المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بيان الرموز التي يشير بها الناظم إلى القراء السبعة ورواتهم: - شرح الشاطبية إبراز المعاني من حرز الأماني

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌خطبة الكتاب

- ‌فصل في ذكر القراء السبعة:

- ‌مقدمة القصيدة

- ‌مدخل

- ‌بعض ما جاء في ذكر القرآن العزيز وفصل قراءته

- ‌بيان القراء السبعة ورواتهم وأخبارهم:

- ‌بيان الرموز التي يشير بها الناظم إلى القراء السبعة ورواتهم:

- ‌باب: الاستعاذة

- ‌باب: البسملة

- ‌سورة أم القرآن:

- ‌باب الإدغام الكبير:

- ‌باب: إدغام الحرفين المتقاربين في كلمة وفي كلمتين

- ‌باب: هاء الكناية

- ‌باب المد والقصر:

- ‌باب الهمزتين من كلمة:

- ‌بب: الهمزتين من كلمتين

- ‌باب الهمز المفرد:

- ‌باب: نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها

- ‌باب: وقف حمزة وهشام على الهمز

- ‌باب: الإظهار والإدغام

- ‌مدخل

- ‌ذكر ذال إذ

- ‌ذكر دال قد

- ‌ذكر تاء التأنيث

- ‌ذكر لام وهل وبل

- ‌باب: حروف قربت مخارجها

- ‌باب: أحكام النون الساكنة والتنوين

- ‌باب: الفتح والإمالة وبين اللفظين

- ‌باب: مذهب الكسائي في إمالة هاء التأنيث في الوقف

- ‌باب: الراءات

- ‌باب: اللامات أي تغليظها:

- ‌باب: الوقف على أواخر الكلم

- ‌باب: الوقف على مرسوم الخط

- ‌باب: مذاهبهم في ياءات الإضافة

- ‌باب: مذاهبهم في الزوائد

- ‌باب: فرش الحروف

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء:

- ‌سورة المائدة:

- ‌سورة الأنعام:

- ‌سورة الأعراف:

- ‌سورة الأنفال:

- ‌سورة التوبة:

- ‌سورة يونس:

- ‌سورة هود:

- ‌سور يوسف

- ‌سورة الرعد:

- ‌سورة إبراهيم:

- ‌سورة الحجر:

- ‌سورة النحل:

- ‌سورة الإسراء:

- ‌سورة الكهف:

- ‌سورة مريم:

- ‌سورة طه:

- ‌سورة الأنبياء:

- ‌سورة الحج:

- ‌سورة المؤمنون:

- ‌سورة النور:

- ‌سورة الفرقان:

- ‌سورة الشعراء:

- ‌سورة النمل:

- ‌سورة القصص:

- ‌سورة العنكبوت:

- ‌من سورة الروم إلى سورة سبأ

- ‌سورة سبأ وفاطر:

- ‌سورة يس:

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص:

- ‌سورة غافر:

- ‌سورة فصلت:

- ‌سورة الشورى والزخرف والدخان:

- ‌سورة الشريعة والأحقاف

- ‌من سورة محمد صلى الله عليه وسلم إلى سورة الرحمن عز وجل:

- ‌سورة الرحمن عز وجل:

- ‌سورة الواقعة والحديد:

- ‌من سورة المجادلة إلى سورة ن:

- ‌من سورة "ن" إلى سورة القيامة:

- ‌من سورة القيامة إلى سورة النبأ:

- ‌من سورة النبأ إلى سورة العلق:

- ‌من سورة العلق إلى آخر القرآن:

- ‌باب: التكبير

- ‌باب: مخارج الحروف وصفاتها التي يحتاج القارئ إليها

- ‌الفهرس:

- ‌مقدمات

- ‌تصدير

- ‌ترجمة الإمام الشاطبي:

- ‌الشيخ شهاب الدين أبو شامة:

- ‌الدرة الأولى: فيما يتعلق بطالب العلم في نفسه ومع شيخه

- ‌الدرة الثانية: في حد القراءات والمقرئ والقارئ

- ‌الدرة الثالثة: شروط المقرئ وما يجب عليه

- ‌الدرة الرابعة: فيما ينبغي للمقرئ أن يفعله

- ‌الدرة الخامسة: في قدر ما يسمع وما ينتهي إليه سماعه

- ‌الدرة السادسة: فيما يقرأ به

- ‌الدرة السابعة: في الإقراء والقراءة في الطريق

- ‌الدرة الثامنة: في حكم الأجرة على الإقرار وقبول هدية القارئ

- ‌الدرة التاسعة: تدوين القراءات

الفصل: ‌بيان الرموز التي يشير بها الناظم إلى القراء السبعة ورواتهم:

تقرأ على وجوه من القرآن تسمى حرفا، ويجوز أن يكون المراد بالحروف الرموز؛ لأنها حروفهم الدالة عليهم ويدل عليه قوله بعد ذلك: جعلت أبا جادٍ كأن قائلا قال له: وما تلك الحروف التي ترجو طوع القوافي بها فقال ذلك، ويطوع بمعنى ينقاد فكأنه ضمنه معنى يسمح فعداه بالباء، والقوافي جمع قافية وهي كلمات أواخر الأبيات بضابط معروف في علمها، وقد نظمت فيها الأرجوزة الوافية بعلمي العروض والقافية ومسهلا حال من النظم ثم قال:

ص: 34

‌بيان الرموز التي يشير بها الناظم إلى القراء السبعة ورواتهم:

45-

جَعَلْتِ أَبَا جَادٍ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ

دَلِيلاً عَلَى المَنْظُومِ أَوَّلَ أَوَّلَا

أي صيرت حروف أبي جاد فحذف المضاف للعلم به أي جعلته دليلا على كل قارئ ذكرته في هذا النظم فقوله: "على المنظوم" بدل من قوله: "على كل قارئ" بإعادة العامل أو يكون معمول عامل مقدر أي مرتبا على ما نظمته، وتقدير أول أولا أولا فأولا أو أولا لأول ثم حذف الحرف وركبت الكلمتان معا وبنيتا على الفتح أي الأول من حروف أبي جاد للأول من القراء والثاني للثاني وهكذا إلى أن ينتهي عدد القراء السبعة، والرواة الأربعة عشر وحروف أبي جاد هي حروف المعجم المعروفة جمعت في كلمات أولها أبجد وكان أصله أبو جاد فحذفت منه الواو والألف؛ لئلا تتكرر الصور؛ لأن أول أبجد ألف وفي هوز واو وقد بسطنا الكلام في ذلك في الشرح الكبير وصفا لنا من الحروف سبع كلمات كل كلمة لواحد من السبعة وراوييه على ترتيب نظمه الأول للشيخ والثاني لأول الروايين والثالث لثانيهما ولا يعد في القراء اليزيدي ولا سليم؛ لأنه إنما ذكرهما لبيان السند لمن قرأ عليهما لا لتنسب القراءة إليهما والكلمات هي أبج دهز حطي كلم نصع فصق رست وهي تجيء نصف بيت بتسكين الحرف الوسط من دهز كلم نصع وتحريكه من البواقي وتمام البيت دليل على المنظوم أول أولا فالألف لنافع والباء لقالون والجيم لورش والدال لابن كثير وهكذا إلى آخرهم فتكون الراء للكسائي والسين لأبي الحارث والتاء للدوري عنه1 وله عن عن أبي عمرو الطاء من حطي هذا عقد هذا الاصطلاح.

وننبه بعد ذلك على فوائد تتعلق باستعماله لهذه احروف لم يتعرض لها وإنما فهمتها من تصرفه في نظمه، منها أن هذه الحروف لا يأتي بها مفردة بل في أوائل كلمات قد ضمن تلك الكلمات معاني صحيحة مفيدة فيما هو بصدده من ثناء على قراءة أو على قارئ أو تعليل أو نحو ذلك على ما سيأتي بيانه كقوله: وبسمل بين السورتين بسنة ومالك يوم الدين راويه ناصر سلاسل نون إذ رووا صرفه لنا وقد يأتي بها بعد الواو الفاصلة كقوله: ألا وعلا الحرمي إن لنا هنا وكم صحبة يا كاف دون عناد عم وحكم صحاب قصر همزة جاءنا فالحاء من حكم رمز لأبي عمرو فكأنه قال وأبو عمرو وفلان وفلان يقرءون كذا وكذلك الدال من ودون لابن كثير والكاف من وكم لابن عامر والعين من وعلى لحفص ولا يأتي ذلك إلا حيث يكون الواو زائدة على الكلمة فالعين من قوله وعى نفر ليست برمز وكذا قوله في سورة النحل معا يتوفاهم لحمزة وصلا سما كاملا يهدي الواو في وصلا فصل وهي أصلية فالصاد ليست برمز داخل مع سما كاملا،

1 أي إذا كان راويا عن الكسائي: وللدوري أيضا إذا كان راويا عن أبي عمرو البصري الطائي.

ص: 34

وكذا لا يفعل ذلك إلا في ابتداء المسألة لا في أثناء الرمز، فقوله: حق وذو جلا، حق وذو ملا ليس الذال برمز وكذا ما أشبه ذلك ولو كان تجنب الرمز في الحشو مطلقا لكان أولى.

ومنها أن رمز نافع أول حروف أبجد؛ لأن نافعا أول القراء في نظمه وأول حروف أبجد همزة لفظا وألف خطًّا فاستعمل المجموع في رمز نافع فالهمزة يستعملها كثيرا نحو ورابرق افتح آمنا وقد يستعمل ألف الوصل نحو معي نفر العلا، له الرحب له الحلا وإن افتحوا الجلا كما انجلا وهو كثير ولو تجنبه لكان أحسن فإن ألف الوصل ساقطة لفظا منه فكلما كان الرمز بلفظ بين كان أولى منه بلفظ خفي ولزم منه إلباس في قوله: سورة الكهف: وأقبلا على حق السدين أن يكون الألف من واقبلا رمز نافع فيكون مع على حق في فتح السدين كما فعل ذلك في وعلا وكم ودون وحكم على ما تقدم.

ومنها أنه مهما اجتمع الراويان على قراءة فالرمز لإمامهما دونهما في غالب الأمر؛ لأنه الأخص إذ لا يحتاج إلا إلى كلمة واحدة، وقد جاء في بعض المواضع الرمز لهما بكلمتين لاحتياجه إلى ذلك في إقامة الوزن وتتمة البيت كقوله: ضوء سنا تلا، وفي الفرقان زاكيه هللا، وفي لوصل لكنا فمد له ملا.

ومنها أنه إذا اتصل شيء من هذه الحروف بضمير قراء تقدم ذكرهم لم يكن ذلك رمزا وكان الضمير كالمصرح به من أسمائهم، ومن حكمه أن المصرح به لا رمز معه وذلك نحو قوله: وصية ارفع صفو حرميه رضى ثم قال: ويبصط عنهم: أي أن من تقدم ذكرهم يقرءون يبصط بالصاد ولا نقول إن العين في عنهم رمز حفص ومثله: وضم الراء حق ولاغية لهم أي ضم نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من: لا تسمع فيها1 ورفع: لاغية لهم أيضا ولا نقول إن اللام في لهم رمز هشام وهذا بخلاف ما إذا كان الضمير غير راجع إلى أحد من القراء الذين سبق ذكرهم فإن الحرف حينئذ يكون رمزا مثل: له الرحب له الحلا.

ومنها أنه قد جاء في مواضع ألفاظ تصلح أن تكون رمزا وليست برمز في مراده وذلك كما سنبينه في باب المد والإمالة والزوائد وفرش الحروف، وهو مشكل وفي باب البسملة موضع ذكر أنه رمز وعندي أنه ليس برمز كما سنذكره.

ومنها أنه إذا اجتمعت قراءتان لقارئ واحد فتارة يسمى لكل قراءة منهما كقوله: وفيه لم ينون لحفص كيد بالخفض عولا وتارة يسمى بعد الثانية فتكون التسمية لهما كقوله: وأنث ان تكون مع الأسرى الأسارى حلا حلا وفي قوله: سنكتب ياء ضم البيت رمز بعد ثلاث قراءات لحمزة بقوله فيكملا وتارة يسمى مع الأولى ويعطف الثانية عليها كقوله: ويغشى سما خفا البيت فقوله والنعاس ارفعوا يعني لحق المقدم ذكره؛ لأنه قد أتى بالواو الفاصلة في قوله: ولا فلو كان رفع النعاس لغير من تقدم ذكره لسماه قبل الواو فيعلم بمحئ الواو أن لا رمز لها سوى ما تقدم والله أعلم.

