المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الدعوات الفصل الأول 2223 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]، - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٥

[الطيبي]

الفصل: ‌ ‌كتاب الدعوات الفصل الأول 2223 - عن أبي هريرة [رضي الله عنه]،

‌كتاب الدعوات

الفصل الأول

2223 -

عن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي إلي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)) رواه مسلم، وللبخاري أقصر منه [2223].

ــ

المثإني، وهي السبع الطول ((وإلي براءة وهي من المثين)) أي مائة وثلاثون آية، فقرنتم بينهما، ولم تفصلوا بالبسملة. وتوجيه السؤال: أن الأنفال ليست من السبع الطول لقصرها عن المثين؛ لأنها سبع وسبعون آية، وليست غيرها لعم الفصل بينا وبين براءة، فأجاب عثمان رضي الله عنه بما يشاكل ما وجده، فعلم من جوابه أن الأنفال والبراءة نزلتا منزلة سورة واحدة، وكملت السبع الطوال بها.

كتاب الدعوات

((غب)): الدعاء كالنداء، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، قال تعالي {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} ويستعمل استعمال التسمية نحو: دعوت ابني زيدًا، أي سميته، قال الله تعالي:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} أي لا تقولوا: يا محمد؛ تعظيما له وتوقيرا.

((مح)): دلت الأحاديث الصحيحة علي استحباب الدعاء والاستعاذة، وعليه أجمع العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار في كل الأعصار، وذهب طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلي أنترك الدعاء أفضل استسلاما للقضاء. وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن خص نفسه فلا، ومنهم من قال: إن وجد في نفسه باعثا للدعاء استحب وإلا فلا. ودليل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء والإخبار عن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اختبأت دعوتي)) أي ادخرتها وجعلتها خبيئة لنفسي. الاختباء: الاختفاء والستر. قول: ((نائلة)) أي واصلة. يقال: نال ينال نيلا، إذا

ص: 1703

2224 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته: شتمته لعنته جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة)) متفق عليه.

ــ

أصاب فهو نائل. ((شف)): ((من مات)) في محل النصب علي أنه مفعول لـ ((نائلة)) وقوله: ((لا يشرك بالله)) نصب علي الحال من فاعل ((مات)) أي شفاعتي نائلة من مات من أمتي غير مشرك بالله شيئًا.

((مظ)): اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث: أنَّ كلَّ نبي دعا علي أمته بالإهلاك، كنوح، وصالح، وشعيب، وموسى، وغيرهم، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يدع علي أعدائه بالإهلاك، فأعطى قبول الشفاعة يوم القيامة عوضا عما لم يدع علي أمته، وصبر علي أذاهم، ونعني بالأمة هنا أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، فإن أحدا من الأنبياء لم يدع علي من أجابه من أمته، بل دعا علي من كفر به.

أقول: هذا مشكل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا علي أحياء من العرب بقوله: ((اللهم العن فلانا وفلانا))، ودعا علي رعل، وذكوان، وعصية، ودعا علي مضر، وقال:((اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها سنين كسني يوسف)) فالتأويل المستقيم، أن معنى قوله:((لكل نبي دعوة مستجابة)) أن الله تعالي جعل لكل نبي دعوة واحدة مستجابة في حق أمته، فكل من الأنبياء نالوها في الدنيا بإهلاك قومه، وأنا ما نلتها في الدنيا، حيث دعوت علي بعض أمتي فقيل لي:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} فبقيت تلك الدعوة المستجابة مدخرة في الآخرة، وأما دعاؤه علي مضر فليس للإهلاك، بل للارتداع لينيبوا إلي الله تعالي، فانظر أيها المتأمل بين الدعاءين، ثم تحقق قوله تعالي:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ، وأما قوله:((إن جميع دعوات الأنبياء مستجابة)) فيقف عليه عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((سألت الله ثلاثا فأعطإني اثنين ومنعني واحدة)) وهي: أن لا يذيق بعض أمته بأس بعض، والله أعلم.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اتخذت عندك عهدا)) ((قض)): لما كان كل واحد من العهد والوعد متضمنا معنى الآخر، عبر عن الوعد بالعهد تأكيدًا وإشعارًا بأنه من المواعيد التي لا يتطرق إليها الخلف، وقال ((لن تخلفنيه)) ولا ينبغي أن يتطرق إليها كالمواثيق، ولذلك استعمل فيه الخلف، فقال:((لن تخلفنيه)) للمبالغة وزيادة التأكيد.

((تو)): العهد هنا الأمان، المعنى: أسألك أمانًا لن تجعله خلاف ما أترقبه وأرتجيه، وإنما وضع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقًا للرجاء بأنه حاصل إذا كان موعودا بإجابة الدعوة؛ ولهذا قال:((لن تخلفنيه)) أحل العهد المسئول محل الشيء الموعود، ثم أشار إلي أن وعد الله لا يتأتى فيه الخلف، فإن الإلوهية تنافيه.

ص: 1704

2225 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا بقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، غنه يفعل ما يشاء، ولا مكره له)) رواه البخاري.

