي هو قراءة الجماعة أفصح وأولى، وهذا نحو مما مضى في قراءة ورش ترقيق الراءات وتغليظ اللامات، وأسند أبو عبيد عن ابن عباس أنه قال: ما "الخاطون" إنما هي "الخاطئون"، ما "الصابئون" إنما هي "الصابون"، قال أبو عبيد: وإنما كرهنا ترك الهمزة ههنا؛ لأن من أسقطها لم يترك لها خلفا بخلاف "النبيين" وقرأ حمزة وحده: "هزؤا"، و"كفؤا" بإسكان الزاي والفاء تخفيفًا، والأصل الضم وهو قراءة الجماعة، وقيل: هما لغتان ليست إحداهما

1 آية: 50.

2 آية: 53.

3 البقرة آية: 62، والحج آية:17.

4 آية: 99.

ص: 329

أصلا للأخرى. قال مكي: حكى الأخفش عن عيسى بن عمر قال: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان التخفيف والتثقيل وقوله: في السواكن فصلا أي ذكرا في السواكن مفصلين أي عدا من جملة الأسماء التي سكن وسطها نحو قفل وشكر وكفر ثم ذكر قراءة الجماعة فقال:

459-

وَضُمَّ لِبَاقِيهِمْ وَحَمْزَةُ وَقْفُهُ

بِوَاوٍ وَحَفْصٌ وَاقِفاً ثُمَّ مُوصِلا

يجوز في ضم.

هنا أن يكون أمرًا وأن يكون ماضيًا لم يسم فاعله، ورسمت الهمزة في هاتين الكلمتين بواو، فوقف حمزة عليهما بالواو إتباعا للرسم مع كونه يسكن الوسط فهو يقول:"هزوا" و"كفوا".

على وزن جزؤا، ولم يفعل مثل ذلك في جزأ، وإن كان يسكن زايه أيضا؛ لأن الهمزة في جزأ لم ترسم واوا فيقف على ما تمهد في باب وقفه على الهمز بنقل حركة الهمزة إلى الزاي الساكنة فيقول:"جُزًا".

على وزن هدى ومثل ذلك جارٍ في: "هزؤًا"، و"كفؤًا" قياسا وقل من ذكره هنا، قال صاحب التيسير: قراءة حمزة بإسكان الزاي والفاء وبالهمز في الوصل، فإذا وقف أبدل الهمز واوًا؛ اتباعًا للخط وتقديرا لضمة الحرف المسكن قبلها يعني فلهذا لم ينقل حركة الهمز إلى الساكن، وقال مكي: وقف حمزة ببدل واو من الهمزة على غير قياس تباعًا لخط المصحف قال: وأما جزأ فكل القراء يسكن إلا أبا بكر؛ فإنه ضم الزاي، ووقف حمزة بإلقاء الحركة على الزاي يقول:"جُزًا" على الأصل المتقدم، وقال في الكشف: كلهم همز في: "هزوًا"، و"كفوًا" إلا حفصا؛ فإنه أبدل من الهمزة واوا مفتوحة على أصل التخفيف؛ لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل كقوله:"السفهاء إلا" في قراءة الحرميين، وأبو عمرو، وكذلك يفعل حمزة إذا وقف كأنه يعمل الضمة التي كانت على الزاي والفاء في الأصل قال: وكان يجب عليه على أصل التخفيف لو تابع لفظه أن يلقى حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها كما فعل في "جزأ" في الوقف فكان يجب أن يقول: "كفا"، و"هزا"، لكنه رفض ذلك؛ لئلا يخالف الخط فأعمل الضمة الأصلية التي كات على الزاي والفاء في الهمزة، فأبدل منها واوا مفتوحة؛ ليوافق الخط ثم تأتي بالألف التي هي عوض من التنوين بعد ذلك فقوله: وحفص مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: وحفص يقرأ بالواو في حال وقفه، وإيصال الكلمة إلى ما بعدها، يقال: وصلت الشيء بالشيء وأوصلته إليه أي بلغته إليه وألصقته به، والمستعمل في مقابلة الوقف هو الوصل لا الإيصال، ولكنه عدل عن واصلا إلى موصلا كراهة السناد في الشعر؛ فإنه عيب؛ لأن هذا البيت كان يبقى مؤسسًا بخلاف سائر أبيات القصيدة، وإنما أبدل حفص هذه الهمزة واوا لأنها همزة مفتوحة قبلها ضم أراد تخفيفها وهذا قياس تخفيفها على باب ما سبق في باب وقف حمزة وانفرد حفص بهذه القراءة؛ لأن كل من ضم الفاء لا يبدل هذه الهمزة: أما السوسي فلأنها

ص: 330

متحركة وأما ورش فلأنها لام الفعل وأما هشام في الوقف فلأنها متوسطة، وأما حمزة فإنه وإن أبدل فإنه لم يضم الزاي والفاء، ومن شأن حفص تحقيق الهمزة أبدا، وإنما وقع له الإبدال في هاتين الكلمتين، وسهل "أعجمي" جمعا بين اللغات ومن عادته مخالفة أصله في بعض الكلم كصلته:"فِيهِ مُهَانًا"، وإمالته:"مجراها"، ولم يصرح الناظم بقراءة حفص هنا، وحذف ما هو المهم ذكره، ولو أنه قال في البيت الأول:"وهزؤا""وكفؤا" ساكنا الضم فصلا لاستغنى عن قوله: وضم لباقيهم، ثم يقول بدل البيت الثاني:

وأبدل واوا حمزة عند وقفه

وحفص كذا في الوصل والوقف أبدلا

ورأيت في بعض النسخ وهو بخط بعض الشيوخ ومنقول من نسخة الشيخ أبي عبد الله القرطبي رحمه الله ومقروءة عليه ومسموعة من لفظه عوض هذا البيت:

وفي الوقف عنه الواو أولى وضم غيـ

ـره ولحفص الواو وقفا وموصلا

وكتب عليهما معا، ورأيت في حاشية نسخة أخرى مقروءة على المصنف هذا البيت يتفق مع وضم لباقيهم في المعنى ومخالفة في اللفظ وخير المصنف بينهما؛ لأن كل واحد منهما يؤدي معنى الآخر.

قلت: وهذا البيت أكثر فائدة لبيان قراءة حفص فيه، والتنبيه على أن أصل حمزة في الوقف يقتضى وجهًا آخر وهو نقل الهمز وإنما إبداله واوا أولى من جهة النقل وإتباع الرسم على أن أبا العباس المهدوي قال في شرح الهداية: الأحسن في "هزوا" و"كفوا" أن يلقي حركة الهمزة على الزاي والفاء كما ألقيت في "جزأ" والله أعلم.

460-

وَبِالغَيْبِ عَمَّا تَعْمَلُونَ هُنَا "دَ"نَا

وَغَيْبُكَ في الثَّانِي "إ"لَى "صَـ"ـفْوَهِ "دَ"لا

هنا أي بعد هزؤا وهو قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} 1. ودنا أي: دنا مما فرغنا منه يعني: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} ، {أَفَتَطْمَعُونَ} . ووجه الغيب قطعه عن الأول واستئناف أخبار عنهم ولهذا قال بعده: {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} .

ووجه الخطاب رده على قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} ، ويعني بالثاني:{عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ} . ووجه الغيب فيه ظاهر وهو موافقة ما قبله وما بعده، ولهذا قال: إلى صفوه دلا أي أخرج دلوه ملأى بعد أن أدلاها إلى صفوه، وقيل: دلوت الدلو، وأدليتها بمعنى، وهذه عبارة حلوة شبه هذه القراءة بماء صاف

1 سورة البقرة، آية:67.

ص: 331

أرسل القارئ إليه آنية فاستخرجها وافية الامتلاء يشير إلى اختياره على ما هو أهل للاختيار ووجه الخطاب رده على قوله: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} ، وفاعل قوله دنا ضمير:{عَمَّا يَعْمَلُونَ} ، وفاعل دلا ضمير قوله وغيبك والله أعلم.

461-

خَطِيئَتُهُ التَّوْحِيدُ عَنْ غَيْرِ نَافِعٍ

وَلَا يَعْبُدُونَ الغَيْبُ "شَـ"ـايَعَ "دُ"خْلَلا

لم يأت بواو فاصلة بين هاتين المسألتين؛ لأن قوله خطيئته لا يلتبس أنه رمز؛ لأنه رمز لنافع فيما قبله، ولأنه من لفظ القرآن، وهو في البيت مبتدأ والتوحيد صفته على معنى ذو التوحيد أو يكون مبتدأ ثانيا أي التوحيد فيه كقولهم: السمن منوان بدرهم، ولو قال "خطيئاته" وحده عن غير نافع لكان لأحسن؛ لأن فيه التلفظ بقراءة وتقييد أخرى ولئلا يوهم أن قراءة نافع بجمع التكسير كما قرئ شاذا "خطايا" والتوحيد في مثل هذا يفيد معنى الجمع كقوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} ، ووجه الجمع ظاهر لأن الذنوب متعددة وفي الإفراد موافقة قوله قبله:{مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ؛ أي وأحاطت به تلك السيئة وقيل في قراءة الجمع: إن المراد بالسيئة الشرك فيبقى على موازنة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

فالمعنى: من أشرك وعمل السيئات والله أعلم، وقوله: شايع؛ أي تابع والدخلل الذي يداخلك في أمورك وهو حال من الضمير في شايع، والضمير عائد على الغيب، أو على يعبدون؛ فإن عاد على الغيب كان يعبدون مبتدأ والغيب مرفوع على أنه مبتدأ ثانٍ، أو بدل منه بدل اشتمال نحو: زيد ثوبه حسن أي الغيب فيه تابع ما قبله وهو قوله: {مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} ؛ أي تابعه في حال كونه دخللا: أي ليس بأجنبي ويجوز أن يكون دخللا مفعولا على هذا أي تابع دخيلا له، وهو ما قبله من الغيبة، وإن عاد الضمير على "يعبدون" كان الغيب مفعولا به أي تابع الغيب فيكون الغيب منصوبا ودخللا حال، ووجه الخطاب أن بعده:"وقولوا للناس" وهو حكاية حال الخطاب في وقته، ولهذا يقال: قلت لزيد: لا تضرب عمرا بالياء والتاء، وهو نهي بلفظ الخبر كما يجيء الأمر كذلك نحو "والمطلقات يتربصن".

ص: 332

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} ، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} في سورة الصف1، ونحو القراءتين هنا ما يأتي في آل عمران:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} ، بالياء والتاء2، فالخطاب كقوله تعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا} ، والغيب كقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} وذلك قريب من قولهم يا تميم كلكم ويا تميم كلهم بالخطاب والغيب نظرا إلى النداء وإلى الاسم:

462-

وَقُلْ حَسَنًا "شُـ"ـكْرًا وَحُسْنًا بِضَمِّهِ

وَسَاكِنِهِ الْبَاقُونَ وَاحْسِنْ مُقَوِّلا

شكرا حال أو مفعول له أي لأجل شكر الله أي اشكر نعمة الله بسبب ما يصدر منك من القول الحسن، ثم بيَّن قراءة الباقين وقيدها بالضم والإسكان، ولزم من ذلك تقييد القراءة الأخرى، وإن كان لفظها قد جلا عنها؛ لأن الضم ضده الفتح والإسكان ضده التحريك المطلق، والتحريك المطلق هو الفتح وكان يمكنه جعل هذا البيت والذي بعده واحدا فيقول:

وقل حسنا شكرا وحسنا سواهما

وتظاهروا تظاهرا خف ثملا

ويكون حذف النون للضرورة كقوله: قل فطرن في هود، ولم يقرأ أحد بحذف الياء وإسكان النون، ثم لو قال وإسكانه الباقون أو وتسكينه لكان أولى من قوله: وساكنه ليعطف مصدرا على مصدر ولا يصح ما ذكر إلا بتقدير بذي ضمه وساكنه أي بالمضموم والساكن، وقوله: بضمه وإسكانه أخصر وأولى وأوضح معنى، والقراءتان بمعنى واحد كلا اللفظين نعت مصدر محذوف أي وقولوا للناس قولا حُسْنا وقولا حَسَنا هذا إن قلنا هما لغتان كالرُّشْد والرَّشَد والبُخْل والبَخَل والحُزْن والَزَن وإن قلنا الحُسْن بالضم والإسكان مصدر فتقديره قولا ذا حسن، ومقولا أي ناقلا؛ لأن الناقل يقول غيره ما ينسبه إليه أي أحسن في نقلك وتوجيه ما تنقله من هذه القراءات ونصبه على التمييز كقولك: لله دره فارسا، وحسبك به ناصرا؛ لأن النسبة في المعنى إلى مصادر هذه المنصوبات أي لله در فروسيته، وحسبك نصرته وليحسن تقويلك وأداؤك لهذه الوجوه من القراءات في نسبتها إلى أربابها والله أعلم.

463-

وَتَظَّّاهَرُونَ الظَّاءُ خُفِّفَ "ثَـ"ـابِتًا

وَعَنْهُمْ لَدَى التَّحْرِيمِ أَيْضًا تَحَلَّلا

أي الظاء فيه خفف، وثابتًا: حال أي في حال ثبوته والتقدير تخفيفا ثابتا فهو نعت مصدر محذوف،

1 آية: 11.

2 آية: 13.

ص: 333

وتحللا من الحلول أو التحليل أي وحل التخفيف عنهم أيضا في سورة التحريم في قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} ، والذي هنا:"تظاهرون عليهم بالإثم"، ووجه القراءتين ظاهر الأصل تتظاهرون وتتظاهرا فمن شدد أدغم التاء في الظاء ومن خفف حذف إحدى التاءين وأيتهما المحذوفة فيه اختلاف لأهل العربية، وسيأتي له نظائر كثيرة، وقابل بين لفظي التحريم، وقوله: تحللا وهو اتفاق حسن والله أعلم.

464-

وَحَمْزَةُ أَسْرى فِي أُسَارى وَضَمُّهُمْ

تُفَادُوهُمُو وَالمَدُّ "إِ"ذْ "رَ"اقَ "نُـ"ـفِّلا

أي وقراءة حمزة: أسرى أو حمزة يقرأ أسرى في موضع أسارى فلفظ بالقراءتين فلم يحتج إلى تقييد، وأسرى جمع أسير كقتيل وقتلى وأسارى، قيل أيضا: جمع أسير كقديم وقدامى، وقيل جمع جمع ككسلان لما جمعهما لمعنى وهو عدم النشاط فكما قالوا: كسالى قالوا: أسارى، وقيل: هو جمع أسرى وفداه وفاده واحد وقيل: معنى المفاعلة محقق في فاد، وقوله: وضمهم يعني في التاء، والمد: يعني به الألف ويلزم من ذلك فتح الفاء، والباقون بفتح التاء والقصر وإسكان الفاء، ولو قال:

أسارى قلَ اسرى فز وضم محرّكا

لتفدوهم والمد إذ رق نفلا

لحصلت قيود القراءتين، وراق الشراب: أي صفا، وراقني الشيء: أعجبني، ونفل: أي أعطى النفل وهو الغنيمة يشير بذلك إلى ظهور معنى القراءة يريد قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} .

465-

وَحَيْثُ أَتَاكَ القُدْسُ إِسُكَانُ دَالِهِ

"دَ"وَاءٌ وَلِلبَاقِينَ بِالضَّمِّ أُرْسِلا

إنما كان إسكان داله دواء؛ لأنه أخف، وهما لغتان؛ الضم لأهل الحجاز والإسكان لتميم، وإنما احتاج إلى بيان قراءة الباقين؛ لأن الإسكان المطلق ضده الفتح لا الضم وأرسل أي طلق، ومرفوعه ضمير القدس أو الدال، وحيث متعلق بالإسكان وتقديمه على عامله، وهو مصدر من باب الاتساع في الظروف، وقد نص على جوازه غير واحد من المحققين، وكأن الناظم رحمه الله كان يرى ذلك فقد تكرر ذلك في نظمه، وقد سبق في قوله: وإن تزد لربك تنزيها وكان يمكنه أن يحترز هنا عن ذلك بأن يقول وإسكان دال القدس في كل موضع دواء.

466-

وَيُنْزِلُ خَفِّفْهُ وَتُنْزِلُ مِثْلُهُ

وَتُنْزِلُ "حَقٌّ" وَهْوَ في الحِجْرِ ثُقِّلا

التخفيف في هذا والتشديد لغتان، وقيل في التشديد دلالة على التكثير والتكرير، وبناء فعل يكون كذلك غالبا وأنزل ونزل واحد في التعدية، وأنزل أكثر استعمالا في القرآن، ويدل على أن نزل المشدد في معنى أنزل إجماعهم على قوله تعالى:{لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} ، وإنما كرر الناظم هذه الألفاظ الثلاثة؛ لأن مواضع الخلاف في القراءتين لا يخرج عنها من جهة أن أوائل

ص: 334

الأفعال لا تخلو من ياء أو تاء أو نون، وقوله وهو عائد على آخر الألفاظ الثلاثة المذكورة وهو ننزل؛ لأن الذي في الحجر موضعان أحدهما لحمزة والكسائي وحفص:{مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} 1، والآخر لجميع القراء وهو قوله:{وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 2.

وفي هذا البيت نقص في موضعين: أحدهما أن الألفاظ التي ذكرها لا تحصر مواضع الخلاف من جهة أن مواضع الخلاف منقسمة إلى فعل مسند للفاعل كالأمثلة التي ذكرها وإلى أمثلة مسندة للمفعول ولم يذكر منها شيئا نحو: {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} ؛ فضابط مواضع الخلاف أن يقال كل مضارع من هذا اللفظ ضم أوله سواء كان مبنيا للفاعل أو للمفعول وقوله ضم أوله احترازا من مثل قوله: {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، وبذلك ضبطه صاحب التيسير فقال: إذا كان مستقبلا مضموم الأول وكذا قال مكي وغيره: الموضع الثاني الذي في الحجر لم يبين من ثقله، وليس في لفظه ما يدل على أن تثقيله لجميع القراء؛ إذ من الجائز أن يكون المراد به مثقل لحق دون غيرهما خالفا أصلهما فيه كما خالف كل واحد منهما أصله فيما يأتي في للبيت الآتي، وصوابه لو قال:

وينزل حق خفه كيفما أتى

ولكنه في الحجر للكل ثقلا

وهذا اللفظ يشمل الموضعين في الحجر؛ لأن الأول وإن اختلفت القراءات فيه مشدد للجميع، على ما يأتي بيانه في سورته أو يقول ننزله في الحجر للكل ثقلا فينص على ما يوهم أنه مختلف فيه ولا حاجة إلى التنبيه على الموضع الآخر؛ لأن ذلك سيفهم من ذكره في سورته، وقلت أيضا في نظم بدل هذا البيت وما بعده في هذه المسألة ثلاثة أبيات ستأتي إن شاء الله.

467-

وَخُفِّفَ لِلْبَصْرِي بِسُبْحَانَ وَالَّذِي

في الَانْعَامِ لِلْمَكِّي عَلَى أَنْ يُنَزِّلا

خالف أبو عمرو أصله في الأنعام فثقل لأنه جواب قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ} .

وخالف ابن كثير أصله بسبحان وفيها موضعان وهما: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ} ، {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} 3.

1 آية: 8.

2 آية: 21.

3 الآيتان: 82 و93.

ص: 335

فثقل فيهما جمعا بين اللغتين وبين الذي في الأنعام بقوله: على أن ينزل فهو عطف بيان، ولو عكس فقال: وثقل للمكي بسبحان والذي في الأنعام للبصري لأوهم انفراد كل واحد منهما بذلك وليس الأمر كذلك.

468-

وَمُنْزِلُهَا التَّخْفِيفُ "حَقٌّ" شِفَاؤُهُ

وَخُفِّفَ عَنْهُمْ يُنْزِلُ الغَيْثَ مُسْجَلا

وافق حمزة والكسائي على تخفيف: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} 1 في المائدة، كقوله تعالى قبله:{رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً} ، وعلى تخفيف {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} في لقمان والشورى2؛ لقوله في غير موضع:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} .

ومسجلا: أي مطلقا، وهو نعت مصدر محذوف أي تخفيفا مطلقا ليعم الموضعين، وقلت أنا ثلاثة أبيات بدل هذه الثلاثة:

وينزل مضموم المضارع خفه

لحق على أي الحروف تنقلا

وخفف للبصري بسبحان والذي

في الَانعام للمكي وفي الحجر ثقلا

لكل وحق شاء منزلها وينـ

ـزل الغيث تخفيفا بحرفين أسجلا

469-

وَجِبْرِيلَ فَتْحُ الجِيمِ وَالرَّا وَبَعْدَهَا

وَعى هَمْزَةً مَكْسُورَةً "صُحْبَةٌ" وِلا

470-

بِحَيْثُ أَتَى وَاليَاءَ يَحْذِفُ شُعْبَةٌ

وَمَكِيُّهُمْ في الجِيمِ بالْفَتْحِ وُكِّلا

وعى: أي حفظ وهمزة مفعوله، وصحبة فاعله أي همزوا بعد فتحهم الجيم والراء وحذف أبو بكر الياء بعد الهمزة فقرأ:"جبرئل"، ولباقون أثبتوا الياء فقرأ حمزة والكسائي:"جبرءيل"، وابن كثير لم يفتح إلا الجيم وليس من أصحاب الهمز فقرأ:"جَبْرِيل"، والباقون بكسر الجيم والراء:"جِبْرِيل". وكل هذه لغات في هذا الاسم وفيه غير ذلك والله أعلم.

471-

وَدَعْ يَاءَ مِيكَاَئِيلَ وَالهَمْزَ قَبْلَهُ

"عَـ"ـلى "حُـ"ـجَّةٍ وَاليَاءُ يُحْذَفُ "أَ"جْمَلا

1 الآية: 115.

2 لقمان الآية: 34، والشورى آية:28.

ص: 336

أي حذف أبو عمرو وحفص الهمز فبقي: {مِيكَالَ} على وزن ميثاق وحذف نافع الياء وحدها فقرأ: "ميكائل"، والباقون أثبتوهما، وكل ذلك لغات فيه أيضا، وأجملا حال أو نعت مصدر محذوف أي حذفا جميلا، وفي ميكائيل ياءان الأولى بعد الميم والثانية بعد الهمزة، ودلنا على أنه أراد الثانية قوله: والهمز قبله فلما عرف ذلك أعاد ذكرها بحرف العهد فقال: والياء يحذف أجملا.

472-

وَلكِنْ خَفَيفٌ وَالشَّيَاطِينُ رَفْعُهُ

"كَـ"ـمَا "شَـ"ـرَطُوا وَالعَكْسُ "نَـ"ـحْوٌ "سَمَا" العُلا

أي كما شرط أهل العربية أن لكن إذا خففت بطل عملها فارتفع ما بعدها أي خفف ابن عامر وحمزة والكسائي [لكن] فلزم كسر النون لالتقاء الساكنين فقرءوا:

{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} .

ولم ينبه على حركة النون ولو نبه عليها وترك ذكر قراءة الباقين؛ لأنها تعلم من الضد كان أولى فيقول والنون بالكسر وكّلا أو وصّلا، فتكون قراءة الباقين تشديد النون وفتحها، ونصب الشياطين، وهذه أضداد ما تقدم ذكره وقوله: والعكس، نحو: يعني تشديد لكن ونصب الشياطين على أنه اسم لكن أي هذا أيضا وجه من وجوه علم النحو سما العلا أي طال العلا يعني أنه نحو رفيع أي ذلك وجه قوي أيضا وهو اختيار الفراء قال: تشديد لكن بعد الواو أوجه من تخفيفها وأفصح؛ لأنها إذا خففت صارت حرف عطف والواو حرف عطف، فلزم أن لا تعمل كسائر حروف العطف ونحو سما العلا رمز قراءة الباقين ولم يكن محتاجا إليه؛ فإنه لو قال: والعكس غيرهم تلا لحصل المراد واستعمل العكس بمعنى الضد الذي اصطلح عليه، وهذا كما قال في سورة الإسراء وفي مريم بالعكس: حق شفاؤه.

473-

وَنَنْسَخْ بِهِ ضَمٌّ وَكَسْرٌ "كَـ"ـفَى وَنُنْ

سِهَا مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ "ذَ"كَتْ "إِ"لَى

يعني ضم أوله وكسر ثالثه من أنسخ أي أمر بالنسخ، والنسخ: الإزالة، وقوله: كفى أي كفى ذلك في الدلالة على القراءتين لفظا وضدا فإن ضد الضم والكسر معا الفتح، ثم قال: وننسها مثله أي بضم أوله وكسر ثالثه أيضا وقد اتفق في الكلمتين أن المضموم فيهما حرف النون والمكسور حرف السين، وزاد في ننسها أن قال: من غير همز؛ لتأخذ الهمز في القراءة الأخرى، ومطلق الهمز لا يقتضي حركته فيقتصر على أقل ما يصدق عليه اسم الهمز وهو الإتيان بهمزة ساكنة فهو بلا همز من النسيان أي تذهب بحفظها من القلوب

ص: 337

وقيل: هو من نسيت الشيء إذا تركته وأنسيته أمرت بتركه أي نأمر بترك حكمها أو تلاوتها، فكل من هذه المعاني قد وقع فيما أنزل من القرآن، وقراءة الهمز من الإنساء الذي هو التأخير أي نؤخرها إلى وقت هو أولى بها وأصلح للناس أي نؤخر إنزالها، والضمير في ذكت للقراء وإلى واحد الآلاء وهو النعم، يقال المفرد بفتح الهمزة وكسرها وهو في موضع نصب على التمييز أو الحال أي ذات نعمة.

474-

عَلِيمٌ وَقَالُوا الوَاوُ الُاولَى سُقُوطُهَا

وَكُنْ فَيَكُونُ النَّصْبُ في الرَّفْعِ "كُـ"ـفِّلا

يعني أسقط ابن عامر الواو الأولى من "وقالوا" الذي قبله "عليم"، يعني قوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا"، احترز بتقييده عما قبله من قوله:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ} .

وهذه الواو التي أسقطها ابن عامر اتبع فيها مصاحف أهل الشام؛ فإنها لم ترسم فيها فالقراءة بحذفها على الاستئناف، ولأن واو العطف قد تحذف إذا عرف موضعها، وربما كان حذفها في أثناء الجمل أحسن، ولا سيما إذا سيقت للثناء والتعظيم ألا ترى إلى حسنه في قوله تعالى في أول سورة الرعد:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} 1، وفي قوله:{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، وقول الناظم: عليم، وقالوا هذا المجموع مبتدأ وقوله الواو الأولى بدل من المبتدأ بدل البعض وسقوطها بدل من الواو بدل الاشتمال ويجوز أن يكون الواو الأولى مبتدأ ثانيا أي الواو الأولى من هذا اللفظ وسقوطها مبتدأ ثالثا، واحترز بقوله الأولى من الواو التي بعد اللام، وقوله: وكن فيكون أيضا مبتدأ معطوف على المبتدأ الأول والنصب في الرفع مبتدأ ثانٍ لهذا المبتدأ أي النصب فيه في مواضع الرفع، وفي كفلا ضمير تثنية يرجع لى المبتدأين فهو خبر عنهما أي سقوط الواو الأولى من عليم، وقالوا: والنصب في الرفع من كن فيكون كفلا أي حملا فهو كما تقول زيد ثوبه وعمرو قميصه مسلوبان كأنك قلت قميص زيد وقميص عمرو مسلوبان ويجوز أن يكون خبر سقوطها محذوفا دل عليه قوله: كفلا الذي هو خبر النصب في الرفع فالألف في كفلا على هذا للإطلاق لا ضمير تثنية وجعلها ضمير تثنية أولى لترتبط المسألتان لقارئ واحد على ما هو غرض الناظم فإن هذا موضع ملبس؛ إذ لا مانع من أن تكون المسألة الأولى للرمز السابق في البيت الذي قبل هذا البيت فإنه لم يأت بينهما بواو فاصلة، وقد أتى بين هاتين المسألتين بواو فاصلة وهي قوله: وكن فيكون فيظهر كل الظهور التحاق المسألة الأولى بما تقدم وإذ كان قد ألحق قراءة:

1 الآية: 2.

ص: 338

"فتثبتوا".

بالرمز السابق في إشمام أصدق على ما سيأتي مع وجود الواو الفاصلة بينهما فإلحاق هذا يكون أولى وكذا قوله في الأنفال: "والنعاس" ارفعوا ولا هو لحق المرموز لقراءة: "يغشاكم".

فإن قلت قد جمع الناظم بين ثلاث مسائل لرمز واحد في قوله في آل عمران: "سنكتب" ياء ضم البيت فلا بعد في جمع مسألتين لرمز واحد.

قلتُ: ذلك البيت ليس فيه الإلباس المذكور فإنه ما ابتدأ به إلا بعد واو فاصلة قبله فلم يبق ما يوهم التحاقه بما قبله، وتعين أن يكون رمزه بعده، ولم يأت رمز إلا في آخر البيت فكان لجميع ما هو مذكور في البيت.

فإن قلت: ففيه واو في قوله: وقتل ارفعوا.

قلتُ: هو من نفس التلاوة في قوله تعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} .

ولو لم تكن من التلاوة لما أوهمت الفصل؛ إذ ما قبلها لا رمز له، فيكون لعطف مسألة على مسألة أي قراءة هذا وهذا فلان، وما أحسنه لو قال: عليم، وقالوا: الشام لا واو عنده ولا حاجة إلى الاحتراز عن الواو التي بعد اللام لبعد وهم ذلك، وكان البيت قد خلص من هذا البحث الطويل ففي النظر في وجه قراءة النصب في فيكون شغل شاغل، قال الزجاج: كن فيكون رفع لا غير من جهتين إن شئت على العطف على يقول وإن شئت على الاستئناف المعنى فهو يكون، وقال ابن مجاهد: قرأ ابن عامر: "كُنْ فَيَكُونَ" نصبا قال: وهذا غير جائز في العربية؛ لأنه لا يكون الجواب للأمر ههنا بالفاء إلا في: يس والنحل فإنه صواب، وذلك نسق في ذينك الموضعين لا جواب، وقال في سورة آل عمران قرأ ابن عامر وحده:"كُنْ فَيَكُونَ" بالنصب، قال: وهو وهم، وقال هشام: كان أيوب بن تميم يقرأ فيكون نصبا، ثم رجع فقرأ:

"فَيَكُونُ" رفعا، واعلم أن قراءة ابن عامر بالنصب مشكلة؛ لأن النصب بالفاء في جواب الأمر حقه أن ينزل منزلة الشرط والجزاء فإن صحَّ صحَّ، فتقول: قم فأكرمك أي: إن تقم أكرمتك، ولو قدرت هذا فيما نحن فيه فقلت: إن يكن يكن لم يكن مستقيما كيف وإنه قد قيل: إن هذا ليس بأمر على الحقيقة وإنما معناه أن لله إذا أراد شيئا أوجد مع إرادته له فعبر بهذه العبارة عنه فليس هذا مثل قم فتقوم، فقيل: جاز النصب لوجود لفظ الأمر ولا اعتبار بالمراد به، فلا يضر أن يكون المراد به غير ذلك قال أبو علي الفارسي:

ص: 339

أمَّا "كن"، فإنه وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر ولكن المراد به الخبر أي يكون فيكون: أي يوجد بإحدائه فهو مثل أكرم بزيد أي إنه أمر بمعنى الخبر قال: ومنه: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} ، والتقدير: مده الرحمن وبنى أبو علي على هذا أن جعل فيكون بالرفع عطفا على كن من حيث المعنى وضعف عطفه على يقول لأن من المواضع ما ليس فيه يقول كالموضع الثاني في آل عمران وهو: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

ولم ير عطفه على قال من حيث أنه مضارع فلا يعطف على ماض فأورد على نفسه عطف الماضي على المضارع في: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت فقال: أمرُّ بمعنى: مررت فهو مضارع بمعنى الماضي، فعطف الماضي عليه.