46-

وَمِنْ بَعْدِ ذِكْرِى الْحَرْفَ أُسْمِى رِجَالَهُ

مَتَى تَنْقَضِي آتِيكَ بِالْوَاوِ فَيْصَلَا

الحرف مفعول ذكرى المضاف إلى ياء المتكلم والمراد بالحرف ما وقع الاختلاف فيه بين القراء من الكلمات وأسمى وأسمى لغتان بمعنى واحد ويتعديان إلى مفعول واحد؛ لأنه واحد؛ لأنه بمعنى ذكرى الاسم، والهاء في رجاله تعود إلى الحرف والمراد برجاله قراؤه أي أذكرهم برموزهم التي أشرت إليها لا بصريح أسمائهم فإن ذلك يتقدم على الحرف ويتأخر كما سيأتي.

1 سورة الغاشية، آية:11.

ص: 35

بين بهذا البيت كيفية استعماله الرمز بحروف أبجد فذكر أنه يذكر حرف القراءة1 أولا ثم يرمز له سواء كان المختلف فيه كلمة أو أكثر فالكلمة نحو: وتقبل الاولى أنثوا دون حاجز والكلمتان نحو وكسر بيوت والبيوت يضم عن حماجلة والثلاث نحو: وقيل وغيض ثم جيء يشمها والربع نحو: وسكِّنْ يؤده معْ نولهْ ونصلِهِ ونؤته منهاوقد تكون قاعدة كلية يدخل تحتها كلم متعددة نحو: وضمك أولى الساكنين

البيت والأغلب أن الرمز المذكور لا يأتي إلا بعد كمال تقييد القراءة إن احتاجت إلى تقييد كالأمثلة التي ذكرناها، وقد وقع قليلاً رمز قبل تمام التقييد كقوله: والعين في الكل ثقلا كما دار واقصر مع مضعفة فقوله: كما دار رمز متوسط بين كلمتي التقييد وهما ثقلا واقصر، ومثله: ومع مد كائن كسر همزته دلا ولا ياء مكسورا

وأما قوله في سورة غافر: أو أن زد الهمز ثملا وسكن لهم فإن قوله: لهم قام مقام تكرار الرمز وقد يرمز قبل جملة التقييد كقوله: وإثم كبير شاع بالثا مثلثا، ومثله مع تسمية القارئ قوله وفي فأزل اللام خفف لحمزة وزد ألفا من قبله فتكملا والضمير في تنقضي للرجال، ويجوز أن يعود على المسألة برمتها من ذكر الحرف وقرائه لدلالة سياق الكلام على ذلك.

يريد أنه إذا انقضى ذكر الحرف ورمز من قرأه أتى بكلمة أولها واو تؤذن بانقضاء تلك المسألة واستئناف أخرى؛ لأن الواو لم يجعلها رمز القارئ بخلاف سائر الحروف ولو لم يفعل ذلك لاختلطت المسائل وظن ما ليس برمز رمزًا لا سيما إذا أتى بكلام بين المسألتين للحاجة إليه في تتميم وزن البيت كقوله: وجها على الأصل أقبلا وجها ليس إلا مبجلا حق وذو جلا فإن ما بعد الواو ليس رمزا في كل ذلك وقد يأتي بكلمة أولها واو في أثناء تقييد المسألة لضرورة القافية فلا تكون الواو فيها فصلا كقوله: من رجز أليم معا ولا على رفع خفض الميم دل عليه، وكقوله: والياسين بالكسر وصلا مع القصر مع إسكان كسر دنا غنى، فالواو في ولا ووصلا في هذين الموضعين ليسا بفصل كما أن ألفاظ التقييد لا تكون أوائلها إلا رمزا، وإنما الرمز ما يأتي بعد كمال التقييد غالبا كذلك الواو الفاصلة هي ما يأتي بعد كمال المسألة من التقييد والرمز والله أعلم.

وإثبات الياء في تنقضي وآتيك وهما فعلا شرط وجزاء على لغة من قال:

ألم يأتيك والأنباء تنمي

وحقها حذف الياء منها للجزم ولم يستقم له حذف الياء من تنقضي، أما من آتيك فكان حذفها جائزا له على ارتكاب زحاف جائز والناظم لم يفعله لنفور الطبع السليم منه وفيصلا حال وهو من الصفات التي جاءت على وزن فيعل كضيغم وبيئس وفيه معنى المبالغة والله أعلم.

47-

سِوَى أَحْرُفٍ لَا رِيبَةٌ فِي اتِّصَالِهَا

وَبالَّلفْظِ أَسْتَغْنِي عَنِ الْقَيْدِ إِنْ جَلَا

نبه بهذا البيت على أنه إنما جعل الواو فاصلة؛ لترتفع الريبة واللبس من اختلاط الحروف وإنما خص الواو بالفصل لتأتِّيها له في النظم وتيسرها عليه من حيث هي في الأغلب عاطفة والقراءات تراجم ومسائل يعطف بعضها على بعض وربما فصل بغير العاطفة كقوله: دار وجها شاع وصلاه في عمد وعوا وهو قليل، وليس كل كلمة أولها واو يكون الواو فيها فصلا؛ فإن ذلك قد يقع في كلمات القرآن وفي ألفاظ التقييد،

1 أي ما وقع في الاختلاف فيه بين القراء.

ص: 36

كقوله: وراؤه بكسر بعد قوله: وصحبة يصرف فتح ضم، ومنه قوله: وبالضم واقصروا كسر التاء قاتلوا، وقد تقدم أنها تقع في أثناء كلمات التقييد وإن لم تكن تلك الكلمة تقييدا بل احتيج إليها؛ لتتميم القافية كقوله: وفك ارفعن ولا، فإن قوله:"ولا" وقع حشوا؛ لأجل القافية، وقوله: بعد ذلك وبعد اخفضن واكسر ومد الواو في الكلمات الثلاث داخلة على ما هو تقييد لا فصل في واحدة منها إلى قوله ومؤصدة فإنما الواو الفاصلة هي الآتية بعد كمال الرمز، ثم إن الكلمة التي أولها واو للفصل تارة ليس المراد منها إلا ذلك نحو وضم حليهم بكسر شفا وافٍ فكلمة وافٍ لم يأتِ بها إلا للفصل وإن تضمنت معنى صحيحًا فيما يرجع إلى الثناء على القراءة وتارة تأتي الكلمة ويكون ما بعد الواو مقصودًا لغير الفصل إما هو من الحروف المختلف فيها نحو: وموصدة فاهمز وحمالة المرفوع، وإما اسم لقارئ نحو وحمزة أسرى وورش؛ لئلا وبصر وأتبعنا أو تقييد للحرف المختلف فيه نحو: وخاطب حرفا تحسبن وبالضم صر أشاع وميم ابن أم اكسر وذكر لم يكن شاع وقد يكون ما بعد الواو رمزا وهو قليل وقد تقدم الكلام فيه نحو وعلى الحرمي ثم ذكر في هذا البيت أنه قد لا يأتي بالواو الفاصلة وذلك في أحرف من القراءات إذا اتصلت لم يلبس أمرها ولا يرتاب الناظر فيها؛ لأنها من كلم القرآن وذلك كقوله وينبت نون صح يدعون عاصم ويدعون خاطب إذ لوى ورابرق افتح آمنا البيتين ففي كل بيت منهما ثلاثة أحرف ولا واو بينها وقد يقع ااتصال من تقييد قراءة ورمز أخرى كقوله: يظلمون غيب شهددنا ثم قال: إدغام بيت في حلا وقوله: واكسر الضم اثقلا نعم عم في الشورى.

فالحاصل أنه يلتزم الواو في مواضع الريبة وفيما عداها قد يأتي بالواو طردا للباب وقد لا يأتي بها للاستغناء عنها وأكثر المواضع التي أتى فيها بالواو لا لبس فيها كقوله: وعند سراط والسراط ورضوان اضمم زكا وقواريرا، وقد ترك الواو سهوا في موضع واحد ملبس في سورة القصص وقل قال موسى واحذف الواو دخللا نما نفر بالضم ثم ذكر حكما آخر فيما يتعلق بتقييد الحرف المختلف فيه فقال: وباللفظ استغنى عن القيد ولم يكن هنا موضع ذكره ولو أخره إلى ما بعد انقضاء الرموز لكان أولى وذلك عند قوله: وما كان ذا ضد

إلى قوله: وفي الرفع والتذكير والغيب فهاتيك الأبيات كلها فيما يتعلق بتقييد القراءات، وهذه الأبيات من قوله: جعلت أبا جاد

إلى قوله: وما كان ذا ضد كلها في الرمز وما يتعلق به ويتفرع عنه فاعترض بهذا الحكم في أثناء ذلك فذكر أنه قد لا يحتاج إلى تقييد الحرف بهيئة قراءته إذا كان التلفظ به كاشفا عن ذلك القيد، ولهذا قال: إن جلا أي إن كشف اللفظ عن المقصود وبينه يقال جلوت الأمر إذا كشفته، وهذا قد أتى في القصيدة على ثلاثة أقسام إما أن يلفظ بالقراءتين معا كقوله: وحمزة أسرى في أسارى وفي طائر طيرا سكارى معا سكرى وعالم قل علام، وإما أن يلفظ بإحداهما ويقيد الأخرى كقوله: وبالتاء آتينا، والثالث أن يلفظ بإحداهما ولا يقيد الأخرى كقوله: و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1.

كأنه قال بالمد ففهم من ذلك القراءة الأخرى من جهة الضد، وقد يلفظ بالقراءتين معا ويذكر بعد بعض

1 سورة الفاتحة، آية:4.

ص: 37

قيود إحداهما كقوله: تمارونه تمرونه وافتحوا شذا وطأ وطاء فاكسروه وكل موضع لفظ بحرف مختلف فيه ولم يستغن باللفظ به عن القيد ثم قيده بما فهم منه الخلاف باعتبار الأضداد على ما سيأتي ذكرها، فإن لم يكن أن يلفظ بذلك اللفظ إلا على إحدى القراءتين تعين، وهو في القصيدة على نوعين:

أحدهما أن يكون القيد لما لفظ به كقوله: وما يخدعون الفتح من قبل ساكن وبعد ذكا وخفف كوف يكذبون وعدنا جميعا دون ما ألف وكفلها الكوفي ثقيلا البيت وحامية بالمد صحبته كلا وفي حاذرون المد.

والثاني أن يكون القيد لما لم يلفظ به وهذا أحسن لأخذ كل من القراءتين حظا إما لفظا وإما تقييدا كقوله: وفي تكملوا قل شعبة الميم ثقلا وقصر قياما عم مع القصر شدد ياء قاسية شفا ووحد للمكي آيات الولا فإن أمكن أن يلفظ بذلك اللفظ على كل واحدة من القراءتين فالأولى أن يلفظ بما لم يقيده كقوله: عليهم إليهم حمزة بكسر الهاء وصحبة يصرف بضم الياء وذكر لم تكن بالتاء الدالة على التأنيث وقد جاء في سورة طه موضع استغنى فيه باللفظ عن القيد ولم يحصل الاستغناء به لأنه لم يجل القراءة الأخرى ولم يكشفها وهو قوله: وأنجيتكم واعدتكم ما رزقتكم شفا وسيأتي ما يمكن الاعتذار به في موضعه إن شاء الله تعالى.

48-

وَرُبَّ مَكاَنٍ كَرَّرَ الْحَرْفَ قَبْلَهَا

لِمَا عَارِضٍ وَالْأَمْرُ لَيْسَ مُهَوِّلَا

الحرف: مفعول كرر وفاعله ضمير راجع إلى مكان على طريقة المجاز جعل المكان مكرر لما كان التكرار واقعا فيه كقولهم ليل نائم أو يرجع إلى الناظم على طريقة الالتفات من استغنى إلى كرر كقوله تعالى:

{لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ} 1.

أي كرر فيه الناظم الحرف قبلها أي قبل الواو الفاصلة ومراده بالحرف هنا حرف الرمز الدال على القارئ لا الكلمة المختلف فيها المعبر عنها بقوله: ومن بعد ذكرى الحرف ولو قال: ورب مكان كرر الرمز لكان أظهر لغرضه وأبين ورب حرف تقليل وعامله محذوف مقدر بعده أي وجد أو عثر عليه أشار إلى أن ذلك يوجد قليلا وهو تكرار الرمز تأكيدا وزيادة بيان، وهو في ذلك على نوعين:

أحدهما: أن يكون الرمز لمفرد فيكرره بعينه كقوله: اعتاد فضلا، وحلا حلاء، وعلا علا.

والثاني: أن يكون الرمز لجماعة لم يرمز لواحد من تلك الجماعة كقوله: سما العلا، ذا أسوة تلا.

وقد يتقدم المفرد كقوله: إذ سما كيف عولا، وقوله: قبلها يعني قبل الواو الفاصلة المنطوق بها أو قبل موضعها وإن لم توجد فإن حلا حلا وعلا علا ليس بعدهما واو فاصلة، وقوله: لما عارض تعليل للتكرير وما نكرة موصوفة أي لأمر عارض أو زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 2.

1 سورة الإسراء، آية:1.

2 سورة آل عمران، آية:159.