2226 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم

ــ

((غب)): العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا، والاتخاذ: افتعال من الأخذ، وقد تعدى إلي مفعولين، ويجري مجرى الجعل. أقول: أصل الكلام، إني طلبت منك حاجة تسعفني إياها، ولا تخيبني فيها. فوضع العهد الموثق موضع الحاجة مبالغة في كونها مقضيه، {إن العهد كان مسئولا} ، ووضع ((لن تخلفنيه)) موضع لا تخيبني فيها نظرا إلي أن الألوهية منافية لخلف الوعد، أو أن العهد إنما يقع بين الاثنين فيوحي علي كل واحد من المتعاهدين مراعاته بالحفظ والاستيفاء، فوضع ((لن تخلفنيه)) موضع ((لن تنقضه)) مبالغة كما مر.

((قض)): قوله: ((فإنما أنا بشر)) تمهيد لمعذرته فيما يندر عنه صلى الله عليه وسلم، لأن من لوازم البشرية الغضب المؤدي إلي ذلك. وقوله:((فأي المؤمنين)) إلي آخره بيان وتفصيل لما كان يلتمسه، قابل أنواع الفظاظة والإيذاء بما يقابلها من أنواع التعطف والألطاف، وعد الأقسام الأول متناسقة من غير عاطف، وذكر ما يقابلها بالواو لما كان المطلوب معارضة كل واحد من تلك بهذه الأمور، وأقول: لعل قوله: ((شتمته، لعنته، جلدته)) تفصيل لقوله ((آذيته)) ومن ثم أفرد الضمير ثلاثة، وإتيانه في قوله:((صلاة وزكاة وقربة)) ليجمعها بإزاء واحدة من تلك الخلال علي سبيل الاستقلال، وليس من باب اللف والنشر*، ((تو)): و ((الصلاة)) وضعت ها هنا موضع الترحم والرأفة، و ((الزكاة)) يراد بها الطهارة من الذنوب، والنماء، والبركة في الأفعال. وهذه هي الرأفة التي أكرم الله بها وجهه حتى حظي بها المسيء، فما ظنك بالمحسن؟. قال الله تعالي:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم- إلي قوله- بالمؤمنين رءوف رحيم} وقال تعالي: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} .

الحديث الثالث والرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وليعزم مسألته)) ((نه)): أي يجد فيها ويقطعها. ((مظ)): نهي عن قوله: ((إن شئت)) في الدعاء؛ لأنه شك في القبول، بل ليعزم مسألته، وليكن متيقنا في قبول الدعاء، فإن الله تعالي كريم لا بخل عنده، وقدير لا يعجز عن شيء، ولا يكرهه أحد، ولا يحكم عليه، فلا يجوز أن يقال: اغفر لي إن شئت.

ص: 1705

اغفر لي إن شئت؛ ولكن ليعزم وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) رواه مسلم [2226].

2227 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله ما الاستعجال قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت. فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)). رواه مسلم [2227].

ــ

والضمير في ((أعطاه)) يرجع إلي ((شيء)) يعني لا يعظم عليه إعطاء، بل جميع الموجودات في أمره يسير، أقول: قوله: ((إن شئت)) في الحديثين ليس بمعنى واحد؛ لأن تعليل قوله: ((ليعزم)) بما بعده يوجب الفرق، فقوله:((إن الله يفعل ما يشاء ولا مكره له)) يقتضي أن يُأول قوله: ((اغفر لي إن شئت)) بأنه لا مشيئة لأحد غيرك؛ ليطابق التعليل، ويأول الثاني: بأنه لا كراهة لك فيما تعطي؛ لأن العظيم والحقير عندك سيان.

الحديث الخامس عن أبي هريرة: قوله: ((ما لم يدع)) ((ما)) ظرف لـ ((يستجاب)) بمعنى المدة، وكان من حق الظاهر أن يجاء بالعاطف في قوله:((ما لم يستعجل)) فتركه العاطف علي تقدير عامل آخر استقلالا لكل من القيدين؛ أي يستجاب ما لم يدع بإثم، يستجاب ما لم يستعجل، فترك العاطف استئنافا كأنه لما سمع المخاطب قوله: يستجاب ما لم يدع بإثم، سأل هل الاستجابة مقصورة علي هذا القيد أم لا؟ فأجيب: لا، بل يستجاب ما لم يستعجل.

قول: ((قد دعوت وقد دعوت)) التكرار والاستمرار، أي دعوت دعوة مرارا كثيرة، وقوله:((فلم أر يستجاب)) أي: فلم أعلم، مفعول أول ((أر)) محذوف، و ((يستجاب)) مفعول ثان، قيل: جاز ذلك، لأنها من دواخل المبتدأ والخبر، فكما جاز المبتدأ جاز ما أقيم مقامه، كذا ذكر صاحب الكشاف في قوله تعالي:{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} أي بل هم أحياء.

قوله: ((فيستحسر)) أي يمل. ((نه)): هو استفعال من حسر إذا أعيى وتعب. ((مظ)): من كان

ص: 1706

2228 -

وعن أبي الدرداء] رضي الله عنه [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وعند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)) رواه مسلم [2228].

2229 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعو علي أنفسكم، ولا تدعوا علي أولادكم، ولا تدعوا علي أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)) رواه مسلم [2229].