قلت: و"يكون" في هذه الآية بمعنى "كان" فليجز عطفه على قال: ثم قال أبو علي: وقد يمكن أن يقول في قراءة ابن عامر لما كان على لفظ لأمر وإن لم يكن المعنى عليه حمل صورة اللفظ قال: وقد حمل أبو الحسن نحو قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} .

على أنه أجرى مجرى جواب لأمر وإن لم يكن جوابا له في الحقيقة فكذلك قول ابن عامر: يكون قوله فيكون بمنزلة جواب الأمر نحو ائتني فأحدثك لما كان على لفظه.

475-

وَفي آلِ عِمْرَانٍ في الُاولَى وَمَرْيَمٍ

وَفِي الطَّوْلِ عَنْهُ وَهْوَ بِاللَّفْظِ أُعْمِلا

أي في الآية الأولى وهي التي بعد يكون فيها: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} 1؛ احترازا من الثانية، وهي التي بعدها:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} 2.

والتي في مريم بعدها: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} 3. والطول سورة غافر والتي فيها بعدها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} 4.

والضمير في عنه: لابن عامر، وقوله: وهو يعني النصب باللفظ أعملا أي اعتبر فيه لفظ الأمر،

1 آل عمران، آية:48.

2 آل عمران، آية:60.

3 مريم، آية:36.

4 غافر، آية:69.

ص: 340

لا حقيقته، فاستعمل "في" فيكون في هذه المواضع الأربعة، وإن لم يكن جوابا على الحقيقة، وقد اعتبرت المراعاة اللفظية في قوله:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا} ، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} ، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

وقال جرير: فقولا لحجاج يدع مدح كودن وقال عمر بن أبي ربيعة:

فقلت لجناد خذ السيف واشتمل

عليه برفق وارقب الشمس تغربِ

وأسرج لي الرجناء واعجل بممطري

ولا يعلمن خلق من الناس مذهبي

فجعل تغرب جوابا لقوله ارقب، وهو غير متوقف عليه، ولكنها معاملة لفظية.

476-

وَفي النَّحْلِ مَعْ يس بِالعَطْفِ نَصْبُهُ

"كَـ"ـفَى "رَ"اوِيًا وَانْقَادَ مَعْنَاهُ يَعْمُلا

هذان موضعان آخران إلا أن يقول: الذي قبله منصوب فيهما وهو: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، فالنصب في "فيكون" عطفا على "أن يقول"، فهذا معنى قوله: بالعطف نصبه، ثم قال: كفى راويا أي كفى راويه النصب في توجيهه، وانقاد معناه مشبها يعمل وهو الجمل القوي يعمل في السير، ولهذا تابع الكسائي ابن عامر في نصبهما وقد ذكر هذا التوجيه غير واحد من أئمة العربية والقراءة، ويؤيده أن قراءة الرفع في غير هذين الموضعين قد ذكر الزجاج وغيره أنها معطوفة على يقول المرفوع، فإن قلتَ: هذا مكل من جهة أخرى، وهي أنه يلزم منه أن يكون "فيكون" خبرا للمبتدأ الذي هو "قولنا" في النحل1، "وأمره" في يس2؛ لأن قوله:"أن يقول" خبر عنهما، فما عطف عليه يكون خبرا أيضا كما تقول: المطلوب من زيد أن يخرج فيقاتل، فيكون المطلوب منه أمرين هما الخروج والقتال وهذا المعنى لا يستقيم ههنا؛ لأن التقدير يصير إنما قولنا لشيء قول كن فيكون، فيؤول المعنى إلى إنما قولنا كون فهو كما ترى مشكل، وليس مثل قول علقمة: فإن المندّى رِحلةٌ فركوبُ لأن كل واحد منهما يصح أن يكون خبرا عن المندى على الجهة التي قصدها من التجويز، قلت: القول في الآية ليس المراد منه حقيقته كما سبق ذكره، وإنما عبر به عن سرعة وقوع المراد فهو لقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} .

فكأنه سبحانه قال: إذا أردنا شيئا وقع، ولم يتخلف عن الإرادة، فعبر عن ذلك بقول:"كن فيكون" فالعطف غير منافٍ لهذا المعنى فصح فهذه ستة مواضع وقع فيها قراءة النصب منها الموضعان الآخران نصبهما بالعطف والأربعة السابقة منصوبة على لفظ جواب الأمر، وبقي موضعان لم يختلف في رفعهما وهما الثاني في آل عمران3 وفي الأنعام4:

1 الآية: 40.

2 آية: 82.

3 آية: 47.

4 آية: 73.

ص: 341

{وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} .

وعلل ذلك بعضهم بأنه معطوف على ماضٍ لفظا في آل عمران وتقديرا في الأنعام والله أعلم.

477-

وَتُسْأَلُ ضَمُّوا التَّاءَ وَالَّلامَ حَرَّكُوا

بِرَفْعٍ "خُـ"ـلُودًا وَهْوَ مِنْ بَعْدِ نَفْيِ لا

يعني قوله تعالى: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، فقرأه الجماعة بعد لا النافية، فهذا معنى قوله: وهو من بعد نفي لا، والمعنى أنت غير مسئول عنهم، وقراءة نافع بجزم الفعل على النهي أي لا تسأل عنهم أي احتقرهم ولا تعدهم، وخلودا مصدر أي خلد ذلك خلودا وثبت واستقر، أو التقدير تحريكا ذا خلود والله أعلم.

478-

وَفيهاَ وَفي نَصِّ النِّساَءِ ثَلَاثَةٌ

أَوَاخِرُ إَبْرَاهَامَ "لَ"احَ وَجَمَّلا

وفيها يعني في سورة البقرة، وفي نص النساء أي وفيها نص الله سبحانه عليه في سورة النساء كما تقول في نص الشافعي كذا أي في منصوصه الذي نص عليه، ثم نضيف النص إلى محله فنقول في نص الأم كذا أي فيهما نص عليه الشافعي في كتاب الأم كذا، ولو قال: وفي آي النساء لكان أحسن وأظهر، وقوله: أواخر صفة لثلاثة وإبراهام مبتدأ وفيها متعلق بالخبر أي إبراهام لاح في سورة البقرة في جميع ما فيها من لفظ إبراهيم يقرؤه هشام إبراهام بالألف، وفي النساء ثلاثة مواضع كذا وهي أواخر ما فيها يعني:

{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} 1؛ احترازا من الأول وهو:{فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} 2؛ فقرأه هشام بالياء، وجعل بعضهم إبراهام بدلا من ثلاثة أواخر على حذف مضاف أي كلمات إبراهام، وجعل قوله وفيها خبر المبتدأ الذي هو قوله: ثلاثة أواخر إبراهام، وفي نص النساء عطف على الخبر، ويلزم من هذا الإعراب أن تكون الثلاثة الأواخر في البقرة وهو خطأ، والصواب في الإعراب ما قدمته والله أعلم.

ولا يفهم من القصيدة قراءة الجماعة؛ لأنه ليس في اصطلاحه أن ضد الألف الياء وإنما القراءة المشهورة أظهر من ذلك، وكان طريقه المعلومة من عادته في مثل ذلك أن يلفظ بالقراءتين معا، كقوله: وحمزة أسرى في أسارى سكارى معًا سكرى، وعالم قل علام، وليس ذلك من باب استغنائه باللفظ عن القيد؛ لأن الوزن يستقيم له على القراءتين ولو قال:

وفي ياء إبراهيم جا ألف وفي

ثلاث النساء آخرا لاح وانجلا

لحصل الغرض.

1 الآيتان: 125 و163.

2 آية: 54.

ص: 342

479-

وَمَعْ آخِرِ الأَنْعَامِ حَرْفَا بَرَاءَةٍ

أَخِيرًا وَتَحْتَ الرَّعْدِ حَرْفٌ تَنَزَّلا

وفي الأنعام لفظ إبراهيم في مواضع وقع الخلاف في آخرها، وهو قوله تعالى:{دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} 1.

وفي براءة أيضا مواضع الخلاف منها في حرفين من آخرها وهما: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ} و {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ} 2.

وتحت الرعد: يعني سورة إبراهيم فيها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ} 3.

وأخيرا ظرف أي وقفا أخيرا والله أعلم.

480-

وَفي مَرْيَمٍ وَالنَّحْلِ خَمْسَةُ أَحْرُفٍ

وَآخِرُ مَا فِي العَنْكَبُوتِ مُنَزَّلا

أي في مجموعهما خمسة؛ اثنان في النحل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} 4، وفي مريم ثلاثة:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} ، {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} ، {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} 5. وآخر ما في العنكبوت هو قوله تعالى:{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ} 6؛ احترازا مما قبله وهو: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} 7.

ومنزلا حال من ما وهي بمعنى الذي.

481-

وَفي النَّجْمَ وَالشُّورى وَفي الذَّارِيَاتِ وَالـ

ـحَدِيدِ وَيُرْوِي في امْتِحَانِهِ الأَوَّلا

يريد: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} ، {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} .

1 الآية: 116.

2 الآية: 114.

3 الآية: 35.

4 الآيتان: 119 و123.

5 الآيات: 41، 46، 58.

6 آية: 31.

7 آية: 16.

ص: 343

وفاعل يروي هو: هشام، والهاء في امتحانه تعود إلى القرآن للعلم به أو إلى لفظ إبراهيم؛ لأنه مذكور فيها، والأول مفعول يروي أي يروي الأول في سورة الممتحنة كذلك بالألف يعني:{أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} ؛ احترازا من قوله بعده: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} .

فجملة ما وقع فيه الخلاف ثلاثة وثلاثون موضعا منها خمسة عشر في البقرة، وإبراهيم لفظ أعجمي هو بالعبرانية بالألف، وتصرفت العرب فيه، فقالته بالياء، وجاء في أشعارهم إبراهيم ليس بين الهاء والميم حرف، وجاء أيضا إبراهيم بحذف الألف التي بين الراء والهاء، وحكى أبو علي الأهوازي عن الفراء فيه ست لغات: بالياء والألف والواو إبراهيم إبراهام إبراهوم، وبحذف كل واحد من هذه الحروف الثلاثة وإبقاء الحركة التي قبلها:"إبراهِم""إبراهَم""إبراهُم".

قال: وجملة ما في القرآن من لفظ إبراهيم تسعة وستون موضعا رواها كلها إبراهام بألف من غير استثناء شيء منها العباس بن الوليد عن عبد الحميد ابن بكار عن ابن عامر، وقرأتها كلها كذلك عن النوفل عن عبد الحميد عنه، ولم أقرأ عن العباس بن الوليد عنه كل ذلك إلا بالياء ثم ذكر في بعض الطرق الألف في الأحزاب والزخرف والأعلى قال: والمشهور عن أصحاب ابن عامر إثبات الألف في ثلاثة وثلاثين موضعا يعني ما تقدم نظمه، قال: وهو مكتوب في مصاحف الشام في ثلاثة وثلاثين موضعا بألف، وهو الذي قدمنا ذكره، وفي ستة وثلاثين موضعا بالياء، قال: ورأيت من يقول: بل مصاحف الأمصار الخمسة على ذلك، قال: وحدثني أبو بكر محمد ابن أحمد السلمي قال: قال لي أبو الحسن محمد النضر بن الأخرم: كان الأخفش يقرأ مواضع إبراهام بالألف، ومواضع إبراهيم بالياء، ثم ترك القراءة بالألف، وقال لي أبو بكر السلمي أيضا: قال لي أبو الحسن السلمي: كان أهل الشام يقرءون إبراهام بألف في مواضع دون مواضع، ثم تركوا القراءة بالألف وقرءوا جميع القرآن بالياء، قال أبو علي: وهي لغة أهل الشام قديما، كان قائلهم إذا لفظ إبراهيم في القرآن وغيره قال: أبراهام بألف، وقال أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي: دخلت بعض قرى الشام، فرأيت بعضهم يقول لبعض: يا إبراهام فاعتبرت ذلك فوجدتهم ما يعرفون غيره، قال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا محمد بن أسامة الحلبي -وكان كيسا حافظا- قال: حدثنا ضمرة عن علي عن أبي جميل عن يحيى بن راشد قال: صليت خلف ابن الزبير صلاة الفجر فقرأ: "صحف إبراهام وموسى"، قال أبو زرعة: وسمعت عبد الله بن ذكوان بحضرة المشايخ وتلك الطبقة العالية قال: سمعت أبا خليد القارئ يقول: في القرآن ستة وثلاثون موضعا إبراهام، قال أبو خليد: فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال: عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك، وقال أبو بكر بن مهران: روي عن مالك بن أنس أنه قيل له: إن أهل دمشق يقرءون إبراهام، فقال: أهل دمشق يأكل البطيخ أبصر منهم بالقراءة، فقيل: إنهم يدعون قراءة عثمان رضي الله عنه فقال

ص: 344

مالك ها مصحف عثمان عندي، ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق، قال أبو بكر: وكذلك رأيت أنا في مصاحفهم وكذلك هو إلى وقتنا هذا قال: وفي سائر المصاحف: {إِبْرَاهِيمَ} مكتوب بالياء في جميع القرآن إلا في البقرة فإن فيها بغير ياء، وقال مكي الألف لغة شامية قليلة، قال أبو الحسن محمد بن الفيض: سمعت أبي يقول: صلى بنا عبد الله ابن كثير القارئ الطويل فقرأ: "وإذ قال إبراهام لأبيه"1، فبعث إليه نصر بن حمزة -وكان الوالي بدمشق إذ ذاك- فخفقه بالدرة خفقات ونحاه عن الصلاة، قال الأهوازي: لعله جعل ذلك سببا لشيء كان في نفسه عليه والله أعلم وأحكم.

قلت: ويحتمل أنه فعل به ذلك؛ لكون هذا الموضع ليس من المواضع المذكورة المعدودة ثلاثة وثلاثون أو لأنه لما ترك أهل الشام ذلك استغرب منه ما قرأ وخاف من تجرؤ الناس على قراءة ما ليس بمشهور في الصلاة، فأدبه على ذلك والله أعلم.

482-

وَوَجْهَانِ فِيهِ لاِبْنِ ذَكْوَانَ ههُنَا

وَوَاتَّخِذُوا بِالفَتْحِ عَمَّ وَأَوْغَلا

ههنا يعني في سورة البقرة ووجه تخصيصها بذلك اتباع الخط قال أبو عمرو الداني قال أبو عبد الله محمد بن عيسى عن نصير في سورة البقرة إلى آخرها في بعض المصاحف "إبراهم" بغير ياء وفي بعضها بالياء قال أبو عمرو: ولم أجد ذلك كذلك في مصاحف العراق إلا في البقرة خاصة قال: وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام، وقال أبو عبيد: تتبعت رسمه في المصاحف فوجدته كتب في البقرة خاصة بغير ياء، قلت لم يكتب في شيء من المصاحف الألف على وفق قراءة هشام، وإنما لما كتب بغير ياء أوهم أن الألف محذوفة؛ لأنها هي المعتاد حذفها كالألف التي بعد الراء في هذا الاسم، وفي "إسحاق" وفي "إسماعيل" وغير ذلك، ومن قرأ بالياء قال: كتابتها في أكثر المواضع بالياء دليل على أنها المحذوفة، وفي ذلك موافقة للغة الفاشية الصحيحة.

فهذا وجه الخلاف، وقوله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} يقرأ بكسر الخاء وفتحها، فهو بالكسر أمر وبالفتح خبر، وإنما جعل الفتح أعم؛ لأن الضمير يرجع إلى عموم الناس فيكون الفعل موجها إلى الأمم قبلنا نصا، وإلينا بطريق الاتباع لهم؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ وأما قراءة الكسر فتختص بالمأمورين، ويجوز أن يكون التقدير: وقلنا لهم: "اتخِذوا"، فيتحد العموم في القراءتين وهذا الوجه أولى وقوله: وأوغلا أي أمعن من الإيغال وهو السير السريع والإمعان فيه:

483-

وَأَرْنَا وَأَرْنِي سَاكِنَا الكَسْرِ "دُ"مْ "يَـ"ـدًا

وَفي فُصِّلَتْ "يُـ"ـرْوِي "صَـ"ـفًا "دَُ"رِّهِ "كُـ"ـلا

1 سورة الأنعام، آية:74.

ص: 345

اليد النعمة وهو في موضع نصب على التمييز أي دامت نعمتك أو يكون حالا أي دم ذا نعمة والسكون في هذين اللفظين حيث وقعا للتخفيف كقولهم في: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} ، {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ، {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ، {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} .

والذي في فصلت: {أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} 1، وافق على إسكانه أبو بكر وابن عامر والكُلا جمع كلية، والصفا ممدود وقصره ضرورة يشير إلى قوة القراءة؛ لأن الإسكان هنا في حركة البناء بخلافه في يأمركم ونحوه والله أعلم.

484-

وَأَخْفَاهُمَا "طَـ"ـلْقٌ وَخِفُّ ابْنِ عَامِرٍ

فَأُمْتِعُهُ أَوْصَى بِوَصّى "كَـ"ـمَا "ا"عْتَلا

الطلق: السمح يريد بالإخفاء الاختلاس الذي تقدم ذكره في: {بَارِئِكُمْ} و {يَأْمُرُكُمْ} ، وهو اللائق بقراءة أبي عمرو والضمير في أخفاهما لقوله:{وَأَرِنَا} و {أَرِنِي} .

وخف ابن عامر مبتدأ، والخبر فأمتعه، أي المخفف لابن عامر قوله تعالى:"فَأُمْتِعُهُ"، وقوله: أوصى بوصي أي يقرأ في موضع: "وصى""أوصى".

ومتع وأوصى ووصى: لغات كأنزل ونزل، وحسن تخفيف فأمتعه قوله بعده قليلا.

485-

وَفي أَمْ يَقُولُونَ الخِطَابُ "كَـ"ـمَا "عَـ"ـلا

"شَـ"ـفَا وَرَءُوفٌ قَصْرُ "صُحْبَتِهِ حَـ"ـلا

يريد قوله تعالى: "أم يقولون إن إبراهيم" وجه الخطاب أن قبله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} ، وبعده:{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} ، ووجه الغيبة أن قبله:{فَإِنْ آمَنُوا} .

1 الآية: 29.

ص: 346

أو يكون على الالتفات، ورؤف ورءوف لغتان، ولا يختص لخلاف في رءوف بما فيه هذه السورة فكان حقه أن يقول جميعا أو نحو ذلك وكان الأولى لو قال:

صحاب كفى خاطب تقولون بعد أم وكل رءوف قصر صحبته حلا

486-

وَخَاطَبَ عَمَّا يَعْمَلُونَ "كَـ"ـمَا "شَـ"ـفَا

وَلَامُ مُوَلِّيهَا عَلَى الفَتْحِ "كُـ"ـمِّلَا

يريد الذي بعده: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} ، وهو ملتبس بالذي في آخر الآية التي أولها:{أَمْ تَقُولُونَ} .

ولا خلاف في الخطاب فيها وإن اختلفوا في: {أَمْ تَقُولُونَ} ، وسببه أنه جاء بعد:{أَمْ تَقُولُونَ} ما قطع حكم الغيبة، وهو:{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} ، ويزيل هذا الالتباس كونه ذكره بعد رءوف، وذلك في آخر الآية التي بعد آية رءوف، فالخطاب للمؤمنين، والغيبة لأهل الكتاب، وفتح ابن عامر اللام من قوله:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} ، فانقلبت الياء ألفا، وإنما قال: كملا؛ لأن قراءة ابن عامر لا تحتاج إلى حذف مفعول أي لكل فريق وجهة هو موليها مبني لما لم يسم فاعله؛ لأن مولى بفتح اللام اسم مفعول وبكسرها اسم فاعل، فعلى قراءة الجماعة يحتاج مولى إلى مفعولين حذف أحدهما، والفاعل هو الله تعالى أو الفريق أي الله موليها إياهم أو الفريق موليها نفسه.

487-

وَفي يَعْمَلُونَ الغَيْبَ "حَـ"ـلَّ وَسَاكِنٌ

بِحَرْفَيْهِ يَطَّوَّعْ وَفي الطَّاءِ ثُقِّلا

يعني الذي بعده: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} ، الخطاب للمؤمنين، والغيبة لأهل الكتاب، والهاء في بحرفيه عائدة إلى يطوع أي وتطوع ساكن في موضعيه وهما:{أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} ، وقوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ، ويعني بالساكن العين؛ لأنه فعل مستقبل، فانجزم بالشرط، وعلامة الجزم هنا السكون، وإنما عدل عن لفظ الجزم إلى لفظ السكون، وكان لفظ الجزم أولى من حيث أن يطوع فعل مضارع معرب؛ لأن الجزم في اصطلاحه ضده الرفع، وضد السكون الحركة المطلقة، وهي في اصطلاحه الفتح، وهو المراد هنا في قراءة الباقين لا الرفع، فاستعمل اللفظ الموافق لغرضه مع أن الضد وهو الفتح حركة بناء، فلم يكن له بد من تسمح، وهذا كما يأتي في قوله: تضارر، وضم الراء حق، ونحوه وقراءة الجماعة على أن تطوع فعل ماضٍ

ص: 347

وتثقيل الطاء من أجل أن أصله على قراءتهم بتطوع، فأدغمت التاء في الظاء كما في قوله:{أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، ثم ذكر تمام القراءة وهو أن أولها يا موضع التاء فقال:

488-

وَفي التَّاءِ يَاءٌ "شَـ"ـاعَ وَالرِّيحَ وَحَّدَا

وَفي الكَهْفِ مَعْهَا وَالشَّرِيعَةِ وَصَّلا

كان ينبغي أن يبين بالتقييد لفظ التاء من لفظ الياء؛ فإنهما متفقان في الخط، وعادته بيان ذلك كقوله: بالثا مثلثا وكثيرا نقطة تحت نفلا فلو قال:

وفي التاء يا نقطها تحت وحد الر

ياح مع الكهف الشريعة شمللا

لاستغنى بالرمز آخر البيت للمسألتين كما تقدم في كفلا أي قرأ هاتين القراءتين من شملل أي أسرع وأراد: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ} . وفي الكهف: {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 1. وفي الجاثية: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} 2، قرأ حمزة والكسائي هذه المواضع الثلاثة بالتوحيد أي بلفظ الإفراد وهو: الريح، وهو بمعنى الجمع؛ لأن المراد الجنس وأجمعوا على توحيد ما جاء منكرا نحو: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} ، وعلى توحيد بعض المعرف نحو: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} ، والهاء في معها تعود إلى السورة التي نحن فيها وهي سورة البقرة.

489-

وَفي النَّمْلِ وَالأَعْرَافِ وَالرُّومِ ثَانِيًا

وَفَاطِرِ "دُ"مْ "شُـ"ـكْرًا وَفي الحِجْرِ "فُـ"ـصِّلا

أي وافقهما ابن كثير على التوحيد في هذه السورة، وإعراب قوله: دم شكرا كما تقدم في دم يدا أي ذا شكر أو دام شكرك فهو أمر بمعنى الدعاء والذي في النمل: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} 3.

1 الآية: 45.

2 آية: 5.

3 آية: 63.

ص: 348

وفي الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} 1.

والثاني الذي في الروم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} 2.

وأما الأول فيها فمجموع بالإجماع وهو: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} .

وثانيا: حال؛ لأن المعنى وفي الذي في الروم ثانيا، واختص حمزة بتوحيد الذي في الحجر وهو قوله:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 3، وخالفه غيره؛ لأجل قوله: لواقح كما جمعوا الذي في الروم؛ لأجل قوله: "مبشرات"، وحجة حمزة أن ذلك غير مانع؛ لأن المراد بالمفرد الجمع فلواقح مثل "نشرا" بضم النون؛ لأنه جمع نشور في قراءة ابن كثير، وأما الكسائي فلا يلزمه ذلك؛ لأنه يقرأ بفتح النون.

490-

وَفي سُورَةِ الشُّورى وَمِنْ تَحْتِ رَعْدِهِ

"خُـ"ـصُوصٌ وَفي الفُرْقَانِ "زَ"اكِيهِ "هَـ"ـلَّلا

يعني قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} ، وفي سورة إبراهيم:{كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ} 4، وفي الفرقان:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا} 5.

انفرد نافع بجمع الذي في الشورى وإبراهيم، وانفرد ابن كثير بتوحيد الذي في الفرقان، وقوله: خصوص مبتدأ خبره ما قبله أي خصوص لبعض القراء دون بعض، والهاء في رعده كما تقدم في امتحانه فإن الريح وإن كانت مؤنثة يعود الضمير إليها مذكرا باعتبار أنها حرف القراءة وموضعها، والهاء في زاكيه للموضع أيضا أو للتوحيد المفهوم من قوله: واحدا وهلل إذا قال: لا إله إلا الله، وهذا آخر الكلام في مسألة الرياح والله أعلم.

491-

وَأَيُّ خِطَابٍ بَعْدُ "عَمَّ" وَلَوْ تَرى

وَفي إِذْ يَرَوْنَ اليَاءُ بِالضَّمِّ "كُـ"ـلِّلا

1 آية: 57.

2 آية: 48.

3 آية: 22.

4 آية: 18.

5 آية: 48.

ص: 349

بعد يعني: بعد ذكر الريح: {وَلَوْ تَرَى} مبتدأ خبره ما قبله، كقولك:؛ أي: رجل زيدا على سبيل التعظيم والتفخيم لشأنه لا على محض الاستفهام؛ أي: هو خطاب عظيم يتعلق به أمر فظيع من شدة عذاب الله يوم القيامة لمتخذي الأنداد من دون الله، وقيل: وأي خطاب مبتدأ، وعم خبره، وأشار بقوله: عم إلى أنه خطاب عام لكل إنسان؛ أي: ولو ترى أيها الإنسان القوم الظالمين حين يرون العذاب يوم القيامة لرأيت أمرا فظيعا وشدة شديدة لا يماثلها شدة، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو من باب مخاطبة رئيس القوم بما هو مطلوب منه ومن جميع قومه، وهو مثل قوله تعالى:{الَمْ تَعْلَمْ انَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {يَا ايُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} .

فأشار بقوله: عم إلى أنه وإن كان على لفظ الخطاب للمفرد فالمراد به تعميم كل مخاطب فالذين ظلموا "مفعول" ترى على قراءة الخطاب، و"إذ يرون" ظرف للرؤية، وهي في الموضعين من رؤية البصر، ويجوز أن يكون "إذ يرون" بدلا من "الذين ظلموا" بدل الاشتمال كما قيل ذلك في نحو:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} .

أي ولو ترى زمان رؤية الظالمين العذاب وقد صرح بهذا المعنى في آيات كثيرة نحو: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} .

وعلى قراءة الغيبة يكون "الذين ظلموا" فاعل "يرى"، و"إذ يرون" مفعوله على سياق هذه الآيات المذكورة، وجواب "لو" محذوف على القراءتين، و"أن القوة" وما بعده معمول الجواب المحذوف؛ أي: لرأيت أو لرأوا أو لعلموا أن القوة لله؛ أي: لشاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس ما كانوا عليه من جحورهم لذلك وشكهم فيه وقيل: الجواب بجملته محذوف مثل: {وَلَوْ انَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} .

وإنما أبهم تفخيما للأمر كما يقول القائل: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه ولو رأيته والسيوف تغشاه من كل جانب؛ أي: لرأيت أمرا شاقا لا صبر على رؤيته فكيف صبر من حل به أو تقديره لعلموا مضرة اتخاذهم للأنداد وأن القوة على تقدير؛ لأن القوة فهو تعليل للجواب وقيل: {أَنَّ الْقُوَّةَ} على قراءة الغيبة مفعول يرى، وعند هذا يجوز أن يكون يرى من رؤية القلب، وسدت "أن" مسد المفعولين، وقيل: إن القوة على قراءة الخطاب بدل من العذاب وقيل على قراءة الغيبة: التقدير "ولو يرى الذين ظلموا"

ص: 350

في الدنيا حالهم حين يرون"، لأقلعوا عن اتخاذ الأنداد، وقيل: "الذين ظلموا" مفعول كما في قراءة الخطاب، والفاعل ضمير عائد على لفظ من في قوله: من يتخذ، وقيل التقدير: ولو يرى راء أو إنسان في الدنيا حال الظالمين إذ يرون العذاب لعلم أن القوة لله كما قيل في قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} .

أي: ولا يحسبن حاسب، وقيل: التقدير: ولو يرى أحد حالهم في ذلك الوقت، فرأى أمرا هائلا، وقيل: المعنى: ولو تيقن الذين ظلموا زمان رؤية العذاب فيكون المراد به الإيمان بالبعث على أن يرى بمعنى عرف وهذا من المواضع المشكلة، وما قدمته أحسن الوجوه في تفسيره، وإذ فيه لمجرد الزمان من غير تعرض لمضي كما تستعمل إذا كذلك من غير تعرض للاستقبال نحو:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} .

وقال أبو علي: إنما جاء على لفظ المضى لما أريد فيها من التحقيق والتقريب وعلى هذا جاء: {وَنَادَى اصْحَابُ الْجَنَّةِ اصْحَابَ النَّارِ} .

ومنه: قد قامت الصلاة والخلاف في يرون بفتح الياء وضمها ظاهر فإن الله تعالى يريهم ذلك فيرونه، وما أحسن ما عبر عن الضمة على الياء بأن الياء كللت بها، شبه الضمة بالإكليل وهو تاج الملك والله أعلم.

492-

وَحَيْثُ اتي خُطُوَاتٌ الطَّاءُ سَاكِنٌ

وَقُلْ ضَمُّهُ "عَـ"ـنْ "زَ"اهِدً "كَـ"ـيْفَ "رَ"تَّلا

أي كيفما رتل القرآن فإنه يضم الطاء وضمها وإسكانها لغتان: فالإسكان موافق للفظ المفرد؛ لأنه جمع خطوة وهو اسم ما بين القدمين: من خطا يخطو والمصدر بفتح الخاء فمعنى قوله تعالى: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ؛ أي: لا تسلكوا مسالكه ولا تفعلوا فعله، وضم الطاء في الجمع؛ للاتباع، ويجوز الفتح في اللغة أيضا، وقوله: عن زاهد؛ أي: الضم محكي مروي عن قارئ زاهد إشارة إلى عدالة نقلته والله أعلم.

493-

وَضَمُّكَ أولَى السَّاكِنَينَ لِثَالِثٍ

يُضَمُّ لُزُومًا كَسْرُهُ "فِـ"ـي "نَـ"ـدٍ "حَـ"ـلا

وضمك: مبتدأ وما بعده مفعول به وتعليل، وكسره مبتدأ ثانٍ وهو وما بعده خبر الأول؛ أي: كسر ذلك الضم في ندٍ حلو في محل رطب لين أو التقدير كسره حلا في ند، ويجوز أن يكون لثالث خبر وضمك؛ أي: ضم أول كل ساكنين واقع عند كل ثالث يضم ضما لازما، فتكون هذه اللام للتوقيت لا للتعليل، ثم بين القراءة الأخرى فقال: كسره في ند حلا، وكان الوجه أن يقول أول الساكنين بالتذكير فلم يتزن له البيت، فعدل إلى التأنيث، ولم يتعرض الشيخ رحمه الله لبيانه، وقال غيره: التقدير: وضمك السواكن الأولى من باب التقاء الساكنين، ثم حذف الموصوف ولام التعريف وأضاف، قال: ونظيره: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} ، {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} .