ص: 38

أي لأجل عارض اقتضى ذلك من تحسين لفظ أو تتميم قافية ثم سهل هذا الأمر على الطالب وهونه بقوله والأمر ليس مهولا: أي ليس مفزعا أي لا يجر لبسا ولا يؤدي إلى إشكال.

واعلم أنه كما يكرر الرمز لعارض فقد تكرر الواو الفاصلة أيضا لذلك كقوله قاصداً ولا ومع جزمه، ولم يخشوا هناك مضللا وأن يقبلا التذكير، ولم ينبه على ذلك وهو واضح والله أعلم.

49-

وَمِنْهُنَّ لِلْكُوفِيِّ ثَاءٌ مُثَلَّتٌ

وَسِتَّتُهُمْ بِالْخَاءِ لَيْسَ بِأَغْفَلَا

الضمير في منهن للحروف للعلم بها ووصف الثاء بأنه مثلث بالنقط ليميزه من الباء والتاء وكذلك قوله: في الخاء ليس بأغفلا: أي أنه منقوط ليميزه من الحاء.

لما اصطلح الناظم رحمه الله على رموز للقراء منفردين اصطلح أيضا على رموز لهم مجتمعين إلا أنه ليس لكل اجتماع بل لما يكثر دوره ووقوعه.

واعلم أن لكل واحد من القراء شيئا ينفرد به وقد جمعت ذلك في مصنف بترتيب حسن ولكل واحد منهم اجتماع مع كل واحد منهم هذا مطرد ويتفق اجتماع ثلاثة على قراءة ولا يطرد في الجميع وكذا يتفق اجتماع أربعة وخمسة وستة وكان قد بقي ستة أحرف فجعل كل حرف منها رمزا لما يذكره فذكر في هذا البيت حرفين الثاء والخاء فالثاء رمز للقراء الكوفيين وهم ثلاثة كما سبق وقوله للكوفي أي للقارئ الكوفي من السبعة: أي لهذا الجنس منهم والحروف كلها تذكر وتؤنث واختار التذكير في وصف هذه الحروف هنا لما كانت عبارة عن ذكور فقال مثلث وليس بأغفلا وكذا الأربعة البواقي على ما يأتي فالضمير في وستتهم للقراء: أي يعبر عنهم بالخاء ثم بين الستة منهم فقال:

50-

عَنَيْتُ الْأُلَى أَثْبَتُّهُمْ بَعْدَ نَافِعٍ

وَكُوفٍ وَشَامٍ ذَا لُهُمْ لَيْسَ مُغْفَلَا

الألى بمعنى الذين: أي عنيت بالستة الذين ذكرتهم بعد ذكر نافع وهم باقي السبعة. وعبر عن الكوفيين وابن عامر وهو الشامي بالذال وقال ليس مغفلا ليميزه عن الدال ووجه قوله وكوف وشام وكذا ما يأتي بعده مثل وبصر ومك أنه حذف إحدى ياءي النسب تخفيفا كما يخفف المشدد لضرورة الشعر وكأن المحذوف المتحركة فبقيت الساكنة مع التنوين فحذفت لالتقاء الساكنين فصار كقاض والألف واللام مقدرة أو الإضافة ولهذا صح الابتداء به أي والكوفي والشامي أو وكوفيهم وشاميهم ذالهم التي هي عبارة عنهم منقوطة ثم قال:

51-

وَكُوفٍ مَعَ المَكِّيِّ بِالظَّاءِ مُعْجَماً

وَكُوفٍ وَبَصْرٍ غَيْنُهُمْ لَيْسَ مُهْمَلَا

المعجم من الحروف ما نقط من قولهم: أعجمت الكتاب: أي أزلت عجمته والمهمل ما لم ينقط ولسنا بخائضين في بيان مناسبة كل حرف لمن جعله له من جهة مخارج الحروف وصفاتها فإنه لو عكس ما ذكره لأمكن توجيهه أيضا والله أعلم.

52-

وَذُو النَّقْطِ شِينٌ لِلْكِسَائِي وَحَمْزَةٍ

وَقُلْ فِيهِمَا مَعْ شُعْبَةٍ صُحْبَةٌ تَلَا

شين بدل من وذو النقط وتمت حروف أبجد واحتاج إلى الاصطلاح في التعبير عن جماعات يكثر اتفاقهم

ص: 39

على القراءة فوضع ثماني كلمات لمن يأتي ذكرهم وهي صحبة صحاب عم سما حق نفر حرمي حصن، منها ما هو دل على اثنين وهو عم حق حرمي والبواقي مدلولها جماعة فجعل لحمزة والكسائي إذا اتفق معهما أبو بكر عن عاصم لفظ صحبة كقوله رمى صحبة وصحبة يصرف، وتارة رمز لهم بالحروف كقوله: وموص ثقله صح شلشلا وتلا بمعنى تبع أي تبع ما قبله في أنه رمز وليس بصفة لصحبة وإلا تقيدت وأشعر اللفظ بأنه المجموع هو الرمز وكذا ما يأتي في قوله: نفر حلا.

53-

صِحَابٌ هَمَا مَعْ حَفْصِهِمْ عَمَّ نَافِعٌ

وَشَامٍ سَمَا فِي نَافِعٍ وَفَتَى الْعَلَا

هما: يعني حمزة والكسائي مع حفص عن عاصم يعبر عنهم بصحاب ولفظ عم دليل نافع وشام وسما مستقر في التعبير به عن نافع، وفتى العلا وهو أبو عمرو بن العلا وفي ابن كثير وهو المراد بقوله ومك في البيت الآتي:

54-

وَمَكٍّ وَحَقٌّ فِيهِ وَابْنِ الْعَلَاءِ قُلْ

وَقُلْ فِيهِمَا وَالْيَحْصُبِي نَفَرٌ حَلَا

فيه أي في المكي وهو ابن كثير أي استقر لفظ حق فيه، وفي ابن العلاء فحذف حرف الجر من المعطوف على الضمير المجرور وهو جائز في الشعر مختلف فيه في غيره ولفظ نفر قل فيهما أي في ابن كثير وأبي عمرو وفي اليحصبي وهو ابن عامر فحذف حرف الجر أيضا.

55-

وَحِرْمِيٌّ الْمَكِّيُّ فِيهِ وَنَافِعٍ

وَحِصْنٌ عَنِ الْكُوفِي وَنَافِعِهِمْ عَلَا

أي ولفظ حرمي اشترك فيه ابن كثير ونافع وهو نسبة إلى الحرم والحرم والحرم واحد.

فإن قلت: هذه نسبة صحيحة فتكون كالعبارة الصريحة فقوله: حرمي كقوله: مكي وبصري وشامي وكوفي؛ لأن كل واحد من ابن كثير ونافع منسوب إلى الحرم هذا من حرم مكة وذا من حرم المدينة.

قلت: موضع الرمز كون اللفظ مفردا أراد به مثنى ولم يستعمل المفرد لإلباسه؛ إذ لا يعلم أي الحرميين أراد والتصريح بنسبتهما أن يقول الحرميان كما يقوله صاحب العنوان وغيره ولكونه جعل هذا اللفظ رمزا لم يتصرف فيه بحذف ياء النسبة ولا تخفيفها بخلاف قوله: ومن تحتها المكي سوى الشام ضموا إشعارا بأنه رمز لا نسبة، ثم قال: وحصن جعلته عبارة عن الكوفيين ونافع وقوله: علا أي الحصن أو المذكور أي ظهر المراد وانكشف وهذه الألفاظ الثمانية تارة يأتي بها بصورتها وتارة يضيف بعضها إلى ضمير القراء كقوله ونذر أصحابهم حموه كما قال: وكوفيهم تساءلون، شاميهم تلا وتارة يضيفه إلى الهاء والكاف نحو: وحامية بالمد صحبته كلا وقل مرفقا فتح مع الكسر عمه حقه بتنبت وحقك يوم لا ثم قال:

56-

وَمَهْماَ أَتَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ كِلْمَةٌ

فَكُنْ عِنْدَ شَرْطِي وَاقْضِ بِالْوَاوِ فَيْصَلَا

أي هذه الكلمات الثماني التي وضعتها رمزا تارة أستعملها مجردة عن الرمز الحرفي الذي تقدم ذكره وتارة يجتمعان، فإذا اجتمعا لم ألتزم ترتيبا بينهما فتارة يتقدم الحرف على الكلمة وتارة تتقدم الكلمة على الحرف كقوله: وعم فتى نعم عم صحبة كهف كفء صحبة وتارة تتوسط الكلمة بين حرفين كقوله: صفو

ص: 40

حرميه رضى يبشركم سما نعم، ومدلول كل واحد من الحرف والكلمة بحاله لا يتغير بالاجتماع فهذا معنى قوله: فكن عند شرطي: أي على ما شرطته واصطلحت عليه من موضوع كل واحد منهما: أي أنه باق بحاله واقض بالواو فيصلا عند انتهاء كل مسألة سواء كان رمزها بالحرف أو بالكلمات أو بهما إلا حيث لا ريبة في الاتصال كقوله: وخفف حق سجرت البيت.

فالمعنى مهما أتت من قبل الرمز الحرفي أو من بعده كلمة من هذه الكلمات الثماني أو مهما أتت من قبل هذه الكلمات الثماني أو بعدها كلمة من الكلمات التي تدخل حروف أوائلها على القارئ سواء كان مفردا كالألف والدال أو مجتمعا كالشين والذال، وفي مهما بحوث حسنة ذكرناها في الشرح الكبير.

وحاصله أنها في استعمال الناظم هنا وفي قوله: ومهما تصلها أو بدأت براءة بمعنى شيء ما ووجه صحة هذا الاستعمال أن مهما مركبة من ما التي للشرط ومن ما المزيدة للتأكيد ثم أبدلت ألف ما الجزائية هاء فصار مهما، وقد استقر أن ما الجزائية تتضمن معنى الزمان ولهذا يقال لها الظرفية كقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} 1.

فمتى أبدلت ألف الظرفية هاء لدخول المزيدة عليها صار مهما متى ما ومتى كانت المبدلة غير ظرفية لم تكن بهذا المعنى والله أعلم.

57-

وَمَا كانَ ذَا ضِدٍّ فَإِنِّي بَضِدِّهِ

غَنّيٌّ فَزَاحِمْ بِالذَّكاءِ لِتَفْضُلَا

أي: وما كان من وجوه القراءات له ضد فإنه يستغني بذكر أحدهما عن ذكر الآخر فيكون من سمى يقرأ بما ذكر ومن لم يسم يقرأ بضد ما ذكر كقوله: وخف لووا إلفا فيعلم أن غير نافع يشدده وليس هذا الاستغناء بلازم فإنه قد يذكر القراءة الأخرى المعلومة من الضد كقوله: ولكن خفيف والشياطين رفعه

البيت، وإن لم تكن القراءة الأخرى تعلم بالضد ذكرهما نحو: أوصى بوصي كما اعتلا أنجيت للكوفي أنجا تحولا.

ومتى لفظ بالقراءتين فلا حاجة إلى تقييد واحدة منهما فإن قيده كان زيادة بيان كما فعل في وما يخدعون وإنما قال بضده ولم يقل به ولا بذكره؛ لأنه قصد المعنى المذكور في قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 2.

ولم يقل فتذكرها: أي أيتهما ضلت ذكرتها الأخرى فهذا اللفظ أوغل في الإبهام من ذكر الضمير وكذا قوله: بضده: أي استغنى بأحد الضدين عن الآخر.

واعلم أنه لم يبن كلامه في الأضداد هنا على ما يعلم بالعقل أنه ضده بل بعضه كذلك وبعضه اصطلح هو عليه وبيان ذلك فيما ذكر من الأمثلة كما سيأتي وقد لف بعضها ببعض والذكي يميز ذلك ولهذا قال: فزاحم بالذكاء لتفضلا.

1 سورة التوبة، آية:7.

2 سورة البقرة، آية:282.

ص: 41

58-

كَمَدٍّ وَإِثْبَاتٍ وَفَتْحٍ وَمُدْغَمٍ

وَهَمْزٍ وَنَقْلٍ وَاخْتِلَاسٍ تَحَصَّلَا

شرع يمثل الألفاظ التي يستغنى بها عن أضدادها أو بأضدادها عنها أي هي كمد وما بعده، وقوله: ومدغم اسم مفعول ويجوز أن يكون مصدرا وهو أولى ليناسب ما قبله وما بعده من الكلمات المذكورات، وهي منقسمة إلى ماله ضد معين وإلى ما ليس كذلك فالأول يفهم بالعقل والثاني بالاصطلاح وإنما أشرح ما ذكره واحدا واحدا وأبين ما فيه وأزيد على ما ذكره أمثلة أخر.

أما المد فضده القصر وهو متعين وكلاهما مستعمل مستغنى به عن الآخر في هذه القصيدة كقوله وفي حاذرون المد وفي لابثين القصر ومد وخفف ياء زاكية وآتاكم فاقصر.