وذكر حديث ابن عباس: ((اتق دعوة المظلوم)) في كتاب الزكاة.

ــ

ملاله من الدعاء لا يقبل الله دعاءه؛ لأن الدعاء عبادة حصلت الإجابة أو لم تحصل، فلا ينبغي للمؤمن أن يمل من العبادة، وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها؛ فإن لكل شيء وقتا، وإما لأنه لم يقدر في الأزل قبول دعائه في الدنيا، ليعطى عوضه في الآخرة، وإما أن يؤخر القبول ليلح، ويبالغ فيها، فإن الله تعالي يحب الإلحاح في الدعاء.

الحديث السادس عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((بظهر الغيب)) الظهر: مقحم وموضعه نصب علي الحال من المضاف إليه؛ لأن الدعوة مصدر أضيف إلي الفاعل. ويجوز أن يكون ظرفا للمصدر. وقوله: ((مستجابة)) خير لها. وقوله ((عند رأسه ملك)) جملة مستأنفة مبينة للاستجابة، والباء في ((بمثل)) زائدة في المبتدأ، كما في قولك: بحسبك درهم. ((مح)): معناه دعوة المسلم في غيبة المدعو له وفي السر مستجابة؛ لأنها أبلغ في الإخلاص. وقوله: ((ولك بمثل)) بكسر الميم رواية مشهورة، وعن القاضي عياض: بفتح الميم والثاء وبزيادة الياء والهاء، بمثله أي عديله سواء، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب ويحصل له مثلها.

الحديث السابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا توافقوا)) نهي للداعي وعلة للنهي، أي لا تدعوا علي أنفسكم وعلي أولادكم، كي لا توافقوا ساعة الإجابة فتندموا، قوله:((فيستجيب)) نصب علي أنه جواب النهي من قبيل ((لا تدن من الأسد يأكلك)) علي مذهب الكسائي. ويحتمل أن يكون مرفوعًا، أي فهو يستجيب.

ص: 1707

الفصل الثاني

2230 -

عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} رواه أحمد والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة [2230].

2231 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء مخ العبادة)) رواه الترمذي [2231].

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول والثاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: قوله: ((الدعاء هو العبادة)) أتى بضمير الفصل، والخبر المعرف باللام، ليدل علي الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء. ((قض)): لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة من حيث إنه يدل علي أن فاعله مقبل بوجهه إلي الله تعالي معرض عما سواه، لا يجو ولا يخاف إلا منه، استدل عليه بالآية، فإنها تدل علي أنه أمر مأمور به، إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء علي الشرط، والمسبب علي السبب، وما كان كذلك كان أتم العبادات وأكملها، وتقرب منه الرواية الأخرى، فإن مخ الشيء خالصه.

((غب)): العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وأقول: يمكن أن تحمل العبادة علي المعنى اللغوي، أي الدعاء ليس إلا إظهار غاية التذلل، والافتقار والاستكانة. قال الله تعالي:{يأيها الناس أنتم الفقراء إلي الله والله هو الغني الحميد} . الجملتان واردتان علي الحصر، وما شرعت العبادات إلا للخضوع للباري، وإظهار الافتقار إليه، وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة {إن اللذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} . حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار ووضع ((عبادتي)) موضع دعائي، وجعل جزاء ذلك الاستكبار، الصغار والهوان.

ص: 1708

2232 -

وعن أبي هريرة [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أكرم علي الله من الدعاء)) رواه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب [2232].

2233 -

وعن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) رواه الترمذي.

ــ

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليس أكرم علي الله من الدعاء)) ((أكرم)) نصب خبر ((ليس)) فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله تعالي: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} قلت: كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، قال الله تعالي {فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} . وإنما كان أكرم الناس أتقاهم؛ لأن الكرم من الأفعال المحمودة، وأكرمها ما يقصد به أشرف الوجوه فأشرف الوجوه ما يقصد به وجه الله تعالي، فمن قصد ذلك بمحاسن أفعاله فهو التقي، فإذا أكرم الناس أتقاهم، وعلي هذا حكم الدعاء؛ لأنه مخ العبادة كما مر.

الحديث الرابع عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: قوله: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء)).

((تو)): القضاء الأمر المقدر، في تأويل الحديث وجهان: أحدهما أن يراد بالقضاء ما يخافه العبد من نزول المكروه، ويتوقاه، فإذا وفق للدعاء دفع الله عنه، فتكون تسميته بالقضاء علي المجاز، ويزيد توضيحه ما سئل صلى الله عليه وسلم ((أرأيت رقى نسترقيها- إلي قوله: قال ((هي من قدر الله)) فقد أمر الله تعالي بالدعاء والتداوي، مع علم الخلق بأن المقدور كائن؛ لأن حقيقة المقدور وجودا أو عدما مخفية عنهم، وثإنيهما: أن يراد به الحقيقة، فيكون معنى رد الدعاء القضاء، تهوينه وتيسير الأمر فيه حتى يكون القضاء النازل كأنه لم ينزل به، ويؤيده الحديث التالي:((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل)) أما نفعه مما نزل عليه، فصبره عليه، وتحمله له، رضاه به، حتى لا يكون في نزوله متمنيًا خلاف ما كان، وأما نفعه مما لم ينزل، فهو أن يصرفه عنه، أو يمده قبل النزول بتأييد من عنده، حتى تخف معه أعباء ذلك إذا نزل به.

قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: فإن قيل: فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع

ص: 1709

2234 -

وعن ابن عمر] رضي الله عنه [، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)) رواه الترمذي. [2234]

ــ

السهم فيتدافعان، كذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء أن لا يحمل السلاح، وقد قال تعالي:{وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} . فقدر الله تعالي الأمر وقدر سببه، وفي الدعاء من الفوائد ما ذكرنا من حضور القلب، والافتقار، وهما نهاية العبادة والمعرفة.

قوله: ((ولا يزيد في العمر إلا البر)) ((شف)): قيل: معناه إذا أبر فلا يضيع عمره، فكأنه زاد. وقيل: يزاد في العمر حقيقة، قال الله تعالي:{وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} . وقال تعالي: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} . وذكر في الكشاف أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب. وصورته: أن يكتب في اللوح المحفوظ إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما، فبلغ الستين، فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعين، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وذكر نحوه في معالم التنزيل، ثم قال: فقيل للقائل: إن الله يقول: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما ما قبل ذلك، فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ {إن ذلك علي الله يسير}. ((مح)): إذا علم الله تعالي أن زيدًا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها، فاستحال أن تكون الآجال التي عليها علم الله أن تزيد أو تنقص، فيتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلي ملك الموت أو غيره ممن وكل بقبض الأرواح، وأمره بالقبض بعد آجال محدودة، فإنه تعالي بعد أن يأمره ذلك أو يثبت في اللوح المحفوظ ينقص منه أو يزيد علي ما سبق به علمه في كل شيء وهو معنى قوله تعالي:{يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} . وعلي ما ذكر يحمل قوله تعالي: {ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده} ، فالإشارة بالأجل الأول إلي ما في اللوح المحفوظ، وما عند ملك الموت وأعوانه، وبالأجل الثاني إلي قوله:{وعنده أم الكتاب} وقوله تعالي: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .

الحديث الخامس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((فعليكم عباد الله بالدعاء)) الفاء جزاء شرط محذوف، يعني إذا رزق بالدعاء الصبر والتحمل علي القضاء النازل، ويرد به القضاء غير

ص: 1710

2235 -

ورواه أحمد عن معاذ ابن جبل، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

2236 -

وعن جابر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل، أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) رواه الترمذي. [2236]

2237 -

وعن ابن مسعود [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج)) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. [2237]

ــ

النازل، فالزموا عباد الله الدعاء، وواظبوا عليه، وخص ((عباد الله)) بالذكر تحريضًا علي الدعاء وإشارة إلي أن الدعاء هو العبادة.

الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مثله)) الضمير راجع إلي ما سأله. فإن قلت: كيف مثل جلب النفع بدفع الضرر، وما وجه التشبيه؟ قلت: الوجه ما هو السائل مفتقر إليه، وما ليس مستغنى عنه.

الحديث السابع عن ابن مسعود رضي الله عنه: قوله: ((وأفضل العبادة انتظار الفرج)) ((مظ)): يعني إذا نزل بأحد بلاء، فترك الشكاية وصبر، وانتظر الفرج، فذلك أفضل العبادات؛ لأن الصبر في البلاء انقياد لقضاء الله، وإنما استتبع انتظار الفرج قوله:((يحب أن يسأل))؛ لأن المراد بقوله: ((سلوا الله من فضله)) ادعوا الله لإذهاب البلاء، والحزن وانتظروا الفرج، ولا تستعجلوا في طلب إجابة الدعاء.

أقول: الفضل الزيادة، وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال له: فضل، نحو قوله تعالي {واسألوا الله من فضله} و {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} . المعنى أن فضل الله تعالي ليس بسبب استحقاق العبد، بل إكرام وإفضال من غير سابقة، فلا يمنعكم شيء من السؤال، ثم علل ذلك بقوله:((فإن الله يحب أن يسأل)) أي من فضله؛ لأن خزانته ملأي لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، فلما حث علي السؤال هذا الحث البليغ، وعلم أن بعضهم يمتنع من الدعاء لاستبطاء الإجابة، فسيتحسر عند ذلك ويدعه، قال:((أفضل العبادة انتظار الفرج)) أي أفضل الدعاء أن يستبطأ بالإجابة، فينتظر الداعي الفرج والإجابة، فيزيد في خضوعه وخشوعه، وعبادته التي يحبها الله تعالي، وهو المراد من قوله:((فإن الله يحب أن يسأل)) والله أعلم. اللهم عجل فرجنا وفرج المسلمين أجمعين آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 1711

2238 -

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) رواه الترمذي. [2238]

2239 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا - يعني أحب إليه - من أن يسأل العافية)) رواه الترمذي. [2239]

2240 -

وعن أبي هريرةَ [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يستجيبَ الله عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [2240]

2241 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعوا الله وانتم موقنون بالإجابة،

ــ

الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) وذلك لأن الله تعالي يحب أن يسأل من فضله علي ما مر، فمن لم يسأل الله يبغضه، والمبغوض مغضوب عليه لا محالة، ((تو)): اعلم أن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون، وجماهير العلماء من الطوائف كلها سلفًا وخلفًا: أن الدعاء مستحب بدليل الكتاب والسنة.