ص: 351

أي الطائفة الأخرى منهم، قلت: يجوز أن يكون أنث باعتبار المدلول، كما ذكرنا في شرح قوله: غير عشر ليعدلا؛ لأن السكون واقع في حرف من حروف الهجاء، وأسماء حروف الهجاء يجوز تأنيثها، فأنث لفظ أولى بهذا الاعتبار، وذكر لفظ الساكنين على الأصل، ويجوز أن يكون التأنيث في أولى باعتبار الحركة؛ أي: أولى حركتي الساكنين؛ وذلك لأن الساكنين متى التقيا فتارة يحرك الأول، وتارة يحرك الثاني نحو من الرجل وانطلق لما سكنت اللام تخفيفا كما جاء في خاء فخذ، وكانت القاف ساكنة للأمر فتحت القاف؛ لالتقاء الساكنين، فحركة الساكن الأول في من الرجل هي أولى حركتي الساكنين، ولا يحرك الساكن الأول إلا إذا كان التقاء الساكنين في كلمتين أو ما هو في حكم الكلمتين كهمزة الوصل، أو تقول الحركة الأولى هي حركة الساكن الأول في الوصل، والحركة الثانية هي حركة الهمزة إذا ابتدأت بها، ووقفت على الأول والحركتان معا لا يجتمعان فمهما حركت الأول بطلت حركة الهمزة وإذا بطلت حركة الأول تحركت الهمزة، وقوله: لثالث بضم؛ أي: لحرف ثالث مضموم وعده إياه ثالثا بأحد اعتبارين: أحدهما أنه عبد قبله الساكن وقبل الساكن همزة الوصل اعتبارا بالكلمة لو ابتدئ بها؛ لأن الكلام في مثل انقص واخرج، ولأن ذلك في الخط أربعة أحرف الثالث منها هو المضموم، الثاني أنه عد ذلك ثالثا باعتبار الساكن الأول؛ لأن الحكم متعلق به فبعده في الوصل الساكن الثاني وبعدهما الحرف المضموم، وهمزة الوصل انحذفت في الدرج، فالتقى الساكن الذي هو آخر الكلمة بالساكن الذي هو بين همزة الوصل والحرف المضموم، فوجب تحريك الأول، فمنهم من كسر على أصل التقاء الساكنين ومنهم من ضم للاتباع كراهة الخروج من كسر إلى ضم ولم يعتد بالحاجز؛ لأنه ساكن فهذا معنى التعليل المفهوم من قوله: لثالث يضم وهذا التعليل بمجرده لا يكفي فكم من ضمة لازمة لا يضم لها الساكن الأول نحو: {قُلِ الرُّوحُ} .

وشبهه كما يأتي فلا بد من أن يضم إلى ذلك الدلالة على حركة همزة الوصل المحذوفة في ذلك وهي الضمة، وقوله: لزوما؛ أي: ذا لزوم، واللزوم مصدر لزمت الشيء ألزمه لزوما؛ أي: يكون الضم لازما لا عارضا، وذلك مثل أخرج ادعوا ضمة الراء والعين لازمة لهذه البنية مستحقة فيها بطريق الأصالة احترز بذلك من الضمة العارضة غير اللازمة وذلك نحو:{إِنِ امْرُؤٌ} .

فإن ضمة الراء إنما جاءت لأجل ضمة الهمزة فلو فتحت الهمزة أو كسرت لفتحت الراء وكسرت، وكذلك الضمة في قوله تعالى:{انِ امْشُوا} ؛ لأن حق هذه الشين أن تكون مكسورة وأصله امشيوا كاضربوا، وكذلك ضمة الإعراب في نحو:{بِغُلامٍ اسْمُهُ} ، {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، فكل هذا يكسر فيه أول الساكنين، ولا يضمه أحد لأجل عروض الضمة في الثالث، والتمثيل بقوله:"عُزَيْرٌ" إنما ينفع في قراءة من نونه، والذي نونه اثنان: عاصم والكسائي، فكلاهما بكسر التنوين.

ص: 352

أما عاصم فعلى أصله في كسر أول الساكنين مطلقا، وأما الكسائي؛ فلأجل عروض الضمة في "ابن".

وقوله: {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ، الضمة فيه على حرف رابع لا على ثالث؛ لأن التاء مشددة فهي حرفان هذا كله مع أن الضمة عارضة كما في:{أَنِ امْشُوا} .

فهذا تمام الكلام في تقدير الضابط الذي ذكره الناظم، وقد أورد عليه قوله تعالى:{قُلِ الرُّوحُ} ، فهو مما اتفق على كسره مع أن ضمة الراء فيه لازمة، ومثله:{إِنِ الْحُكْمُ} ، {غُلِبَتِ الرُّومُ} ، {بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} ، {عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} .

وصاحب التيسير قال: إذا كان بعد الساكن الثاني ضمة لازمة، وابتدئت الألف بالضم فهذا لقيد الثاني يخرج جميع ما ذكرناه من:{إِنِ امْرُؤٌ} ، {انِ امْشُوا} ، و {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، و {قُلِ الرُّوحُ} ، وشبهه؛ لأن همزة الوصل في أول الكلمة الثانية منهما مكسورة عند الابتداء بها في الثلاثة الأول ومفتوحة في "الروح" وما بعده مما ذكرناه، وهذا القيد كافٍ وحده فلا حاجة إلى ذكر الضمة اللازمة، ومكي رحمه الله لم يذكرها، واقتصر على ذلك القيد، فقال: اختلفوا في الساكنين إذا اجتمعا من كلمتين وكانت الألف التي تدخل على الساكن الثاني في الابتداء تبتدأ بالضم، وكذا قال ابن شريح الاختلاف في الساكن الذي بعده فعل فيه ألف وصل يبتدئ بالضم، فلو أن الناظم قال:

وإن همز وصل ضم بعد مسكن

فحركه ضما كسره في ند حلا

أي: فحرك ذلك المسكن بالضم أو الكسر لمن رمز له لكان أبين وأسهل على الطالب إلا أن في بيت الشيخ الشاطبي رحمه الله إشارة إلى علة الضم والله أعلم.

494-

قُلِ ادْعُوا أوِ انْقُصْ قَالَتِ اخْرُجْ أنِ اعْبُدُوا

وَمَحْظُورًا انْظُرْ مَعْ قَدِ اسْتُهْزِئَ اعْتَلا

هذه أمثلة ما تقدم ذكره وقد حصر أنواعه في هذه الأمثلة الستة، وذلك أن الساكن الأول لا يخلو من أن يكون أحد هذه الأحرف الستة: اللام والواو والتاء والنون والتنوين والدال، قال ابن الفحام: يجمعهن من غير التنوين لتنود، وإنما ذكر هذه القاعدة في هذه السورة؛ لأجل قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ} .

ص: 353

ولم يتفق له التمثيل به وأغنى عنه قوله: {أَنِ اعْبُدُوا} ، ومثله:{وَلَكِنِ انْظُر} ، الساكن في الجميع نون، ولو قال:

من اضطر او انقص قالت اخرج قل انظروا

لحصلت النصوصية على موضع السورة التي هو فيها، ولا يضر وصل همزة أو إسكان راء اضطر؛ فإن لكليهما نظائر جائزة في اللغة، ومثل:{قُلِ ادْعُوا} ، {قُلِ انْظُرُوا} ، في يونس1 لا غير، ومثل:"أو انقص": "أو اخرجوا"، "أو ادعوا الرحمن" لا غير، ومثل "أن اعبدوا":

{أَنِ اقْتُلُوا انْفُسَكُمْ} ، و {أَنِ اعْبُدُونِي} ، و {أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} ، {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} ، {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} .

ولا نظير لقوله: {وَقَالَتِ اخْرُجْ} ، {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} .

ومثال التنوين اثنا عشر موضعا والله أعلم.

495-

سِوى اوْ وَقُلْ لاِبْنِ الْعَلا وَبِكَسْرِهِ

لِتَنْوِيِنهِ قالَ ابْنُ ذَكْوَانَ مُقْوِلا

يعني: ضم أبو عمرو الواو من "أو"، واللام من "قل" حيث وقعا نحو:"قل ادعوا الرحمن"، "أو انقص منه"، "أو اخرجوا من دياركم"، "قل انظروا ماذا في السموات والأرض"؛ وذلك لأن كسر الواو أثقل من ضمها، واللام من قل قبلها ضمة، فترجح مقتضى الضم فيها والهاء في "بكسرة" تعود على ابن العلاء وكذا الهاء في لتنوينه أو أراد لتنوين هذا الكلام، وقوله: لتنوينه مفعول بكسره كما تقول: عجبت من ضربه لابنه وليست لام التعليل بخلاف اللام في لثالث؛ أي: قرأ ابن ذكوان التنوين بالكسر الذي لأبي عمرو فيه، ووجه ذلك أن التنوين ليس له استقرار غيره من الحروف؛ فإنه يحذف ويبدل فلما لم يكن لازما لا يضمه لأجل الاتباع؛ لأنه كأنه زائل كما أنهم لم يضموا لأجل الضمة العارضة التي هي غير مستقرة لذلك ويقال: أقوله مثل قوله؛ أي: معلما القول بذلك والله أعلم.

496-

بِخُلْفٍ لَهُ فِي رَحْمَةٍ وَخَبِيثَةٍ

وَرَفْعُكَ لَيْسَ الْبِرُّ يُنْصَبُ "فِـ"ـي "عُـ"ـلا

يعني قوله تعالى في الأعراف: {بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 2.

1 آية: 101.

2 آية: 49.

ص: 354

وفي إبراهيم: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ} 1.

روي عن ابن ذكوان ضمهما جمعا بين اللغتين، ولم يفعل ذلك في نحو:{وَعُيُونٍ، ادْخُلُوهَا} ، ونحو {مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا} ، وأما {لَيْسَ الْبِرَّ انْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} ، فقرأ حمزة وحفص بنصب "البر" على أنه خبر ليس، ورفع الباقون على أنه اسمها، و"أن تولوا" هو الاسم على قراءة النصب وهو الخبر على قراءة الرفع، وإنما جاز كونه اسما؛ لأنه مقدر بالمصدر معناه: توليتكم وجوهكم، قال الفارسي: كلا الوجهين حسن، وقوله: في علا؛ أي: في علا ورفعة، أو في حجج معتلية؛ لأن علا بالضم والقصر يحتمل الإفراد والجمع، ولا خلاف في رفع:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ؛ لأن "بأن تأتوا" قد تعين؛ لأن يكون خبرًا بدخول الباء عليه، ولا يرد على الناظم؛ لأنه قال:"ليس البر" بلا واو، وهذا الذي لا خلاف في رفعه هو بالواو، وقد تعين النصب في القرآن في مواضع الحصر بإلا وإنما نحو:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} ، {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} ، {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} ، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا} .

وجاء الخلاف في الأنعام في: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} 2.

لكن الأكثر على النصب حملا على نظائره، ووجه الرفع أنه جائز على ما ذكرناه وفي:{لَيْسَ الْبِرّ} بالعكس؛ الأكثر على الرفع؛ لأنه ليس للحصر، وفي:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ اسَاءُوا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا} اختلف أيضا على ما يأتي في موضعه والله أعلم.

497-

وَلكِنْ خَفِيفٌ وَارْفَعِ اْلبِرَّ "عَمَّ" فِي

هِما وَمُوَصٍّ ثِقْلُهُ "صَـ"ـحَّ "شُـ"ـلْشُلا

فيهما يعني:

1 آية: 26.

2 آية: 23.

ص: 355

فيهما يعني: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} .

والكلام فيهما كما تقدم في: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} .

وهو على حذف مضاف؛ أي: بر من آمن "وموصٍ" من أوصى وموص من وصى وقد تقدم أنهما لغتان كأنزل ونزل، ومعنى الشلشل الخفيف وهو حال من فاعل صح العائد على ثقله؛ أي: صح تشديده في حال كونه خفيفا وإنما خف بسبب كثرة نظائره في القرآن المجمع عليها نحو: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} ، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} في مواضع، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} .

وأجمعوا أيضا على التخفيف في: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} ، و {يُوصِي بِهَا} ، و {يُوصِينَ} ، و {تُوصُونَ} ، في سورة النساء.

498-

وَفِدْيَةُ نَوِّنْ وَارْفَعِ الخَفْضَ بَعْدُ فِي

طَعَامٍ "لَـ"ـدى "غُـ"صْنِ "دَ"نَا وَتَذَلَّلا

قراءة نافع وابن ذكوان على إضافة فدية إلى طعام من باب خاتم حديد، وقراءة الجماعة على أن طعام بدل من فدية أو عطف بيان، ولقرب هذه القراءة من الأفهام جعلها كالغصن الداني المتذلل الذي لا يعجز الضعيف عن نيل ثمره أراد قوله تعالى:"وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ".

ثم ذكر الخلاف في جمع مساكين وإفراده وكل من أضاف فدية إلى طعام جمع مساكين ومن لونه أفرد إلا هشاما والله أعلم.

499-

مَسَاكِينَ مَجْمُوعًا وَلَيْسَ مُنَوَّنًا

وَيُفْتَحُ مِنْهُ النُّونُ "عَمَّ" وَأبْجَلا

مجموعا: حال؛ أي: عم في حال كونه مجموعا؛ لأن الذين يطيقونه جماعة على كل واحد إطعام مسكين فعلى الجماعة إطعام مساكين، وقراءة الباقين بالإفراد على أن المراد وعلى كل واحد إطعام مسكين كقوله تعالى في موضع آخر:{فَجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ؛ أي: كل واحد منهم، فإذا أفرد مسكين كان مكسور النون منونا؛ لأنه مضاف إليه، وإذا جمع فتحت النون من غير تنوين؛ لأنه غير منصرف كقناديل ودنانير وحركة النون حركة إعراب على القراءتين، والفتح فيها لا ينصرف علامة الجر فلم يمكن التعبير بالنصب؛ لأن الكلمة مجرورة فكان التعبير عنها بالنصب ممتنعا، ويقال: أبجله الشيء؛ أي: كفاه والله أعلم.

ص: 356

500-

وَنَقْلُ قُرَانٍ وَالقُرَانِ "دَ"وَاؤُنَا

وَفِي تُكْمِلُوا قُلْ شُعْبَةُ المِيمَ ثَقَّلا

أراد نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها كما يفعل حمزة في الوقف، قرأها ابن كثير كذلك في الوصل والوقف، وعطف قوله: والقران بالجر على قران؛ أي: نقل هذين اللفظين أراد أن ينص على المنكر والمعرف باللام ومن جملة ما فيه الخلاف "قرآنه" في موضعين في سورة القيامة1 وقد نص عليه صاحب التيسير وغيره، وليس هو واحدا من اللفظين المذكورين في البيت إلا أن يكون قصد ما دخله لام التعريف وما خلا منها، ولو أنه قال: ونقل قرآن كيف كان أو كيف جاء دواؤنا، لكان أعم وأبين، وما أحلى هذا اللفظ حيث كان موجها؛ أي: ذو وجهين حصل منه بيان القراءة بنقل حركة الهمزة لابن كثير، وظاهره أن نقل القرآن وهو قراءته وتلاوته وتعليمه دواء لمن استعمله مخلص من أمراض المعاصي، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ثم قراءة ابن كثير هذه تحتمل أن تكون من باب نقل حركة الهمزة كما ذكر، وتحتمل أن تكون من قرنت بلا همز؛ أي: جمعت ومنه القِران في الحج2، وصح عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: قرأت على إسماعيل بن قسطنطين وكان يقول: القرآن اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولو أخذ من قرأت كان كل ما قرئ قرآنا، ولكنه اسم للقرآن مثل: التوراة والإنجيل، قال: وكان يقول وإذا قرأت القرآن يهمز قرأت ولا يهمز القران، قلت: والقرآن بالهمز مصدر من قرأت كالشكران والغفران، والذي في سورة القيامة المراد به المصدر والخلاف فيه أيضا، وذلك دليل على أن من لم يهمز نقل حركة الهمز والتسمية بالمصادر كثيرة والله أعلم. وكمل وأكمل: لغتان، فالخلاف في "ولتكملوا العدة" كالخلاف في "ينزل"، وفي "فأمتعه"، ونحو ذلك والميم: مفعول "ثقل"، وبقي عليه فتح الكاف لم ينبه عليه، وكان له أن يقول: لشعبة حرك تكملوا الميم ثقلا أو وفي تكملوا حرك لشعبة أثقلا كما قال في سورة الحج، ثم "وليوفوا" فحركه لشعبة أثقلا

501-

وَكَسْرُ بُيُوتٍ وَالبُيُوتَ يُضَمُّ "عَـ"ـنْ

"حِـ"ـمى "جِـ"ـلَّةٍ وَجْهًا عَلَى الأصْلِ أقْبَلا

الكلام في عطفه والبيوت كما تقدم في قوله: والقران؛ ليجمع بين ما خلا من لام التعريف وبين ما هي فيه، والخالي منها تارة يكون معرفة بالإضافة نحو "بيوتكم" و"بيوتهن" و"بيوت النبي"، وتارة يكون نكرة منصوبة أو غير منصوبة نحو:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} ، {في بيوت أذن الله أن ترفع} ، فإذا صح لنا دخول المضاف تحت قوله: بيوت صح لنا دخول قرآنه المضاف تحت قوله: قران، وههنا كان يحسن ذكر الخلاف في الغيوب والعيون وشيوخا وجيوب؛ لأن الباب واحد وقد جمع ذلك ابن مجاهد وغيره هنا وجمعها الناظم في سورة المائدة، والأصل: ضم أوائل الجميع؛ لأن فعلا يجمع على فعول: كفلوس وفروج وقلوب، ومن كسر فلأجل الياء، وقال الزجاج: أكثر النحويين لا يعرفون الكسر،

1 الآيتان: 17 و18.

2 آية: 30.

ص: 357

وهو عند البصريين رديء جدًّا؛ لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء ذكر ذلك في سورة النور، وقال أبو علي: مما يدل على جواز ذلك أنك تقول في تحقير عين وبيت: عيينة بييت فكسر الفاء ههنا؛ لتقريبه من الياء ككسر الفاء من فعول، وذلك مما قد حكاه سيبويه قال فكما كسرت الفاء من عيينة ونحوه -وإن لم يكن من أبنية التحقير على هذا الوزن- لتقريب الحركة مما بعدها كذلك كسروا الفاء من جيوب ونحوها، وقوله: وكسر بيوت يعني كسر الباء ويضم جر الكسر في اللفظين، وجلة: جمع جليل كصبية جمع صبي، ووجها تمييز لهم؛ أي: هم أجلاء الوجوه، ويجوز أن تكون حالا من فاعل يضم، ويجوز أن يكون مفعولا لحمى؛ أي: حموا قراءتهم بالضم عن طعن من طعن في الكسر؛ لكون الضم جاء على الأصل ويجوز أن يكون وجها منصوبا بفعل مضمر؛ أي: خذ وجها، وقوله: على الأصل أقبلا صفة للوجه على الوجوه كلها غير وجه التمييز.

502-

وَلا تَقْتُلُوهُمْ بَعْدَهُ يَقْتُلُوكُمُو

فَإِنْ قَتَلُوكُمْ قَصْرُها "شَـ"ـاعَ وَانْجَلا

أي قصر هذه الألفاظ الثلاثة وهي: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ} ، فقراءة المد من "قاتل" وقراءة القصر من "قتل"، ولا خلاف في قوله:"فاقتلوهم" كذلك: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ} . أي لا تبدءوهم بقتل ولا قتال حتى يبدءوكم به ومعنى: "فإن قتلوكم فاقتلوهم"؛ أي: فإن قتلوا منكم أحدا فاقتلوا منهم؛ أي: فإن قتلوا بعضكم على حذف مضاف للعلم به كما سيأتي في قراءة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا} ؛ أي: فما وهن من لم يقتل منهم والله أعلم.

503-

وَبِالرَّفْعِ نَوِّنْهُ فَلا رَفَثٌ وَلا

فُسُوقٌ وَلا "حَـ"ـقًّا وَزَانَ مُجَمَّلا

فلا رفث وما بعده مبتدأ، وبالرفع نونه خبره، وأضمر قبل الذكر؛ لأن الخبر في نية التأخير فهو كقولك: في داره زيد، والمعنى نونه بالرفع؛ أي: ملتبسا به فيقرأ للباقين بغير تنوين ملتبسا بصورة النصب وهو الفتح، وقيل يجوز أن تكون الهاء في نونه ضميرا مبهما قدمه بشرط التفسير، وجعل:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} تفسيرًا له وأتى بقوله: ولا بعد قوله: فسوق إقامة لوزن البيت وإلا فقوله: ولا جدال لا خلاف في فتحه، ولا شك أن لا يبني معها اسمها على الفتح إذا كان نكرة، ويجوز رفعه إذا كرر، وتجوز المغايرة بين ما تكرر من ذلك ففي نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله: خمسة أوجه فعلى هذا جاءت القراءتان وإنما غاير

ص: 358

أبو عمرو وابن كثير، فرفعا الأولين على أن المراد النهي عنهما، وإن أتيا بلفظ الخبر؛ أي: فلا يكونن رفث وهو الجماع، ولا فسوق، وهو السباب أو المعاصي، وأما ولا جدال فهو إخبار محض؛ أي: قد ارتفع المراء في زمن الحج وفي مواقفه بعد ما كان الاختلاف فيه بين العرب من النسيء، ووقوف بعضهم بعرفة وبعضهم بمزدلفة، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، فاشترط عدم الرفث والفسوق، ولم يذكر الجدال فدل على أن سياقه في الآية لمعنى آخر غير ما سيق له الرفث والفسوق، وهو ما ذكرناه وقراءة الجماعة تحتمل هذا التفريق أيضا، ويحتمل أن يكون الجميع منهيا عنه والمراد به مخاصمة الرفقاء والخدم والمكاريين، ويحتمل هذا المعنى قراءة أبي عمرو أيضا، وتكون على لغة من غاير في الإعراب فقال: لا حول ولا قوة، والرفع في الآية أقوى منه في الحوقلة؛ لتكرر المرفوع قبل المفتوح، وقوله: حقا مصدر مؤكد لقوله: نونه بالرفع، وزان مجملا معطوف على الفعل الذي نصب حقا؛ أي: حق ذلك حقا، وزان القارئ الذي حمل هذه القراءة لحسن المعنى الذي ذكرناه في التفريق بين الثلاثة والله اعلم.

504-

وَفَتْحُك سِينَ السِّلْمِ "أ"صْلُ "رِ"ضًى "دَ"نَا

وَحَتَّى يَقُولَ الرَّفْعُ فِي الَّلامِ "أُ"وِّلا

يعني قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} ؛ فتح السين وكسرها لغتان، وقد قرئ بهما الذي في الأنفال والقتال على ما سيأتي في الأنفال، وقيل الكسر بمعنى الإسلام، والفتح بمعنى الاستسلام والمصالحة ولهذا كسر أكثر القراء هنا، وفتحوا في الأنفال والقتال لظهور معنى الإسلام في البقرة، فظهور معنى المصالحة في غيرها، فنافع وابن كثير والكسائي فتحوا الثلاثة، وأبو بكر كسر الثلاثة، وأبو عمرو وابن امر وحفص كسروا في البقرة وحدها وحمزة فتح في الأنفال وحدها، وأما الرفع في:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} .

فعلى تأويل أن الفعل بمعنى المضي أي: حتى قال الرسول أو هي حكاية حال ماضية، والفعل إذا كان كذلك ووقع بعد حتى رفع، ووجه النصب أن يكون الفعل مستقبلا، وإذا كان كذلك نصبته على تقدير إلى أن يقول، أو كي يقول على ما عرف في علم النحو والله أعلم.

505-

وَفي التَّاء فَاضْمُمْ وَافْتَحِ الجِيمَ تَرْجِعُ الـ

ـأُمُورُ "سَمَـ"ـا نَصَّا وَحَيْثُ تَنَزَّلا

ترجع الأمور مبتدأ، وما قبله خبره؛ أي: وترجع الأمور اضمم تاءه وافتح جيمه فيصير الفعل مبنيا للمفعول؛ لأن الله رجعهن، والقراءة الأخرى على تسمية الفاعل كقوله تعالى:{كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} .

ص: 359

ورجع ثلاثي سواء كان لازما أو متعديا، وسما نصا خبر آخر، لترجع الأمور ونصا منصوب على التمييز أي سما نصه بهذا، وحيث تنزلا عطف على ظرف محذوف أي هنا، وحيث تنزل ترجع الأمور أي حيث جاء في سور القرآن، والله أعلم.

506-

وَإِثْمٌ كَبِيرٌ "شَـ"ـاعَ بِالثَّا مُثَلَّثًا

وَغَيْرُهُمَا بِالَبَاءِ نُقْطَةٌ اسْفَلا

القراءتان بمعنى واحد؛ لأن ما كبر فقد كثر وأجمعوا على: {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .

وقيد الثانية بقوله: مثلثا والباء بقوله: نقطة اسفلا احترازا من التصحيف والتقدير هي ذات نقطة أسفلها على حذف المبتدأ أو التقدير لها نقطة أسفل على حذف الخبر، ولو أنه قال: نقطة بالنصب لكان حالا من الباء أي ذا نقطة ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقوله: وغيرهما بالباء أي يقرأ بالباء والله أعلم.

507-

قُلِ العَفْوَ لِلْبَصْرِيِّ رَفْعٌ وَبَعْدَهُ

لأَعْنَتْكُمْ بِالخُلْفِ أَحْمَدُ سَهَّلا

قل العفو: مبتدأ ورفع: خبره أي ذو رفع، والعفو الفضل هنا، وهو ما يسهل إخراجه وتقدير وجه الرفع الذي ينفقونه العفو، والنصب على تقدير: أنفقوا العفو، وأحمد هو البزي سهل همزة:"لأعْنَتَكُمْ" بين بين في وجه، وليس من أصله تسهيل الهمزة الواحدة في كلمة ففعل ما فعله حمزة في الوقف في وجه؛ لأنها همزة مفتوحة بعد مفتوح، فقياس تسهيلها جعلها بين بين كسأل؛ ففي قراءته جمع بين اللغتين وهو نظير إبدال حفص همزة:"هزؤا" و"كفؤا" واوا في الوصل والوقف كما سبق والله أعلم.

508-

وَيَطْهُرْنَ فِي الطَّاءِ السُّكُونُ وَهَاؤُهُ

يُضَمُّ وَخَفَّا "إِ"ذْ "سَمَا" كَيْفَ "عُـ"وِّلا

وخفا يعني الطاء والهاء والباقون وهم حمزة والكسائي وأبو بكر فتحوهما وشددوهما؛ لأن السكون مهما جاء مطلقا فضده الفتح والضم ضده الفتح ومعنى كلمات الرمز: أن هذه القراءة كيف ما عول في تأويلها فهي سامية رفيعة محتملة للأمرين وهما انقطاع الدم والغسل والقراءة الأخرى ظاهرة في إرادة الاغتسال وأصلها يتطهرن فأدغمت التاء في الطاء؛ أي: حتى يغتسلن فتعين حمل القراة الأخرى على هذا المعنى أيضا وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فتطهرين"، وفي رواية:"فإذا أنت قد طهرت" أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح فيكون من قوله: حتى يطهرن بهذا المعنى أو تنزل القراءتان منزلة اجتماعهما

ص: 360

فكأنه قيل: حتى يطهرن ويتطهرن؛ أي: حتى يجتمع الأمران، وهما انقطاع الدم والاغتسال، فأحدهما لا يكفي بدليل ما لو اغتسلت قبل انقطاع الدم، فإن ذلك لا يبيح الوطء فكذا إذا انقطع الدم ولم تغتسل والله أعلم.

509-

وَضَمُّ يَخَافا "فَـ"ـازَ وَالكُلُّ أدْغَمُوا

تُضَارَرْ وَضَمَّ الرَّاءَ "حَقٌّ" وَذُو جَلا

قرأ حمزة على ما لم يسم فاعله كيقال فقوله تعالى: "أن لا يقيما حدود الله"، يكون بدلا من ضمير التثنية في "يخافا"، وهو بدل الاشتمال كقولك: خفيف زيد شره فالخائف غير الزوجين من الولاة والأقارب ونحو ذلك، وعلى قراءة الجماعة هما الخائفان وأن لا يقيما مفعول به، والخطاب في قوله تعالى:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} يجوز أن يكون للأزواج، وأن يكون للولاء، وقوله: سبحانه: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} أصله: لا تضارر بكسر الراء الأولى أو بفتحها مبنيا للفاعل أو للمفعول على اختلاف في تفسيره، والكل صحيح المعنى في الآية أدغمت الراء الأولى في الثانية فمن رفع جعله خبرا بمعنى النهي ومن فتح فهو نهي انجزمت الراء له، ففتحت؛ لالتقاء الساكنين، كقولك: لا تعض زيدا؛ لأن المدغم ساكن، ومثله في المائدة:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} 1 وقرئ {مَنْ يَرْتَدِدْ} على الأصل، ولم يقرأ هنا تضارر فقوله: وضم الراء يعني: الراء المشددة الثانية من الراءين المدغمة والمدغم فيها، وإنما قال الناظم: وضم الراء ولم يقل ورفع الراء؛ لأن القراءة الأخرى بالفتح؛ لأنها حركة بناء فلا بد من الإخلال بإحدى العبارتين، وقوله: وذو جلا؛ أي: ذو جلاء بالمد؛ أي: انكشاف وظهور ويروى بفتح الجيم وكسرها، وذو جلا ليس برمز، وكذا قوله: في آخر آل عمران: وذو ملا؛ لأن الواو فاصلة ولا تجعل الواو في ذلك كالواو في وحكم صحاب على ما تقدم في شرح الخطبة.

510-

وَقَصْرُ أَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا وَأَتَيْتمُو

هُنَا "دَ"ارَ وَجْهًا لَيْسَ إِلا مُبَجَّلا

{آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} ، في سورة الروم وهنا:{إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ} .

1 آية: 54.

ص: 361

فالقصر بمعنى فعلتم، والمد بمعنى أعطيتم، وفي دار ضمير يعود على وقصر أتيتم، ووجها تمييز أو حال أو مفعول فعل مضمر كما تقدم في قوله: وجها على الأصل أقبلا، واسم ليس: ضمير يعود إلى الوجه، والمبجل الموقر يثني على قراءة القصر خلافًا لمن عابها، وقرأت في حاشية النسخة المقروءة على الناظم رحمه الله إنما قال: ليس إلا مبجلا؛ لأن قصره من باب المجيء لا من باب الإعطاء، وإنما يتضح بتبجيله مع تفسير: سلمتم بالإخلاص من المنة والخصام من قوله: سبحانه: {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} .

أي سالمة والله أعلم.

511-

مَعًا قَدْرُ حَرِّكْ "مِـ"ـنْ "صَحَابٍ" وَحَيْثُ جَا

يُضَمُّ تَمَسُّوهُنَّ وَامْدُدْهُ "شُـ"ـلْشُلا

قدر مفعول حرك ومعا حال مقدمة؛ أي: حرك قدر وقدر معًا؛ أي: أنهما اثنان وهما قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ، ويعني بالتحريك: فتح الدال؛ لأنه مطلق، وقراءة الباقين بإسكانها، وهما: لغتان، وقوله: من صحاب يتعلق بمحذوف ذلك المحذوف حال من فاعل حرك أو مفعوله؛ أي: آخذا له أو مأخوذًا من صحاب؛ أي: منقولا عن جماعة ثقات معروفة صحبة بعضهم لبعض، وتمسوهن فاعل جاء؛ أي: حيث جاء لفظ: {تَمَسُّوهُنَّ} .

وهو في موضعين هنا، وثالث في الأحزاب1 يضم حمزة والكسائي تاءه، ويمدان الميم فيصير "تماسوهن" من فاعلت بمعنى فعلت أو هو على بابه، والمراد به الجماع على القراءتين، لم يختلف في ذلك، وإن اختلف في معنى "لامستم"، و"لمستم" في سورة النساء، والمائدة على ما يأتي، والشلشل الخفيف، وهو رمز، ولهذا لم يوهم أنه تقييد للقراءة، وإن كان فيها تشديد في السين؛ لأنه لا يقيد إلا بالألفاظ الواضحة لا بالألفاظ المشكلة المعنى، والله أعلم.