وأما الإثبات فضده الحذف وكلاهما مستعمل وما في معناهما كقوله وتثبت في الحالين واحذف الواو ودخللا والواو زد بعد مفسدين وما الواو دع كفى وزد ألفا من قبله فتكملا وعدنا جميعا دون ما ألف حلا وقبل يقول الواو غصن وأسقط الأولى في اتفاقهما معا.

وأما الفتح فلم يكن له حاجة إلى ذكره لأنه سيذكر فيما بعد أنه آخا بين الفتح والكسر فصارا ضدين بالاصطلاح وإن كان أراد به أنه ضد للإمالة كما ذكره الشيخ في شرحه فهو قليل الفائدة لم يستعمله إلا في قوله في سورة يوسف والفتح عنه تفضلا وفي باب الإمالة ولكن رءوس الآي قد قل فتحها وإنما الذي يستعمله كثيرا الإمالة وضدها ترك الإمالة ويعبر عنه بعض القراء بالفتح كما يعبر بعض النحويين عن الإمالة بالكسر ويعبر الناظم عنها أيضا بالإضجاع نحو وإضجاعك التوراة ما رد حسنه.

وأما المدغم فضده المظهر وكلاهما مستعمل نحو وأدغم باقيهم تمدونني الإدغام وأظهر لدى واع ومن حيى اكسر مظهرا.

وأما الهمز فضده ترك الهمز وكلاهما مستعمل وترك الهمز قد يكون بحذفه وهو حيث لا صورة له في الرسم كقوله: وفي الصابئين الهمز والصابئون خذ وننسها مثله من غير همز وقد يكون بإبداله بالحرف الذي صور به الهمز كقوله: وحيث ضياء وافق الهمز قنبلا وبادئ بعد الدال بالهمز حللا ويأجوج مأجوج اهمز الكل ناصرا ويهمز ضيزى وفي ضد ذلك وورش لئلا والنسيء بيائه ويجوز أن يقال الهمز وتركه من باب الإثبات والحذف فكان مغنيا عنه.

وأما النقل فعبارة عن تحويل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها مع حذف الهمزة فضد ذلك إبقاء الهمز على حاله والساكن على حاله ولم يقع التقييد في القصيدة إلا بالعقل لا بضده نحو ونقل ردا عن نافع ونقل قران والقران وفي معنى النقل لفظا التسهيل والإبدال كقوله: لأعنتكم بالخلف أحمد سهلا وسهل أخا حمدوكم مبدل جلا وتسهيل أخرى همزتين، وحمزة عند الوقف سهل همزه وضد ذلك كله تحقيق الهمز وقد استعمله في قوله: وحققها في فصلت صحبة أآلهه كوف يحقق ثانيا.

وأما الاختلاس فضده إكمال الحركة؛ لأن معناه خطف الحركة والإسراع بها وضده ترك ذلك وهو التؤدة في النطق بها تامة كاملة والاختلاس كالنقل في أنه لم يقع التقييد إلا به دون ضده مع أن استعماله قليل كقوله: وكم جليل عن الدوري مختلسا جلا وقد عبر عنه بالإخفاء كثيرا كقوله: وإخفاء كسر العين

ص: 42

وأخفى العين قالون وأخفى بنو حمد وأخف حلوبر وقوله تحصلا أي تحصل في الرواية وئبت والله أعلم.

59-

وَجَزْمٍ وَتَذْكِيرٍ وَغَيْبٍ وَخِفَّةٍ

وَجَمْعٍ وَتَنْوِينٍ وَتَحْرِيكٍ اْعَمِلَا

ضد الجزم عنده الرفع ولا ينعكس الأمر فهذا مما اصطلح عليه فإذا كانت القراءة دائرة بين الجزم والرفع فإن ذكر قراءة الجزم ذكر الجزم مطلقا بلا قيد فتكون القراءة الأخرى بالرفع لأنه ضده عنده كقوله وحرفا يرث بالجزم وإن ذكر قراءة الرفع لم يطلق ذلك؛ لأن ضد الرفع النصب على ما يأتي من اصطلاحه بل يقيد ذلك كقوله: وتلقف ارفع الجزم، يضاعف ويخلد رفع جزم، يصدقني ارفع جزمه، فكان الواجب أن يذكر الجزم مع الرفع والضم في قوله: وحيث أقول الضم والرفع؛ لأن كل واحد منهما لا ينعكس ضده به.

وأما التذكير فضده التأنيث، وكلاهما مستعمل كقوله: وذكَّر تسقي عاصم وأنث يكن عن دارم وليس بلازم أن يكونا عبارتين عن الياء والتاء في أفعال المضارعة فقد يأتي غير ذلك كقوله: وذكر فناداه وذكر مضجعا توفاه.

وأما الغيبة فضدها الخطاب عنده وكلاهما مستعمل كقوله: ولا يعبدون الغيب وبالغيب عما يعملون وخاطب تروا شرعا وفي أم تقولون الخطاب، وللتحقيق أن ضد الغيبة الحضور، والحضور ينقسم إلى خطاب وتكلم وتردد القراءة بين الغيبة والخطاب كثير فجعلهما ضدين والتردد بين الغيب والتكلم قليل كقوله تعالى في الأعراف:{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} 1.

يقرؤه ابن عامر على الغيبة وإذ أنجاكم فعبر الناظم عن هذا بالحذف والإثبات فقال: وانجا بحذف الياء والنون كفلا.

والخفة ضدها الثقل، وكلاهما قد جاء كقوله: وخف قدرنا دار وثقل غساقا معا ومثله وشدد حفص منزل.

والجمع ضده التوحيد ومثله الإفراد والكل مستعمل كقوله وجمع رسالاتي رسالات فرد ووحد حق مسجد الله خطيئته التوحيد لكنه إذا ذكر لفظ الجمع كان ضده معلوما وهو الإفراد والتوحيد، وإذا ذكر التوحيد فضده الجمع إلا أن الجمع على قسمين جمع سلامة وجمع تكسير فإن لفظ به اتضح كقوله: رسالات فرد1 وإن لفظ بالإفراد فتارة يكون ضده جمع السلامة كقوله خطيئته التوحيد وتارة جمع التكسير كقوله: ووحد حق مسجد الله وهنا يمكن التلفظ بالجمع فيقرأ البيت خطيآته التوحيد ولكل واحد من الجمع

1 سورة الأعراف، آية:141.

2 إذا لفظ بالإفراد بالحق أن يحمل ضده الذي هو الجمع على جمع؛ لأنه الأصل في الجمع؛ لأن الأصل عدم تغيير المفرد وأما قوله: ووعد حق مجد الله فضده المكسر، وهو معلوم من المجمع عليه من لفظ المساجد اهـ.

ص: 43

والإفراد ضد آخر وهو التثنية ولكن لم يجيء إلا ضميرها ولقلته أدرجه في باب الحذف والإثبات تارة كقوله: ودع ميم خيرا منهما، وتارة أدرجه في باب المد والقصر كقوله: وحكم صحاب قصر همزة جاءنا، والتنوين ضده ترك التنوين إما لعدم الصرف وإما للإضافة وكلاهما قد استعمله بهذا اللفظ وبما يؤدي معناه كقوله: ونوَّنوا عزيز رضا نص ثمود مع الفرقان والعنكبوت لم ينون، وقلب نونوا من حميد خالصة أضف أكل أضف حلا.

وقد يعبر عن التنوين بالنون نفيا وإثباتا كقوله: شهاب بنون ثق معا سبأ افتح دون نون وفي درجات النون ولا نون شركا، ولو تجنب ذلك لكان أحسن؛ لأنه قد آخى بين النون والياء كما يأتي فيتحد اللفظ والضد يختلف فيقول تارة: نغفر بنونه فيكون ضده الياء، وضابطه أن يكون الحرف المختلف فيه فعلا مضارعا، وحيث يكون الحرف المختلف فيه اسما تكون النون فيه عبارة عن التنوين.

وأما التحريك فضده الإسكان سواء كان التحريك مقيدا أو مطلقا وكلاهما مستعمل كقوله: معا قدر حرك وحرك عين الرعب ضما وسكن معا شنآن وأرنا وأرني ساكنا الكسر وقوله اعملا أي اجعل عاملا في الحرف ما يتصف به الحرف من ارتفاع وانفتاح وانخفاض فمتى ذكر التحريك فضده السكون ومتى ذكر اسم الحركة دونها فالضد له مثاله إذا قال ارفع فضده انصب وإذا قال انصب فضده اخفض وإذا قال اخفض فضده انصب ولا مدخل للسكون في القراءة المسكوت عنها، وإن ذكر التحريك مع واحد من هذه الثلاثة فالضد له وهو السكون ولا التفات إلى كونه قد قيد التحريك بضم أو فتح أو كسر مثاله قوله: وتسأل ضموا التاء واللام حركوا برفع، فلأجل قوله: حركوا أخذنا السكون للقراءة الأخرى ولم نأخذ ضد الرفع، ولو قال موضع حركوا برفع: رفعوا لأخذنا ضد الرفع وهو النصب، وكذا قوله وحمزة وليحكم بكسر ونصبه يحركه لولا قوله: يحركه لكانت قراءة الباقين بفتح اللام وخفض الميم، فلما قال يحركه سكن الحرفان فاعرف ذلك فإنه قل من أتقنه فهذا شرح ما ذكر من أمثلة الأضداد في هذين البيتين وقد استعمل ألفاظا أخر كثيرة لم يذكرها هنا منها التقديم والتأخير كقوله هنا: قاتلوا أخر وختامه بفتح وقدم مده ومنها القطع والوصل كقوله: وشام قطع اشدد وشدد وصل وامدد.

ويجيء صل بمعنى آخر وهو وصل ميم الجمع وهاء الكناية بواو أو ياء وضده ترك ذلك.

ومنها الإهمال الدال على النقط في القراءة الأخرى كقوله في سورة الأنعام: في يقض الحق شدد وأهملا ومنها الاستفهام والخبر كقوله: واستفهام إنا صفا ولا وأخبروا بخلف إذا ما مت وغير ذلك مما يأتي في مكانه إن شاء الله تعالى.

60-

وَحَيْثُ جَرَى التَّحْرِيكُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ

هُوَ الْفَتْحُ وَالْإِسْكانُ آخَاهُ مَنْزِلا

يعني إذا أطلق التحريك فمراده به الفتح دون الضم والكسر مثاله: معا قدر حرك من صحاب أي افتح الدال، وقال في الضم والكسر: وحرك عين الرعب ضما وضيقا مع الفرقان حرك مثقلا بكسر فقيدهما ولم يطلق لفظ التحريك.

وقوله: والإسكان آخاه فيه وجهان؛ أحدهما: أن السكون آخا التحريك غير المقيد في أنه متى ذكر غير

ص: 44

مقيد فضده التحريك المطلق وهو الفتح أي كأنه قال سكن حركة الفتح كقوله: "ويطهرون" في الطاء السكون فضد السكون هنا الفتح، أما إذا كان ضد السكون حركة غير الفتح فإنه يقيدها كقوله:"وأرنا" وأرني ساكنا الكسر وفي سبلنا في الضم الإسكان

وقد استعمل الأمرين معا في نصف بيت في حرف دار ست حق في سورة الأنعام فقال: وحرك وسكن كافيا فأطلق التحريك والإسكان فكان المراد بما نطق به من الحركة وبضد السكون الفتح فابن عامر افتح السين وسكن التاء والباقون سكنوا السين وفتحوا التاء.

الوجه الثاني أن تكون الهاء في آخاه عائدة على التحريك كله المطلق والمقيد والمراد بالأخوة الضدية كما قال في البيت بعده: وآخيت بين النون والياء ويفهم من الإسكان المطلق أن ضده الفتح؛ لأن ضده الحركة المطلقة، وقد قال: وحيث جرى التحريك غير مقيد هو الفتح يعني سواء جرى ذكره نصا صريحا أو أخذ ضدا لما نص على إسكانه مطلقا ولهذا قلت أنا بدل هذا البيت ما أظنه وفيا إن شاء الله تعالى بالمقصود:

وإن أطلق التحريك نصا ولازما

من الضد فهو الفتح حيث تنزلا

ولم يخرج عن الأصل الذي ذكره إلا قوله: وفي الصعقة اقصر مسكن العين وكان حقه أن يقول مسكن الكسر وأما قوله وإسكان بارئكم فيأتي الكلام عليه في موضعه ومنزلا تمييز وهو مصدر أي آخاه نزولا أو اسم مكان أي آخا منزل كل واحد منهما الآخر وقيل هو ظرف والله تعالى أعلم.