الحديث التاسع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعني أحب إليه)) تقييد للمطلق، فهو نصب بـ ((يعني))، وفي الحقيقة صفة لـ ((شيئا)). وأوصل الكلام: ما يسأل الله شيئا أحب إليه من العافية؛ فأقحم المفسر لفظة ((أن يسأل)) تقريرا للسؤال واعتناء به، وإنما كانت العافية أحب؛ لأنها لفظة جامعة لأنواع خير الدارين من الصحة في الدنيا، والسلامة فيها وفي الآخرة. ((نه)):((العافية)) أن يسلم من الأسقام، والبلايا، وهي الصحة ضد المرض، ونظيرها الثاغية، والراغية، بمعنى الثغاء والرغاء.

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من سره أن يستجيب الله)) من شيمة المؤمن الشاكر الحازم أن يريش السهم قبل الرمي، ويلتجئ إلي الله قبل الاضطرار إليه، بخلاف الكافر الغبي، كما قال تعالي {وإذا مس الإنسان الضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا} . الآية.

الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((موقنون بالاجابة)).

ص: 1712

واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [2241].

ــ

((تو)): فيه وجهان: أحدهما، أن يقال: كونوا أوان الدعاء علي حالة تستحقون منها الإجابة، وذلك بإتيان المعروف، واجتناب المنكر، وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء وآدابه، حتى تكون الإجابة علي قلبه أغلب من الرد، وثإنيهما: أن يقال: ادعوه معتقدين لوقوع الإجابة؛ لأن الداعي إذا لم يكن متحققًا في الرجاء لم يكن رجاؤه صادقًا، وإذا لم يكن الرجاء صادقًا، لم يكن الدعاء خالصًا، والداعي مخلصًا، فإن الرجاء هو الباعث علي الطلب، ولا يتحقق الفرع إلا بتحقق الأصل.

((مظ)): المعنى ليكن الداعي ربه علي يقين بأنه تعالي يجيبه؛ لأن رد الدعاء إما لعجز في إجابته، أو لعدم كرم في المدعو، أو لعدم علم المدعو بدعاء الداعي، وهذه الأشياء منفية عن الله تعالي، وأنه جل جلاله عالم كريم، قادر لا مانع له من الإجابة، فإذا كان الأمر كذلك، فليكن الداعي موقنًا بالإجابة وأقول: قيد الأمر بالدعاء باليقين، والمراد النهي عن التعرض لما هو مناف للإيقان من الغفلة واللهو، بصدهما من إحضار القلب، والجد في الطلب بالعزم في المسألة، فإذا حصلا حصل اليقين، ونبه صلى الله عليه وسلم هذا التنبيه بقوله:((واعلموا)) ونظيره في الكناية قوله تعالي: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} نهاهم عن الموت علي حالة غير الإسلام، وليس ذلك بمقدورهم، لكنه أمر علي الثبات علي حالة الإسلام بحيث إذا أدركهم الموت أدركهم عل تلك الحالة، ثم اعلم أن التقيظ، والجد في الدعاء من أعظم آدابه، وأوثق عراه.

((مح)): ومن آداب الدعاء: حضور القلب، وهو القصد الأولي منه، وقال أبو حامد في - الإحياء -: آداب الدعاء عشرة: ترصد الأزمان الشريفة كيوم عرفة، واغتنام الأحوال الشريفة كحالة السجود، واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وخفض الصوت بين المخافتة والجهر، وأن لا يتكلف السجع، وأن يتضرع ويتخشع، وأن يجزم بالطلب، ويوقن بالإجابة، وأن يلح في الدعاء، ولا يستبطئ، وأن يفتتح الدعاء بذكر الله تعالي، ويرد المظالم، وزاد الشيخ محيي الدين علي هذا، بأن قال: وأن يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحمد لله تعالي، وأقول: وأن يختتم الدعاء بالطابع، أي بآمين، وأن لا يخص نفسه بالدعاء، بل يعم ليدرج دعاءه وطلبه في تضاعيف دعاء الموحدين، ويخلط حاجته بحاجتهم لعلها تقبل ببركتهم، وتجاب. وإلي هذا يلوح قول القارئ والمصلي:{إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم} وأصل ذلك كله ورأسه: اتقاء الشبهات فضلا عن الحرام.

ص: 1713

2242 -

وعن مالك بن يسار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها)) [2242].

2243 -

وفي رواية ابن عباس، قال:((سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم)) رواه أبو داود [2243].

ــ

الحديث الثاني عشر من مالك: قوله: ((ببطون أكفكم)) ((الباء)) للآلة، ويجوز أن تكون للمصاحبة. ((مظ)): عادة من طلب شيئا من غيره، أن يمد كفه إليه، فالداعي يبسط كفه إلي الله تعالي متواضعا متخشعا، ولا يرفع ظهر كفه؛ لأنه إشارة إلي الدفع، لكن من أراد دفع بلاء فليرفع ظهر كفه.