512-

وَصِيَّةً ارْفَعْ "صَـ"ـفْوَ "حِرْمِيِّهِ رِ"ضًى

وَيَبْصُطُ عَنْهُمْ غَيْرَ قُنْبُلٍ اعْتَلا

وصية: مفعول ارفع، والهاء في حرميه تعود إلى لفظ وصية، أو إلى الرفع الدالّ عليه ارفع، وصفو مبتدأ، ورضى خبره أراد:"وصيةٌ لأزواجِهِم" رفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أمرهم وصية أو على حذف مضاف قبلها؛ أي: أهل وصية أو ذوو وصية أو قبل المبتدأ؛ أي: وحكم الذين يتوفون وصية أو هي مبتدأ خبرها محذوف قبلها؛ أي: عليهم وصية، والنصب على المفعول المطلق، وهو المصدر؛ أي: يوصون وصية، وقرأ هؤلاء إلا قنبلا.

1 آية: 49.

ص: 362

{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} بالصاد، والباقون بالسين على ما ذكره في البيت الآتي، والكلام في وجه القراءتين نحو ما تقدم في الصراط، وقوله: ويبصط مبتدأ، واعتلا خبره؛ أي: اعتلا عن المذكورين غير قنبل، وحسن قوله: اعتلا أن الصاد من حروف الاستعلاء بخلاف السين، ومن خالف جمع بين اللغتين، والله أعلم.

513-

وَبِالسِّينِ بَاقِيِهِمْ وَفي الخَلْقِ بَصْطَةً

وَقُلْ فِيهِما الوَجْهَانِ قَوْلا مُوَصَّلا

"في الخلق بصطة": مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: يقرؤه المذكورون بالصاد أيضا؛ أي: و"بصطة" في الأعراف1 كذلك، ولا خلاف في:"بَسْطَةً" في البقرة أنه بالسين، وهو:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} 2، إلا ما رواه مكي وغيره من أنه قد جاء عن نافع والكسائي في بعض الطرق بالصاد، وروي عن خلاد، وابن ذكوان في "يبصط"، و"بصطة" الوجهان: الصاد، والسين، ومعنى موصلا: منقولا إلينا، وذكر في التيسير الخلاف عن خلاد فيهما قال: وروى النقاش عن الأخفش هنا بالسين، وفي الأعراف بالصاد، وقال في غير التيسير: ورأيت ابن داود قد رواهما عن أبي سهل عن ابن السفر عن الأخفش بالسين، وقرأتهما على أبي الفتح، وأبي الحسن جميعا بالصاد، ولم يذكر مكي عن خلاد غير السين، وعن ابن ذكون غير الصاد قال: وروي عن حفص السين والصاد فيهما، وبالوجهين قرأت لحفص.

514-

يُضَاعِفَهُ ارْفَعْ فِي الحَدِيدِ وَههُنَا

"سَما شُـ"ـكْرُهُ وَالعَيْنُ في الكُلِّ ثُقِّلا

515-

"كَـ"ـما "دَ"ارَ وَاقْصُرْ مَعْ مُضَعَّفَةٍ وَقُلْ

عَسَيْتُمْ بِكَسْرِ السِّينِ حَيْثُ أَتى "ا"نْجَلا

يريد: "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفُهُ" هنا، وفي سورة الحديد وجه الرفع الاستئناف؛ أي: فهو يضاعفه أو يكون معطوفا على يقرض، ووجه النصب أنه جواب الاستفهام، فنصب بأن مضمرة بعد الفاء، وابن عامر، وابن كثير شددا العين في جميع هذا اللفظ كيفما دار، وذلك معنى قوله: والعين في الكلِّ ثقلا كما دار نحو:

1 آية: 69.

2 آية: 247.

ص: 363

"يضعف لهم"، "يضعف لها"، "يضعفه لكم".

وكذا مضعفة في آل عمران في قوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .

وهما لغتان: ضاعف وضعف واحد، وعنى بقوله: واقصر حذف الألف، والباقون بالمد، وتخفيف العين:"وعسيتم".

هنا، وفي سورة القتال قراءة نافع بالكسر قال أبو بكر الإدفوي: هو لغة أهل الحجاز يكسرونها مع المضمر خاصة، والفتح هو الأصل، وقال أبو علي وغيره: هما لغتان.

قلت: وباقي الأفعال الموازنة لعسى لا يختلف حاله مع المضمر نحو "أتى"، و"أتيتم"، و"رمى"، و"رميتم"، وأثنى الناظم رحمه الله على رفع "فيضاعفه" بقوله: سما شكره؛ أي: شكر العلماء له فهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

516-

دِفَاعُ بِها وَالحَجِّ فَتْحٌ وَسَاكِنٌ

وَقَصْرٌ "خُـ"ـصُوصًا غَرْفَةً ضَمَّ "ذُ"ووِلا

أراد: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} هنا، وفي سورة الحج، والفتح في الدال، والسكون في الفاء، والقصر حذف الألف، وهو مصدر دفع، ودفاع كذلك مثل كتبت كتابا أو مصدر دافع بمعنى دفع نحو "قاتلهم الله"؛ أي: قتلهم الله، قال أبو ذؤيب: فجمع بين اللغتين:

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم

وإذا المنية أقبلت لا تدفع

وأراد: ذو فتح، وقصر، ولهذا توسط بينهما قوله: وساكن، فكأنه قال: مفتوح ساكن مقصور، وخصوصا مصدر، ويأتي الخلاف في:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ} في سورة الحج: "غُرْفَةً" بالفتح المصدر، وبالضم المغروف، وذو ولاء بالمد أي: ذو نصرة للضم؛ أي: ضمه من هذه صفته، والله أعلم.

517-

وَلا بَيْعَ نَوَّنْهُ وَلا خُلَّةٌ وَلا

شَفَاعَةَ وَارْفَعْهُنَّ "ذَ"ا "أُ"سْوَةٍ تَلا

أي متأسيا بمن سبق، والكلام فيهن كما سبق في

ص: 364

{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} ؛

غير أن الرفع هنا في الثلاث، وثم في اثنتين، والذين رفعوا هنا فتحوا ثَم، وبالعكس، والنفي هنا خبر محض، وثَم نفى بمعنى النهي، والله أعلم.

518-

وَلا لَغْوَ لا تَأْثِيمَ لا بَيْعَ مَعْ وَلا

خِلالَ بِإِبْرَاهِيمَ وَالطُّورِ وُصِّلا

أي: وكذلك الخلاف في: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} ، في سورة الطور و:{لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} ، في سورة إبراهيم عليه السلام:

519-

وَمَدُّ أَنا في الوَصْلَ مَعْ ضَمِّ هَمْزَةٍ

وَفَتْحٍ "أَ"تَى وَالخُلْفُ في الكَسْرِ "بُـ"ـجِّلا

يريد "أنا أحي"{أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا} ، {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} .

كلهم يثبت بالألف في الوقف، وأثبتها في الوصل نافع وحده، وحذفها في الوصل هو الفصيح، وقال الإدفوي وإثباتها لغة بعض بني قيس، وربيعة، قال الأعشى:

فكيف أنا وانتحالي القوافيا

وقال الآخر:

أنا سيف العشيرة فاعرفوني

وخص نافع بالإثبات ما بعده همزة مضمومة أو مفتوحة، وفيما بعده همزة مكسورة خلاف عن قالون، والمشهور عنه الحذف، وهو ثلاثة مواضع في: الأعراف، والشعراء، والأحقاف، ولا خلاف في قصر نحو:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} 1، والله أعلم.

520-

وَنُنْشِزُهَا "ذَ"اكٍ وَبِالرَّاءِ غَيْرُهُمْ

وَصِلْ يَتَسَنَّهْ دُونَ هَاءٍ "شَـ"ـمَرْدَلا

ننشزها بالزاي من النشز، وهو: الرفع يعني تركيب العظام بعضها على بعض، وذاك معناه واضح بيِّن من ذكت النار؛ أي: اشتعلت أو من ذكا الطيب إذا فاح، و"ننشرها" بالراء نحييها من أنشر الله الموتى؛ أي: أحياهم، فهو موافق لقوله تعالى:{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا} 2.

ويقال: راء بالهمز كسائر الحروف من نحو ياء، وحاء، وطاء، وفاء، وهاء، وأخواتها التي على صورتها خطا، وأما التي على صورة الزاي فآخر اسمها ياء في اللغة الفصيحة، وهي الزاي.

فإن قلت: من أين يعلم من نظم هذا البيت أن القراءة الأولى بالزاي المنقوطة؟ قلت: من جهة أنه بين

1 سورة الأعراف، آية: 12، ويس آية:76.

2 سورة يس، آية: 78 و89 و78 و79.

ص: 365

قراءة الباقين بالراء المهملة، وقد لفظ بالأولى، ولا يمكن أن يصحف الراء إلا بالزاي؛ إذ ليس لنا حرف على صورتها في الخط غيرها.

فإن قلت: فلقائل أن يقول: لعله ابتدأ الكلمة بالمهملة ثم قال: وبالزاي غيرهم يعني: المنقوطة

قلتُ: قد تقدم جواب هذا، وهو: أنه اعتمد في ذلك على ما هو الأفصح في لغة الزاي، ولهذا استغنى الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتاب الإكمال في ضبط الأسماء بلفظ الزاي، والراء، ولا يقيد بنقط، ولا إهمال للمغايرة بينهما في الخط، وغيره من المصنفين يقيد ذلك زيادة في البيان.

قوله: وصل "يتسنه"؛ أي: إذا وصلتها بما بعدها فاحذف الهاء لحمزة، والكسائي دون غيرهما، وأما في الوقف فثباته للجميع؛ لثبوتها في رسم المصحف، ووجه حذفها في الوصل أنها هاء السكت، وهذا حكمها، ووجه إثباتها في الوصل أنه وصل بنية الوقف إن قلنا إنها للسكت أو يقال هي من أصل الكلمة، وسكنت للجزم، ومعنى لم يتسنه: لم تغيره السنهات، وأصل سنة سنهة فمنهم من يصغرها على ذلك فيقول: سنيهة، ويقولون: سانهت، وفي الجمع سنهات، ومنهم من يقول سانيت، وسنية، وسنوات فلا يأتي بالهاء فقراءة الحذف من هذه اللغة، وقراءة الإثبات من اللغة الأولى، والشمردل: الخفيف، وهو حال من يتسنه؛ لأنه خف بحذف الهاء، والشمردل أيضا الكريم فيكون حالا من الضمير المرفوع في صل، والله أعلم.

521-

وَبِالوَصْلِ قَالَ اعْلَمْ مَعَ الجَزْمِ "شَـ"ـافِع

فَصُرْهُنَّ ضَمُّ الصَّادِ بِالكَسْرِ "فُـ"ـصِّلا

"قال اعلم" مبتدأ، وشافع خبره؛ أي: هو ذو شفع بالوصل مع الجزم؛ أي: جمع بين همزة الوصل مع إسكان آخره على أنه فعل أمر أو يكون معنى شافع من الشفع بمعنى الزيادة؛ لأنه زاد على ما تقدم من أفعال الأمر نحو: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} 2، {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} 3؛ أي: اعلم بما عاينت قدرة الله على ما لم تعاين، والآمر له هو: الله تعالى، ويجوز أن يكون هو آمرا نفسه كما قال سحيم:

عميرة ودع إن تجهزت غاديا

فيكون موافقا لقراءة الجماعة بالإخبار عن نفسه فهو بهمزة القطع، والرفع.

فإن قلت: من أين يلزم إذا كانت همزة قطع أن تكون مفتوحة لا مضمومة.

قلت: لأنه فعل أمر من ثلاثي فهمزة قطعه بالفتح سواء وقف على قال أو وصلها بها، ومن قرأ بالأمر، ووقف على قال ابتدأ بهمزة مكسورة، وكان ينبغي أن يبين ذلك كما بين الضم في لفظ:{اشْدُدْ} .

1 و2 و3 سورة البقرة، آية:79.

ص: 366

في سورة طه1 فقال: وضم في ابتدأ غيره، ولو بينه لأخذ ضده، وهو الفتح؛ لقراءة الباقين، وعنى بالوصل الإتيان بهمزة الوصل، وجعل آخرا علم مجزوما؛ ليؤخذ ضد الجزم عنده، وهو الرفع للقراءة الأخرى، ولو لفظ موضع الجزم بالسكون للزم أن تكون القراءة الأخرى بالفتح، وقد نظمت بدل هذا البيت ضاما إليه البيت الذي فيه خلف ربوة في بيتين يتضمنان إيضاح القراءتين في قال اعلم، ويتأخر بيت، وجزءًا بعدهما، ولا يضر ذلك؛ فإن ربوة مقدمة في التلاوة على أكلها فقلت:

وصل همز قال اعلم مع الجزم وابتدا

بكسر شفا واكسر فصرهن فيصلا

وضم لباقٍ وافتحوا ضم ربوة

على الراهنا والمؤمنين ندكلا

وصرهن بالضم والكسر لغتان، ومعناه الإمالة والتقطيع، يقال: صاره يصيره، ويصوره في المعنيين، وقيل: الكسر؛ للقطع، والضم؛ للإمالة، وقوله: فصلا؛ أي: بين معنى الضم بقراءة الكسر؛ لأن الكسر متمحض؛ للتقطيع عند بعضهم، والضم يحتمل التقطيع، والإمالة، والله أعلم.

522-

وَجُزْءًا وَجُزْءٌ ضَمَّ الإِسْكَانَ "صِـ"ـفْ وَحَيـ

ـثُما أُكْلُهَا "ذِ"كْرًا وَفي الْغَيْرِ "ذُ"و "حُـ"ـلا

أي وجزء المنصوب وغير المنصوب، وإنما قدم ذكر المنصوب؛ لأنه هو الذي في سورة البقرة في قوله تعالى:{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} 2، فكان هو الأصل، وأتبعه ما ليس بمنصوب نحو:{جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 3.

وإنما حافظ على لفظ المنصوب هنا دون صراط، وقران، وبيوت كما تقدم؛ لأنه اكتفى في تلك بضبطها بدخول لام التعريف فيها، وخلوها منها، واجتزأ هنا بتعداد اللفظين المختلفين خطا لما لم تأتِ لام التعريف ف واحدة منهما فهو مثل "شيء"، و"شيئا"، وقد تقدم البحث فيه في باب نقل الحركة،، وقوله: صف؛ أي: اذكره؛ أي: صف ضم الإسكان فيهما، وقد سبق أن مثل هذا فيه لغتان؛ الضم، والإسكان، وقوله: حيثما أكلها؛ أي: وحيثما أكلها موجود فصف ضم إسكانه أيضا لمدلول الذال من ذكرى نحو: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} 4، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} 5 و {ذِكْرَى} 6 مصدر من معنى صف؛ لأن الواصف ذاكر أو يكون في موضع الحال؛ أي: صف ذاكرا أو مذكرا أو لأجل الذكرى أو هذه ذكرى، وقوله: وفي الغير يعني في غير أكلها مما هو من لفظه إلا أنه لم يصف إلى ضمير المؤنث نحو:

1 آية: 31.

2 سورة البقرة، آية:260.

3 سورة الحجر، آية:44.

4 سورة البقرة، آية:265.

5 سورة الرعد، آية:35.

6 سورة الشعراء، آية:209.

ص: 367

{أُكُلٍ خَمْطٍ} ، {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} 2.

زاد معهم أبو عمرو: على الضم لخفة هذا، وثقل ما فيه ضمير المؤنث، وذو حلا خبر مبتدأ محذوف يتعلق به في الغير؛ أي: والضم في غير ذلك ذو حلا؛ أي: صاحب زينة، وحلية، والله أعلم.

523-

وَفي رُبْوَةٍ فِي المُؤْمِنِينِ وَههُنا

عَلَى فَتْحِ ضَمِّ الراءِ "نَـ"ـبِّهْثُ "كُـ"ـفِّلا

يريد قوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} 4، والفتح والضم في الراء لغتان، ويقال أيضا: بكسر الراء، وكفلا جمع كافل، وهو الضامن، والذي يعول غيره، وكنى به عن طالب العلم وخدمه.

524-

وَفي الوَصْلِ لِلْبَزِّيِّ شَدِّدْ تَيَمَّمُوا

وَتَاءَ تَوَفَّى فِي النِّسَا عَنْهُ مُجْمِلا

مجملا حال من الضمير في شدد أو من الهاء في عنه، وهو من أجمل: إذا أتى بالجميل: وقوله: في الوصل؛ لأن قراءة البزي هذه لا تمكن في الوقف؛ لأنه يشدد التاء في أوائل هذه الكلم الآتي ذكرها، والحرف المشدد معدود حرفين أولهما ساكن، والابتداء بساكن غير مقدور عليه فخص التشديد بحالة الوصل؛ لتتصل التاء بما قبلها، وهذا التشديد إنما هو إدغام تاء في مثلها؛ لأن هذه المواضع التي وقع التشديد في أوائلها هي أفعال مضارعة أولها تاء المضارعة ثم التاء التي من نفس الكلمة، فأدغم البزي الأولى في الثانية، وغيره حذف إحدى التاءين تخفيفا ثم هذه التاءات على ثلاثة أقسام منها ما قبله متحرك كالذي في النساء:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} 5.

ومنها ما قبله حرف مد مثل: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} 6.

فالتشديد في هذين القسمين سائغ؛ إذ لم يجتمع ساكنان على غير حدهما فإن: {وَلا تَيَمَّمُوا} ، مثل "دَابَّةٍ"، فتمد الألف لذلك، والقسم الثالث ما قبله ساكن صحيح نحو:{هَلْ تَرَبَّصُونَ} 7، فهذا في إدغامه جمع بين الساكنين على غير حدهما، وسيأتي الكلام عليه، ومن المصنفين من يذكر هذه التاءات في باب الإدغام، وهذا التشديد وارد في أحد، وثلاثين موضعا بلا خلاف عن البزي، وله موضعان

1 سورة الرعد، آية:141.

2 سورة الرعد، آية:8.

3 سورة البقرة، آية:265.

4 سورة الرعد، آية:50.

5 آية: 97.

6 سورة البقرة، آية:267.

7 سورة التوبة، آية:52.

ص: 368

مختلف عنه فيهما سيذكرهما بعد الفراغ من المتفق عليه له، وقد قال مكي في التبصرة: وقد روى عن البزي أنه شدد هذا، وما كان مثله في جميع القرآن قال: والمعول عليه هذه المواضع بعينها، وقد ذكر الناظم منها في هذا البيت موضعين ثم أخذ في ذكر الباقي فقال:

525-

وَفي آلِ عِمْرَانٍ لَهُ لا تَفَرَّقُوا

وَالَانْعَامُ فِيها فَتَفَرَّقَ مُثِّلا

يريد: {وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2، ولفظ به على صفة قراءة البزي له بالتشديد، ولم يلفظ بغيره على ذلك إلا قوله:{لِتَعَارَفُوا} ، وهو ممكن قراءته على رواية البزي، وعلى غيرها، وفاعل مثلا: ضمير عائد على البزي؛ يعني مثله؛ أي: أحضره لك، وأظهره، ولا تفرقوا مثل، ولا تيمموا، والتاء في فتفرق بعد متحرك فكل هذا تشديده مستقيم.

526-

وَعِنْدَ العُقُودِ التَّاءُ في لا تَعَاوَنُوا

وَيَرْوِى ثَلاثا فِي تَلَقَّفُ مُثَّلا

مثلا جمع ماثل من قولهم: مثل بين يديه إذا قام، وهو نعت، ثلاثا: أي: روى التشديد في ثلاث متشخصات من لفظ: تلقف، وذلك في الأعراف، وطه، والشعراء، وكلها بعد متحرك، ولا تعاونوا مثل، ولا تيمموا:

527-

تَنَزَّلُ عَنْهُ ارْبَعٌ وَتَنَاصَرُو

نَ نَارًا تَلَظَّى إِذْ تَلَقَّوْنَ ثقِّلا

في الحجر: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} 3.

وفي الشعراء موضعان: {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ} 4.

وفي القدر من: {الْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ} 5.

وفي الصافات: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} 6.

فالذي في الحجر: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} 7.

1 سورة آل عمران، آية:103.

2 سورة الأنعام، آية:153.

3 سورة الحجر، آية:8.

4 آية: 221 و222.

5 آية: 5 و6.

6 آية: 25.

7 آية: 25.

ص: 369

مثل: ولا تيمموا، والثاني من تنزل في الشعراء بعد متحرك، فتشديد هذه الثلاثة جيد، وأما الأول في الشعراء، والذي في القدر.

{نَارًا تَلَظَّى} 1، و {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} 2، فممتنع ذلك فيها؛ لأنها بعد ساكن، قال مكي: وقوع الإدغام في هذا قبيح صعب، ولا يجيزه جميع النحويين؛ إذ لا يجوز المد في الساكن الذي قبل المشدد، قال: وقد قال بعض القراء فيه: إنه إخفاء، وليس بإدغام، وهذا أسهل قليلا من الإدغام؛ لأن الإخفاء لا تشديد فيه.

528-

تَكَلَّمُ مَعْ حَرْفَيْ تَوَلَّوْا بِهُودِها

وَفي نُورِهَا وَالِامْتِحانِ وَبَعْدَلا

يريد: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} 3، في هود، وفيها:"تولوا" في موضعين أحدهما في أولها: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ} 4، والآخر في قصة عاد، وفي النور:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} 5، وفي الممتحنة:{انْ تَوَلَّوْهُمْ} 6.

فقوله: لا تكلم مثل: {وَلا تَيَمَّمُوا} ، والبواقي في إدغامها جمع بين ساكنين ثم قال: وبعد لا يعني لفظ "تولوا" جاء أيضًا مشددا بعد حرف لا ثم ذكر مكانه فقال:

529-

في الَانْفَالِ أَيْضًا ثُمَّ فِيهَا تَنَازَعُوا

تَبَرَّجْنَ في الأَحْزَابِ مَعْ أَنْ تَبَدَّلا

يعني: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَانْتُمْ تَسْمَعُونَ} 7، وفي القرآن غير ذلك من لفظ تولوا، ولم يشدد؛ لأنه ماضٍ نحو ما في سورة المائدة:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ انَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} 8.

والذي في آل عمران: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 9.

وكذا الذي في آخر براءة:

1 سورة الليل، آية:14.

2 سورة النور، آية:15.

3 سورة هود، آية:105.

4 آية: 3 و26.

5 آية: 54.

6 آية: 9.

7 سورة الأنفال، آية:20.

8 سورة المائدة، آية:49.

9 سورة آل عمران، آية:32.

ص: 370

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} 1 يحتمل الوجهين، ولكن لم يذكر في التاءات المشددة، وفي الأنفال أيضا:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} {وَلا تَبَرَّجْنَ} 3.

فهذه الثلاثة من قبيل {وَلا تَيَمَّمُوا} ، وأما:{وَلا انْ تَبَدَّلَ بِهِنّ} 4، فمن قبيل اجتماع الساكنين فهذه تسعة مواضع ثم ذكر العاشر فقال:

530-

وَفي التَّوْبَةِ الْغَرَّاءِ هَلْ تَرَبَّصُونَ

عَنْهُ وَجَمْعُ السَّاكِنَيْنِ هُنَا انْجَلَى

قال الشيخ: وقوله: وجمع الساكنين أراد به، وجمعنا للساكنين في النظم هنا انجلا؛ أي: انكشف، وذهب؛ لأن انقضاءه في النظم وقع ههنا، وهي ثمانية مواضع فذكرها، وإن تولوا، فإن تولوا في هود، وفي النور:{فَإِنْ تَوَلَّوْا} {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ} {نَارًا تَلَظَّى} {شَهْرٍ، تَنَزَّلُ} {هَلْ تَرَبَّصُونَ} 10.

وبقي عليه اثنان: {انْ تَبَدَّلَ بِهِنّ} 11، {انْ تَوَلَّوْهُمْ} 12.

وذكرها غيره تسعة فأسقط "أن تبدل"، وإنما هي عشرة في هذا البيت واحدة، وفي الذي قبله واحدة، وفي كل واحدة من البيتين قبلهما أربعة، وقد بينا كلا في موضعه.

قال: أو يكون قوله: هنا؛ أي: في هذه القراءة.

قلت: على هذا المعنى يحتمل أن يكون الناظم أشار إلى عسر هذه القراءة، وعدم تحقق النطق بالتشديد مع وجود الساكن الصحيح قبل التاء كما أشار إلى ذلك في آخر باب الإدغام الكبير؛ أي: انكشف أمره، وبان عسره، وظهر تعذره، وعلى الوجه الأول يكون المعنى: أن المواضع التي يلزم من تشديدها الجمع بين الساكنين قد ذكرت فيما تقدم، وفرغ منها هنا، وليس يفهم من ذلك أنه ذكرها مرتبة بل تفرق ذكرها في أثناء المواضع، ولكلامه هذا فائدة جليلة سيأتي ذكرها بعد شرح بيتين آخرين ثم تمم ذكر التاءات، ولم يبق إلا ما هو بعد متحرك أو حرف مد فقال:

531-

تَمَيَّزَ يَرْوِي ثُمَّ حَرْفَ تَخَيَّرُونَ

عَنْهُ تَلَهَّى قَبْلَهُ الهَاءَ وَصَّلا

1 سورة التوبة، آية:129.

2 الأنفال، آية:46.

3 الأحزاب، آية:33.

4 الأحزاب، آية:52.

5 آل عمران، آية:20.

6 و7 و8 و9 سبق تخريجها.

10 سورة التوبة، آية:52.

11 سبق تخريجها.

12 سورة الممتحنة، آية:9.

ص: 371

يعني {تَكَادُ تَمَيَّزُ} {لَمَا تَخَيَّرُونَ} {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} 3، ولا يمنع تشديد التاء من صلة الهاء في عنه بواو على أصله بل يصل ويشدد فيقع التشديد بعد حرف مد هو الواو فيبقى مثل "ولا تيمموا"، فهذا معنى قوله: قبله الهاء وصلا؛ أي: وصل الهاء بواو، وتمم الناظم البيت بذلك زيادة في البيان؛ خوفا من ترك الفطن لذلك كما أنه يترك الصلة في نحو "لعلمه الذين" ويستظهر بقول الناظم، ولم يصلوا ها مضمر قبل ساكن، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة أم القرآن في شرح قوله: ومن دون وصل ضم ها قبل ساكن، وفي أول باب هاء الكناية، وقد ذكر مكي "عنه تلهى" في جملة ما قبله حرف مد، ولولا الصلة لعده في جملة ما قبله متحرك، والله أعلم.

532-

وَفي الحُجُراتِ التَّاءُ فِي لِتَعَارَفُوا

وَبَعْدَ وَلا حَرْفَانِ مِنْ قَبْلِهِ جَلا

يريد قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} ، {وَلا تَنَابَزُوا} 4، فهذان موضعان كل واحد منهما بعد لفظ، ولا، وهما من قبل قوله:"وقبائل لتعارفوا"، والكل في سورة الحجرات، وقوله: جلا ليس برمز لورش فهو موهم ذلك؛ فإن جميع الأبيات يقيد فيها بأنها عنه أوله، ويروى فيفهم عود ذلك إلى البزي، وكل بيت خلا من شيء من ذلك لم يكن فيه ما يوهم رمزًا؛ لأنه مجرد تعداد المواضع، فيكون القيد فيما بعدها شاملا للجميع كقوله: تكلم في الأنفال البيتين فإن الجميع تقيد بقوله في البيت الآخر: {هَلْ تَرَبَّصُونَ} 5.

عنه فإن قلت: فهذا البيت أيضا قد تقيد في البيت بعده من قوله: عنه على وجهين قلت: تكون الهاء في عنه عائدة على مدلول جلا فالإيهام باقٍ بحاله بخلاف ما تقدم فإنه لم يسبقه ما يوهم الرمز به، والضمير في جلا لقوله:{لِتَعَارَفُوا} 6؛ أي كشف عن الحرفين اللذين قبله بدلالته عليهما، فهذا آخر الكلمات المعدودة أحدى وثلاثين المشددة للبزي بلا خلاف منها سبعة بعد متحرك، وأربعة عشر بعد حرف مد، وعشرة بعد ساكن صحيح، والذي قبله حرف مد منه واحد بعد الواو، وهو:{عَنْهُ تَلَهَّى} ، وثلاثة عشر بعد الألف ثم ذكر له موضعين آخرين اختلف عنه فيهما فقال:

533-

وَكُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الَّذِي مَعْ تَفَكَّهُونَ

عَنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ فَافْهَمْ مُحَصِّلا

1 سورة تبارك، آية:8.

2 سورة ن، آية:38.

3 سورة عبس، آية:10.

4 سورة الحجرات، آية، 12.

5 سبق تخريجها.

6 سورة الحجرات، آية:13.

ص: 372

يعني: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} ، في آل عمران1:{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} ، في الواقعة2، ويصل الميم قبل ذلك كما تقدم في:{عَنْهُ تَلَهَّى} 3، فيبقى من قبيل:"ولا تيمموا".

فإن قلت: لم ينص الناظم على صلة الميم قلت لا حاجة إلى ذلك فإنه معلوم من موضعه، ولو لم ينص على صلة:{عَنْهُ تَلَهَّى} لما احتيج إلى ذلك كما سبق، ولهذا لم يذكر في التيسر صلة شيء من ذلك اتكالا على ما علم من مذهبه، ومن المشتغلين بهذه القصيدة من يظن أنه لا صلة في الميمين لعدم نص الناظم عليها، وذلك، وهم منه، والناظم، وإن لم يصرح بالصلة فقد كنى عن ذلك بطريق لطيف لمن كان له لب، وفهم مستقيم، وذلك أنه لو لم تكن هنا صلة لأدى التشديد إلى جمع الساكنين على غير حدهما، وقد قال الناظم فيما قبل: وجمع الساكنين هنا انجلا، وكان من هذه العبارة وجود الصلة في هذه الميم تصديقا لقوله: إن اجتماع الساكنين قد انقضى عند قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ} 4.

وما أدري ما وجه الخلاف في تشديد هاتين التاءين، وليت الخلاف كان عند وجود الساكنين، وإلى مثل هذه الدقائق، والمعاني أشار بقوله:"فافهم محصلا"؛ أي: في حال تحصيل، واشتغال، وبحث، وسؤال لا في حال كلال، وملال، وعدم احتفال، والحمد لله على كل حال.

534-

نِعِمَّا مَعًا في النُّونِ فَتْحٌ "كَـ"ـمَا "شَـ"ـفَا

وَإِخْفَاءِ كَسْرِ الْعَيْنِ "صِـ"ـيغَ "بِـ"ـهِ "حُـ"ـلا

معا: يعني هنا، وفي النساء فالذي هنا:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} ، والذي في سورة النساء:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} ، وكذلك حيث ذكر الناظم معا فإن معناه أن هذا الحرف في موضعين أحدهما أو كلاهما في هذه الصورة كما قال: معا قد حرك فإن كان الحرف في أكثر من موضعين لم يقل معا، بل يقول: حيث أتى أو جميعا أو الكل، ونحو ذلك، ولو قال: معا في الزائد على الاثنين لكان سائغا في اللغة، وقد سبق تقريره في باب الهمز المفرد، ولكنه فرق بين المعنيين بذلك، وليس بحتم أن يقول معا في موضعي الخلاف بل قد يأتي بعبارة أخرى نحو قوله: وفي لام لله الأخيرين حذفها:

1 آية: 143.

2 آية: 65.

3 سورة عبس، آية:10.

4 سورة التوبة، آية:52.