61-

وَآخَيْتُ بَيْنَ النُّونِ وَالْيَأ وَفَتْحِهِمْ

وَكَسْرٍ وَبَيْنَ النَّصْبِ وَالخَفْضِ مُنْزِلَا

أي وبين فتحهم وكسر فحذف بين؛ لدلالة ما قبله وبعده عليه، والمعنيّ بالمؤاخاة أنه جعل كل اثنين مقترنين من هذه الستة يغني ذكر أحدهما عن الآخر كقوله: ويدخله نون مع طلاق ويؤتيه باليا في حماه أن الدين بالفتح رفلا إن الله يكسر في كلا وانصب بينكم عم وقوم بخفض الميم وأراد بالفتح والكسر حركتي البناء وبالنصب والخفض حركتي الإعراب وفائدة محافظته على ذلك الاختصار فإن الكلمة تشتمل على حركات البناء والإعراب فإذا اتفق الخلاف في كلمة فيها حركتا إعراب وبناء من جنس واحد كضمة ورفع وفتحة ونصب وكسرة وجر أولا من جنس واحد فإذا كان الخلاف في حركة البناء قال اكسر وإذا كان في حركة الإعراب قال: اخفض أو جر ولو لم يكن ملتزما لهذه التفرقة لما علم عند إطلاقه أنه قصد الحرف الذي فيه حركة البناء أو حرف الإعراب مثاله قوله والوتر بالكسر شائع، فلفظ الوتر مشتمل على الكسر والفتح في الواو والجر في الراء فتعلم من قوله: بالكسر أنه أراد كسر الواو، وقوله: وفك ارفعن تعلم أنه أراد حركة الكاف لا الفاء ثم قال: وبعد اخفضن يعني آخر رقبة واكسر يعني همزة إطعام مع الرفع يعني في ميم إطعام وقد اختل عليه هذا الالتزام في موضع واحد سهوا وهو قوله في الزخرف: وفي قيله اكسر واكسر الضم، وصوابه: اخفض في الأول؛ لأنه للام وهو حرف إعراب، وأما قوله في: تضارر وضم الراء حق وهي حركة إعراب فلأجل القراءة الأخرى بالفتح؛ لأنها حركة بناء فلم يكن له بد من الإخلال بأحدهما

ص: 45

وأما قوله في الأنعام "رسالات فرد" وافتحوا وإنما هو نصب وكذا قوله في الأعراف: "ويقصر ذريات" مع فتح تائه فسيأتي عذر حسن عنهما في موضعهما إن شاء تعالى ومنزلا حال من التاء في وآخيت.

62-

وَحَيْثُ أَقُولُ الضَّمُّ وَالرَّفْعُ سَاكِتاً

فَغَيْرُهُمُ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ أَقْبَلا

في حيث معنى الشرط فلهذا دخلت الفاء في الجواب في قوله فغيرهم كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} 1.

وسقطت في البيت المتقدم وحيث جرى التحريك غير مقيد هو الفتح أي فهو الفتح وقوله الضم مبتدأ محكي والرفع عطف عليه والخبر محذوف أي الضم لفلان والرفع لفلان وأقبل خبر فغيرهم لأنه مفرد لفظا وإن أضيف إلى جماعة من القراء والضم حركة بناء والرفع حركة إعراب وقوله ساكتا أي مقتصرا على ذلك غير منبه على قراءة الباقين أي أقول هذا ساكتا عن غيره مثال ذلك وفي إذ يرون الياء بالضم كللا وحتى يقول الرفع في اللام أولا فقراءة الباقين بالفتح في ياء يرون وبالنصب في لام يقول فإذا كانت قراءة الباقين ليست بفتح ولا نصب فإنه لا يسكت حينئذ بل يبين ذلك بالتقييد كقوله: وجزء أو جزؤ ضم الإسكان صف ورضوان اضمم كسره يضاعف ويخلد رفع جزم وخضر برفع الخفض ويرفع بعد الجر.

واعلم أنه لم يؤاخ بين ما ذكر في هذا البيت بخلاف ما في البيت المتقدم فإن الفتح ليس ضده الضم وإنما ضده الكسر وكذلك النصب ضده الخفض لا لرفع، وقد سبق أنه كان ينبغي له أن يذكر الجزم هنا؛ لأنه إذا ذكر الجزم فالقراءة الأخرى بالرفع وإذا ذكر الرفع فالأخرى بالنصب وإذا ذكر النصب فالأخرى بالخفض ولا ينعكس إلا هذا الأخير؛ لأنه آخى بين النصب والخفض فجعلهما ضدين باصطلاحه ثم سواء في ذلك المثبت والمنفي من هذه التقييدات كلها فالأضداد لا تختلف بذلك فقوله في البقرة نغفر بنونه ولا ضم معناه افتح.

واعلم أنه كما يطلق حركات البناء والإعراب فقد يقيدهما بذكر الحرف الذي هما فيه كقوله: وبا عبد اضمم وفتحك سين السلم يضركم بكسر الضاد الرفع في اللام أولا وبا ربنا بالنصب وقوم بخفض الميم ومن المواضع المطلقة في حركة البناء ما يلبس نحو: وضمهم في يزلقونك خالد وكان يمكنه أن يقول وضمهم يا يزلقونك والله أعلم.

63-

وَفي الرَّفْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْغَيْبِ جُمْلَةٌ

عَلَى لَفْظِهَا أَطْلَقْتُ مَنْ قَيَّدَ الْعُلَا

جملة مبتدأ خبره ما قبله وما بعد جملة صفة لها و"من" موصولة أو موصوفة؛ أي وفي هذه الثلاثة جملة مواضع في هذه القصيدة أطلقت أي أرسلت على لفظها من غير تقييد، من قيد العلا أي حصله وحازه أو حصلها أو حازها؛ لأن العلا يحتمل الإفراد والجمع أو يكون التقدير من حاز الرتب العلا في الفهم والذكاء؛ لأنه لا يكاد يفهم مثل هذه الدقائق إلا من كان كذلك.

1 سورة البقرة، آية:15.

ص: 46

ومعنى البيت أن هذه الثلاثة وهي الرفع والتذكير والغيب يذكر الكلمات التي هي فيها مطلقة فيعلم من إطلاقه أنها هي المرادة أضدادها مثاله وأربع أولا صحاب ويجبي خليط وبل يؤثرون حز.

فيعلم من هذا الإطلاق أن مقصوده الرفع في أربع والياء في يجبي وهي الدالة على التذكير والياء في يؤثرون وهي الدالة على الغيب، وكل قراءة دائرة بين الياء والتاء فهي إما تذكير أو تأنيث أو غيب أو خطاب فلا يقيدها إذا أراد تقييدها إلا بهذه العبارة نحو: وذكر يكن شافٍ، ولا يعبدون الغيب، وأنث تكن عن دارم، وخاطب تروا شرعا، وإنما يقيد بالياء ما كان ضده النون كما سبق فقوله في سورة الأحزاب: ويعمل يؤت بالياء قوله: بالياء تقييد ليؤت ليكون قراءة الباقين بالنون ولا يكون تقييدا ليعمل؛ لأن القراءة الأخرى بالتاء للتأنيث فقوله: ويعمل لفظ مطلق تعلم من إطلاقه أنه أراد به التذكير ثم هذا الإطلاق في هذه الثلاثة ليس بلازم بل أخبر أنه وقع منها مواضع مطلقة، ووقعت أيضا مواضع مقيدة كما سبق تمثيله في الغيب والخطاب والتذكير والتأنيث، ومثله في الرفع: وقل مثل ما بالرفع، وقد اجتمع إطلاق الثلاثة في بيت واحد في سورة الأعراف وخالصة أصل البيت، ويجوز أن يكون وخالصة مقيدا بما قبله من قوله: ولباس الرفع كما استغنى بذكر الخفة في الأول عن الخفة في الثاني نحو: ورب خفيف إذ نما سكرت دنا ما نزل الخفيف إذ عز والصادان والله أعلم.

64-

وَقبْلَ وبَعْدَ الْحَرْفِ آتِي بِكُلِّ مَا

رَمَزْتُ بِهِ فِي الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ مُشْكِلا

أراد وقبل الحرف وبعده والمراد بالحرف كلمة القراءة والرمز في اللغة الإشارة والإيماء.

ولما كانت هذه الكلمات والحروف التي جعلها دلالة على القراء كالإشارة إليهم سماها رمزًا، وأراد بما رمز به في الجمع الكلمات الثماني فإنها هي التي لا يشكل أمرها في أنها رمز سواء تقدمت على الحرف أو تأخرت أما الحروف الدالة على الجمع كالثاء والخاء وما بعدهما فلها حكم الحروف الدالة على القراء منفردين وقد التزم ذكرها بعد الحرف بقوله: ومن بعد ذكرى الحرف أسمى رجاله؛ لينحصر موضعها فلا يتعدد المحال على الناظر المفكر فيها نعم إذا اجتمعت الحروف المرموزة للإفراد وللاجتماع مع شيء من كلمات الرمز تبعت الحروف الكلمات تتقدم معها وتتأخر؛ إذ لفظ الكلمات دل على محل الرمز كقوله: وحق نصير كسر واو مسومين على حق السدين ثقل نشرت شريعة حق ومنزلها التخفيف حق شفاؤه وقد نبه على ذلك قوله: ومهما أتت من قبل أو بعد كلمة كما سبق.

ويحتمل أن يكون هذا المعنى مستفادًا من هذا البيت وأراد بكل ما رمزت به الحروف كلها وقوله: "في الجمع" أي آتى بها مع كلمات رمز الجمع فهو من باب قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} 1.

ويقوي هذا المعنى أنه لو أراد المعنى الأول لقال للجمع باللام، فلما عدل إلى لفظ "في" من غير ضرورة دلنا على أنه لمح هذا المعنى، فإذا ثبت جواز هذا قلنا: يحتمل أيضا أن يكون معنى قوله: ومهما أتت

1 سورة الفجر، آية:29.

ص: 47

من قبل أو بعد كلمة هو المعنى الذي جعلناه أولا لهذا البيت أي من قبل الحرف المختلف فيه أو من بعده كلمة أي الكلمات الثماني لا التزام لها قبلية ولا بعدية بل آتى بها كذا وكذا والله أعلم.

فهذه ثلاثة أبيات فرقها وكان الأولى اتصالها وجميع كلمات الرمز اتفق له تقديمها وتأخيرها على حرف القراءة وفاء بعموم قوله بل ما رمزت به كقوله رمى صحبة وصحبة يصرف من يرتدد عم وعم بلا واو الذين فتذكر

حقًّا وحقًّا بضم الحاء فلا يحسبنهم، وما موصولة أو موصوفة، وإذ تعليل، واسم ليس ضمير الأبيات الدال عليه آتى.

65-

وَسَوْفَ أُسَمِّي حَيْثُ يَسْمَحُ نَظْمُهُ

بِهِ مُوضِحاً جِيداً مُعَمًّا وَمُخْوَلا

أي أذكر اسم القارئ صريحا حيث يسهل علي نظمه قبل الحرف وبعده يقال سمح به أي جاد به فالهاء في نظمه وبه عائدة على الاسم الدال عليه أسمى، ويجوز أن تكون في نظمه عائدة على الشعر للعلم به من سياق الكلام.

وقد استقريت المواضع التي سمى فيها فوجدته قد استوعب جميع السبعة ورواتها الأربعة عشر.

ومن عادته أن لا يأتي في ترجمة واحدة برمز مع اسم صريح استمر له هذا ولم ينبه عليه وإنما علم بالاستقراء ولولا ذلك للزم الإشكال في نحو قوله في سورة النساء: يصلون ضم كم صفا نافع بالرفع واحدة جلا فلم يأت بواو فاصلة بين حرف يصلون وواحدة فكان ذكره لنافع محتملا أن يكون من جملة رجال ضم يصلون ويكون جلا رمز قراءة واحدة بالرفع ولكن لما كان محافظا على تلك القاعدة بن أن قوله: نافع ابتداء مسألة وجلا ليس برمز وليس لك أن تقول هو مثل قوله شاع تنزلا أي أنه رمز مكرر لما تقدم من أنه لا يرمز مع مصرح به كما أنه لا يصرح مع مرموز به، وهذا كله مخصوص بالقراءة الواحدة وإلا فيجوز له في الحرف الواحد المختلف فيه أن يرمز لقراءة ويسمى للقراءة الأخرى في ذلك الحرف كما قال وقالون ذو خلف بعد قوله له دار جهلا وقوله سوى أو وقل لابن العلا وبكسره لتنوينه، قال ابن ذكوان بعد قوله كسره في ندخلا وقوله ووجهان فيه لابن ذكوان بعد قوله لاح وجملا وكذا يصرح إذا استثنى من رمز كقوله وأن لعنة التخفيف والرفع نصه سما ما خلا البزي وإضجاع راكل الفواتح ذكره حمى غير حفص؛ ليقضوا سوى بزيهم نفرجلا غلبوا سوى شعبة.

ثم التصريح يكون باسم القارئ أو كنيته أو نسبته أو ضميره كقوله: ونقل ردا عن نافع وقطبه أبو عمرو وكوفيهم تساءلون وما قبله التسكين لابن كثيرهم يمد هشام واقفا معهم ولا وبصروهم أدرى.