وأقول: ولعل الظاهر أن من يطلب شيئًا من غيره يمد يده إليه ليضع النائل فيها، ومن جمع اليدين يؤذن بكثرة العطية لتمتلئا منها. وإليه ينظر الحديث التالي ((يستحيي أن يردهما صفرا)). ومن جعل بطن الكفين إلي أسفل، كأنه أشار إلي عكس ذلك، وخلوهما عن الخير. ويؤيده مسح الوجه بهما تفاؤلا بإصابة ما طلبه، وتبركا باتصاله إلي وجهه الذي هو أولي الأعضاء وأولاها، فمنه يسري إلي سائر الأعضاء. وأما حديث الاستسقاء، وأنه صلى الله عليه وسلم استسقى وأشار بظهر كفيه إلي السماء، فمعناه: أنه رفعهما رفعًا تامًا حتى ظهر بياض إبطيه، وصارت كفاه محاذيتين لرأسه ملتمسًا أن يغمره برحمته من رأسه إلي قدميه. وذلك لشدة مساس الحاجة إلي الغيث. {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته}. هذا وقد تقرر: أن شرعية الدعاء إنما كانت لإظهار الافتقار والضراعة. بين يدي الجبار، وكان الثناء علي الله تعالي بمحامده، والاعتراف بالذلة والمسكنة، والقصور عما يبتغيه ابتهالا قوليا، ومد اليد علي سبيل الضراعة ابتهالا فعليا، لأنه يصير بذلك كالسائل المتكفف؛ لأن يملأ كفه بما يسد حاجته.

ولما كانت هذه الصورة صورة ضراعة، وإظهار فاقة؛ استحب مد اليد. فكلما كانت الحاجة أمس كان مد اليد أشد، كالحريص علي الشيء يتوقع تناوله. وذلك في الاستسقاء لامتساس الحاجة إلي الغيث عند الجدب، وحبس المطر. هذا مختصر كلام التوربشتي، وقع علي سبيل توارد الخاطر، وقع الحافر علي الحافر.

ص: 1714

2244 -

وعن سلمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا)) رواه الترمذي وأبو داود، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) [2244].

2245 -

وعن عمر [رضي الله عنه]، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطها حتى يمسح بها وجهه. رواه الترمذي [2245].

2246 -

وعن عائشة [رضي الله عنها]، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك. رواه أبو داود [2246].

ــ

الحديث الثالث عشر عنه سلمان رضي الله عنه: قوله: ((يستحيي من عبده)) الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، ويذم. وهو علي الله تعالي محال فيحمل علي التمثيل، مثل تركه تعالي تخييب العبد، وأنه لا يرد يديه صفرا من عطائه لكرمه بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. في الكشاف: فقوله: ((يستحيى)) إلي آخره جملة مستأنفة بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث، يعني حياؤه وكرمه يمنعه من أن يخيب عبده السائل. قوله:((صفرا)) أي خالية، يقال: صفر الشيء – بالكسر - أي خلا، والمصدر الصفر بالتحريك، ويستوي فيه المذكر، والمؤنث والتثنية، والجمع.

الحديث الرابع والخامس عشر عن عائشة رضي الله عنها. قوله. ((الجوامع من الدعاء)) ((نه)): هي التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء علي الله تعالي وآداب المسألة. ((مظ)): هي ما كان من لفظه قليلا ومعناه كثيرًا، جمع فيه خير الدنيا والآخرة، نحو قوله تعالي:((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)). قوله: ((ويدع ما سوى ذلك)) و ((ذلك)) إشارة إلي معنى ما يراد به من ((الجوامع))، فيختلف معنى ((سوى ذلك)) بحسب اختلاف تفسير ((الجوامع)) انعكاسًا.

ص: 1715

2247 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب)) رواه الترمذي، وأبو داود.

2248 -

وعن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] قال: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي، وقال:((أشركنا يا أخي في دعائك ولا تنسنا)) فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا. رواه أبو داود، والترمذي وانتهت روايته عن قوله:((ولا تنسنا)) [2248].

ــ

الحديث السادس والسابع عشر عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((أشركنا يا أخي في دعائك)) ((قض)): في هذا الالتماس إظهار الخضوع، المسكنة في مقام العبودية، وتحضيض للأمة علي الرغبة في دعاء الصالحين. وتفخيم شأن عمر، وإشادة بذكره، وإرشاد إلي ما يحمى دعاءه من الرد، ويوجب إجابته، وتعليم للأمة بأن لا يخصوا أنفسهم بالدعاء، ويشاركوا فيه أقاربهم وأحباءهم، لا سيما في مظان الإجابة. وأتى ((أخي)) بالتصغير تلطفا وتعطفا كالتصغير في يا بني. وقوله:((فقال كلمة)) يحتمل أن يكون المراد بها ما سبق، وأن يكون غيره، ولم يصرح به توقيا عن تفاخر أو نحوه، والباء في ((بها)) بدليه أي لو كانت الدنيا لي بدل تلك الكلمة لما سرني؛ لعلمي بأن تلك الكلمة خير لي من الدنيا.