ص: 373

{عَسَيْتُمْ} بكسر السين حيث أتى انجلا، وهو في موضعين فقط كما مر ذكره فإن كان الخلاف في موضعين لكلمة واحدة، وتلك الكلمة قد جاءت على أحد الوجهين في موضع ثالث بلا خلاف لم يقل فيه معا؛ لأنه لا يفهم من ذلك موضع الخلاف من موضع الاتفاق بل ينص على موضعي الخلاف كقوله: وكسرك: "سِخْرِيًّا" بها، وبصادها؛ لأن الكلمة قد جاءت أيضا في الزخرف، ولكنها مضمومة بلا خلاف، واعلم أن:"نِعِمَّا" كلمتان كتبتا متصلتين، والتقى المثلان فأدغمت الميم في الميم، واتفق القراء على الإدغام موافقة لخط المصحف فإنهما كتبتا بميم واحدة، وهذا موضع اتفق عليه من باب الإدغام الكبير؛ لأن الميم من نعم متحركة مفتوحة، وقد أدغمت في الميم من ما الداخلة عليها، وكان الأصل نعم ما كما تقول: بئس ما، ولما أريد الإدغام لم يمكن مع سكون العين قبلها فكسرت، فمن القراء من أشبع الكسر في الموضعين معا، وهم ابن كثير، وورش، وحفص، وكل من فتح النون، ومنهم من أخفى الكسر، واختلسه تنبيها على أن أصل هذه العين السكون، وهم أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر، وما أحسن ما عبر عنهم الناظم بقوله:"صيغ به حلا"، وباقي القراء، وهم ابن عامر، وحمزة، والكسائي فتحوا النون، وكسروا العين، وهذه هي اللغة الأصلية في هذا الفعل كحمد، وعلم ثم سكن عينه تخفيفا لكثرة استعماله، ونقلت كسرة العين إلى النون فصارت هذه هي أفصح اللغات فيه كما قال تعالى في موضع لا يتصل به ما:{نِعْمَ الْعَبْدُ} 1، فلما اتصلت به ما وجب الإدغام لأجل الخط، ولزم كسر العين لأجل الساكنين بقيت كسرة النون على حالها، ومن فتحها عدل عن اللغة الأصلية؛ ليأتي بالكسر الأصلي للعين، ولا يحتاج إلى كسر لالتقاء الساكنين، ويجوز أيضا في اللغة أن يقال في نعم المجردة عن كلمة ما نعم بكسر النون، والعين، ونعم بفتح النون، وسكون العين نص على ذلك أبو جعفر النحاس، وغيره، وقد ذكر بعض المصنفين في القراءات إسكان العين مع الإدغام، وذلك غير مستقيم في التحقيق، ونسبه صاحب التيسير إلى من حكى لهم الإخفاء هنا فقال قالون، وأبو بكر، وأبو عمرو بكسر النون، وإخفاء حركة العين، ويجوز إسكانها، وبذلك ورد النص عنهم، والأول أقيس:

قلت: ولم يعرج الناظم على هذه الرواية، وترك ذكرها كما ترك ذكر نظيرها في:{لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} 2 كما يأتي، وأصاب في ذلك قال مكي في التبصرة، وقد ذكر عنهم اإسكان، وليس بالجائز، وروى

1 سورة ص، آية:30.

2 سورة الأعراف، آية:163.

ص: 374

عنهم الاختلاس، وهو حسن قريب من الإخفاء، وقال في الكشف: روي عن أهل الإخفاء الاختلاس، وهو حسن، وروي الإسكان للعين، وليس بشيء، ولا قرأت به؛ لأن فيهما جمعا بين ساكنين ليس الأول حرف مد، ولين، وذلك غير جائز عند أحد من النحويين، وقال أبو علي: من قرأ: {فَنِعِمَّا} بسكون العين لم يكن قوله: مستقيمًا عند النحويين؛ لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بمد، ولين، وقد أنشد سيبويه شعرا قد أجتمع فيه الساكنان على حد ما اجتمعا في نعما، وأنكره أصحابه قال: ولعل أبا عمرو أخفا ذلك كأخذه بالإخفاء في نحو: {بَارِئِكُمْ} ، و {يَأْمُرُكُمْ} ، فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع، وخفائه، وقال أبو جعفر النحاس: فأما الذي حكي عن أبي عمرو، ونافع من إسكان العين فمحال.

حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: أما إسكان العين، والميم مشددة فلا يقدر عليه أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين، ويحرك، ولا يأبه؛ أي: لا ينتبه للتحريك، ولا يفطن به.

وقد اختار قراءة الإسكان الإمام أبو عبيد: القاسم بن سلام، وهو من عجيب اختياراته، فذكر قراءة الإسكان في كتابه أولا ثم ذكر قراءة فتح النون، وكسر العين ثم قال: وبالقراءة الأولى قرأت؛ لأنها فيما يروى لغة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لعمرو بن العاص: "نعما المال الصالح للرجل الصالح".

قال: هكذا يروى عنه صلى الله عليه وسلم على هذا اللفظ، قال: ثم أصل الكلمة أيضا إنما هي "نعم" زيدت فيها "ما"، وإنما قرأ تلك القراءة الأخرى من قرأها لكراهة أن يجمعوا بين ساكنين: العين، والميم، فحركوا العين، قال: وهو مذهب حسن في العربية، ولكنه على خلاف الحديث، والأصل جميعا.

قال أبو إسحاق الزجاج بعد ذكره كلام أبي عبيد: ولا أحسب أصحاب الحديث ضبطوا هذا، ولا هذه القراءة عند البصريين النحويين جائزة البتة؛ لأن فيها الجمع بين ساكنين مع غير حرف مد، ولا لين.

قلت: صدق أبو إسحاق فكما قيل عمن روى قراءة الإسكان: إنه سمع الإخفاء فلم يضبط، كذلك القول في رواة الحديث بل أولى؛ لكثرة ما يقع في الأحاديث من الروائق، على خلاف فصيح اللغة، وقد أخرج هذا الحديث الحاكم في كتابه المستدرك، وقال في آخره: يعني بفتح النون، وكسر العين: هذا حديث صحيح، قلت: والحديث بتمامه مذكور في ترجمة عمرو بن العاص في تاريخنا الشمي، وغيره، والباء في بالمال زائدة مثلها في:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 1، والله أعلم.

1 سورة الفتح، الآية:28.

ص: 375

535-

وَيَا وَنُكَفِّرْ "عَـ"ـنْ "كِـ"ـرَامٍ وَجَزْمُهُ

"أَ"تَى "شَـ"ـافِيًا وَالغَيْرُ بِالرَّفْعِ وُكِّلا

يعني أن حفصا وابن عامر بالياء، والباقون بالنون، وهي ظاهرة، وأما الياء فإخبار عن الله أو عن المذكور، وهو الإخفاء، والإيتاء الذي دل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1.

أي: هذا الفعل خير لكم، وهو يكفر عنكم، وجزم الراء من القراء نافع، وحمزة، والكسائي؛ لأنه معطوف على موضع:{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وموضعه جزم على جواب الشرط، وسيأتي مثل ذلك في الأعراف:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} 2، قرئ بالياء، والنون، والجزم، والرفع، والأكثر ثَم على الياء، والرفع،، ووجه الرفع فيهما الاستئناف، واستقل الجواب بما قبل ذلك، وقوله: والغير بالرفع، زيادة في البيان لم تدع إلى ذكر ضرورة؛ لأن الرفع ضد الجزم كما أن النون ضد الياء فكما لم يذكر النون كان له أن لا يذكر الرفع، والله أعلم.

536-

وَيَحْسَبُ كَسْرُ السِّينِ مُسْتَقبَلًا "سَمَا"

"رِ"ضَاهُ وَلَمْ يَلْزَمْ قِيَاسًا مُؤَصَّلا

مستقبلا حال من يحسب، ولولا هو لما كان الخلاف إلا في الذي في سورة البقرة فقط:{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} .

فقال: مستقبلا؛ ليشمل كل فعل مستقبل في القرآن سواء كان بالياء وأو بالتاء متصلا به ضمير أو غير متصل نحو: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} {وَلا تَحْسَبَنّ} {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ} 7.

ولو قال موضع مستقبلا: "كيف أتى" كان أصرح لكنه خاف أن يلتحق بذلك الفعل الماضي نحو: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} 9.

1 سورة البقرة، آية:271.

2 آية: 186.

3 سورة القيامة، آية:3.

4 سورة الفرقان، آية:44.

5 سورة آل عمران، آية:269.

6 سورة الكهف، آية:104.

7 سورة المائدة، آية:71.

8 سورة آل عمران، آية:188.

9 سورة العنكبوت، آية:2.

ص: 376

مما لا خلاف في كسره، وكسر السين مبتدأ ثانٍ، والعائد إلى المبتدأ الأول، وهو يحسب محذوف تقديره كسر السين منه، وسما رضاه خبره، والكسر، والفتح في ذلك لغتان مشهورتان، والفتح هو الجاري على القياس؛ لأن ماضيه مكسور السين، والغالب على الأفعال التي ماضيها كذلك أن مستقبلها بالفتح كـ "علِم يعلَم"، و"شرب يشرب"، وأما إتيان المستقبل بالكسر كالماضي فخارج عن القياس، ولم يأت إلا في أفعال يسيرة منها حسب ونعم وبئس، فهذا معنى قوله: ولم يلزم قياسًا مؤصلًا أصلته العرب وعلماء العربية، وفاعل يلزم ضمير يرجع على يحسب؛ أي: لو لزم القياس لكانت سينه مفتوحة، واختار أبو عبيد قراءة الكسر، وذكر حديثا عن لقيط بن صبرة قال: كنت وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن عنده إذ روح الراعي غنمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أولدت" قال: بهمة قال: "اذبح مكانها شاة"، ثم قال:"لا تحسبن" -ولم يقل لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها- قال أبو عبيد: بالكسر نقرؤها في القرآن كله اختيارا لما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لغته واتباعا للفظه والله أعلم.

537-

وَقُلْ فَأْذَنُوا بِالمَدِّ وَاكْسِرْ "فَـ"ـتىً "صَـ"ـفَا

وَمَيْسَرَةَ بِالضَّمِّ في السِّينِ "أُ"صِّلا

فتى صفا حال من الضمير في واكسر، وأراد كسر الذال وبالمد أراد به ألفا يزيدها بعد الهمزة، ويلزم من ذلك تحريك الهمزة، والعبارة مشكلة على من لا يعرف القراءة؛ إذ قد يفهم أن الكسر في الهمزة، فيكون المد بعدها ياء أو يريد بالمد الألف بعد الألف التي هي بدل من الهمزة الساكنة، ويكون الكسر في الذال، فيلبس ذلك على من لا يعرف، فيحتاج إلى موقف، ولو قال: ومد وحرك فأذنوا اكسر فتى صفاه، لظهر الأمر، فقراءة حمزة وأبي بكر من الأعلام؛ أي: فأعلِموا م وراءكم بحرب من الله؛ لأن آذن بمعنى أعلم، وقراءة الجماعة من أذن به؛ أي: علم به فهو أذين؛ أي: كونوا على إذن بحرب من الله ورسوله، وأما ميسرة بالفتح والضم فلغتان، والفتح أفصح وأشهر وأقيس، وهي اختيار أبي عبيد وغيره والله أعلم.

538-

وَتَصَّدَّقُوا خِفٌّ "نَـ"ـمَا تُرْجَعُونَ قُلْ

بِضَمٍّ وَفَتْحٍ عَنْ سِوى وَلَدِ العُلا

يريد {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 1، وأصله تتصدقوا، فحذف عاصم إحدى التاءين وغيره أدغم الثانية في الصاد، فمن ثم جاء التشديد، وأراد:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} 2، والخلاف فيه على ما سبق معناه في ترجع الأمور.

1 سورة البقرة، الآية:280.

ص: 377

539-

وَفي أَنْ تَضِلَّ الْكَسْرُ "فَـ"ـازَ وَخَفَّفُوا

فَتُذْكرَ "حَقًّـ"ـا وَارْفَعِ الرَّا "فَـ"ـتَعْدِلا

إنما قال: فاز؛ لأن وجهه ظاهر؛ أي: إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى، ولهذا رفع فتذكر؛ لأنه جواب الشرط نحو:{وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} 1، فلما لم يستقم مع الكسر إلا الرفع قال: فتعدلا، ومن فتح "أن" فعلى التعليل وعطف فتذكر على تضل وإن كان التعليل في الحقيقة إنما هو الإذكار، ولكنه تقدم ذكر سببه وهو الإضلال، ونظيره أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه به، وعلة إعداد السلاح إنما هو دفع العدو لا مجيئه، ولكن ذكر مجيء العدو توطئة له؛ لأنه سبب الدفع والتخفيف والتشديد في فتذكر لغتان يقال: اذكر وذكر كأنزل ونزل والله أعلم.

540-

تِجَارَةٌ انْصِبْ رَفْعَهُ فِي النِّسَا "ثَـ"ـوى

وَحَاضِرةٌ مَعْهَا هُنَا عَاصِمٌ تَلا

الذي في النساء: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} 2، وهنا:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} 3، فنصب التي في النساء الكوفيون ونصب التي في البقرة عاصم مع صفتها وهي حاضرة فقوله: وحاضرة معها؛ أي: وانصب حاضرة مع تجارة هنا، ثم قال عاصم: تلا ذلك أو التقدير: عاصم تلا حاضرة معها؛ أي: نصبهما، وأجاز الناظم مع ههنا؛ أي: مع الحرف الذي ههنا فوجه النصب في الموضعين جعل كان ناقصة، واسمها مضمر يعني الأموال ذات تجارة، ومن رفع جعلها تامة، وقيل: إنها أيضا هنا ناقصة والخبر تديرونها، ويجوز أن يقدر في النساء دائرة بينكم والله أعلم.

541-

وَ "حَقٌّ" رِهَانٍ ضَمُّ كَسْرٍ وَفَتْحَةٍ

وَقَصْرٌ وَيَغْفِرْ مَعْ يُعَذِّبْ "سَمَا" العُلا

أي: حق جمع رهان أن يكون مضموم الراء والهاء، وأن تحذف ألفه وهو المراد بقوله: وقصر فيقال: رهن يشير إلى أن رهن جمع رهان وهو قول الأكثر، ورهان جمع رهن وهو قياس جمعه كفرخ وفراخ وبغل وبغال وكبش وكباش، والرهن في الأصل مصدر، ثم استعمل استعمال الكتاب فكما يسمى المكتوب كتابا كذلك يسمى المرهون رهنا وقيل: رهن أيضا جمع رهن كسقف وسقف، وأما قوله تعالى:{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} 4.

1 سورة المائدة، آية:95.

2 سورة النساء: آية: 29.

3 سورة البقرة، آية:282.

4 سورة البقرة، آية:284.

ص: 378

فقرءتا بالجزم عطفا على: {يُحَاسِبْكُمْ} ، وبالرفع قرأ ابن عامر وعاصم على الاستئناف؛ أي: فهو يغفر ويعذب ثم ذكر تتمة رمز الجزم فقال:

542-

"شَـ"ـذَا الجَزْمِ وَالتَّوْحِيدُ فِي وَكِتَابِهِ

"شَـ"ـرِيفٌ وَفي التَّحْرِيمِ جَمْعُ "حِـ"ـمًى "عَـ"ـلا

شذا: فاعل سما في البيت الماضي، والعلا مفعول أي: طال شذا جزم يغفر مع يعذب العلا، والشذا حدة الطيب وتوحيد الكتاب هنا أريد به القرآن أو جنس الكتاب وفي التحريم أريد به الإنجيل أو الجنس ولم يقرأ بالجمع في التحريم إلا أبو عمرو وحفص؛ لأنه ليس معه ورسله بخلافه هنا، وروينا في جزء المخزومي عن علي بن عاصم قال: أخبرنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ} 1، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب، قال علي بن عاصم: فسألت أهل العربية فقالوا: الكتاب جماع الجميع، قلت: كأنهم أشاروا إلى أن الكتاب مصدر فجميع الكتب كتابه: المشهورة وغير المشهورة، ووجه قراءة من جمع في البقرة وأفرد في التحريم أنه نظر إلى من أسند الفعل إليه في الموضعين، وهو في البقرة مسند إلى المؤمنين، ومؤمنو كل زمان لهم كتاب يخصهم، وفي التحريم الفعل مسند إلى مريم وحدها فأشير إلى الكتاب المنزل في زمانها، ووجه الجمع أن قبلها:{بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} .

وفي البقرة قبلها: {وَمَلائِكَتِهِ} وبعدها {وَرُسُلِهِ} 2.

543-

وَبَيْتِي وَعَهْدِي فَاذُكُرُونِي مُضَافُهَا

وَرَبِّي وَبِي مِنِّي وَإِنِّي مَعًا حُلا

أي في هذه السورة من ياءات الإضافة المختلف في فتحها وإسكانها على ما تقرر في بابها ثماني ياءات، وإنما ذكر في آخر كل سورة ما فيها من ياءات الإضافة؛ لأنه لم ينص عليها بأعيانها في بابها، وإنما ذكرها على الإجمال فبين ما في كل سورة من الياءات المختلف فيها؛ لتنفصل من المجمع عليها ويأخذ الحكم فيما يذكره من الياءات السابق في أحكامها، ولم يذكر الزوائد؛ لأنها كلها منصوص عليها بأعيانها في بابها، وصاحب التيسير لما لم ينص على الجميع بأعيانها في البابين احتاج إلى ذكر الأمرين في آخر كل سورة، وبيان حكم كل ياء منها فتحا وإسكانًا، حذفا وإثباتا وزاد بعض المصنفين في آخر كل سورة ذكر ما فيها من كلمات الإدغام الكبير مفروشة

1 سورة التحرير، آية:12.

2 سورة البقرة، آية:285.

ص: 379

أما الياءات الثماني المنصوصة فنشرحها ونبين أحكامها؛ استذكارا لما سبق بيانه قوله تعالى:

{بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} 1، فتحها نافع وهشام وحفص.

{عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 2، سكنها حمزة وحفص.

{فَاذْكُرُونِي اذْكُرْكُمْ} 3، فتحها ابن كثير وحده.

{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي} 4، سكنها حمزة وحده.

{بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 5، فتحها ورش وحده

{مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ} 6، فتحها نافع وأبو عمرو.

{إِنِّي اعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} {إِنِّي اعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ} 8، فتحها الحرميان وأبو عمرو، فهذا معنى قوله: وإني معا؛ أي: تكررت مرتين وحلا:؛ أي: هي حلا.

وفي هذه السورة من ياءات الزوائد ثلاث ياءات:

{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 9، أثبتها أبو عمرو وورش في الوصل وقالون على رواية.

{وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْالْبَابِ} 10، أثبتها أبو عمرو وحده في الوصل، وكنت قد طلب مني نظم الزوائد في أواخر السور تبعا لياءات الإضافة ففعلت ذلك في نيف وعشرين بيتا سيأتي ذكرها مفرقة في أواخر السور التي تكون فيها، وقلت في آخر سورة البقرة بيتا ابتدأته بعد ياءات الإضافة المنظومة وهو:

فتلك ثمانٍ والزوائد واتقو

ن من قبلها الداعي دعاني قد انجلا

والله أعلم.

1 سورة البقرة، آية:125.

2 سورة البقرة، آية:124.

3 سورة البقرة، آية:152.

4 سورة البقرة، آية:258.

5 سورة البقرة، آية:186.

6 سورة البقرة، آية:149.

7 سورة البقرة، آية:30.

8 سورة البقرة، آية:33.

9 سورة البقرة، آية:186.

10 سورة البقرة، آية:197.

ص: 380

سورة آل عمران:

مدنية: مائتا آية

544-

وَإِضْجَاعُكَ التَّوْرَاةَ "مَـ"ـا رُدَّ "حُـ"ـسْنُهُ

وَقُلِّلَ "فِـ"ـي "جَـ"ـوْدٍ وَبِالخُلْفِ "بَـ"ـلَّلا

الإضجاع من ألفاظ الإمالة وأميلت ألف التوراة؛ لأنها بعد راءٍ، وقد وقعت رابعة فأشبهت ألف التأنيث كـ "تترى" و"النصارى"، فلهذا قال: ما رد حسنه وقيل الألف منقلبة عن ياء وأصلها تورية من ورى الزند وهذا تكلف ما لم تدع إليه حاجة ولا يصح؛ لأن إظهار الاشتقاق إنما يكون في الأسماء العربية والتوراة والإنجيل من الأسماء الأعجمية، قوله: وقلل في جود يعني أميل إمالة قليلة وهي التي يعبر عنها بقولهم بين بين وبين اللفظين وقد سبق الكلام في تحقيقها في باب الإمالة والجود المطر الغزير؛ أي: في شهرة واستحسان كالجود الذي تحيا به الأرض يشير إلى أن التقليل محبوب مشهور في اللغة وبالخلف بللا يعني قالون؛ لأنه لم يدم على التقليل فهو دون الجود؛ إذ كان مرة يفتح ومرة يقلل، فاختلف الرواة عنه لذلك، وهذا الموضع من جملة ما الحكم فيه عام ولم ينبه عليه الناظم؛ لأن إمالة التوراة لا تختص بما في هذه السورة، وكان موضع ذكرها باب الإمالة، ولو ذكرها فيه لظهر إرادة العموم؛ لأنه ليس بعض السور بأولى به من بعض كما ذكر ثَم ألفاظا كثيرة، وعمت كقوله: وإضجاع "أنصارى"، "وآذانهم" طغيانهم، وإنما ذكر إمالة التوراة هنا موافقة لصاحب التيسير، ولكن صاحب التيسير قال في جميع القرآن فزال الإشكال وظاهر إطلاق الناظم يقتضي الاقتصار على ما في هذه السورة على ما سبق تقريره مرارا ومن الدليل على أن من عادته بالإطلاق الاقتصار على ما في السورة التي انتظم فيها، وإذا أراد العموم نص عليه بما يحتمل ذلك. قوله في أول سورة المؤمنون: أماناتهم وحدٌ وفي سال داريا، ثم قال: صلاتهم شاف فأطلق وفي سأل أيضا "صلواتهم" ولا خلاف في إفراده، فلما لم يكن فيها خلاف أطلق لعلمه أن لفظه لا يتناولا إلا بزيادة قيد، ولما عم الخلاف في أماناتهم قيد فقال: وفي سال، وفي هذه السورة موضعان آخران عم الحكم فيهما ولم ينبه عليهما، وهما:"هأنتم" و"كأين" كما سيأتي، وكان يمكن أن يقول هنا: أمل جملة التوراة ما رد حسنه والله أعلم.

545-

وَفي تُغْلَبُونَ الغَيْبُ مَعْ تُحْشَرُونَ "فِـ"ـي

"رِ"ضًا وَتَرَوْنَ الغَيْبُ "خُـ"ـصَّ وَخُلِّلا

في رضى: في موضع نصب على الحال من الغيب أو في موضع رفع خبرًا له؛ أي: الغيب مستقر في هذين اللفظين كائنا في وجه مرضيّ به أو الغيب فيهما كائن في رضى، والغيب والخطاب في مثل واحد كما تقول: قل لزيد يقوم، وقل لزيد: قم، وقد تقدم مثله في البقرة:

ص: 381

{لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} 1 بالتاء وبالياء، وقد جاء في القرآن العزيز الغيب وحده في قوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ} 2.

والخطاب وحده في قوله: سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ} 3.

وقيل: ليقول لهم اليهود: والإخبار عن مشركي مكة، وقوله: ويرون الغيب، ويرون مبتدأ والغيب بدل منه بدل الاشتمال؛ أي: وغيب يرون خص، ويجوز أن يكون الغيب خص: مبتدأ وخبرا وهما خبر يرون والعائد محذوف؛ أي: الغيب فيه، وخلل بمعنى خص، وإنما جمع بينهما تأكيدا لاختلاف اللفظين كقول عنترة:

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

يريد قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} 4؛ أي: خص الذين حضروا القتال فهم الذين رأوا الخطاب قيل لليهود وقيل لمن غاب عن الوقفة من المسلمين أو المشركين فلم يختص الرائي على قراءة الخطاب بالحاضرين، فالمعنى على قراءة الغيب: يرى المشركون المسلمين مثلي المشركين أو مثلي المسلمين أو يرون أنفسهم مثلي المسلمين أو يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين، وذلك أيضا تقليل؛ لأنهم كانوا أكثر من ثلاثة أمثالهم أو يرون أنفسهم مثلي المشركين، وعلى قراءة الخطاب يحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين؛ أي: ترون المشركين ببدل مثلي المسلمين الحاضرين لها أو ترون المسلمين الحاضرين مثلي المشركين أو ترون المسلمين مثلي المسلمين تكثيرا لهم، ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين؛ أي: ترون المسلمين مثلي المشركين ترغيبا لهم أو ترون المشركين مثلي المسلمين حقيقة، ومع هذا نصر المسلمون عليهم، ويحتمل أن يكون الخطاب لليهود؛ أي: ترون المشركين مثلي المسلمين حقيقة أو ترون المسلمين مثلي المشركين آية من الله تعالى أو ترون المسلمين مثلي المسلمين، وعلى الجملة فهذه الوجوه كلها ما كان منها دالا على التقليل من الطريقين فهو على وفق ما كان في سورة الأنفال من قوله تعالى:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} 5.

وما كان منها دالا على التكثير فوجه الجمع بين الآيتين أن التكثير وقع بعد التقليل وكان حكمة تقليل المسلمين أولا أن لا يكترث لهم الكفار ويستهينوا أمرهم فلا يكثروا الاستعداد لهم، وحكمة تقليل المشركين ظاهرة وهي أن لا يهابهم المسلمون ولا يرغبوا بسبب كثرتهم، فلما حصل الغرض من الجانبين والتقى الجمعان كثر الله تعالى المسلمين في أعين الكفار؛ ليجتنبوا عنهم فينهزموا، وليس بقوي عندي في معنى هذه الآية إلا أن المراد تقليل المسلمين وتكثير المشركين فهو موضع الآية التي ذكرها الله سبحانه بقوله:

1 سورة البقرة، آية:83.

2 سورة الأنفال، آية:38.

3 سورة الفتح، آية:16.

4 سورة آل عمران، آية:13.

5 آية: 44.

ص: 382

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} 1، ويدل عليه قوله بعد ذلك:{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} ؛ أي: ليس ذلك بسبب قلة ولا كثرة فلا تغتروا بكثرتكم؛ فإن النصر من عند الله، والهاء في: ترونهم للكفار سواء قرئ بالغيب أو الخطاب، والهاء في مثليهم للمسلمين، فإن قلت: إن كان المراد هذا فهلا قيل: يرونهم ثلاثة أمثالهم وكان أبلغ في الآية وهي نصر القليل على هذا الكثير والعدة كانت كذلك أو أكثر؟ قلتُ: أخبر عن الواقع، وكان آية أخرى مضمومة إلى آية النصر، وهي تقليل الكفار في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم، وهو أن الواحد من المسلمين يغلب الاثنين فلم تكن حاجة إلى التقليل أكثر من هذا، وفيه فائدة وقوع ما ضمن لهم من النصر في ذلك والله أعلم.

546-

وَرِضْوَانٌ اضْمُمْ غَيْرَ ثَانِي الْعُقُودِ كَسْـ

ـرَهُ "صَـ"ـحَّ إِنَّ الدِّينَ بِالفَتْحِ رُفِّلا

ضم الراء وكسرها في رضوان لغتان قيل: الضم لبني تميم والكسر لأهل الحجاز، وأجمع على كسر الثاني في سورة المائدة، وقوله تعالى:{مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} 2.

والأول فيه الخلاف وهو: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} .

والأولى في البيت أن يكون: ورضوانًا اضمم بالنصب فهو مثل زيدًا اضرب، وليس تصح إرادة الحكاية هنا؛ لأن لفظ رضوان المختلف فيه جاء بالحركات الثلاث فرفعه نحو ما في هذه السورة، ونصبه نحو الأول في المائدة، وجره مثل نحو:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} 3، فإذا لم تستقم إرادة لفظ واحد منها على الحكاية تعين أن يسلك وجه الصواب في الإعراب وهو النصب.

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} 4 بالفتح، رفل؛ أي: عظم. يعني فتح همزة إن، ووجهه: جعله بدلا من قوله: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 5.

قال أبو علي: فيكون البدل من الضرب الذي الشيء فيه هو هو ألا ترى أن الدين هو الإسلام يتضمن

1 سورة آل عمران، آية:13.

2 سورة المائدة، آية:16.

3 سور التوبة: آية: 21.

4 سورة آل عمران، ية:19.

5 سورة آل عمران، آية:15.

ص: 383

التوحيد والعدل، وهو هو في المعنى، قال: وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل، قال: وإن شئت جعلته بدلا من القسط؛ لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون من البدل الذي الشيء فيه هو هو، وقيل: إن الدين مفعول شهد الله، وقيل: إن الدين معطوف على أنه، وحرف العطف محذوف والبدل أوجَه هذه الأوجُه، ووجه الكسر الاستئناف؛ لأن الكلام الذي قبله قد تم والله أعلم.

547-

وَفي يُقْتلُونَ الثَّانِ قَالَ يُقَاتِلُو

نَ حَمْزَةُ وَهْوَ الحَبْرُ سَادَ مُقَتِّلا

يعني: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} 1.

واحترز بقوله: اثنان عن الأول وهو: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقّ} 2، فلا خلاف فيه أنه من قتل، وأما الثاني فقرأه حمزة: من قاتل، ثم أثنى على حمزة بقوله: وهو الحبر؛ أي: العالم يقال: بفتح الحاء وكسرها، والمقتل والمجرب للأمور، وهو حال من فاعل ساد العائد على حمزة يشير إلى شيخوخته وخبرته بهذا العلم، يقال: رجل مقتل إذا كان قد حصلت له التجارب فتعلم وتحنك بها، والله أعلم.

548-

وَفي بَلَدٍ مَيْتٍ مَعَ المَيْتِ خَفَّفُوا

"صَـ"ـفَا "نَفَرًا" وَالمَيْتَةُ الْخِفُّ خُوِّلا

أي الخلف وقع في هذين اللفظين حيث أتيا، قال في التيسير: الحي من الميت والميت من الحي وإلى بلد ميت وشبهه إذا كان قد مات والتخفيف والتثقيل في مثل هذا لغتان، قال الشاعر فجمع بين اللغتين:

إنما المَيْت مَيِّتُ الأحياء

وقوله: صفا نفرًا: نصب نفرا على التمييز، وقد استعمل هذا اللفظ بعينه في موضعين آخرين، أحدهما في أواخر هذه السورة في:"متم""مت"، فقال فيه: صفا نفر بالرفع على الفاعلية، والموضع الآخر في سورة التوبة "ترجئ" همزة صفا نفر بالجر على الإضافة وقصر صفا الممدود، وقوله: والميتة الخف، والخف يقع في بعض النسخ منصوبا وفي بعضها مرفوعا، فوجه النصب أن يكون مفعولا ثانيا لقوله: خولا؛ أي: ملك هذا اللفظ الخف من قولهم: خوله الله الشيء إذا ملكه إياه، ووجه الرفع أنه مبتدأ ثانٍ والعائد إلى الأول محذوف؛ أي: الخف فيه كقوله: "السمن منوان بدرهم"؛ أي: التخفيف فيه خول؛ أي: حفظ من خال الراعي يخول فهو خائل إذا حفظ، والتشديد للتكثير ويجوز أن يكون الخف صفة الميتة؛ أي: انفرد نافع بتثقيله وأشار بقوله: خولا؛ أي: حفظ إلى أن لفظ الميتة الذي وقع فيه الخلاف معروف مشهور بين القراء، وهو الذي في سورة يس:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} 3.