وأما حرمى فإنه وإن كان نسبة إلا أنه جعله رمزا فيجئ بالرمز معه كقوله وإستبرق حرمي نصر، ثم تمم الناظم رحمه الله هذا البيت بألفاظ يصعب على الطالب المبتدئ فهمها مع أنه مستغنٍ عنها والبيت مفتقر إلى أن ينبه فيه على أنه إذا صرح باسم القارئ لا يأتي معه برمز فلو أنه بين ذلك في موضع تلك الألفاظ لكان أولى نحو أن يقول:

وسوف أسمي حيث يسمح نظمه

به خاليا من كل رمز ليقبلا

ص: 48

وموضحا حال من فاعل أسمى وقيل لفظ به الذي قبله يتعلق به. والجيد: العنق، والمعم والمخول: الكريم الأعمام والأخوال لأن كلا من الفريقين يزين ذلك الجيد.

فمعناه أوضح شيئا يشبه جيدًا هذه صفته أو أوضحه إيضاح جيد بهذه الصفة، وقال امرؤ القيس:

بجيد معمٍّ في العشيرة مخول

فأضاف الجيد إلى الموصوف بذلك وكذا وجدته في استعمالهم يصفون به الجملة لا يخصون به الجيد كقوله:

معمٍّ لعمري في الجياد ومخولِ

وقال يحيى بن عروة بن الزبير:

أنا والله المعمُّ المخولُ

تفرقت العرب عن عمي وخالي

يريد عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم.

66-

وَمَنْ كانَ ذَا بَابٍ لَهُ فِيهِ مَذْهَبٌ

فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْمَى فَيُدْرَى وَيُعْقَلَا

أي ومن كان من القراء منفردا بمذهب مطرد قد بوب له باب في الأصول فلا بد من أن يسمى ذلك الباب كقوله: باب الإدغام الكبير، باب هاء الكناية

ونحو ذلك، أو يكون المعنى فإني ألتم التصريح باسمه ولا أرمزه زيادة في البيان كقوله: وحمزة عند الوقف، ورقق ورش فإن وافقه غيره في شيء منه أو عرض له فيه مذهب يناسبه، فربما سمى ذلك الغير، وربما ذكره رمزا كما في باب هاء الكناية ونقل الحركة والإمالة وقولهم: لا بد من كذا أي لا فرار منه والتقدير من أن يسمى وهذا آخر ما أعلمنا به مما يستعمله في نظمه رمزا وتقييدا وقد نبهت على فوائد فاتته فيها من قوله: جعلت أبا جاد إلى هنا في الترتيب والنظم والاصطلاح وكنت أود به ذكر أبيات الرموز يتلو بعضها بعضا ثم ذكر كيفية استعمالها ثم اصطلاحه في الأضداد والتقييد:

وقد نظمت عشرة أبيات في موضع ثلاثة عشر بيتا وفيها من الزيادات والاحترازات كثير مما تقدم شرحه فلو أنه قال:

حروف أبي جاد جعلت دلالة

على القارئ المنظوم أول أولا

ثم قال: ومنهن للكوفي ثاء مثلث إلى آخر الرمز في قوله: ونافعهم علا ثم بين كيفية استعماله للرموز فقال:

ومن بعد ذكرى الحرف رمز رجاله

بأحرفهم والواو من بعد فيصلا

هذه العبارة أظهر من قوله: أسمي رجاله "وفيصلا" حال.

سوى أحرف لا ريب في وصلها وقد

تكرر حرف الفصل والرمز مسجلا

أي حرف الرمز وحرف الفصل وهو الواو:

وقبل وبعد الحرف ألفاظ رمزهم

وإن صحبت حرفا من الرمز أولا

ص: 49

هذا بيت يتضمن بيتين ومعناهما فيه أظهر منه فيهما:

وطورا أسميهم فلا رمز معهم

وباللفظ أستغني عن القيد إن جلا

وما كان ذا ضد غنيت بضده

كصِلْ زِدْ ودَعْ حرِّك وسهِّل وأبدِلا

ومد وتنوين وحذف ومدغم

وهمز ونقل واختلاس وميلا

وجمع وتذكير وغيب وخفة

ورقق وغلظ أخر اقطع وأهملا

وإن أطلق التحريك نصا ولازما

من الضد فهو الفتح حيث تنزلا

وحيث أقول الضم والجزم ساكنا

فغيرهم بالفتح والرفع أقبلا

وفي الرفع والتذكير والغيب لفظها

وبالفتح واليا الكسر والنون قوبلا

أي لفظها مغنٍ عن تقييدها وقوبل الكسر بالفتح وقوبل النون بالياء ولم أعدد ألقاب الحركا باعتبار البناء والإعراب إذ ألقاب كل نوع تطلق على الآخر وهو مجرد اصطلاح.

والمعنى: الذي ذكرناه في فائدة ذكره للمغايرة بينهما قد أعرض عنه حيث يبين حرف الإعراب والبناء كما سبق، وقد يطلق حيث لا يتعين ذلك الحرف كما في "يزلقونك" فهو قليل الجدوى فالإعراض عنه أولى تخفيفًا عن خاطر الطالب.

ثم شرع يثني على قصيدته ويصفها بالجزالة وصحة المعاني ويذكر ما اشتملت عليه من العلم فقال:

67-

أَهَلَّتْ فَلَبَّتْهَا المَعَانِي لُبَابُهاَ

وَصُغْتُ بِهَا مَا سَاغَ عَذْباً مُسَلْسَلَا

أي لكثرة ما أودعت من جيد المعاني كأنها كانت صرخت بها، أي نادتها فأجابتها بالتلبية ولبابها بدل من المعاني بدل البعض من الكل وقيل بدل اشتمال وهو وهم أي لم يلبها إلا خيار المعاني وشرافها، وصغت من الصياغة ويعبر بها عن إتقان الشيء وإحكامه ما ساغ أي الذي ساغ استعماله من الكلمات يقال ساغ الشراب أي سهل مدخله في الحلق وتسلسل الماء جرى في حدور وعذبا مسلسلا حالان من فاعل ساغ العائد على ما أو يكون مسلسلا صفة عذبا أي مشبها ذلك أو يكون عذبا نعت مصدر محذوف أي صوغا عذبا يستلذه السمع ويقبله الطبع.

68-

وَفي يُسْرِهَا التَّيْسِيرُ رُمْتُ اخْتَصَارَهُ

فَأَجْنَتْ بِعَوْنِ اللهِ مِنْهُ مُؤَمَّلَا

أي وفيما يسره الله سبحانه منها جميع مسائل كتاب التيسير في القراءات السبع من الطرق التي تقدم ذكرها فالتيسير مبتدأ وما قبله خبره، وقيل: في يسرها "من" صلة رمت أو اختصاره وجاز تقديمه على المصدر؛ لأنه ظرف ورمت الشيء طلبت حصوله فأجنت أي كثر جناها منه أي من التيسير أو من الله تعالى ومؤملا حال من الهاء على التقديرين، وقيل إن عادت على التيسير فهو تمييز، ويجوز أن تكون الهاء في منه للاختصار ومؤملا حال منه، ويجوز أن تكون من أجنيته الثمرة فيكون مؤملا مفعولا به ثانيا أي فأجنتني مؤملي ومنه على هذا يجوز تعلقه بأجنت وبمؤملا ولو قال على هذا المعنى المؤملا بالألف واللام لظهر المعنى وكان أحسن.

ومصنف التيسير هو الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، وأصله من قرطبة مقرئ محدث، مات بدانية سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

ص: 50

69-

وَأَلْفَافُهَا زَادَتْ بِنَشْرِ فَوَائِدٍ

فَلَفَّتْ حَيَاءً وَجْهَهَا أَنْ تُفَضَّلا

الألفاف: الأشجار الملتف بعضها ببعض وفي الكتاب العزيز:

{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} 1.

أي ذوات ألفاف وحسن استعارة الألفاف هنا بعد قوله فأجنت؛ لالتفاف المعاني فيها والأبيات كأن كل بيت ملتف بما قبله وبعده لتعلق بعضها ببعض وانضمامه إليه فتلك الألفاف نشرت فوائد زيادة على ما في كتاب التيسير من زيادة وجوه أو إشارة إلى تعليل وزيادة أحكام وغير ذلك مما يذكره في مواضعه، ومن جملة ذلك جميع باب مخارج الحروف، ثم بعد هذا استحيت أن تفضل على كتاب التيسير استحياء الصغير من الكبير والمتأخر من المتقدم وإن كان الصغير فائقا والمتأخر زائدا، والذي لفَّت به وجهها أي سترته هو الرمز؛ لأنها به كأنها في ستر وحياء مفعول له أو مصدر مؤكد مبين لمعنى لفت؛ لأن لف الوجه يشعر بالحياء وأن تفضلا معمول حياء على حذف من أي من أن تفضلا أو هو معمول لفت على تقدير خشية أن تفضل.

70-

وَسَمَّيْتُهاَ [حِرْزَ الْأَمَانِي] تَيَمُّنا

وَوَجْهَ التَّهانِي فَاهْنِهِ مُتَقبِّلَا

الحرز: ما يعتمد عليه في حفظ ما يجعل فيه. والأماني جمع أمنية، والتهاني جمع تهنئة وخفف ياء الأماني وأبدل همز التهاني ياء ساكنة؛ لأنه لما استعملهما سجعتين سكنتا فخفف هذه وأبدل هذه؛ لتتفقا.

ومعنى هذه التسمية أنه أودع في هذه القصيدة أماني طالبي هذا العلم وأنها تقابلهم بوجه مهنئ بمقصودهم وهو من قولهم: فلان وجه القوم أي شريفهم؟ ومعنى تيمنا تبركا وهو مفعول من أجله، يريد أن هذه التسمية سبقت النظم؛ ليكون كذلك، وقوله فاهنه: أي تهنأ بهذا الوجه أو بهذا الحرز من قولهم هنأت الرجل بفتح النون أهنئه بكسرها إذا أعطيته حكاه الجوهري. أي أعطه القبول منك والإقبال عليه؛ لتنال الغرض منه وكن له هنيئا كما تقول: هنأني الطعام، والمعنى ترفق به؛ لتنال الغرض بسهولة، ولا تنفر من الشيء قبل وقوفك على حقيقته وأصله، فأهنئه بالهمز، ثم أبدله لكونه ياء ثم حذفها للأمر فصار اهنه كارمه، وفي جواز مثل هذا نظر من حيث النقل والقياس، وقد بسطنا القول فيه في الشرح الكبير ومثله قول زهير2.

وإن لا يبد بالظلم يظلم

وحكى ابن مجاهد في القراءات الشواذ:

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهِمْ3

مثل أعطهم ومتقبلا حال: أي في حال تقبلك إياه ولشيخنا أبي الحسن علي بن محمد رحمه الله من جملة أبيات:

هذى القصيدة بالمراد وفيةٌ

من أجل ذلك لقبت حرز المنى

1 سورة النبأ، آية:16.

2 أوله: جرئ متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا.

3 سورة البقرة، آية:33.

ص: 51

71-

وَنَادَيْتُ أللَّهُمَّ يَا خَيْرَ سَامِعٍ

أَعِذْنِي مِنَ التَّسْمِيعِ قَوْلاً وَمِفْعَلا

معنى اللهم يا الله، الميم عوض عن حذف حرف النداء وقطع همزته ضرورة ثم كرر النداء بقوله: يا خير سامع أعذني أي اعصمني، والتسميع مصدر سَمَّع بعلمه إذا عمله يريد به السمعة في الناس والشهرة ومثله راءى بعمله إذا عمله؛ ليراه الناس فيثنوا عليه يقال: فعل ذلك رثاء وسمعة وكلاهما خلق مذموم محبط للعمل كأن الناظم رحمه الله لما مدح نظمه بما مدحه به خاف أن يكون في ذلك تسميع فاستعاذ بالله سبحانه منه، وقولا ومفعلا مصدران في موضع الحال من الياء في أعذني أي قائلا وفاعلا أو منصوبان على إسقاط الحافض أي فيهما وبهما، ويكون العامل فيهما التسميع على هذا التقدير أو هما بدلان من ياء أعذني بدل اشتمال أي أعذ قولي وفعلي من التسميع وقيل هما تمييزان.

72-

إِلَيكَ يَدِي مِنْكَ الْأَيَادِي تَمُدُّهَا

أَجِرْنِي فَلَا أَجْرِي بِجَوْرٍ فَأَخْطَلا

يدي مفعول فعل مضمر أي إليك مددت يدي سائلا الإعاذة من التسميع والإجارة من الجور، ثم قال: الأيادي منك تمدها أي هي الحاملة لي على مدها والمسهلة لذلك أي هي التي أطمعتني في ذلك وجرأتني عليه وإلا فمن حقي أن لا أمدها حياء من تقصيري في القيام بما يجب من طاعتك، والأيادي النعم جمع أيد وأيد جمع يد، واليد النعمة ويجوز أن تكون يدي مبتدأ والأيادي مبتدأ ثانٍ أي يدي الأيادي منك تمدها إليك والفاء في فلا أجري جواب الأمر، وفي فأخطلا جواب النفي وهي ناصبة بإضمار أن في الموضعين وإنما سكن أجري ضرورة أو على تقدير فأنا لا أجري، ومعنى فلا أجري بجوز أي فلا أفعله والجور: الميل أي يميل عن طريق الاستقامة، والخطل المنطق الفاسد، وقد خطل بالكسر خطلا.