أقول: الفاء في قوله: ((فقال)) عاطفة علي ((قال: أشركنا)) إما لتعقيب القول بعد القول، أو تعقيب المفسر بالمفسر، و ((كلمة)) نكرة نصب بـ ((قال)) علي معنى تكلم، فالفاء علي الأول تقتضي أن يكون القول الثاني غير الأول، وعلي الثاني هو الأول تفسيرا، وإنما نكرها تفخيما لشأنها، وعلي كلا التقديرين الكلمة يراد بها الجملة من الكلام؛ لقوله تعالي:{وجعلها كلمة باقية في عقبه} وكقولك: كلمة الحويدرة تريد قصيدته. والظاهر أن المراد بالكلمة ما سبق، وأي فضيلة لعمر رضي الله عنه أرفع وأسنى من قوله:((أشركنا)) حيث وصاه بالشركة في الدعاء، ومن أشرك غيره مع نفسه جعله مصاحبا وقينا له، ثم ترقى من كونه قرينا له إلي كونه قريبا له وبمنزلة الأخ، ثم ترقى بالتصغير إلي أن ذلك الأخ ليس كسائر الأخوة، بل كأخ شفيق متعطف، ثم توكيد الوصية بقوله:((لا تنسنا)) إظهار لغاية الاهتمام بما وصاه، وأنه مستقل به، ولا يصدر إلا عن مثله، وأن دعاءه مستجاب البتة، فينبغي أن يشركه فيه. والله أعلم.

ص: 1716

2249 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه الترمذي [2249].

2250 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)). رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة. [2250].

ــ

الحديث الثامن عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم)) ((الصائم)) بدل من ((دعوتهم)) علي حذف المضاف، أي دعوة الصائم، ودعوة الإمام بدليل عطفه ((ودعوة المظلوم)) عليه، و ((يرفعها)) حال من ضمير الدعوة، كذا قيل. والأولي أن يكون خبرا لقوله:((ودعوة المظلوم))، وقطع هذا القسم عن أخويه لشدة الاعتناء بشأنه، وينصر هذا الوجه عطف قوله:((ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك)) علي قوله: ((وتفتح)) لأن هذا لا يستقيم علي الوجه الأول.

((قض)): استأنف بهذه الجملة الكلام لفخامة شأن دعاء المظلوم، واختصاصه بمزيد القبول، ورفعها فوق الغمام، وفتح أبواب السماء لها مجاز عن إثارة الآثار العلوية وجمع الأسباب السماوية علي انتصاره بالانتقام من الظالم، وإنزال البأس عليه. وقوله:((ولو بعد حين)) يدل علي أنه سبحانه وتعالي يمهل الظالم، ولا يهمله، قال تعالي:{وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا} .

الحديث التاسع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ثلاث دعوات مستجابات)) وإنما قال في الحديث السابق ((ثلاثة)) وفي هذا ((ثلاث دعوات))؛ لأن الكلام علي الأول في شأن الداعي، وتحريه في طريق الاستجابة، وما هي منوطة به من الصوم، والعدل، بخلاف الوالد والمسافر؛ إذ ليس عليهما الاجتهاد في العمل وقال هناك:((لا ترد دعوتهم)) وهنا ((مستجابات)) وقيدها بقوله: ((لا شك فيهن)) ليتفقا في التقرير؛ لأن ((لا ترد)) كناية عن الاستجابة. وقد تقرر عند علماء البيان: أن الكناية أبلغ من التصريح، فجبر التصريح بقوله:((لا شك فيهن)). وقوله: ((دعوة الوالد)) مطلق يحتمل للولد، وعليه ليسعي في مراضيه حتى يدعو له، ويجتنب عما يسخطه لئلا يدعو عليه. وإنما لم يذكر الوالدة علي أن حقوقها أكثر فيكون دعائها أقرب إلي

ص: 1717

الفصل الثالث

2251 -

عن أنس [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)) [2251].

2252 -

زاد في رواية عن ثابت البنإني مرسلا ((حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسعه إذا انقطع)). رواه الترمذي [2252].

2253 -

وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه. [2253]

2254 -

وعن سهل بن سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كان يجعل أصبعيه حذاء منكبيه، ويدعو.

ــ

الإجابة؛ لما علم ذلك بطريق الأولوية، يدل عليه قوله تعالي:((ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا علي وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك)) حيث أوقع ((حملته أمه- إلي قوله- في عامين)) اعتراضا بين المفسر أعني ((أن اشكر لي)) والمفسر أي ((وصينا))، وفائدة الاعتراض التوكيد في التوصية في حقهما، خصوصا في حق الوالدة لما تكابد من مشاق الحمل والرضاع.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حتى يسأل شسع نعله)) ((نه)): الشسع أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في النقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام. والزمام السير الذي يدخل فيه الشسع. وقد ذكرنا في - فتوح الغيب - أن الرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأنه دل علي جلائل النعم، والرحيم علي دقائقها، فيكون من باب التتميم لا الترقي، ولو لمح فيه هذا المعنى لكان من باب الترقي؛ لأن طلب أحقر الأشياء من أعظم العظماء أبلغ في الطلب من طلب الشيء العظيم منه، ومن ثم قال:((ليسأل)) وكرره؛ لأنه يدل علي أن لا منع هناك، ولا رد للسائل عما طلب. وفيه أن العبد لا يلتجئ ولا يظهر الافتقار إلا إلي الله تعالي، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه.