1 و2 سورة آل عمران، آية:21.

3 آية: 33.

ص: 384

ولا شك أن إطلاق الناظم الميتة يلبس على المبتدئ بقوله: {الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} 1، في سورتي المائدة والنحل، أما الذي في البقرة فلا يلبس؛ لأنه تعداه ولم يذكره، فدل على أنه غير مختلف فيه، وقول من قال: لما لم يذكر الذي في البقرة علم أنه لا خلاف فيه ولا ما كان من نوعه غير مستقيم، فكم من ألفاظ متفقة وقع الخلاف في بعضها على ما نظم نحو:"بسطة" في البقرة2 بالسين اتفاقا، وفي الأعراف تقرأ بالصاد والسين3، ولو كان أخر ما في يس إلى سورته لكان أولى، وليته ذكره في الأنعام كما فعل صاحب التيسير والله أعلم.

549-

وَمَيْتًا لَدَى الأَنْعَامِ وَالحُجُرَاتِ "خُذْ"

وَمَا لَمْ يَمُتْ لِلْكلِّ جَاءَ مُثَقَّلا

يريد قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ، {أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} انفرد نافع أيضا بتثقيلهما كالميتة في يس ثم أخذ يذكر ما أجمعوا على تثقيله فقال: وما لم يمت؛ أي: ما لم يتحقق فيه بعد صفة الموت كقوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} 5.

وكذلك أجمعوا على تخفيف الميتة في غير يس، وذلك في البقرة والمائدة والنحل و:{إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} في الأنعام، وفيها:{وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} 6 وفي ق: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} 7، ونحوه، فقول صاحب التيسير في ضبط ما وقع فيه الخلاف: إذا كان قد مات يرد عليه هذا الذي أجمع على تخفيفه، والناظم أخذ مفهوم عبارة صاحب التيسير فقال: وما لم يمت للكل جاء مثقلا، ولم يتعرض لما أجمعوا على تخفيفه وتعرض له مكي فقال: لم يختلفوا في تشديد ما لم يمت، ولا في تخفيف ما هو نعت لما فيه هاء التأنيث نحو:{بَلْدَةً مَيْتًا} .

فقد بان أن ما أجمع عليه منه ما ثقل ومنه ما خفف، وقلت بدل هذا البيت بيتا نبهت فيه على ذلك، وبينت ما وقع فيه الخلاف من الميتة وهو بعد قوله: والميتة الخف خولا:

بياسين في الأنعام ميتا خذوا وفو

ق ق وباقي الباب خف وثقلا

1 سورة المائدة، آية: 3 والنحل آية: 115.

2 سورة البقرة، آية: 247، والأعراف، آية:69.

3 سورة الزمر، آية:30.

4 سورة المؤمنون، آية:15.

5 سورة الأنعام، آية:139.

6 و7 سورة ق، آية:11.

ص: 385

أي هذه مواضع الخلاف قد نص عليها وما عدا ذلك مجمع عليه لكن بعضه وقع الاتفاق على تحقيقه وبعضه على تشديده والله أعلم.

ووقع في كتاب السبعة لابن مجاهد تخفيف سائر القرآن مما لم يمت زاد في نسخة كقوله: وإن يكن ميتة وبلدة ميتًا ونحوه:

550-

وَكَفَّلَها الكُوفِي ثَقِيلًا وَسَكَّنُوا

وَضَعْتُ وَضَمُّوا سَاكِنًا "صَـ"ـحَّ "كُفِّلا"

أي يقرؤه الكوفي ثقيلا؛ أي: كفَّلها الله زكريا وقرأ الجماعة على إسناد الفعل إلى زكريا وهو موافق لقوله تعالى: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 1.

وقراءة وضعت بإسكان العين وضم التاء على إخبار أم مريم عليها السلام عن نفسها، وقراءة وضعت بفتح العين وسكون التاء إخبار من الله تعالى عنها، وليس الضمير في سكنوا ولا في ضموا عائد على الكوفي، وإنما يعودان على مطلق القراءة ولو قال:

وكفلها الكوفي ثقيلا وضعت سَا

كِنَ العين واضمم ساكنا صح كفلا

لارتفع هذا الوهم، وكفلا جمع كافل وهو منصوب على التمييز والله أعلم.

551-

وَقُلْ زَكَرِيَّا دُونَ هَمْزِ جَمِيعِهِ

"صِحَابٌ" وَرَفْعٌ غَيْرُ شُعْبَةَ الَاوَّلا

أي دونه جماعات يقومون بنقله ودليله والعرب تنطق بزكريا ممدودا ومقصورا وهو اسم أعجمي، ومن عادتهم كثرة التصرف في الألفاظ الأعجمية، ويقال أيضا زكري وزكر بالصرف فيهما لإلحاق الأول بالنسب فهو كصرف معافري ومدايني، ولخفة الثاني بإسكان الوسط فهو كنوح ولوط، وغير شعبة من الذين همزوا زكريا رفعوا الأول، وهو قوله تعالى:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} 2، على أنه فاعل "وكفلها"، وشعبة نصبه على أنه مفعول به؛ لأنه يقرؤه:"وكفَّلها" بالتشديد، وقوله: غير شعبة: مبتدأ، ورفع خبره؛ أي: ذو رفع وقيل غير فاعل والأولا: مفعول رفع؛ لأنه مصدر والله أعلم.

552-

وَذَكِّرْ فَنَادَاهُ وأَضْجِعْهُ "شَـ"ـاهِدًا

وَمِنْ بَعْدُ أَنَّ اللهَ يُكْسَرُ "فِـ"ـي "كَـ"ـلا

إسناد الفعل إلى الجماعة يجوز تذكيره وتأنيثه، فلما ذكر حمزة والكسائي:"فناداه الملائكة" أمالا ألفه على أصلها في إمالة ذوات الياء ولهذا قال شاهدا؛ أي: شاهدا بصحته وإن الله من بعد فناداه يعني:

1 سورة آل عمران، آية:44.

2 سورة آل عمران، آية:27.

ص: 386

{أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} 1.

يكسر في كلأ؛ أي: في حراسة وحفظ والكسر على تقديره فقالت: "إن الله" أو يكون أقام النداء مقام القول، فكسر أن بعده ومن فتح فعلى تقدير فنادته بأن الله؛ أي: بهذا اللفظ، ثم حذف الجار وحذفه من نحو هذا شائع لكن هل تبقى:{إن} ، وما بعدها في موضع نصب أو جر فيه خلاف بين النحويين وهذه العبارة في قوله:{إِنَّ اللَّهَ} يكسر في النفس منها نفرة وكذا قوله: في أول براءة: {لا أَيْمَانَ} .

عند ابن عامر والأولى فتح همزة: "أيمان" هناك أو يقال: ويفتح لا أيمان إلا لشامهم ويقال هنا": ويكسر أن الله من بعد في كلا والله أعلم.

553-

مَعَ الكَهْفِ وَالإِسْرَاءِ يَبْشُرُ "كَـ"ـمْ "سَمَا"

"نَـ"ـعَمْ ضُمَّ حَرِّكْ وَاكْسِرِ الضَّمَّ أَثْقَلا

أي: لفظ يبشر هنا وفي سورتي الإسراء والكهف، أما في آل عمران فموضعان:{أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} 3، وفي أول الإسراء:{وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} 4، والكهف:{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} ، الخلاف في هذا الفعل المضارع في هذه الأربعة هل هو مضارع فَعَل بتخفيف العين كخرج، أو مضارع فعَّل بتشديدها كسوَّل وهما لغتان إلا أن المشدد مجمع عليه في القرآن في الفعل الماضي والأمر:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ} 6، فهذا مما يقوي التشديد في المضارع، وقال الشاعر:

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

وأنشد أبو علي:

فأعنهم وأبشر بما بشروا به

1 سورة آل عمران، آية:39.

2 سورة آل عمران، آية:45.

4 سورة الكهف، آية:2.

5 سورة الصافات، آية:112.

6 سورة لقمان، آية:7.

ص: 387

وحكى لغة ثالثة: أبشر يبشر كأكرم يكرم فالبشر والإبشار والتبشير: ثلاث لغات فيه ويقال: بشر بكسر الشين وأبشر كأدبر إذا سر وفرح، وأنشد الجوهري بيت أبي علي بفتح الشين في الأمر، وكسرها في الماضي، وأبشر بالهمز مطاوع وبشر، ومنه قوله تعالى:{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} 1.

وكان المعنى والله أعلم: بشروا أنفسكم بها، وكم في قوله: كم سما خبرية؛ أي: سما سموا كثيرًا، وتقديره: كم مرة سما ونعم: جواب سؤال مقدر كأنه قيل له صف ما شأنه فقال: نعم فهو مثل قوله: فيما سبق نعم إذ تمشت وأراد ضم الياء وفتح الباء؛ لأنه أطلق التحريك وكسر الشين؛ لأنها هي المضمومة في قراءة التخفيف وأراد بالضم المضموم؛ أي: ذا الضم وأثقلا حال منه؛ أي: في حال كونه ثقيلا؛ أي: يصير مكسورا مشددا والله أعلم.

554-

"نَـ"ـعَمْ "عَمَّ" فِي الشُّورَى وَفي التَّوْبَةِ اعْكِسُوا

لِحَمْزَةَ مَعْ كَافٍ مَعَ الحِجْرِ أَوَّلا

أي عم هذا الحكم في الشورى وهو التثقيل، وهو قوله تعالى:{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} 2، وافق أبو عمرو وابن كثير فيه من خفف، ووافق ابن عامر فيه من شدد، وقرأ حمزة وحده بعكس التثقيل يعني بالتخفيف في التوبة:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ} 3.

وفي مريم وهي المرادة بقوله: مع كاف؛ لأن أولها كهيعص كما تسمى سورة ص وق ون بالحرف الذي في أولها، وصرفه ضرورة، وقد ترك صرفه في قوله: وكم صحبة يا كاف، وفي كاف فتح اللام، وكذا استعمل ص، فقال: هشام بصاد حرفه متحملا، وفي ص غيطلا، وفيها موضعان:{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} 4، وفي آخرها:{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} 5.

والأول الذي في الحجر: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} 6، واحترز بقوله: أولا عن الثاني وهو:

1 سورة فصلت، آية:30.

2 سورة الشورى، آية:23.

3 سورة التوبة، آية:21.

4 سورة مريم، آية:7.

5 سورة مريم، آية:97.

6 سورة الحجر، آية:53.

ص: 388

{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} 1، ولا خلاف في تشديده، فهذه المواضع الأربعة خففها حمزة وحده، فقد صار الخلاف في تسعة مواضع منها؛ في آل عمران موضعان وفي التوبة والحجر والإسراء والكهف والشورى منها واحد بالتاء وهو آخر مريم واثنان بالنون في الحجر وأول مريم والبواقي بالياء.

555-

نُعَلِّمُهُ بِاليَاءِ "نَـ"ـصُّ "أَ"ئِمَّةٍ

وَبِالكَسْرِ أَنِّي أَخْلُقُ اعْتَادَ أَفْصَلا

الخلاف في: "ونعلمه الكتاب"2 بالنون والياء ظاهر، ونص أئمة خبره؛ أي: هو منصوص عليه للأئمة، ويجوز نصبه مثل: كتاب الله وصبغة الله والكسر في: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} 3 على الابتداء فلا يبقى له تعلق بما قبله، فلهذا قال: اعتاد أفصلا أو: {أَنِّي أَخْلُقُ} مبتدأ وبالكسر خبره، واعتاد بمعنى تعود، والضمير فيه راجع إلى الكسر، ويجوز أن يعود إلى:{أَنِّي أَخْلُقُ} ، فيكون بالكسر حالا منه؛ أي: هو بالكسر اعتاد الفصل وأفصلا بمعنى فاصلا وهو حال أو في موضع المصدر كقوله: ولا خارجا من في ذور كلام؛ أي: اعتاد فصلا؛ أي: اعتاد الكسر أو المكسور وهو أني أن يفصل ما بعده مما قبله فيجوز على قراءة الكسر الوقف على: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 4.

ثم يبتدئ بقوله: {أَنِّي أَخْلُقُ} إما استئنافا وإما تفسيرا، فموقعها كموقع قوله:{خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} بعد قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ} 5، ووجه قراءة الفتح: البدل من: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} .

1 سورة الحجر، آية:54.

2 سورة آل عمران، آية:48.

3 سورة آل عمران، آية:49.

4 سورة آل عمران، آية:49.

5 سورة آل عمران، آية:59.

ص: 389

أو من آية في قوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} .

أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي {أَنِّي أَخْلُقُ} فيكون في موضع نصب أو جر أو رفع.

556-

وَفِي طَائِرًا طَيْرًا بِها وَعُقُودِها

"خُصُـ"ـوصًا وَيَاءٌ فِي نُوَفِّيهِمُ "عَـ"ـلا

أي: قرءوا طيرا في موضع طائر هنا، وفي المائدة دون غيرهما، وأشار إلى ذلك بقوله: خصوصا، وهو مصدر، والطائر مفرد والطير اسم جمع ويقع على المفرد وجمعه طيور وأطيار وجمع طائر أيضا أطيار كصاحب وأصحاب، وأما:{فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} ، فالياء فيه والنون ظاهران.

557-

وَلا أَلِفٌ فِي هَا هَأَنْتُمْ "زَ"كا "جَـ"ـنًا

وَسَهِّلْ "أَ"خا "حَـ"ـمْدٍ وَكَمْ مُبْدِلٍ "جَـ"ـلا

هذا من جملة المواضع التي الحكم فيها عام ولم يبينه بل أطلقه، فيوهم إطلاقه أنه مختص بسورته فقط، وصاحب التيسير وغيره قالوا: حيث وقع واستعمل الناظم لا بمعنى: ليس فارتفع "ألف" بعدها، وقوله: في ها "هأنتم" أي لا ألف في لفظ ها من: "هأنتم"1.

ويشكل على هذا التأويل أنه لفظ بـ: "هأنتم" بغير ألف وجوابه أنه أراد في لفظ "ها" من "ها" أنتم الذي صار لفظه بعد حذف الألف منه: "هأنتم"2، وحذف هذا المقدر كله للعلم به فهو قريب من قوله: وفي بلد ميت مع الميت خففوا؛ أي: خففوا المثقل حتى صار على هذا اللفظ، وكذا قوله: قل: سارعوا لا واو، وقل: قال موسى، واحذف الواو أي: احذفها من: {وَقَالَ الَّذِي} 3.

1 سورة النساء، آية:109.

2 سورة النمل، آية:4.

3 سورة طه، آية:71.

ص: 390

صار بعد الحذف قال: ويجوز أن يكون أراد في ها "ها أنتم" وقصر الممدود؛ أي: الألف بعدها هاء "ها أنتم"، ووجه التجوز في التعبير عن ذلك بحرف في أن الألف لما كانت عقيب الهاء تجوز؛ لشدة القرب بأن جعلها فيها قريبا من قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .

وهذا الوجه أوفق للفظة "أنتم" بغير ألف، ولو قال: و"ها أنتم" اقصر حيث جاء زكا، جنا، لخلص الكلام من هذا التكلف في تأويله وجنا في موضع نصب على التمييز وأخا حمد حال أو منادى على حذف حرف الندا، ومعنى البيت من جهة القراءة أن الألف في قراءة قنبل، وورش محذوف والباقون أثبتوا الألف إلا أن نافعا وأبا عمرو سهلا الهمزة؛ أي: جعلاها بين بين، فهي في قراءة أبي عمرو وقالون واقعة مسهلة بعد الألف وفي قراءة ورش مسهلة بعد الهاء؛ إذ الألف في قراءته والهمزة المفتوحة بعد الألف كالمفتوحة بعد مفتوح قياس تسهيلهما أن تجعلا بين بين وجماعة من أهل الأداء، وشيوخ الإقراء أبدلوها له ألفا، وهذان الوجهان لورش هما كما سبق له في باب الهمزتين من كلمة في قوله: عن الهمزة الثانية:

وقل ألفا عن أهل مصر تبدلت

لورش وفي بغداد يروى مسهلا

وقراءة قنبل على نحو: فعلتم نحو هزمتم وهشمتم، وكذا يكن وزن قراءة ورش على وجه التسهيل؛ لأن الهمزة المسهلة بزنة المحققة فيما يرجع إلى الوزن ووزن قراءة الباقين فاعلتم نحو قاتلتم وضاربتم، إلا أن غير قالون وأبي عمرو وهم الكوفيون وابن عامر والبزي حققوا الهمزة، ثم أخذ يبين هذه الكلمة ويشرحها على ما تقرر من أصولهم وفي عبارة صاحب التيسير عن قراءة نافع وأبي عمرو إشكال فإنه قال: نافع وأبو عمرو "وها أنتم" حيث وقع بالمد من غير همز، وكذا قال شيخه أبو الحسن بن غلبون، ومكي وكأنهم يعنون من غير همز محقق، بل هو مسهل بين بين، وكذلك شرحه أبو علي الفارسي رحمه الله وصرح مكي في الكشف قال: وبين بين أنوى في العربية في ذلك كله لورش ثم قال الداني: وورش أقل مدا، وهذا هو الوجه الثاني له الذي أبدل فيه الهمزة ألفا، قال المهدوي: أبدلها ورش ألفا وحذف إحدى الألفين؛ لالتقاء الساكنين وقال صاحب الروضة: قرأ أهل المدينة وأبو عمرو "هأنتم" بتليين الهمزة والباقون بتحقيقها، وكلهم أثبتوا ألفا قبل الهمزة إلا ابن مجاهد عن قنبل؛ فإنه حذفها، وكان نافع في غير رواية ورش أقصرهم مدا، وفي كتاب أبي عبيد قرأ أهل المدينة وأبو عمرو "هأنتم" غير ممدودة ولا مهموزة في جميع القرآن، وكان حمزة والكسائي يقرآنها بالمد والهمز معا، قال: وكذلك نقرؤها بالإشباع والتحقيق، قلت: وهذا خلاف ما نقله الجماعة من المد لأبي عمرو وقالون والله أعلم.

558-

وَفي هَائِهِ التَّنْبِيهُ "مِـ"ـنْ "ثَـ"ـابِتٍ "هُـ"ـدًى

وَإِبْدَالُهُ مِنْ هَمْزَةٍ "زَ"انَ "جَـ"ـمَّلا

يعني الهاء من "ها أنتم" فيها معنى التنبيه في قراءة ابن ذكوان والكوفيين والبزي؛ لأن لفظ ها من حروف التنبيه، وهو يدخل على أسماء الإشارة، وعلى الضمائر فيكون داخلا هنا على الضمير الذي هو: أنتم كما تقول: ها أنتم فعلت كذا، ودل على أنها للتنبيه في قراءة هؤلاء كونهم مدوا بعد الهاء وليس من مذهبهم

ص: 391

المد بين الهمزتين بخلاف غيرهم، وقوله: من ثابت متعلق بالتنبيه، وهدى تمييز مثل زكا جنا؛ أي: ثابت هداه يعني المتكلم بها أنتم وهو الله جل وعز، ثم قال: وإبداله؛ أي: إبدال الهاء من همزة زان، وجمل فجملا معطوف على زان بإسقاط حرف العطف، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر؛ أي: الهاء في "ها أنتم" على قراءة قنبل وورش تكون بدلا من همزة الاستفهام، والأصل: أأنتم؛ لأنهما مما مدا بعد الهاء ولو كانت للتنبيه لأتوا بألف ها، والهاء تبدل من الهمز في مواضع كثيرة فيجوز أن يكون هذا منها وإنما لم يسهل قنبل الثانية؛ لأنه قد أبدل الأولى هاء فلم تجتمع همزتان، وسهل ورش اعتبارا بالأصل أو كما سهل البزي في:{لأَعْنَتَكُمْ} 1 وقفا ووصلا وهو كما يفعل حمزة فيهما في الوقف على وجه وكل ذلك جمع بين اللغات:

559-

وَيَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ عَنْ غَيْرِهِمْ وَكَمْ

وَجِيهٍ بِهِ الوَجْهَيْنِ لِلكُلِّ حَمَّلا

أي ويحتمل الهاء في قراءة غير من تقدم وهم أبو عمرو وقالون وهشام: أن تكون بدلا من همزة؛ لأن من مذهب هؤلاء الثلاثة المد بين الهمزتين من كلمة كما سبق في بابه والألف هنا في قراءتهم ثابتة، ومن مذهب أبي عمرو وقالون التسهيل في مثل هذا، وقد سهلا فكان من هذا الباب بدليل التسهيل والمد، ويحتمل أن تكون ها التي للتنبيه والألف الثانية هي ألف ها، وإنما سهل أبو عمرو وقالون الهمز على خلاف أصلهما جمعا بين اللغتين كما فعل البزي في "لأعنتكم"، ثم ذكر أن جماعة من القراء من له وجاهة، وقول مقبول حمل الهاء على الوجهين لجميع القراء السبعة، فالهاء في به للهاء والباء زائدة، وهذه الطريقة غير مذكورة في التيسير، ولكن قد ذكرها جماعة مثل مكي والمهدوي وأبي علي الفارسي، وإن كانت هذه الطريقة ظاهرة في بعض القراءات أكثر من بعض، وقد تقرر الوجهان في مذهب الغير على ما ذكر، وأما احتمال التنبيه في قراءة ورش وقنبل فوجهه أن يقال حذفت ألف ها؛ تخفيفا ولالتقاء الساكنين في قول من أبدل لورش، وأما احتمال البدل في قراءة ابن ذكوان والكوفيين والبزي فلا مانع منه إلا كونهم مدوا بين الهمزتين، وهذا لا يضر جمعا بين اللغتين؛ لأن الهمزة الأولى مقدرة منونة، وأريد بالمد الإشارة إلى ذلك، والذي استحسنه الجماعة أن تكون الهاء للتنبيه في قراءة هؤلاء، قال المهدوي: إذ ليس أحد من القراء يدخل بين الهمزتين المفتوحتين من كلمة ألفا مع التحقيق فيقدر له هذا التقدير، قال مكي: وهذا أولى بقراءة البزي، وعلى ذلك تحمل قراءة الكوفيين وابن عامر إلا هشاما؛ فإنه قد يدخل بين الهمزتين ألفا في غير هذا، فيجوز أن يحمل هذا على أصله في غيره، قلت: الأولى في هذه الكلمة على جميع وجوه القراءات فيها أن تكون ها للتنبيه؛ لأنا إن جعلنا الهاء بدلا من همزة كانت تلك الهمزة همزة استفهام، و"ها أنتم" أينما جاءت في القرآن إنما هي للخبر لا للاستفهام ولا مانع من ذلك إلا تسهيل من سهل وحذف من حذف، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله:{لأَعْنَتَكُمْ} وشبهه، وأما الحذف فنقول: ها مثل أما كلاهما حرف تنبيه، وقد ثبت جواز حذف ألف أما، فكذا حذف ألف ها، وذاك قولهم: أم والله لأفعلن وقد حمل البصريون قولهم:

1 سورة البقرة، آية:220.

ص: 392

بها كما سبق تقريره، وذكر بعض من شرح: أن إدخال الألف بين الهمزتين يقتضي أن الأمر يصير من قبيل المتصل كأن الألف من نفس الكلمة فعلى هذا القول أيضا يستوون في المد، ولا يجئ القصر إلا على قولنا: إن حرف المد الذي قبل الهمز المغير لا يمد إلا أن هذا القول عندي غلط، فإن من يقول بمد الألف بعد إدخالها بين الهمزتين يكون بقدر ألفين وأكثر، والمنقول أنهم يدخلون بينهما ألفا للفصل فلا حاجة إلى زيادة المد بل يقتصر على مقدار النطق بألف على حدها في نحو: قال وباع، وذكر الشيخ في شرحه أن قوله: وذو البدل يعني ورشا الوجهان عنه يعني المد والقصر في حال كونه مسهلا، ويعني بالتسهيل مذهبيه، وهما إبدال الهمز وبين بين فالمد على قول البدل والقصر على بين بين ولم يرد بمسهلا حالة بين بين فقط؛ فإنه لا يتجه له فيها إلا القصر وقد تقدم في الأصول أن التسهيل يطلق على كل تغيير للهمز، وإنما ذكر مسهلا؛ ليفصل ورشا من قنبل؛ لأن كليهما ذو بدل:؛ أي: الهاء بدل من همزة عندهما إلا أن قنبلا لا يمد لإسقاطه الألف وورش بمد؛ لأجل الألف المبدلة من الهمزة، فمده هو الإتيان بالألف المبدلة لا أمر زائد على ذلك هذا شرح ما ذكره في الشرح، وهو معلوم مما تقدم فلم تكن حاجة إلى ذكره وقال لي الشيخ أبو عمرو رحمه الله يعني بقوله: وذو البدل أبا عمرو وقالون؛ لأنهما هما اللذان من مذهبهما إدخال ألف بين الهمزتين، وجاء عنهما هنا خلاف لأجل أن الهمزة الأولى مبدلة والثانية مسهلة فلم يستصعب الجمع بينهما فلا حاجة إلى طول المد، واحترز بقوله: مسهلا من هشام فإنه أيضا من ذوي البدل ولا حاجة إلى ذكر قنبل وورش؛ إذ لا ألف في قراءتهما، قلت: وهذا مشكل فإنه يقتضي أن الألف في قراءتهما على وجه وليس الأمر كذلك؛ فإنهما يثبتان الألف، وأهل علم القراءات عبروا عن هذه الألف لهما بأنها مدهما الذي ثبت لهما في باب الهمزتين من كلمة، وقال صاحب التيسير من جعلها للتنبيه وميز بين المنفصل، والمتصل في حروف المد لم يزد في تمكين الألف سواء حقق الهمزة بعدها أو سهلها، ومن جعلها مبدلة، وكان ممن يفصل بالألف زاد في التمكين سواء أيضا حقق الهمزة أو لينها وقال ابن غلبون في التذكرة اعلم أن أبا عمرو ورجال نافع يتفاضلون في المد في-هاأنتم-إذا جعلوا الهاء بدلا من همزة الاستفهام على ما بيناه في تفاضلهم في:

"ءأنذرتهم".

ونحوه: يريد أن من أدخل الألف أطول مدا مثل قالون، ومن لم يدخل فلا مد أو له مد قصير كقراءة ورش ثم قال: فأما إذا جعلت الهاء للتنبيه فإنهم يستوون في المد في "ها أنتم"؛ لأنه ليس أحد منهم يدخل بين الألف، وبين الهمزة الملينة التي بعد "ها" ألفا كما فعل ذلك من فعله منهم في قوله:"أأندرتهم"، ونحوه: وكذا الباقون ممن عدا قنبلا يتفاضلون في المد هاهنا على ما بيناه من تفاضلهم في المد في حرف اللين الواقع قبل الهمزة في باب المد والقصر فيما كان من كلمة أو كلمتين على الوجهين من جعل الهاء بدلا من همزة الاستفهام أو للتنبيه قلت معنى عبارتهما أن الاختلاف في إدخال الألف إنما يأتي على قولنا: إنها بدل من الهمزة أما إذا كانت للتنبيه فلم يجتمع همزتان لا لفظا ولا تقديرا، فلا سبيل إلى القول بإدخال الألف، فاستووا في لفظ المد من هذه الجهة لكنهم يتفاضلون فيه على ما سبق ذكره في باب المد والقصر، ويعتبر الخلاف المستفاد من قوله: وإن حرف مد قبل همز مغير ونظير إتيان الناظم بقوله: وذو البدل تعريفا لا شرطا

ص: 394

قول العلماء مثل ذلك في معنى الحديث الصحيح أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها، قالوا: ذكر استعارة المتاع وجحده إنما كان تعريفا لا سببا للقطع، والسبب سرقة لم تُذكر للعلم بها، وكان الغرض تعريف المرأة التي قطعت يدها، فعرفت بما كانت مشهورة به والله أعلم.

561-

وَضُمَّ وَحَرِّكْ تَعْلَمُونَ الكِتَابَ مَعْ

مُشَدَّدَةٍ مِنْ بَعْدُ بِالكَسْرِ "ذُ"لِّلا

يعني ضم التاء وحرك العين؛ أي: افتحها؛ لأنه ذكر التحريك مطلقا غير مقيد مع لام مشددة مكسورة من بعد ذلك، فيصير تعلمون من التعليم والقراءة الأخرى من العلم، وقد لفظ بها مع كونها معلومة من أضداد ما ذكره، والمفعول الأول على قراءة التشديد محذوف أي: تعلمون الناس الكتاب1؛ يعني حفظه وفهمه، والتعليم يستلزم علم المعلم فكان فيه دلالة على القراءة الأخرى، ويؤيد تعلمون بالتخفيف قوله بعد ذلك:{تَدْرُسُونَ} ؛ أي أنتم جامعون لفهم الكتاب وتلاوته، وقوله: ذللا؛ أي: قرب والله أعلم.

562-

وَرَفْعُ وَلا يَأْمُرُكُمْ "رُ"وحُهُ "سَما"

وَبِالتَّاءِ آتَيْنا مَعَ الضَّمِّ "خُـ"ـوِّلا

ينبغي أن لا يقرأ يأمركم في البيت إلا بتحريك الراء إما برفع أو بنصب على القراءتين، والوزن مستقيم على ذلك على كف الجزء السباعي، وإن قرئ بسكون الراء وضم الميم استقام الوزن بلا كف لكن يكون التلفظ بما لم يقرأ به في القرآن مع ضعف الإسكان في الراء على ما سبق، وموضع ولا يأمركم جر بإضافة ورفع إليه، ووجه نصب يأمركم العطف على ما قبله من قوله:{أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ} ، ثم يقول:{وَلا يَأْمُرَكُمْ} 2.

ووجه الرفع القطع مما قبله على تقدير: وهو لا يأمركم، أو: ولا يأمركم الله، وأبو عمرو على أصله في الاختلاس السابق ذكره وهو فائدة ذكره مع أهل الرفع، وهو دليل على ترجيح الاختلاس على الإسكان في ظنه على ما هو الحق وقد سبق بيانه، فقال صاحب التيسير: وأبو عمرو على أصله في الاختلاس والإسكان، قوله: وبالتاء آتينا يعني:

"آتيناكم من كتاب وحكمة"3، اجعل مكان النون تاء مضمومة وهي تاء المتكلم موضع نون العظمة ولم ينبه على إسقاط الألف؛ لأنه

1 سورة آل عمران، آية:79.

2 سورة آل عمران، آية:80.

3 سورة آل عمران، آية:81.

ص: 395

لازم من ضم التاء؛ فإن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، ووجه القراءتين ظاهر، وخول معناه ملك والله أعلم.

563-

وَكَسْرُ لِما "فِـ"ـيهِ وَبِالغَيْبِ تُرْجَعُو

نَ "عَـ"ـادَ وَفيِ تَبْغُونَ "حَـ"ـاكِيهِ "عَـ"ـوَّلا

أي كَسَر اللام من: "لما آتيناكم من كتاب وحكمة" حمزة، فالهاء في فيه عائدة على آتينا؛ لأنه معه ومتصل به، وهذا مما يقوي قوله: ولا ألف في ها "هأنتم"؛ أي: بعدها وههنا قبلها، ووجه التجوز فيها واحد وهو الاتصال المذكور؛ أي: الكسر مستقر فيما هو متصل بهذا الكلام ومتعلق به، ويجوز أن تعود الهاء على الكسر، ويكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فيه كلام وبحث كما سنذكره أو تعود الهاء على: "لَمَا".