73-

أَمِينَ وَأَمْناً لِلأَمِينِ بِسِرِّهَا

وَإنْ عَثَرَتْ فَهُوَ الْأَمُونُ تَحَمُّلا

أمين: صوت أو اسم فعل بني آخره على الفتح ومعناه اللهم استجب وأمنا مفعول فعل مضمر معطوف على معنى أمين كأنه قال: اللهم استجب وهب أمنا للأمين بسرها أي بخالصها وما فيها من الفوائد وهي لباب المعاني الذي تقدم ذكره، وسر النسب محضه وأفضله، وسر الوادي: أفضل موضع فيه والباء في بسرها بمعنى على يقال هو أمين بكذا وعلى كذا والأمين الموثوق به دعاء له بالأمن وهو ضد الخوف ومن أمانته اعترافه بما فيها من الصواب وإذاعته وتعليمه، والعثرة، الزلة وأضافها إلى القصيدة مجازا أو إنما يريد عثرة ناظمها فيها، والأمون الناقة الموثقة الخلق التي أمن ضعفها.

كأنه أمن منها العثور لقوتها أي إن كان فيها اختلال فاحتمله كما تتحمل هذه الناقة الأعباء الثقيلة وتصبر عليها أي يكون بمنزلة هذه الناقة في تحمل ما يراه من زلل أو خطأ فلا يوجد عنده قلق ولا نفرة بل يقيم المعاذير بجهده ويعترف بتقصير البشر عن إدراك الكمال في أمر ما.

ومن زل في موضع وأصاب في مواضع عديدة فهو على ما أجرى الله تعالى به العادة في حق الأكابر إلا من ثبتت عصمته، وقوله: تحملا تمييز وهو من باب قولهم: هو حاتم جوادا، وزهير شعرا، وقيل: هو مفعول من أجله وهو وهم

ص: 52

74-

أَقُولُ لِحُرٍ وَالْمُرُوءةُ مَرْؤُهَا

لِإخْوَتِهِ الْمِرْآةُ ذُو النُّورِ مِكْحَلا

شرع في ذكر وصايا وآداب ومواعظ والحر أراد به من تقدم شرحه في قوله هو الحر والمقول يأتي في البيت الثاني.

واعترض بباقي البيت بين القول والمقول إرادة أن ينبه على سبب النصيحة فنظم ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن مرآة المؤمن". أخرجه أبو داود.

أي أنه له بمنزلة المرآة تريه عيوبه فيصلحها، والمروءة: كمال الرجولية وهي مشتقة من لفظ المرء كالإنسانية من لفظ الإنسان والمرء والإنسان مترادفان فهي عبارة عن صفات الإنسان الشريفة التي يتميز بها عن غيره من الحيوانات، وقوله: والمروءة مبتدأ أول ومرؤها مبتدأ ثانٍ، ومعناه رجلها الذي قامت به المروءة والمرآة خبر مرؤها والجملة خبر المروءة، ولإخوته متعلق بمضاف محذوف تقديره نفع مرئها لإخوته كنفع المرآة لهم، وذو النور صفة مرؤها أو خبر بعد خبر أو صفة للمرآة على تقدير التذكير فيها كما قالوا: ليلة غم؛ لأن معناها الشيء المنور ومكحلا تمييز كما تقول: زيد ذو الحسن وجها أي مكحله ذو نور أي هو منور يشفي الداء بنوره كما تشفى العين المريضة بما يفعله المكحل فيها وهو الميل المعروف، وقيل مكحلا حال من مرؤها أو من المرآة على حذف المضاف فيهما كما ذكرناه وهو العامل وقيل حال من ذو النور؛ لأن معناه صاحب النور نحو زيد ذو مال مقيما.

75-

أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ

يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلا

هذا هو المقول للحر نادى أخاه في الإسلام والدين الذي جاز هذا النظم ببابه: أي مر به كنى بذلك عن السماع به أو الوقوف عليه إنشادا أو في كتاب وكساد السلعة ضد نفاقها: أي إذا رأيت هذا النظم غير ملتفت إليه فأجمل أنت أي ائت بالقول الجميل فيه والألف في آخر أجملا بدل من نون التأكيد الخفيفة أراد أجملن مثل: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} 1.

وقد استعمل ذلك كثيرا نحو: فاعلمه واعملا ومسئولا اسئلا واثنان فاعقلا ويبلو وأقبلا، ونظمي فاعل المجتاز وكاسد السوق حال من هاء عليه وعليه مفعول ينادي القائم مقام الفاعل.

رقق الشاطبي رحمه الله خطابه بقوله: أخي أجمل وتواضع بجعله نظمه كاسد السوق ولم يكسد سوقه والحمد لله بل نفقت قصيدته نفاقا واشتهرت شهرة لم تحصل لغيرها من مصنفات هذا الفن.

وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله قد أخبرنا عنه أنه قال: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله بها لأني نظمتها لله سبحانه.

76-

وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ

بِالِاغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلا

النسيج: المنسوج واستعاره في بيوت الشعر تشبيها ببيوت الشعر، والإغضاء: التغافل عن الشيء، والحسنى

1 سورة العلق، آية:15.

ص: 53

تأنيث الأحسن أي وبالطريقة الحسنى أو بالكلمة الحسنى، والهلهل: السخيف النسج.

لما عبر عن النظم بالنسيج عبر عن عيبه بما يعد عيبًا في النسيج من الثياب وهو كونه سخيفا. أي أحسن القول فيه وتجاوز عنه.

77-

وَسَلِّمْ لِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ

وَالُاخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلا

أي: وسلم لإحدى الحسنيين اللتين لا ينفك عن إحداهما؛ أي عبر عنه بأنه متصف بإدراك إحدى الحسنيين، فهذا من جملة الطريقة الحسنى التي يسامح بها نسيجه أو سلمه من الطعن والاعتراض؛ لأجل أنه لا ينفك من إحداهما أو لحصول إحدى الحسنيين له ثم بينهما يقول إصابة واجتهاد ممحل، وفي رام ضمير عائد على الاجتهاد جعله طالبا للصواب كما جعله، وإنما المتصف بذلك حقيقة من قام به الاجتهاد، وكنى بالصوب وهو نزول المطر عن الإصابة وبالمحل عن الخطأ يقال: أمحل الرجل صادف محلا، والمحل انقطاع المطر ويبس الأرض، فللناظم على تقدير الإصابة أجران وله على التقدير الآخر أجر واحد وذلك مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من طلب علما فأدركه كان له كفلان من الأجر وإن لم يدركه كان له كفل من الأجر". أخرجه الدارمي في مسنده من حديث واثلة بن الأسقع، وفي الصحيحين في اجتهاد الحاكم نحو ذلك، وفي "إصابة" وجهان الجر على البدل من "إحدى" والرفع على معنى هي إصابة ثم استأنف بيان الحسنى الأخرى فقال: والأخرى اجتهاد، وكأن ذا كله اعتذار عن الرموز التي اصطلح عليها وعن هذه الطريقة الغريبة التي سلكها رحمه الله سبحانه.

78-

وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَأدَّرِكْهُ بِفَضْلَةٍ

مِنَ الحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلا

كان هنا تامة: أي وإن وجد خرق في نسيجه، وحسن ذكر الخرق هنا ما تقدم من لفظ النسيج، وكنى بالخرق عن الخطأ، وقوله: فأدركه؛ أي فتداركه أي تلافه ملتبسا بفضلة من الرفق والأناة وليصلح الخرق من جاد مقوله وهو لسانه ونصب مقولا على التمييز، وجودة اللسان كناية عن جودة القول به.

وقد امتثل شيخنا أبو الحسن رحمه الله أدبه في ذلك، فنبه على مواضع سنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى، وحذوت حذوه في ذلك في مواضع ستراها؛ وذلك مساعدة له فيما فعله لله وإعانة له على تقريب هذا العلم على الناس ولله الحمد.

79-

وَقُلْ صَادِقًا لَوْلَا الوِئَامُ وَرُوحُهُ

لَطاَحَ الأَنَامُ الكُلُّ فِي الخُلْفِ وَالقِلا

صادقا حال أو أراد قولا صادقا نظم في هذا البيت مثلا مشهورا وهو لولا الوئام لهلك الأنام أي لولا موافقة الناس بعضهم بعضا في الصحبة والمعاشرة لكانت الهلكة، وزاد الشاطبي قوله: وروحه أي روح الوئام تنبيها على ما في الوئام من مصلحة الدين والدنيا. وفي الحديث الصحيح: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".

ص: 54

وروح الوئام حياته أراد الحياة التي تحصل بسببه؛ لأنه سبب لبقاء الناس وتوادهم والروح يعبر به عما تحصل به الحياة، ومنه قوله تعالى:{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} 1.

أي بالوحي سماه روحا لحصول حياة القلوب به فكأنه قال: لولا الوئام وثمرته

ولكنه جاء بالمثل على طريقة قولهم: يعجبني زيد وحسنه المقصود الحسن لكن جئ به معطوفا على من اتصف به مبالغة، وطاح بمعنى هلك، والأنام: الإنس، وقيل: الإنس والجن، وقيل: كل ذي روح، والقلا: البغض؛ أي لهلك الناس في الاختلاف والتباغض، جعلهما ظرفين مجاز، أو يكون في بمعنى الباء أي لهلكوا بهما كأنه وقع في نفسه أن من الناس من يخالفه فيما قصد من الاصطلاح ويعيبه، وربما اغتيب لأجله، فحذر من ذلك كله والله أعلم.

80-

وَعِشْ سَالماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ

تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلا

سالما حال، وصدرا تمييز: أي سالما صدرك من كل خلق رديء، والغيبة: ذكر الإنسان في غيبته بما يكره سماعه لا لمصلحة دينية وقوله: فغب، أي لا تحضر مع المغتابين ولا توافقهم ولا تصغ إليهم فتكون في حكمهم فإن لم يستطع أن يغيب بجسمه فليغب بقلبه وسمعه ولسانه فيكون حاضرا صورةً غائبا معنًى.

وإنما اعتنى بذكر الغيبة من بين الأخلاق المذمومة لغلبتها على أهل العلم، ومنه قيل: الغيبة فاكهة القراء، وقال بشر بن الحارث: هلك القراء في هاتين الخصلتين: الغيبة والعجب، وقوله: تحضر من احضور الذي هو ضد الغيبة، وحظار القدس مفعول ثانٍ لتحضر أو على حذف حرف الجر أي في حظار القدس، والحظار الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والريح، وحظيرة القدس: الجنة، وأنقى مغسّلا حالان أي نقيا من الذنوب مغسلا منها، والقدس الطهارة وقيل هو موطن في السماء فيه أرواح المؤمنين والله أعلم.

81-

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي

كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبلا

يريد أن الناس قد تغيروا وفسدوا وساءت مقاصدهم وكثر نفاقهم فقلَّ من يوثق به منهم أو يسلم من أذاهم.

وقد أدركنا الزمان الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو ثعلبة الخشني عنه قال: "ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام؛ فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر". أخرجهما الترمذي وقال حديث حسن غريب.

1 سورة النحل، آية:2.

ص: 55

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من بعدي أيام الصبر المتمسك فيهن بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين عاملا".

وقوله: من لك بكذا جملة استفهامية تستعمل فيما يستبعد وقوعه وتقديره: من يسمح لك به.

فمعنى البيت: من يسمح لك بحصول الحالة التي هي كقبض على جمر وحصولها هو القيام فيها بحقوق الله تعالى.

وقد ذكر الشيخ الشاطبي رحمه الله زمان الصبر في قصيدة أخرى له فقال:

إلى الله أشكو وحدتي في مصائبي

وهذا زمان الصبر لو كنت حازما

عليك بالاسترجاع إنك فاقد

حياة العلى وابغ السلو منادما

أي عليك بقولك: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 1.

على فقدك لحياة العلى، ونادم السلو عنها. فقد أيست منها.