الحديث الثاني والثالث عن سهل: قوله: ((كان يجعل أصبعيه)) دل هذا الحديث علي القصد في رفع اليدين، والسابق علي الزيادة علي القصد.

ص: 1718

2255 -

وعن السائب بن يزيد، عن أبيه،: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا، فرفع يديه مسح وجهه بيديه [2255].

2256 -

وعن عكرمة، عن ابن عباس [رضي الله عنهما]، قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا.

وفي رواية. قال: والابتهال هكذا، ورفع يديه، وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. رواه أبو داود.

2257 -

وعن ابن عمر، أنه يقول: إن رفعكم أيديكم بدعة، ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا - يعنى إلي الصدر - رواه أحمد.

2258 -

وعن أبي بن كعب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب صحيح. [2258]

ــ

الحديث الرابع عن السائب: قوله: ((فرفع)) عطف علي الشرط، وجوابه ((مسح)). وفائدته دلالة المفهوم، يعنى إذا دعا ولم يرفع يديه لم يمسح وجهه.

الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((المسألة أن ترفع)) المسألة مصدر بمعنى السؤال. والمضاف محذوف؛ ليصح الحمل، أي أدب السؤال وطريقة رفع اليدين، وأدب الاستغفار الإشارة بالسبابة سبا للنفس الأمارة والشيطان، والتعوذ منهما إلي الله تعالي. ولعل المراد من الابتهال دفع ما يتصوره من مقابلة العذاب، فيجعل يديه كالترس ليستره عن المكروه. ((مظ)): العادة فيمن طلب شيئا أن يبسط الكف إلي المدعو متواضعا متخاشعا، وفيمن أراد كف مكروه، أن يرفع ظهر كفه إشارة إلي الدفع.

الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((يعني إلي الصدر)) تفسير لما فعله ابن عمر من رفع اليدين إلي الصدر، يعني أن رفعكم أيديكم إلي فوق الصدر بدعة، وما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي رفع اليدين إلي الصدر. أنكر عليهم غالب أحوالهم في الدعاء والسؤال، وعدم تمييزهم بين الحالات من الرفع إلي الصدر لأمر، وفوقه إلي المنكبين لآخر، وفوقهما لغير ذلك.

ص: 1719

2259 -

وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من مسلم يدعو لدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) قالوا: إذن نكثر. قال: ((الله أكثر)). رواه أحمد. [2259]

2260 -

وعن ابن عباس [رضي الله عنهما]، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((خمسُ دعوات يستجابُ لهنَّ: دعوة المظلوم حتى ينتصرَ، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقعد، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب)) ثم قال: ((وأسرع الدعوات إجابة دعوة الأخ بظهر الغيب)) رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2260]

ــ

الحديث السابع عن أبي رضي الله عنه: قوله: ((فدعا له)) عطف علي الشرط، وجزاؤه ((بدأ)) فدل بالمفهوم علي: أنه إذا لم يحصل الشرط المقيد لم يوجد الجزاء؛ لأن الدعاء بعد الذكر يدل علي سابقة فيهتم بدعائه فبدأ بنفسه؛ ليكون أقرب إلي الإجابة ووسيلة إلي الفوز.

الحديث الثامن عن أبي سعيد: قول: ((قال الله أكثر)) أي أكثر إجابة من دعائكم. المعنى أن غاية الله تعالي في بابها أكثر وأبلغ من دعائكم في بابه، وهو قريب من قوله: العسل أحلي من الخل، والصيف أحر من الشتاء، وإنما جيء ((أكثر)) بالثاء المثلثة مشاكلة لقولهم:((نكثر)).

الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((حتى ينتصر)) ((حتى)) في القرائن الأربع بمعنى ((إلي)) كقولك: سرت حتى تغيب الشمس؛ لأن ما بعدها غير داخل فيما قبلها. فدعوة المظلوم مستجابة إلي أن ينتصر، أي ينتقم من ظالمه إما باللسان أو باليد، ودعوة الحاج حتى يفرغ من أعماله، ويصدر إلي أهله، ودعوة المجاهد حتى يقعد ما استتبت به مجاهدته، يعني حتى يفرغ منها. فإن قلت هذا يوهم أن دعاء هؤلاء الأربع لا يستجاب بعد ذلك، وكذا دعاء الغائب إلي أن يحضر؟ قلت: نعم، لكن الأسباب مختلفة فيكون سبب الإجابة حينئذ أمرًا آخر غير المذكور. وإنما كان دعاء الغائب أسرع إجابة؛ لأنه أقرب إلي الإخلاص، وأنه تعالي يعينه في دعائه كما ورد:((إن الله تعالي في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم))، ومن ثم صرح بذكر الأخ في الحديث.

ص: 1720