أي كسره مستقر فيه غير خارج عنه، واللام على قراءة حمزة لام التعليل، وما مصدرية أو موصولة؛ أي: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجئ رسول مصدق لما معكم أو الذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له، واللام في:"لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ" جواب القسم الذي دل عليه أخذ الميثاق، والخطاب للأنبياء والمراد أتباعهم، والتقدير: ميثاق أمم النبيين وعلى قراءة الجماعة: اللام في: "لَمَا" هي الموطئة للقسم، وما إما موصولة أو شرطية، والفعلان بعدها ماضيان في اللفظ مستقبلان في المعنى، ويظهر لك المعنى إذا قدرت موضع ما حرف إن الشرطية؛ أي: إن آتيتكم ذلك تؤمنوا، ثم أخرج مخرج الأقسام والمعاهدة وأخذ الميثاق تأكيد للأمر وتقوية له، ولتؤمنن جواب القسم ومثله:{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَامْلَانَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ اجْمَعِينَ} 2.

وقوله: حاكيه عولا؛ أي: حاكي الغيب عول عليه والغيب في: "يَبْغُونَ" راجع إلى ما قبله من قوله: {هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3.

1 سورة البقرة، آية:81.

2 سورة الأعراف، آية:18.

3 سورة البقرة، آية:82.

ص: 396

والخطاب على الالتفات أو الاستئناف، والغيب في "يرجعون" عاد؛ أي: عاد على يبغون؛ لأن حفصا قرأهما بالغيب والله أعلم.

564-

وَبِالكَسْرِ حَجُّ البَيْتِ "عَـ"ـنْ "شَـ"ـاهِدٍ وَغَيْـ

ـبُ مَا تَفْعَلُوا لَنْ تُكْفَرُوهُ لَهُمْ تَلا

الكسر والفتح في الحج لغتان، ولم يقرأ بالكسر إلا في هذا الموضع، أي:"وحج البيت" بكسر الحاء منقول عن شاهد؛ أي: عن ثقة شاهد له بالصحة، وأضاف وغيب إلى جملة ما بعده من الفعلين؛ أي: غيب هذا المجموع لهم؛ أي: لمدلول عن شاهد، وفي تلا ضمير يعود على "وغيب"؛ أي: أنه تبع ما قبله من الغيبة من قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} 1، والخطاب لهذه الأمة، أو على طريق الالتفات أو التقدير وقلنا لهم ذلك والله أعلم.

565-

يَضِرْكُمْ بِكَسْرِ الضَّادِ مَعْ جَزْمِ رَائِهِ

"سَما" وَيُضَمُّ الغَيْرُ وَالرَّاءَ ثَقَّلا

يريد: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} 2؛ ضار يضير، وضر يضر: لغتان: والفعل مجزوم في القراءتين على جواب الشرط، والضم في الراء على قراءة من شدد ضمة بناء إتباعا لضمة الضاد كما نقول: لا يردّ، ويجوز في اللغة الفتح والكسر، وظاهر كلامه يدل على أن ضمة الراء حركة إعراب؛ لأنه ضد الجزم، وقد قيل به على أن يكون في نية التقديم على الشرط وقيل على حذف الفاء وكلاهما ضعيف، والأصح ما تقدم، ولكن ضاقت على الناظم العبارة كما تقدم في تضارر في سورة البقرة، وأراد بقوله: ويضم الغير ضمة الضاد؛ لأن الكسر ضده الفتح لا الضم فاحتاج إلى بيانه، وما جزم الراء فيفهم من القراءة الأخرى؛ لأن الجزم ضده الرفع والراء بالنصب؛ لأنه مفعول ثقلا وإنما نص عليه في القراءة الأخرى ولم ينص على التخفيف في الأولى؛ لأنه مستغنٍ عن ذكر التخفيف في الأولى؛ لعدم إمكان النطق بمشدد مجزوم في وسط كلمة، ولا يتعذر النطق بمرفوع خفيف فذكره في موضع الحاجة إليه والله أعلم.

566-

وَفِيما هُنا قُلْ مُنْزِلِينَ وَمُنْزِلُو

نَ لِلْيَحْصُبِي فِي العَنْكَبُوتِ مُثَقِّلا

أي وفي جملة الحروف المختلف فيها هنا هذا الحرف الذي هو: {بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} 3.

أو التقدير: اقرأ لليحصبي "منزلين" في الحرف الذي هنا، "ومنزلون" في حرف العنكبوت وهو:

1 سورة آل عمران، آية: 113 و114.

2 سورة آل عمران، آية:120.

3 سورة آل عمران، آية:124.

ص: 397

{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} 1.

واليحصبي هو ابن عامر ومثقلا بكسر القاف حال من فاعل قل وقل بمعنى اقرأ؛ لأن القراءة قول ومنه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} 2.

أو التقدير "منزلين" هنا و"منزلون" في العنكبوت استقر لليحصبي مثقلا لهما وإن كان مثقلا صح بفتح القاف فالتقدير استقر ذلك له مثقلا، والتخفيف والتثقيل في ذلك لغتان من أنزَل ونزَّل.

567-

وَ"حَقُّ نَـ"ـصِيرٍ كَسْرُ وَاوِ مُسَوِّمِيـ

ـنَ قُلْ سَارِعُوا لا وَاوَ قَبْلُ "كَـ"ـما "ا"نْجَلَى

السومة: العلامة، وسوَّم أي: أعلَمَ فمن كسر الواو أسند الفعل إليهم وهو من الإعلام الذي يفعله الشجاع في الحرب من لباس مخصوص وغيره، ومن فتح الراء؛ فلأن الله تعالى فعل بهم ذلك، وحذف الواو من:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} 3 تقدم مثله في: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} 4 والواو منه ساقطة في مصاحف المدينة والشام دون غيرها، واحترز بقوله: قبل عن الواو التي بعد العين وانجلا؛ أي: انكشف والله أعلم.

568-

وَقَرْحٌ بِضَم القَافِ وَالقَرْحُ "صُحْبَةٌ"

وَمَعْ مَدِّ كَائِنْ كَسْرُ هَمْزَتِهِ "دَ"لا

أي قرأه صحبة والضم والفتح لغتان، وجاء ذلك في ثلاثة مواضع في هذه السورة: اثنان بلفظ التنكير: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} 5 الثالث بلفظ التعريف: {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} 6، ولفظ كائن جاء في مواضع: هنا وفي الحج والطلاق والخلاف في جميعها، ولم يبين النظم أنه حيث أتى، وفاعل دلا ضمير كسر همزته ومعنى دلا في اللغة: أخرج دلوه ملآى، واستعاره هنا لحصول الغرض وتمام الأمر بالمد مع الكسر، وأراد بالمد زيادة ألف بعد الكاف والباقون بلا ألف مع فتح الهمزة، ثم ذكر باقي قيود القراءة فقال:

1 آية: 34.

2 سورة التكوير، آية:19.

3 سورة آل عمران، آية:133.

4 سورة البقرة، آية:116.

5 سورة آل عمران، آية:130.

6 سورة آل عمران، آية:173.

ص: 398

569-

وَلا يَاءَ مَكْسُورًا وَقَاتَلَ بَعْدَهُ

يُمَدُّ وَفَتْحُ الضَّمِّ وَالكَسْرِ "ذُ"ووِلا

الياء المكسورة زيادة في قراءة غير ابن كثير وهي مشددة ولم يتسع له مجال البيت لذكر ذلك، ولو قال في البيت السابق: وكل كائن كسر همزته دلا، ثم قال: ومد ولا ياء لكان وافيا بالغرض ولا حاجة إلى قوله: مكسورًا حينئذ؛ لأنه لفظ بقراءة الجماعة أي: ولا يثبت ابن كثير الياء التي في هذا اللفظ، و"كأين"، "وكئن" لغتان وفيها غير ذلك من اللغات وهي كلمة؛ أي: دخل عليها كاف التشبيه كما دخل على ذا في كذا ثم كثر استعمالهما كالكلمة الواحدة بمعنى كم الخبرية، فتصرفوا فيها على وجوه، وكتب تنوينها نونًا، قوله: وقاتل بعده؛ أي: بعد كأين قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ} ، "قتل معه"1، القراءتان ظاهرتان إلا أن معنى قوله:"قتل معه ربيون كثير فما وهنوا"؛ أي: فما وهن من لم يقتل منهم، والضم في القاف والكسر في التاء إذا فتحا مع المد صارت الكلمة قاتل، فقوله: ذو ولا؛ أي: فتح الضم والكسر ذو متابعة للمد مصاحبة له والله أعلم.

570-

وَحُرِّكَ عَيْنُ الرُّعْبِ ضَمَّا كَمَا "رَ"سَا

وَرُعْبًا وَيَغْشى أَنَّثُوا "شَـ"ـائِعًا تَلا

يريد الرعب المعرف باللام ورعبا المنكر المنصوب حيث أتى ذلك، فالضم فيه والإسكان لغتان، وقيل الضم الأصل فأسكن تخفيفا وهو في أربعة مواضع، قيل: والأصل الإسكان إتباعا ورسا؛ أي: ثبت واستقر، والتأنيث في "تغشى" للأمنة والتذكير للنعاس، وهما واحد؛ لأنه أبدل النعاس من الأمنة وشائعا تلا حالان من مفعول أنثوا؛ أي: أنثوا شائعا تابعا ما قبله وهو الأمنة أو يكون شائعا حالا من الضمير في تلا العائد على يغشى:

571-

وَقُلْ كُلَّهُ لِلهِ بِالرَّفْعِ "حَـ"ـامِدًا

بِمَا يَعْمَلُونَ الغَيْبُ "شَـ"ـايَعَ "دُ"خْلُلا

كله مبتدأ والله الخبر، والجملة خبر:{إِنّ الْأَمْرَ} 2.

وقد أجمعوا على قراءة: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} 3.

وهو على هذا الإعراب وكله بالنصب تأكيدا للأمر والغيب في:

1 سورة آل عمران، آية:146.

2 سورة آل عمران، آية:154.

3 سورة غافر، آية:48.

ص: 399

{بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 شايع دخللا له وهو: {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} 2، ووجه الخطاب قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا} 3، وبعده:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} 4.

والدخلل الدخيل وقد تقدم.

572-

وَمِتُّمْ وَمِتْنا مُتَّ فِي ضَمِّ كَسْرِها

"صَـ"ـفَا "نَفَرٌ" وِرْدًا وَحَفْصٌ هُنا اجْتَلا

أي حيث جاءت هذه الكلمات وفهم ذلك من حيث أنه عددها، وفيها ما ليس في هذه السورة، فقام ذلك مقام قوله: حيث أتى، ونحوه، وضم الميم وكسرها في جميع ذلك لغتان، يقال: مات يموت، فعلى هذا جاء الضم كقولك من قام يقوم: قمت ويقال مات يمات كخاف يخاف فعلى هذا جاء الكسر كخفت فيكون الضم من فعل يفعل كقتل يقتل والثاني من فعل يفعل كعلم يعلم ووردا نصب على التمييز؛ أي: صفا وردهم ووافقهم حفص على ضم ما في آل عمران وكسر ما في غيرها؛ جمعا بين اللغتين، والذي في آل عمران موضعان:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} ، و {لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى} 5.

وهذا معنى قوله: وحفص هنا اجتلا؛ أي: اجتلا الضم وهو من قولهم: اجتليت العروس وهذه عبارة مشكلة فإنه لا يفهم منها سوى أن حفصا خصص هذه السورة بقراءة وسائر المواضع بخلافها، فيحتمل أن يكون الذي له في آل عمران ضما وأن يكون كسرا؛ لأنه استأنف جملة ابتدأها لحفص ولم يخبر عنه إلا بقوله: اجتلا فاحتمل الأمرين، فإن قلت: اجعل حفصا عطفا على الرمز السابق قلت: كان جمعا بين الرمز والمصرح به في مسألة واحدة، وذلك غير واقع في هذا النظم، وأيضا فقد فصل بالواو في قوله: وردا، ثم لو سلمنا أن هذا اللفظ يفيد الضم كان مشكلا من جهة أخرى، وهي أنه يوهم أن حفصا منفرد بالضم هنا؛ إذ لم يعد معه الرمز الماضي كقوله: رمى صحبة، ولو قال صفا نفر معهم هنا حفص اجتلا حصل الغرض وبان وزال الإبهام، ولم يضر عدم الواو الفاصلة لعدم الريبة في اتصال ذلك والله أعلم.

573-

وَبِالغَيْبِ عَنْهُ تَجْمَعُونَ وَضُمَّ فِي

يَغُلَّ وَفَتْحُ الضَّمِّ "إِ"ذْ "شَـ"ـاعَ "كُـ"ـفِّلا

1 سورة الأنفال، آية:39.

2 سورة آل عمران، آية:156.

3 سورة آل عمران، آية:156.

4 و5 سورة آل عمران، آية:157.

ص: 400

عنه؛ يعني: عن حفص، والغيب والخطاب في قوله:{خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1 كما تقدم في: {بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، وأما {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ} 2 فقواه: إذ شاع كفلا على البناء للمفعول، ومعنى كفل؛ أي: حمل، يعني: أن هذه القراءة حَمَّلها السلفُ الخلفَ لما كانت شائعة، ومعناها يوجد غالًّا أو ينسب إلى الغلول أو يغل منه؛ أي: يخان بأن يؤخذ من الغنيمة قبل أن يقسمها، والغلول الأخذ في خفية، ومن قرأ: يغل على البناء للفاعل فهو ظاهر؛ أي: أنه لا يفعل ذلك واختار ذلك أبو عبيد وأبو علي وقالا: أكثر ما يجيء الفعل بعد ما كان لكذا أن يفعل منسوبا إلى الفاعل نحو: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ} {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} 5.

فإن قلت: كل واحدة من القراءتين مشتملة على ضم وفتح فكيف تميز إحداهما من الأخرى قلتُ: كأنه استغنى بالترتيب عن تقييد ذلك فضم أولا ثم فتح الضم فيكون الضم في الياء وفتح الضم في الغين والواو وإن كانت لا تقتضي الترتيب على المذهب المختار إلا أن المذكور بها جائز أن يكون مرتبا في نفس الأمر ولا بد أن يريد بذلك إحدى القراءتين ودلنا على هذه القراءة ظاهر لفظه إذ لو أراد الأخرى لقال: وفتح أن يغل وضم الفتح حقك نولا أو دام ندحلا أو نل دائما حلا، ونحو ذلك.

576-

بِمَا قُتِلُوا التَّشْدِيدُ "لَـ"ـبَّى وَبَعْدَهُ

وَفي الحَجِّ لِلشَّامِي وَالَاخِرُ "كَـ"ـمَّلا

أي التشديد بهذا اللفظ، وهو قوله تعالى:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .

والذي بعده: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} 6، والآخر:{وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} 7.

يقرأ جميع ذلك بالتشديد والتخفيف، وفي التشديد معنى التكثير، فأما قوله: قبل ذلك: {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ، {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً} 8، فمخفف بلا خلاف، ويعلم ذلك من كونه تعداه ولم يذكره، واشتغل بذكر متم ويغل ويجمعون ويمتاز هنا أيضا من الأول المختلف فيه بكون هذا في أوله واو وذلك لا واو في أوله فقوله:"بما قتلوا"

1 آل عمران، آية:157.

2 سورة آل عمران، آية:161.

3 سورة آل عمران، آية:145.

4 سورة يوسف، آية:38.

5 سورة العنكبوت، آية:40.

6 سورة آل عمران، آية:169.

7 سورة آل عمران، آية:195.

8 سورة آل عمران، آية:156.

ص: 401

لا يتناول ظاهره إلا ما ليس في أوله واو فالتشديد في: "ما قتلوا" لهشام وحده، وهو المشار إليه بقوله: لبى؛ أي: لبى بالتشديد من دعاه، "والذين قتلوا" مع الذي في الحج وهو:{ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} شددهما ابن عامر: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} شدده ابن عامر وابن كثير، وهو المرموز في هذا البيت الآتي:

577-

"دَ"رَاكِ وَقَدْ قَالا فِي الأنْعَامِ قَتَّلُوا

وَبِالخُلْفِ غَيْبًا يَحْسَبَنَّ "لَـ"ـهُ وَلا

معنى دراك: أدرك كما تقدم في بدار، والذي في الأنعام:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} 1.

شدده أيضا ابن عامر وابن كثير، وأما الغيب في:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} 2، فعن هشام فيه خلاف ومعنى الغيب فيه ولا يحسبن الرسول أو حاسب واحد أو يكون "الذين قتلوا" فاعلا، والمفعول الأول محذوف؛ أي: أنفسهم أمواتا، قال الزمخشري: وجاز حذف المفعول الأول؛ لأنه في الأصل مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله:"بل أحياء"؛ أي: بل هم أحياء لدلالة الكلام عليهما، وقوله: غيبا نصب على الحال من يحسبن والعامل فيها ما يتعلق به بالخلف؛ أي: لا يحسبن استقرار بالخلف غيبًا؛ أي: ذا غيب له ولا؛ أي: نصر والله أعلم.

فإن قلت: جاء يحسبن في هذه السورة في مواضع فمن أين علم أنه للذي بعده "الذين قتلوا".

قلت: لأنه أطلق ذلك، فأخذ الأول من تلك المواضع ولأنه قد ذكر بعده:"أن ويحزن" فتعين هذا؛ لأن باقي المواضع ليس بعده أن ويحزن والله أعلم.

وأكثر المصنفين في القراءات السبع لا يذكرون في هذا الموضع خلافًا حتى أن ابن مجاهد قال: لم يختلفوا في قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} أنها بالتاء، وذكرها أبو علي الأهوازي في كتاب الإقناع في القراءات الشواذ، ونسبها إلى ابن محيصن وحده والله أعلم.

578-

وَأَنَّ اكْسِرُوا "رُِ"فْقًا وَيَحْزُنُ غَيْرَ اْلَانْـ

ـبِيَاءِ بِضَمٍّ وَاكْسِرِ الضَّمَّ "أَ"حْفَلا

يعني: قوله تعالى:

1 آية: 140.

2 سورة آل عمران، آية:169.

ص: 402

{وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1.

الكسر على الاستئناف والفتح على العطف على: {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} 2، فيكون من جملة ما بشر به الشهداء وهو أن الله سبحانه يفعل بغيرهم من المؤمنين مثل ما فعل بهم من حسن الخاتمة، وقال أبو علي: المعنى يستبشرون بتوفر ذلك عليهم ووصوله إليهم؛ لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم فلم يبخسوه ولم ينقصوه وحزن وأحزن لغتان وقيل حزنه بمعنى جعل فيه حزنا مثل كحله ودهنه؛ أي: جعل فيه كحلا ودهنا، ومثل حزنه في هذا المعنى: فتنه، قال سيبويه: وقال بعض العرب: أفتنت الرجل وأحزنته أراد جعلته حزينا وفاتنا، واستثنى نافع من ذلك ما في الأنبياء وهو:{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} 3.

فقرأه كالجماعة بفتح الياء وضم الزاي، فقوله: غير الأنبياء؛ أي: غير حرف الأنبياء، ورفقا مصدر في موضع الحال؛ أي: ذوي رفق بمعنى: رافقين، وأحفلا حال من فاعل أكسر؛ أي: حافلا بهذه القراءة.

579-

وَخَاطَبَ حَرْفَا يَحْسَبَنَّ "فَـ"ـخُذْ وَقُلْ

بِمَا يَعْمَلُونَ الغَيْبُ "حَقٌّ" وَذُو مِلا

حرفا يحسبن فاعل خاطب جعلهما مخاطبين لما كان الخطاب فيهما، وقد استعمل هذا التجوز كثيرا في هذه القصيدة نحو: وخاطب فيها تجمعون له ملا، وأراد بالحرفين:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا} 5.

فأما الأول فعلى قراءة الجماعة بالغيب يكون: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ} سد مسد مفعولي حسب نحو: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} 6.

وفي الثاني يكون المفعول الأول محذوفا؛ أي: البخل خبرًا لهم، وقراءة حمزة بالخطاب مشكلة، وقد صرح جماعة من أهل العربية بعدم جوازها، قال أبو جعفر النحاس: زعم أبو حاتم أنه لحن لا يجوز، قال: وتابعه على ذلك جماعة، وقال الزجاج: من قرأ: {وَلا يَحْسَبَنّ} بالتاء لم يجز عند البصريين إلا كسر "إن"؛ المعنى: لا تحسبن الذين كفروا إملاؤنا لهم خير لهم، ودخلت أن مؤكدة فإذا فتحت صار المعنى ولا تحسبن الذين كفروا إملاءنا خيرا لهم، قال أبو إسحاق: وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من الذين، المعنى: ولا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم، وقد قرأ بها خلق كثير ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر:

1 سورة آل عمران، آية:171.

2 سورة آل عمران، آية: 174

3 سورة الأنبياء، آية:103.

4 سورة آل عمران، آية:178.

5 سورة آل عمران، آية:180.

6 سورة الفرقان، آية:44.

ص: 403

فما كان قيس هلكه هلك واحد

جعل هلكه بدلا من قيس المعنى: فما كان هلك قيس هلك واحد، قال أبو علي في الإصلاح: لا يصح البدل إلا بنصب خير من حيث كان المفعول الثاني لحسبت فكما انتصب هلك واحد في البيت لما أبدل الأول من قيس بأنه خبر كان كذلك ينتصب خير إذا أبدل الإملاء من {الَّذِينَ كَفَرُوا} بأنه مفعول ثانٍ لتحسبن، قال: وسألت أحمد بن موسى -يعني ابن مجاهد- عنها، فزعم أن أحدا لم يقرأ بها يعني: بنصب خير، وقال في الحجة:{الَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع نصب بأنه المفعول الأول والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى فلا يجوز إذا فتح أن في قوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} 1؛ لأن إملاءهم لا يكون إياهم، قال: فإن قلت: فلم لا يجوز الفتح في أن وتجعله بدلا من {الَّذِينَ كَفَرُوا} كقوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} 2، وكما كان أن من قوله سبحانه:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} 2.

قيل: لا يجوز ذلك وإلا لزمك أن تنصب خيرا على تقدير: لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا لأنفسهم من حيث كان المفعول الثاني لتحسبن، وقيل: إنه لم ينصبه أحد فإذا لم ينصب علم أن البدل فيه لا يصح، وإذ لم يصح البدل لم يجز إلا كسر إن على أن يكون إن وخبرها في موضع المفعول الثاني من تحسبن، وقال الزمخشري: الذين كفروا في من قرأ بالتاء نصب "وإنما نملي لهم خيرا لأنفسهم" بدل منه؛ أي: ولا تحسبن أنما نملى للكافرين خير لهم، وأن مع خبه ينوب عن المفعولين وما مصدرية، فإن قلت: كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد، قلت: صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع بكونك على متاعك، قال: ويجوز أن يقدر مضاف محذوف على: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أصحاب أن الإملاء خير؛ لأنفسهم أو ولا تحسبن حال الذين كفروا إن الإملاء خير لأنفسهم، وقال النحاس: زعم الكسائي والفراء أنها جائزة على التكرير؛ أي: ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن أنما نملي لهم يعني: مثل: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ، {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ} 3 كما سيأتي، قال النحاس: وقراءة يحيى بن وثاب بكسر إن حسنة كما تقول: حسبت عمرا أخوه خارج، وقال مكي: إنما وما بعدها بدل من الذين فسدّ مسدّ المفعولين كما في قراءة من قرأ بالياء، وقال المهدوي: قال قوم: قدم الذين كفروا توكيدا، ثم جاء لهم من قوله:{أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} ؛ ردا عليهم، والتقدير: ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خير لهم، وقال أبو الحسن الحوفي: إن وما عملت فيه في موضع نصب على

1 سورة آل عمران، آية:178.

2 سورة الكهف، آية:64.

3 سورة الأنفال، آية:7.

ص: 404

البدل من الذين كفروا، والذين: المفعول الأول والثاني محذوف، وقال أبو القاسم الكرماني في تفسيره المسمى باللباب: يجوز أن تكون التاء للتأنيث كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} 1، ولا تحسبن القوم الذين، والذين وصف للقوم كقوله:{وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا} 2.

قلت: فيتَّحد معنى القراءتين على هذا؛ لأن الذين كفروا فاعل فيهما، وكذا يتحد معنى القراءتين على قول من يقول إن الذين كفروا مفعول على قراءة الياء أيضا والفاعل الرسول أو أحد كما تقدم في:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} .

وقيل: إنما نملي بدل من الذين كفروا بدل الاشتمال؛ أي: إملاءنا خير بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو خير لأنفسهم والجملة هي المفعول الثاني، قلت: ومثل هذه القراءة بيت الحماسة:

منا الأناة وبعض القوم تحسبنا

أنا بطاء وفي إبطائنا سرع

كذا جاءت الرواية بفتح أنا بعد ذكر المفعول الأول فعلى هذا يجوز أن تقول: حسبت وزيد أنه قائم؛ أي: حسبته ذا قيام، فوجه الفتح أنها وقعت مفعوله وهي وما عملت فيه في موضع مفرد وهو المفعول الثاني لحسبت والله أعلم.

وأما {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُون} على قراءة الخطاب، فتقديرها على حذف مضاف؛ أي: بخل الذين يبخلون، والغيب في:{بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} رد على: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} ، والخطاب رد على:{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} 3.

والملأ بالمد مصدر لملا، وبالقصر: الجماعة الأشراف، وكلاهما مستقيم المعنى هنا والله أعلم.

580-

يَمِيزَ مَعَ الأنْفَالِ فَاكْسِرْ سُكُونَهُ

وَشَدِّدْهُ بَعْدَ الفَتْحِ وَالضَّمِّ "شُـ"ـلْشُلا

يريد: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ} 4.

وفي الأنفال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ} ؛ أي: يميز هنا مع حرف الأنفال اكسر الياء الساكنة، وشددها بعد الفتح في الميم والضم في الياء وماز يميز

1 سورة آل عمران، آية:188.

2 سورة الشعراء، آية:105.

3 و4 سورة آل عمران، آية:179.

ص: 405

وميز يميز لغتان، وشلشلا: حال من فاعل شدده أو من مفعوله ومعناه خفيفا؛ لأنه قبل التشديد خفيف ويستحب للقارئ تخفيف اللفظ بالحروف المشددة، وأن لا يتقعر فيها، ويزعج السامع، ويتكلف في نفسه ما لا يحتاج إليه والله أعلم.

581-

سَنَكْتُبُ يَاءٌ ضُمَّ مَعْ فَتْحِ ضَمِّهِ

وَقَتْلَ ارْفَعُوا مَعْ يَا نَقُولُ "فَـ"ـيَكْمُلا

أي ياء ضمت مع فتح ضم التاء، فيصير الفعل مبنيا للمفعول، وقد كان الفاعل ورفع قتل ونصبه عطفا على محل ما قالوا، وهو رفع إن كان سنكتب مبنيا للمفعول، ونصب إن كان للفاعل، وياء يقول الله تعالى والنون نون العظمة،، وقوله: مع يا يقول؛ أي: مع قراءة يا يقول، ونصب فيكملا بالفاء في جواب ارفعوا؛ لأنه أمر والله أعلم؛ أي: قرأ ذلك كله حمزة.

582-

وَبِالزُّبُرِ الشَّامِي كَذَا رَسْمُهُمْ وَبِالـ

ـكِتَابِ هِشَامٌ وَاكْشِفِ الرَّسْمَ مُجْمِلا

يعني: قرأ ابن عامر: {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} .

بزيادة الباء في: {وَبِالزُّبُرِ} 1، وكذلك رسم في مصاحف أهل الشام، وانفرد هشام بزيادة الباء في:"وبالكتاب" فقرأ الآية التي في آل عمران كالتي في فاطر بإجماع، وقد روى أبو عمرو الداني من طرق أنه في مصحف الشام كذلك، قال في المقنع: هو في الموضعين بالباء، وقال: رأيت هارون بن موسى الأخفش يقول في كتابه: إن الباء زيدت في الإمام يعني: الذي وجه به إلى الشام في "وبالزبر" وحدها، قلت: وكذلك رأيته أنا في مصحف عندنا بدمشق هو الآن بجامعها بمشهد علي بن الحسين يغلب على الظن أنه المصحف الذي وجهه عثمان رضي الله عنه إلى الشام، ورأيته كذلك في غيره من مصاحف الشام العتيقة، قال الشيخ في شرح العقيلة: والذي قاله الأخفش هو الصحيح إن شاء الله؛ لأني رأيته كذلك في مصحف لأهل الشام عتيق، يعني: المصحف المقدم ذكره، فإلى هذا الاختلاف أشار بقوله: واكشف الرسم مجملا؛ أي: آتيا بالجميل من القول والفعل والله أعلم.

582-

"صَـ"ـفَا "حَقُّ" غَيْبٍ يَكْتُمُونَ يُبَيِّنُنْـ

ـنَ لا تَحْسَبَنَّ الغَيْبُ "كَـ"ـيْفَ "سَمَا" اعْتَلا

أي يكتمون ويبينن صفا حق غيب فيهما يريد قوله: تعالى: "ليبيننه للناس ولا يكتمونه"2، الغيب فيهما، والخطاب على ما تقدم في "لا يعبدون إلا الله" ويقوي الخطاب الاتفاق عليه في الآية المتقدمة

1 سورة آل عمران، آية:184.

2 سورة آل عمران، آية:187.

ص: 406

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ} وأما {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} 1، فقرئ بالغيب والخطاب، وسيأتي توجيههما.

583-

وَ"حَـ"ـقَّا بِضَمِّ البَا فَلا يَحْسِبُنَّهُمْ

وَغَيْبٍ وَفِيهِ العَطْفُ أَوْ جَاءَ مُبْدَلا

نصب حقا على المصدر؛ أي: حق ذلك حقا؛ وهو أن "فلا يحسبنهم" بضم الباء والغيب، وفي بعض النسخ وحق بالرفع فيكون خبر المبتدأ الذي هو "فلا يحسبنهم"؛ أي: أنه بالضم والغيب حق، ووجه ضم الباء أن الأصل فلا يحسبون فالواو ضمير {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ؛ لأن ابن كثير وأبا عمرو قرءا بالغيب فيهما، فانحذفت النون؛ للنهي، وانحذفت الواو؛ لسكون نون التأكيد، فبقيت ضمة الباء على حالها دالة على الواو المحذوفة، ويكون يحسبن على قراءتهما قد حذف مفعولاه؛ لدلالة ظهور المفعولين في:"فلا يحسبنهم بمفازة من العذاب"؛ أي: لا يحسبن الفارحون أنفسهم فائزين، وقرأ نافع وابن عامر بالغيبة في الأول، والخطاب في الثاني مع فتح الباء؛ لأجل النون المؤكدة، ولولاها لكانت الباء ساكنة، والقول في مفعولي الأول كما تقدم، وقرأ الباقون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالخطاب فيهما، ووجه ذلك أن يقال: الذين يفرحون هو المفعول الأول والثاني محذوف؛ لأنه في الأصل خبر المبتدأ فحذف كما يحذف خبر المبتدأ عند قيام الدلالة عليه،، وقوله:"فلا يحسبنهم بمفازة" قد استوفى مفعوليه، وهما في المعنى مفعولا الأول فاستغني عنهما في لأول بذكرهما في الثاني على قراءة الغيبة في الأول، وعلى قراءة الخطاب استغني عن أحدهما دون الآخر تقوية في الدلالة، وقال الزمخشري: أحد المفعولين {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} والثاني "بمفازة"، وقوله:"فلا يحسبنهم" تأكيد تقديره لا تحسبنهم فلا تحسبنهم فائزين، وقوله: وفيه العطف؛ أي: في تحسبنهم فائدة العطف على الأول، فلهذا كرر أو جاء مبدلا منه فذكر وجهين لمجيء فعل النهي عن الحسبان في هذه الآية مكررًا، وما ذكرناه من تأويل هذه القراءات الثلاث لا يخرج عن الوجهين اللذين ذكرهما؛ لأن الجملة الثانية إن وافقت الأولى في الغيبة والخطاب صح أن تكون بدلا منها على أن تكون الفاء في "فلا" زائدة كقوله:

وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

ووجه البدل أن الكلام إذا طال الفصل بينه وبين ما يتعلق به جاز إعادته ليتصل بالمتعلق به كقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فلما طال الفصل قبل الجواب أعاد الفصل بالفاء فقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} .