82-

وَلَوْ أَنَّ عَيْناً سَاعَدتْ لتَوَكَّفَتْ

سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيماً وَهُطّلا

أي ولو ساعدت عين صاحبها لكثر بكاؤها دائما على التقصير في الطاعة وقلة البضاعة، ومعنى توكفت قطرت وتصببت وسالت، قال الأزهري: وَكَفَ البيت وتوكف: أي هطل وقوله: سحائبها أي مدامعها على وجه الاستعارة، والديم جمع ديمة كجِيَز ولِيَن في جمع جيزة ولينة وهما الناحية والنخلة، والأكثر في جمع ديمة ديم بفتح الياء، والديمة المطر الدائم ليس بشديد الوقع، وهطلا جمع هاطلة والهطل تتابع المطر والدمع سيلانه، وديما وهطلا حالان من السحائب المتوكفة أي دائمة هاطلة فهي حقيقة بذلك ومن فسر توكفت هنا بمعنى توقعت فقد جهل معنى البيت وأخطأ اللغة وقد بينا ذلك في الشرح الكبير والله أعلم.

83-

وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ

فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلا

الهاء في لكنها للعين أو هو ضمير القصة والهاء في قحطها للعين، والقحط الجدب أي لم ينقطع الدمع إلا بسبب أن القلب قاسٍ، وذلك من علامات الشقاء.

ففي جامع الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى". هذا حديث حسن صحيح.

وفي مسند البزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا".

وضيعة الأعمار مفعول فعل مضمر، والمنادى محذوف: أي يا قوم احذروا ضيعة الأعمار. أو يكون ناداها على معنى التلهف والتأسف نحو:

1 سورة البقرة، آية:156.

ص: 56

{يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} 1.

وقوله: تمشي حال من الأعمار أو جملة مستأنفة مفسرة مؤكدة لقوله: يا ضيعة الأعمار، أي تمر وتذهب باطلة ضائعة، يقال لكل فارغ: سبهلل، وجاء فلان سبهلل أي غير محمود المجيء أي جاء وذهب في غير شيء والله أعلم.

84-

بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ

وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسَلا

أي أفدي بنفسي، و"من" موصولة أو موصوفة، ومعنى استهدى طلب الهداية، أي سلك الطريق المستقيم الموصل إلى الله تعالى، والهاء في وحده لله عز وجل، أو تعود على المستهدى.

فمعناه على الأول: أنه مخلص لله في استهدائه لا يريد إلا الله، وعن الثاني: هو منفرد في ذلك؛ لأنه في زمان خمول الحق وعلو الباطل، والشرب: النصيب.

أي إذا اقتسم الناس حظوظهم كان القرآن العزيز حظه، فيكون القرآن العزيز له شربا يتروى به ومغسلا يتطهر به من الذنوب بدوام تلاوته والعمل بما فيه ولتلذذ بمناجاة منزله به في ظلام الليل، فمغسلا اسم مكان على التجوز أو مصدر على معنى ذا غسل.

85-

وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ

بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلا

طابت معطوف على استهدى، والهاء في عليه وأرضه للمستهدي، وقيل هي في أرضه لله، والمراد بالأرض: المعروفة، وعليه: بمعنى له أي طابت له الأرض التي تحمله لما عنده من الانشراح بسبب صلاح حاله مع الله تعالى، وكنى بقوله: فتفتقت بكل عبير عن ثناء أهلها عليه واغتباطهم به، والعبير: الزعفران وقيل: أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران، ومعنى تفتقت: تشققت أو يكون المعنى أن الأرض زكت وكثر خيرها بسبب هذا المستهدي؛ لقيامه بالحق وعمله بطاعة الله من قولك: طابت نفسي على كذا أي وافقتها وطابت الأرض إذا أخصبت، وقيل: الهاء في أرضه للقرآن العزيز استعار للقرآن العزيز أرضا كأن القارئ له حالة تفكره فيه وتدبره لمعانيه كالسالك في أرض تفتقت بكل عبير، يشير إلى كثرة الفوائد الحاصلة له بذلك علما وعملا، ومعنى مخضلا أي مبتلا، كنى بذلك عما أفاض الله تعالى عليه من نعمه بالمحافظة على حدوده.

86-

فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ

وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلا

طوبى له خبر أو دعاء والواو في "والشوق" للحال: أي العيش الطيب له في هذه الحالة أي ما أطيب عيشه حين يبعث الشوق همه، والهم هنا الإرادة أي الشوق إلى ثواب الله العظيم والنظر إلى وجهه الكريم يثير إرادته ويوقظها ويحركها مهما آنس منها فتورا أو غفلة، ويجوز أن يكون طوبى له دعاء معترضا، والشوق وما بعده معطوف على ما تقدم من الجمل أي بنفسي من استهدى وطابت عليه أرضه ومن الشوق يبعث همه والأسى الحزن والزند الذي يقدح به النار استعارة له ويهتاج أي يثور وينبعث ومشعلا حال من فاعل يهتاج أي موقدًا، وسبب هذا الحزن المشتعل التأسف على ما ضاع من العمر والخوف من التغير، وفي طوبى بحوث أخر حسنة ذكرناها في الشرح الكبير.

1 سورة الأنعام، آية:31.

ص: 57

87-

هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ

قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلَا

المجتبى: المختار، وفي يغدو وجهان: أحدهما أنها جملة مستأنفة، والثاني أنها حال من ضمير المجتبى.

وفي معناها أيضا وجهان: أحدهما أنها من غدا يغدو إذا مر أي أنه يمر بالناس متصفا بهذه الصفات الجليلة المذكورة وهو باين منهم، أي يمر بهم مرورا غير مزاحم لهم على الدنيا ولا مكاثر لهم.

والثاني أنه من غدا بمعنى صار التي من أخوات كان، وعلى الناس خبرها: أي رفع الله تعالى منزلته على الناس وقريبا وما بعده أخبار لها أيضا أو أحوال والمراد بقربه تواضعه أو هو قريب من الله تعالى قرب الرحمة والطاعة وهو غريب في طريقته ومذهبه؛ لقلة أشكاله في التمسك بالحق؛ لأنه كالقابض على الجمر مستمالا أي يطلب منه من يعرف حاله الميل إليه والإقبال عليه، ويؤمل عند نزول الشدائد كشفها بدعائه وبركته أي من جملة صفاته أن يكون مطلوبا للناس لا طالبا لهم بل ينفر منهم بجهده.

88-

يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَوْلى لِأَنَّهُمْ

عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعَلا

يعد هنا: بمعنى يعتقد ويحسب فلهذا عداها إلى مفعولين، وأفرد مولى؛ لأن "جميع" لفظ مفرد كقوله:{نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} 1.

وفي معناه وجهان:

أحدهما أنه أراد يعد كل واحد منهم عند الله تعالى مأمورا مقهورا لا يمك لنفسه نفعا ولا ضرا فلا يرجوهم ولا يخافهم بل يكون اعتماده واتكاله على خالقه أو لا يرى لهم نفعا ولا ضرا؛ لأن أفعالهم تجري على سابق القضاء والقدر.

والثاني أنه أراد سيدا، فلا يحتقر أحدا منهم بل يتواضع لكبيرهم وصغيرهم؛ لجواز أن يكون خيرا منه فإن النظر إلى الخاتمة.

فعلى الأول وصفه بالتوكل وقطع طمعه عن الخلق. وعلى الثاني وصفه بالتواضع وصيانة نفسه عن الكبر والعجب ونحوهما.

ثم علل ذلك بقوله: لأنهم على ما قضاه الله أي تجري أفعالهم على ما سبق به القضاء من السعادة والشقاء، وأفعلا تمييز، ووجه جمعه اختلاف أنواع أفعال الخلق، فهو كقوله تعالى:{بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} 2 والله أعلم.

89-

يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا

عَلَى المَجْدِ لَمْ تَلْعقْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْأَلَا

أي لا يشغل نفسه بعيب الناس وذمهم ويرى ذمه لنفسه أولى؛ لأنه يعلم منها ما لا يعلمه من غيرها أو يرى نفسه مقصرة بالنسبة إلى غيره ممن سبقه من المجتهدين فيذمها لذلك، وقوله: على المجد: أي على تحصيل الشرف

1 سورة القمر، آية:44.

2 سورة الكهف، آية:103.

ص: 58

يصفها بالتقصير عن مجاهدات الصديقين وعبر عن تحمله في ذلك المكاره والمشاق بتناوله ما هو مر المذاق، والصبر بكسر الصاد وفتحها مع سكون الباء وبفتح الصاد مع كسر الباء ثلاث لغات كما في كبد وكتف ذكر ذلك الناظم فيما أملاه من الحواشي على قصيدته، ومنهم من أنكر فتح الصاد مع سكون الباء وهو الشي المر الذي يضرب بمرارته المثل والألا بالمد. شجر حسن المنظر مر الطعم وقيل: إنه الدفلى، وقيل: إنه يؤكل ما دام رطبا فإذا يبس لسع ودبغ به، واحده ألاة.

قال الشيخ في شرحه: ولو قال لم تصبر على الصبر والألا لكان أحسن؛ لأن الألا لا يلعق: وهو نبت يشبه الشيح رائحة وطعما ولا يستعظم لعقه وإنما يستعظم الصبر عليه مع العدم، وقوله. من الصبر: أي من مثل الصبر.

قلت: هو من باب قولهم:

متقلدا سيفا ورمحا

وعلفتها تبنا وماء

أي لم تلعق من الصبر ولم تأكل من الألا: أي لم يتناول الأشياء المرة لعقا مما يلعق وأكلا مما يؤكل، ولو قال لم تطعم لجمع الأمرين والله أعلم.

90-

وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ

وَمَا يَأْتَلِى فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلا

أي لا يحملك ما ترى من تقصير الناس في حقك على ترك نصحهم أو لا يحملك الفقر والبؤس على ترك طاعة الرب سبحانه وتعالى وحث المخاطبين بالصفة المحمودة في أخس الحيوانات وأنجسها من المحافظة على خدمة أهله وإن قصروا في حقه.

وقد صنف أبو بكر محمد بن خلف المرزبان جزءا ذكر فيه أشياء مما وصفت الكلاب ومدحت به سماه "فضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، ونظم الشيخ الشاطبي -رحمه الله تعالى- في هذا البيت من ذلك أثرًا.

روي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال: أوصى راهب رجلًا فقال: انصح لله حتى تكون كنصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحيط بهم نصحا، ويقصيه أي يبعده ويأتلي أي يقصر وهو يفتعل من الائتلاء، وقوله تعالى:

{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} 1.

هو أيضا يفتعل ولكن من الألية: وهي الحلف، ومتبذلا حال من فاعل يأتلي أو خبر "كن": أي كن مبتذلا كالكلب، والتبذل في الأمر: الاسترسال فيه لا يرفع نفسه عن القيام بشيء من جليله وحقيره.

91-

لَعَلَّ إِلهَ الْعَرْشِ -يَا إِخْوَتِي- يَقِى

جَمَاعَتَنَا كُلَّ المَكاَرِهِ هُوّلا

أي لعل الله -تعالى- يقينا إن قبلنا هذه الوصايا وعملنا بها جميع مكاره الدنيا والآخرة، و"هوَّلا" حال من المكاره وهو جمع هائل، يقال: هالني الأمر يهولني هولا أي أفزعني فهو هائل: أي مفرغ.

1 سورة النور، آية:22.

ص: 59

92-

وَيَجْعَلُنَا مِمَّنْ يَكُونُ كِتاَبُهُ

شَفِيعاً لَهُمْ إِذْ مَا نَسُوْهُ فَيمْحَلا

يجعلنا معطوف على يقي ومن موصولة أو موصوفة وإذ ظرف شفيعًا كقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} 1.

فقيل هي تعليل في الموضعين كما في قوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا} 2.

قلت: التقدير وإذ اعتزلتموهم أفلحتم وخلصتم فأووا الآن إلى الكهف، وأما إذ ظلمتم فنزل المسبب عن الشيء كأنه وقع زمن سببه فكأنه انتفى نفع الاشتراك في العذاب زمن ظلمهم، وفي بيت الشاطبي رضي الله عنه كأن الشفاعة حصلت زمن عدم النسيان لما كانت مسببة عنه.

وقال أبو علي: الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه حتى كأنها واقعة وكأن اليوم ماضٍ، وقيل: التقدير: بعدَ إذ ظلمتم فهكذا يقدر بعد إذ ما نسوه وقيل: العامل في "إذ": ويجعلنا، ولا خفاء بفساد هذا، ويقال: محل به إذا سعى به إلى سلطان ونحوه وبلَّغ أفعاله القبيحة مثل وشى به ومكر به، وانتصاب فيمحلا على جواب النفي بالفاء، قال أبو عبيد في كتاب "فضائل القرآن": ثنا حجاج عن ابن جريج قال: حدثت عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق من شفع له القرآن يوم القيامة نجا ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله في النار على وجهه".

وفي كتاب الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها".

وروي في ذم نسيان القرآن آثار كثيرة والمراد بها ترك العمل به فإن النسيان الترك، ومنه قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 3.

وقد فسر ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: "القرآن شافع مشفع وماحل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار".

أخرجه مع غيره أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب ثواب القرآن.

1 سورة الزخرف، آية:31.

2 سورة الكهف، آية:16.

3 سورة طه، آية:115.

ص: 60