1 سورة آل عمران، آية:187.

ص: 407

وتجوز الإعادة بلا فاء، قال سبحانه في موضع آخر:{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} 1 سمي نحو هذا بدلا باعتبار أنه عوض منه وإلا فهو بالتأكيد أشبه على اصطلاح النحويين، وبهذا عبر عنه الزمخشري كما سبق ذكره وأما على قراءة من غاير بين الفعلين غيبة وخطابا، فالثانية عطف على الأولى لا بدل كقولك: ما قام زيد فلا تظننه قائما، وذكر الشيخ أبو علي في الحجة وجه البدل، ونص على زيادة الفاء في "فلا" ومنع من وجه العطف، وقال: ليس هذا موضع العطف؛ لأن الكلام لم يتم ألا ترى أن المفعول الثاني لم يذكر بعد، وفيما قاله نظر والله أعلم.

585-

هُنا قَاتَلُوا أَخِّرْ "شِـ"ـفَاءً وَبَعْدُ فِي

بَرَاءةَ أَخِّرْ يَقْتُلُونَ "شَـ"ـمَرْدَلا

يعني قوله تعالى: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} ، وفي براءة {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} .

قدم الجماعة في الموضعين: الفعل المبني للفاعل على الفعل المبني للمفعول، وعكس ذلك حمزة والكسائي في الموضعين، فأخرا المبني للفاعل، وقدما المبني للمفعول، ووجهه من جهة المعنى أنهم:{قَاتَلُوا وَقُتِلُوا} بعد ما وقع القتل فيهم، وقتل بعضهم لا أن القتل أتى على جميعهم وهو كالمعنى السابق في قوله:{قتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا} ، وقوله: شفاء مصدر في موضع الحال؛ أي: أخره ذا شفاء والشين فيه وفي شمردلا رمز ولو اختصر على الأخير لحصل الغرض، ولكن كرر زيادة في البيان؛ لأنه محتاج إلى كلمة يتزن بها البيت في موضع شفاء فلو أتى بكلمة ليس أولها شين لكانت رمزا لمن دل عليه أول حروفها فعدل إلى كلمة أولها رمز القارئ خوفا من اللبس، والشمردل الخفيف والله أعلم.

584-

وَيَاءاتُها وَجْهِي وَإِنِّي كِلاهُمَا

وَمِنِّيَ وَاجْعَلْ لِي وَأَنْصَاريَ امِلا

يعني: "وجهيَ لله" فتحها نافع وابن عامر وحفص.

وإني موضعان أحدهما: "وَإِنِّي أُعِيذُهَا"2فتحها نافع وحده، والآخر:"أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ"3 فتحها نافع وابن كثير وأبو عمرو غير أن: "أَنِّي" مفتوحة في قراءة غير نافع، فلفظ بها في البيت على قراءة نافع:

1 سورة يوسف عليه الصلاة والسلام الآية: 4.

2 سورة آل عمران، آية:36.

3 سورة آل عمران، آية:49.

ص: 408

"فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ"1، فتحها نافع وأبو عمرو.

و"اجْعَلْ لِي آيَةً"2، فتحها أيضا أبو عمرو ونافع.

"مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ"3، فتحها نافع وحده.

والملا -بكسر الميم والمد- جمع ملئ وهو الثقة وهو صفة لأنصاري، أو صفة لقوله: وياءاتها؛ أي: وياءاتها الملاهي كذا وكذاظ، فهذه ست ياءات إضافة مختلف في إسكانها وفتحها، وفي هذه السورة من ياءات الزوائد المختلف في إثباتها وحذفها ياءان:"وَمَنِ اتَّبَعَنِي"4، أثبتها في الوصل نافع وأبو عمرو.

{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أثبتها أبو عمرو وحده في الوصل.

وقلت في ذلك:

مضافاتها ست وجاء زيادة

وخافون إن كنتم مَن اتبعنْ ولا

أي وجاء وخافون ومن اتبعن زيادة؛ أي: ذوي زيادة فيهما الياء الزائدة على الرسم والولا المتابعة؛ أي: ولى هذا هذا ولاء بكسر الواو والله أعلم.

1 سورة آل عمران، آية:35.

2 سورة آل عمران، آية:14.

3 سورة آل عمران، آية:53.

4 سورة آل عمران، آية:20.

ص: 409

‌سورة آل عمران

{هَلُمَّ إِلَيْنَا} 1 على أن أصله ها لم، ثم حذفت ألفها، فكذا:"ها أنتم".

560-

وَيَقْصُرُ فِي التنْبِيهِ ذُو الْقَصْرِ مَذْهَبًا

وَذُو الْبَدَلِ الوَجْهانِ عَنْهُ مُسَهِّلا

ذكر في هذا البيت تفريع ما يقتضيه الخلاف في البيت السابق على التقديرين: من أن الهاء للتنبيه أو بدل من همزة، ونبه بقوله: ويقصر على أن كلامه في من في قراءته ألف، فخرج من ذلك قنبل وورش؛ إذ لا ألف في قراءتهما والقصر والمد لا يكونان إلا في حرف من حروف المد فقال: إذا حكمنا بأن الهاء للتنبيه صار المد في ذلك على قراءة من أثبت الألف من قبيل المنفصل مثل: "وما لنا أن لا".

وذلك أن ها كلمة وأنتم كلمة أخرى فيقصر من مذهبه القصر ويمد من مذهبه المد فخرج من هذا أن للبزي والسوسي القصر ولقالون والدوري خلاف تقدم، لكن على رواية المد لهما يتجه ههنا خلاف آخر مأخوذ من قوله: وإن حرف مد قبل همز مغير البيت قد تقدم شرحه، والباقون على المد فقوله: وذو البدل يعني من ذكرنا أن الهاء في مذهبه بدل من الهمزة عنه وجهان في حال تسهيله فلا يكون ذلك إلا في مذهب الدوري وقالون على رواية أما السوسي فإنه من ذوي القصر مذهبا، وأما ورش فلا ألف في قراءته فلا مد، وعلى الوجه الآخر الذي أبدل فيه الهمزة ألفا: مده بمقدار نطقه بألف نحو قال وباع لا زيادة عليه بقي من ذوي البدل هشام فله المد قولا واحدا؛ لأنه ليس بمسهل وكل هذا تفريع على أن "ها" للتنبيه لأصحاب البدل وغيرهم أما إذا قلنا إن الهاء بدل من الهمزة فالكل مستوون في المد بمقدار ألف كما يقرءون: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} 2.

وكما يقولون: قال وباع؛ لأنها ألف بين همزتين فليس هذا من المد المنفصل ولا المتصل، وقول الناظم وذو البدل وإن كان يعني به بدل الهاء من الهمز فلم يقل ذلك ليبني الخلاف على البدل؛ ذ لا مناسبة في ذلك، وإنما ذكره تعريفا لمن عنه الوجهان لا شرطا، فقال من ذكرنا: إن الهاء مبدلة من همزة في مذهبه إذا فرعنا على أنها أيضا في حقه للتنبيه هل يكون له مد نظر، إن كان مسهلا فوجهان؛ لأن الألف حرف مد قبل همز مغير وإن كان محققا مد بلا خلاف وهو هشام، هذا قياس مذهبهم وما يقتضيه النظم والمعنى فلا تختلف القراءة بالمد والقصر إلا على قولنا إن ها للتنبيه فما فرع الناظم إلا على هذا القول، ولم يفرع على قول البدل لوجهين؛ أحدهما: أن كون ها للتنبيه هو الأصح على ما اخترناه في شرح البيت السابق، الثاني: أنه ترك التفريع على ذلك لظهوره؛ لأنه لا يقتضي تفاوتا في المد للجميع؛ لأن التقدير تقدير: أنهم أدخلوا ألفا بين همزتين بعضهم جرى على أصله وبعضهم خالف في ذلك أصله وإدخال ألف بين همزتين لا يختلف في النطق

1 سورة الأحزاب، آية:18.

2 سورة يس، آية:10.

ص: 293

402-

وَأُمِّي وَأَجْرِي سُكِّنَا "دِ"ينُ "صُحْبَةٍ"

دُعَاءِي وَآباءِي لِكُوفٍ تَجَمَّلا

أراد: {وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} ، و {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا} حيث جاء زاد على فتحهما ابن عامر وحفص، ونصب قوله: دين صحبة على أنه مصدر مؤكد مثل: {صِبْغَةَ اللَّهِ} و {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .

والدين: العادة أي هي عادة صحبة إسكان ياءات الإضافة أي مذهبهم وطريقتهم وما يتدينون به في قراءة القرآن، وقيل نصبه على الحال من الإسكان المفهوم من قوله: سكنا أي أوقع الإسكان فيهما في حال كونه دين صحبة، وعبر في هذا الباب تارة بالفتح وتارة بالإسكان على قدر ما سهل عليه في النظم كما فعل في باب حروف قربت مخارجها عبر تارة بالإدغام وتارة بالإظهار، فمن أول الباب إلى هنا كان كلامه في الفتح، وفي هذا البيت وما بعده إلى انقضاء الكلام فيما بعده همزة مكسورة كلامه في الإسكان، وما بعد ذلك يأتي أيضا تارة فتحا وتارة سكونا، وتعبيره في هذا الباب بالإسكان أولى من تعبيره بالفتح؛ لأنه إذا قال فلان أسكن تأخذ لغيره بضد الإسكان وهو التحريك المطلق، والتحريك المطلق هو الفتح على ما تقرر في شرح الخطبة، وأما إذا قال: افتح فليس ضده أسكن إنما ضده عند الناظم اكسر، ولو قال: موضع الفتح حرك بفتح لصحت العبارة كما أن عادته أن يقول في الضم والكسر والفتح وحرك عين الرعب ضما ومحرك؛ ليقطع بكسر اللام، وليحكم بكسر، ونصبه بحركة؛ فإن ضد ذلك كله الإسكان لأجل لفظ التحريك وأما:{دُعَائي إِلَّا} في نوح1، {مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ} في يوسف2 فأسكنهما الكوفيون فزاد على فتحهما ابن كثير وابن عامر، وقوله: لكوف متعلق بتجملا وهو خبر دعائي وآبائي والألف ضمير التثنية أي حسنا في نظرهم بالإسكان فأسكنوهما فقوله: تجملا بالجيم، ويأتي في سورة النساء بالحاء على ما نبينه إن شاء الله تعالى.

403-

وَحُزْنِي وَتَوْفِيقِي "ظِـ"ـلَالٌ وَكُلُّهُمْ

يُصَدِّقْنِيَ انْظِرْنِي وَأَخَّرْتَنِي إِلى

{وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} و {مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} : أسكنهما الكوفيون وابن كثير، فيكون قد زاد على فتحهما ابن عامر، وظلال جمع ظل أي هما ذوا ظلال لمن استظل بهما وهو المتصف بهما، وفقنا الله تعالى للحزن على ما فرطنا فيه من أعمارنا أي حزنه على ما سلف وتوفيق الله إياه لطاعته ظلال واقية من النار، ثم قال: وكلهم؛ أي: وكل القراء أسكنوا ستة ألفاظ ذكر في هذا البيت منها ثلاثة والباقي في البيت الآتي، وليست من جملة العدة السابقة والسبب في ذكره المتفق على

1 آية: 6.

2 آية: 38.

ص: 294

إسكانه هنا: هو ما ذكرناه عند ذكر ما اتفق على إسكانه فيما بعده همزة مفتوحة غير أنه في ذلك النوع بدأ بذكر المتفق على إسكانه وهنا ختم به هذا النوع وأراد: {يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ} في القصص1، {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ} في الأعراف والحجر وص2، {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} في آخر المنافقين3، وأما قوله تعالى في سبحان:{لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4 فمذكور في باب ياءات الزوائد وحكم ياءات الزوائد أن من أثبتها لا يفتحها إلا في المواضع المستثناة وهي ثلاثة في النمل والزمر والزخرف ففيهما اختلاف وسيأتي ذكر الذي في الزخرف آخر هذا الباب والذي في النمل والزمر في باب الزوائد.

فإن قلت: كيف يلفظ في البيت بقوله: "يصدقني"، "أنظرني"؟

قلت: يحتمل وجهين، وكلاهما لا يخلو من ضرورة: أحدهما بضم القاف على قراءة عاصم وحمزة فيلزم من ذلك وصل همزة القطع في: "أَنْظِرْنِي"، وحذف الياء؛ لالتقاء الساكنين والثاني بإسكان القاف على قراءة الجماعة فيلزم من ذلك فتح الياء وهي لم يفتحها أحد من القراء مع وصل همزة القطع ويجوز أن يعتذر عن هذا بأن يقال: لم يصل همزة القطع على هذا الوجه بل نقل حركة الهمزة إلى الياء كما تقول العرب: أبتغي أمره فالياء على هذا كأنها ساكنة في التقدير؛ لأن الفاء جاء من عارض نقل حركة الهمزة وليس الفتح من باب فتح ياء الإضافة.

فإن قلتَ: فحذف الهمزة من: "أَنْظِرْنِي" لا يقرأ به أحد.

قلتُ: حذف الهمزة لا بد منه في الوجهين المذكورين فما فيه إثبات الياء أولى مما فيه حذفها إلا أنه يعارض هذا أن فتح الياء قراءة وحذفها معلوم يوهم أنه؛ لالتقاء الساكنين فالوجهان متقاربان؛ لتعارض الكلام

1 آية: 34.

2 الأعراف، آية: 14، والحجر، آية: 36، ص آية:79.

3 آية: 10.

4 آية: 62.

ص: 295

فيهما ويحتمل وجهًا ثالثًا بإسكان القاف وحذف الياء مع بقاء كسرة النون وتبقى همزة: "أَنْظِرْنِي" ثابتة مفتوحة بحالها، ويكون هذا أولى بالجواز من قوله قبل ذلك وقل:"فطرن" في هود فإنه حذف الياء من: "فَطَرَنِي" وأسكن النون فحذف الياء مع بقاء كسرة النون أولى.

404-

وَذُرِّيَّتِي يَدْعُونَنِي وَخِطَابُهُ

وَعَشْرٌ يَلِيهَا الهَمْزُ بِالضَّمِّ مُشْكَلا

أراد: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ} ، {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} في يوسف1، وأراد بقوله: وخطابه أن يأتي هذا اللفظ بالتاء وهو موضعان في غافر: {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ، و {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} فهذه أربع ياءات، وتقدم خمس فالمجموع تسع مجمع على إسكانها في ستة ألفاظ تكرر واحد مرتين، وهو:"تَدْعُونَنِي". بالخطاب وتكرر آخر ثلاثا وهو: "أَنْظِرْنِي".

ثم ذكر النوع الثالث فقال: وعشر أي وعشر ياءات تليها الهمزة المضمومة ومشكلا حال من الهمز يقال: شكلت الكتاب وأشكلته وقد تقدم ذكره في آخر باب الهمزتين من كلمتين والعشر قوله: {إِنِّي أُعِيذُهَا} ، {إِنِّي أُرِيدُ} في المائدة والقصص، {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ} ، {إِنِّي أُمِرْتُ} في الأنعام والزمر2، {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ} ، {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} ، {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} ، {إِنِّي أُلْقِيَ} ؛ فتحها جميعا نافع وحده وأسكنها الباقون وأجمعوا على إسكان ياءين وقد ذكر ذلك في قوله:

1 آية: 33.

2 الآيتان: 41 و43.

ص: 296

405-

فَعَنْ نَافِعٍ فَافْتَحْ وَأَسْكِنْ لِكُلِّهِمْ

بِعَهْدِي وَآتُونِي لتَفْتَحَ مُقْفَلا

يريد قوله تعالى: {بِعَهْدِي أُوفِ} ، {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ} .

وإنما ذكرهما للمعنى الذي ذكرناه في المفتوحة والمكسورة ولم يتعرض صاحب التيسير لذكر المجمع عليه من ذلك لا في التي قبل الهمزة المفتوحة ولا المكسورة ولا المضمومة، وكأنه اتكل على بيان المختلف فيه في آخر كل سورة، وحسنت المقابلة في قوله: لتفتح مقفلا بعد قوله: وأسكن، أي: لتفتح بابا من العلم كان مقفلا قبل ذكره والله أعلم.

406-

وَفِي اللَاّمِ لِلتَّعْرِيفِ أَرْبَعُ عَشْرَةٍ

فَإِسْكَانُهَا "فَـ"ـاشٍ وَعَهْدِي "فِـ"ـي "عُـ"لا

هذا النوع الرابع وهو ما بعده همزة وصل بعدها لام التعريف ومجموع الهمزة واللام عند قوم هو المعرف وتقدير قوله: وفي اللام أي وفي قبل اللام، فحذف المضاف للعلم به، ولو قال: وفي قبل اللام لكان على حذف الموصول تقديره وفي الذي قبل اللام وكل ذلك قد جاءت له نظائر في اللغة، ونون قوله: أربع عشرة ضرورة، كما قال العرجي:

فجاءت تقول الناس في تسع عشرة

وجوز الفراء الإضافة مع التنوين في الشعر قال في كتاب "المعاني" أنشدني أبو ثروان:

كلف من عنائه وشقوته

بنت ثماني عشرة من حجته

قلت: فعلى هذا يجوز في بيت الشاطبي أربع عشرة برفع أربع وجر عشرة مع التنوين، فأسكن الأربع عشرة جميعها حمزة ووافقه غيره في بعضها، وقوله فاشٍ: أي منتشر شائع خلافا لما نقل عن الكسائي عن العرب من ترك ذلك وقد تقدم ذكره ووافق حفص حمزة على إسكان: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .

407-

وَقُلْ لِعِبَادِي "كَـ"ـانَ "شَـ"رْعاً وَفِي النِّدَا

"حِـ"ـمًى "شَـ"ـاعَ آيَاتِي "كَـ"ـمَا "فَـ"ـاحَ مَنْزِلا

أراد: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} وافق على إسكانها ابن عامر والكسائي، ووافق على إسكان عبادي إذا جاء بعد حرف النداء أبو عمرو والكسائي وذلك في موضعين: في العنكبوت: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} ، وفي الزمر:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} 1، وهو ملبس بالتي في أول الزمر:{يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} 2.

1 العنكبوت، آية: 56 والزمر آية: 53.

2 آية: 10.

ص: 297

وإنما لم يأت فيها خلاف؛ لأن الياء محذوفة منها في الرسم باتفاق، وإذا لم تكن ياء فلا فتح وأما:"آيَاتِي" ففي الأعراف: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ} 1، وافق ابن عامر على إسكانها، وتقدير معنى البيت: كان إسكانه شرعا وهو في الندا حمى شاع، وفاح: أي تضوع وظهرت رائحته ومنزلا تمييز ثم عد هذه الأربع عشرة ياء فقال:

408-

فَخَمْسَ عِبَادِي اعْدُدْ وَعَهْدِي أَرَادَنِي

وَرَبِّي الَّذِي آتَانِ آياتِي الحُلا

409-

وَأَهْلَكَنِي مِنْهَا وَفِي: ص مَسَّنِي

مَعَ الأَنَبِيَا رَبِّي فِي الَاعْرَافِ كمَّلا

تقدم ذكر عهدي وآياتي وثلاثة من لفظ عبادي وبقي اثنان: {عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} {عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وأما {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ} ، فيأتي في باب الزوائد وأنث لفظ الخمس بحذف الهاء منه على تأويل إرادة الكلمات، وقوله: أرادني، أراد:{إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرّ} ، {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي} ، {آتَانِيَ الْكِتَابَ} .

في مريم2 وأما: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} .

فيأتي ذكره في باب الزوائد، والحلا جمع حلية وهي صفة للكلمات المذكورة وحذف الياء من آتاني ضرورة، ويجوز إثبات الياء وفتحها نقلا لحركة همزة آياتي إليها على حد قوله:{حَشَرْتَنِي أَعْمَى} .

ولو حذف الياء ثم وأثبت الهمزة لكان سائغا كما فعل هنا في: "آتان"، "آياتي".

فالحاصل: أن كل واحد من الموضعين يجوز فيه ما نظمه في الآخر ومنها: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} ، {مَسَّنِيَ الضُّرّ} في الأنبياء3، {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} في ص3، {حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} في الأعراف4، فهذه أربع عشرة ياء، وعدها صاحب التيسير ست عشرة فزاد ما في النمل والزمر:

1 آية: 146.

2 آية: 30.

3 آية 83.

4 آية: 41.

ص: 298

{آتَانِيَ اللَّهُ} ، "فبشر عبادي الذين".

وإنما بين سورتي "مسني" دون سور باقي الياءات؛ لأن في الأعراف: {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} مجمعا على فتحه، وإنما عد الشاطبي ياءات هذا النوع دون الأنواع التي سبقت؛ لئلا تشتبه بغيرها نحو:{شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ} ، {نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ} ، {بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} ؛ لأنه لم يذكر المجمع عليه من هذا القسم؛ لكثرته فرأى عده أيسر عليه، والمجمع عليه من هذا القسم مفتوح، والمجمع عليه من ما مضى مسكّن، ثم ذكر النوع الخامس فقال:

410-

وَسَبْعٌ بِهَمْزِ الوَصْلِ فَرْدًا وَفَتْحُهُمْ

أَخِي مَعَ إِنِّي "حَـ"ـقَّهُ لَيْتَنِي "حَـ"ـلا

أي وسبع ياءات إضافة بعدها همزة الوصل دون لام التعريف، فلهذا قال: فردا وهو حال من الهمز، ثم أخذ يذكرها واحدة بعد واحدة ولم يعمها بحكم لأحد كما فعل في الأنواع السابقة؛ لأن كل واحدة منها تختص برمز إلا واحدة وافقت أخرى في الرمز بهذا البيت فجمعهما، وبدأ بهما فقال:"أخي" مع إني أراد: {أَخِي، اشْدُدْ} في طه، فهمز الوصل بعدها في قراءة من فتحها وغيره، وهي همزة قطع في قراءة ابن عامر كما يأتي وفي الأعراف:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} ، فتحهما ابن كثير وأبو عمرو وانفرد أبو عمرو بفتح:{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} ، وهو يفتح الجميع وابن كثير يفتح ما عدا:{يَا لَيْتَنِي} في رواية البزي، ونافع يفتح ما عدا هذا البيت ثم تممها فقال:

411-

وَنَفْسِي "سَمَا" ذِكْرِي "سَمَا" قَوْمِي "ا"لرِّضَا

"حَـ"ـمِيدُ "هُـ"دًى بَعْدِي "سَمَا صَـ"فْوُهُ وِلا

1 النمل آية: 36 والزمر آية: 17.

ص: 299

أراد في طه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، اذْهَبْ} ، {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا} 1، فتحهما مدلول سما، وكرر لهما الرمز من غير حاجة إلى تكريره سوى ضرورة النظم، وخرج منهم قنبل في فتح:{إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} في الفرقان2 وزاد مع سما أبو بكر ففتحوا: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، والولاء بكسر الواو والمد: المتابعة ونصبه على التمييز: أي سمت متابعة صفوة.

412-

وَمَعَ غَيْرِ هَمْزٍ فِي ثَلَاثيِنَ خُلْفُهُمْ

وَمَحْياَيَ "جِـ"ـي بالْخُلْفِ وَالْفَتْحُ "خُـ"ـوِّلا

وهذا النوع السادس الذي ليس بعده همز أصلا لا همز قطع ولا همز وصل، ثم شرع يذكرها واحدة بعد واحدة فبدأ بقوله تعالى:"وَمَحْيَايَ" في آخر الأنعام فالواو من جملة التلاوة لا عاطفة، فذكر أن قالون أسكنها، ولورش فيها خلاف، وفتحها الباقون وهو لأقيس في العربية فلذا قال: خولا أي ملك وإنما ضعف الإسكان لما فيه من الجمع بين الساكنين ولا يليق بفصاحة القرآن إلا ذلك، ألا ترى كيف أجمعوا على الفتح:"مَثْوَايَ"، و"هُدَايَ"، وكلاهما مثل:"مَحْيَايَ".

وشنع بعض أهل العربية على نافع رحمه الله متعجبا منه: كيف أسكن: "مَحْيَايَ"، وفتح بعدها:"مَمَاتِي"، وكان الوجه عكس ذلك أو فتحهما معا، والظن به أنه فتحهما معا، وهو أحد الوجهين عن ورش عنه، وهي الرواية الصحيحة فقد أسندها أبو بكر بن مجاهد في كتاب الياءات عن أحمد بن صالح عن ورش عن نافع: الياء في: "مَحْيَايَ وَمَمَاتِي" مفتوحتان، وفي أخرى عن ورش قال: كان نافع يقرأ أولا محياي ساكنة الياء، ثم رجع إلى تحريكها بالنصب. قلتُ: فهذه الرواية تقضي على جميع الروايات؛ فإنها أخبرت بالأمرين، ومعها زيادة علم بالرجوع عن الإسكان إلى التحريك فلا تعارضها رواية الإسكان؛ فإن الأولى معترف بها، ومخبر بالرجوع عنها، وكيف وإن رواية إسماعيل بن جعفر وهو أجل رواة نافع: موافقة لما هو المختار، قال ابن مجاهد: أخبرني محمد

1 الآيتان: 41 و42.

2 آية: 30.

ص: 300

ابن الجهم عن الهاشم عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة ونافع أنهم ينصبون الياء في: {مَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} .

قلتُ: وهذه الآية مشتملة على أربع ياءات: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} .

فالأولتان ساكنتان بلا خلاف في هذه الطرق المشهورة، فكأن نافعا أسكن اثنتين وفتح اثنتين، ولا ينبغي لذي لب إذا نقل له عن إمام روايتان أحداها أصوب وجها من الأخرى أن يعتقد في ذلك الإمام إلا أنه رجع عن الضعيف إلى الأقوى، ولا يغتر بما ذكره الداني في كتاب الإيجاز من اختياره الإسكان، وذكر وجهه من جهة العربية؛ فإن غاية ما استشهد به قول بعض العرب التقت حلقتا البطان وله ثلثا المال بإثبات الألف فيهما، وهذا ضعيف شاذ لم يقرأ بمثله؛ ألا ترى أن الإجماع على أن الألف محذوفة من نحو هذا مثل:{ادْخُلا النَّارَ} ، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} .

وأما استشهاده بقراءة أبي عمرو: "والَّلاى" بإسكان الياء فسيأتي الكلام عليه في سورة الأحزاب وحكمه حكم: "مَحْيَاي".

وقول الناظم: جئ بالخلف أي ائت به، وانظر في اختلاف الروايات يَبِنْ لك الصواب إن شاء الله تعالى.

413-

وَ"عَمَّ عُلا" وَجْهِي وَبَيْتِي بِنُوحِ "عَـ"ـنْ

"لِـ"ـوًى وَسِوَاهُ "عُـ"ـدْ "أَ"صْلًا "لِـ"ـيُحْفَلا

يريد: {وَجْهِيَ لِلَّهِ} في آل عمران1، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} 2 في الأنعام، {بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} 3 وسواه يعني سوى الذي في نوح وهو:

1 آية: 20.

2 آية: 79.

3 آية: 125.

ص: 301

{بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} في البقرة والحج1، وتقدير البيت: وعم فتح وجهي علا، وفتح بيتي وارد لواء؛ أي: عن ذي لواء وشهرة قصروه ضرورة كما قال:

لو كنت من هاشم أو من بني أسد

أو عبد شمس أو أصحاب اللوى الصيدِ

يريد بأصحاب اللواء بني عبد الدار بن قصي. وقوله: عد أصلا أي عده أصلا لفتح الذي بنوح؛ ليتضح عذر من عمم الفتح للجميع يقال: حفلته أي جلوته، وحفلت كذا أي باليت به، وفلان محافل على حسبه إذا صانه.

414-

وَمَعْ شُرَكَاءِي مِنْ وَرَاءِي "دَ"وَّنُوا

وَليِ دِينِ "عَـ"ـنْ "هَـ"ـادٍ بِخُلْفٍ "لَـ"ـهُ "ا"لحَلا

يريد: {أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا} ، {مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ} ، {وَلِيَ دِينِ} آخر سورة الكافرين، له أي للخلف، والحلا جمع حلية.

415-

مَمَاتِي "أَ"تَى أَرْضِي صِرَاطِي ابْنُ عَامِرٍ

وَفِي النَّمْلِ مَالِي "دُ"مْ "لِـ"ـمَنْ "رَ"ـاقَ "نَـ"ـوْفَلا

لو أتى بهذا البيت بعد محياي كان أولى؛ لأنه يتصل الكلام في: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} ، وأراد {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} ، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} ، {مَا لِيَ لَا أَرَى} .

وراق الشيء صفا، والنوفل: السيد المعطي وهذا الكلام مليح: أي دم نوفلا لمن راق، وصفا باطنه وظاهره.

416-

وَلِي نَعْجَةُ مَا كَانَ لِي اثْنَيْنِ مَعْ مَعِي

ثَمَانٍ "عُـ"ـلًا وَالظُّلَّةُ الثَّانِ "عَـ"ـنْ "جِـ"ـلا

أي وفتح هذه المواضع علا واثنين حال من قوله ما كان لي يريد: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ} في إبراهيم2، {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ} في ص3، ومعي في ثمانية مواضع:

{مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ} في الأعراف4.

1 البقرة: 125 والحج، آية:26.

2 آية: 22.

3 آية: 69.

4 آية: 105.

ص: 302

{مَعِيَ عَدُوًّا} في التوبة1.

{مَعِيَ صَبْرًا} ثلاثة في الكهف2.

{ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} في الأنبياء3.

{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} في الشعراء4.

{مَعِيَ رِدْءًا} في القصص5.

فَتَحَ الجميعَ حفصٌ وتابعه ورش على الثاني في سورة الظلة، وهي سورة الشعراء؛ لأن فيها:{عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} يريد قوله تعالى في قصة نوح: {وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 6؛ أي وحرف الظلة الثاني فتحه، عن جلا أي كشف وجلوت الشيء: كشفته.

417-

وَمَعْ تُؤْمِنُوا لِي يُؤْمِنُوا بِي "جَـ"ـاوَيَا

عِبَادِيَ "صِـ"ـفْ وَالحَذْفُ "عَـ"ـنْ "شَـ"ـاكِرٍ "دَ"لا

يريد: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي} في الدخان7، {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} في البقرة8 فتحهما ورش، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} في الزخرف9، فتحها أبو بكر وحذفها عن شاكر دلا أي أخرج دلوه ملأى يشير إلى قوة مذهبهم

1 آية: 83.

2 الكهف آيات: 67 و72 و75.

3 آية: 24.

4 آية: 62.

5 آية: 34.

6 آية: 118.

7 آية: 21.

8 آية: 68.

9 آية: 68.

ص: 303

لأن الياء حذفت في بعض المصاحف وحذفها في باب الندا أفصح من إثباتها وأسكنها الباقون، وقوله في الزمر:{يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 1 ياؤها محذوفة في جميع المصاحف، وانضاف إلى ذلك أن حذفها في النداء أفصح لغة، فلهذا لم يأت فيها خلاف في حذفها من هذه الطرق المشهورة، وإن كان قد حكي إثباتها وفتحها في طرق أخرى.

418-

وَفَتْحُ وَلِي فِيهَا لِوَرْشٍ وَحَفْصِهِمْ

وَمَا لِي فِي: يس سَكِّنْ "فَـ"ـتَكْمُلا

يريد: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ، {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ} ؛ أسكنها حمزة وحده ونصب فتكملا على جواب الأمر بالفاء أي فتكمل معرفة مواضع الخلاف في هذا الباب والله أعلم.

1 آية: 16.

ص: 304