الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه
الفصل الأول
2261 -
عن أبي هريرة، وأبي سعيد [رضي الله عنهما] قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)). رواه مسلم. [2261]
2262 -
وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر علي جبل يقال له: جمدان، فقال:((سيروا هذا جمدان، سبق المفردون)). قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله قال: ((الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)). رواه مسلم. [2262]
ــ
باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه
الفصل الأول
الحديث الأول عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: قوله: ((لا يقعد قوم يذكرون)) سبق شرحه في كتاب العلم.
الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جمدان)) ((نه)): هو- بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون- جبل علي ليلة من المدينة. قول: ((سبق المفردون)) ((نه)): وفي رواية ((طوبى للمفردين)) قيل: ((وما المفردون؟ قال: الذين [أُهتِرُوا] في ذكر الله تعالي)). يقال: فرد برأيه، وأفرد، وفرد، واستفرد بمعنى انفرد به. وقيل:[فرَّد] الرجل إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي.
((تو)) و ((قض)): المفرد من فرد، إذا اعتزل الناس وتخلي للعبادة، فكأنه فرد نفسه بالتبتل إلي الله تعالي، ولذلك فسر بقوله:((الذاكرون الله)) أي سبقوا بنيل الزلفي، والعروج إلي
2263 -
وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر مثل الحي والميت)). متفق عليه.
2264 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالي: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي؛ وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم)). متفق عليه
ــ
الدرجات العلي. وإنما قالوا: ((ما المفردون)) ولم يقولوا: من هم؛ لأنهم أرادوا [فسر] اللفظ وبيان ما هو المراد منه، لا تتعين المتصفين به، وتعريف أشخاصهم، فعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب عن بيان اللفظ إلي حقيقة ما يقتضيه توقيفا للسائل بالبيان المعنوي علي المعنى اللغوي إيجازا، فاكتفي فيه بالإشارة المعنوية إلي ما استبهم عليهم من الكناية اللفظية.
أقول - وما توفيقي إلا بالله -: ولعلهم كانوا قافلين من غزو أو سفر، قاصدين المدينة، وقربوا منها واشتاقوا إلي الأوطان، فتفرد منهم جماعة مهترين سابقين، وبقي بعضهم غير باسطين، فقال صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المتخلفين: سيروا وقد قرب الدار، وهذا جمدان وسبقكم المفردون. وأما جواب رسول الله عن قولهم:((ما المفردون)) بقوله: ((الذاكرون الله كثيرا)) فمن الأسلوب الحكيم الوارد علي سبيل الاستطراد، أي دعوا سؤالكم هذا؛ لأنه ظاهر مكشوف، واسألوه عن السابقين إلي الخيرات المتبتلين إلي الله تعالي بمداومة الذكر، المفردين الله بالذكر عمن سواه هذا، وأما المطابقة بين السؤال والجواب لفظًا، فهي حاصلة؛ لأن ((ما)) كما يسأل بها عن حقيقة الشيء يسأل بها عن وصفه أيضًا، نحو سؤال فرعون ((وما رب العالمين)) وجوابه عليه السلام ((رب السموات والأرض)) في وجه. كأنهم يألوا ما صفة هؤلاء المفردين؟ فأجيبوا: صفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا. قوله: ((والذاكرات)) ((مح)): أي الذاكراته فحذف الهاء كما حذف في التنزيل إنهاء رأس آية، ولأنه مفعول، وحذفه سائغ.
الحديث الثالث عن أبي موسي: قول: ((مثل الذي يذكر ربه)) شبه الذاكر بالحي الذي تزين ظاهره بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريد، وباطنه منور بنور العلم والفهم والإدراك، كذلك الذاكر مزين ظاهرة بنور العمل والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة، [فقلبه] مستقر في حظيرة القدس، وسره في مخدع الوصل، وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه.
2265 -
وعن أبي ذر [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يقول الله
ــ
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ظن عبدي بي)) ((تو)): الظن لما كان واسطة بين اليقين والشك، استعمل تارة بمعنى اليقين. وذلك إذا ظهرت أماراته، وبمعنى الشك إذا ضعفت أماراته. وفي المعنى الأول ورد قوله تعالي:((الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)) أي يوقنون، وعلي الثاني قوله:((وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)) أي توهموا.
((قض)): الظن في الحديث يصح إجراؤه علي ظاهره، ويكون المعنى أنا عند ظن عبدي بي، أي أعامله علي حسب ظنه، وأفعل به ما يتوقعه مني. والمراد الحث علي تغليب الرجاء علي الخوف، وحسن الظن بالله، كما قال صلى الله عليه وسلم:((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)). ويجوز أن يفسر بالعلم، والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي، وحسابه علي، وأن ما قضيت له من خير أو شر فلا مرد له، لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، أي إذا تمكن العبد في مقام التوحيد، ورسخ في الإيمان والوثوق بالله تعالي، قرب منه ورفع دونه الحجاب بحيث إذا دعاه أجاب، وإذا سأله استجاب، كما روي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال عن الله تعالي:((علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرت له)). قوله: ((وأنا معه إذا ذكرني)) أي بالتوفيق، والمعونة، أو أسمع ما يقوله. ((فإن ذكرني في نفسه)) أي سرًا وخفية إخلاصًا وتجنبًا عن الرياء ((ذكرته في نفسي)) أي أسر بثوابه علي منوال عمله وأتولي بنفسي إثابته لا أكله إلي أحد من خلقي.
وقوله: ((في ملأ خير منه)) أي ملأ من الملائكة المقربين وأرواح المرسلين. والمراد منه مجازاة العبد بأحسن مما فعله وأفضل مما جاء به. وأقول: وإنما قيده بقوله: ((وأرواح المرسلين)) لئلا يستدل بهذا الحديث أن الملائكة أفضل من البشر، علي أن المراد من الملأ الملائكة فحسب. واعلم أن ((الفاء)) في قوله:((فإن ذكرني في نفسه)) إلي آخره، تفصيل للسابق فينبغي للحاذق الماهر أن يجعل السابق محلا للتفصيل ومتضمنًا معناه علي سبيل الإبهام، فمعنى المفصل، أنه تعالي عالم بسر العبد وعلإنيته، وإخلاصه في العمل وريائه فيه، وأنه مجازيه علي أعماله بأفضل وأكمل مما عمله، وإذا تقرر هذا ينبغي أن يحمل الظن علي الاعتقاد الجازم بأنه تعالي كريم جواد يجازي العبد بأفضل وأحسن مما عمل، وأنه معه رقيب عليه حافظ لما أسره وما أعلنه، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير. وقوله:((ذكرته في نفسي)) جاء علي سبيل المشاكلة؛ لأن المراد من قوله: ((في نفسه)) قلبه وسره؛ ولأنه جعل النفس ظرفًا للذكر، تعالي الله أن يتصف بهما.
الحديث الخامس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((تقربت منه)) ((مح)): هذا الحديث من
تعالي: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأزيدُ؛ ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر؛ ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا؛ ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا؛ ومن أتإني يمشي أتيته هرولة؛ ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة)). رواه مسلم. [2265]
ــ
أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهرة. ومعناه من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي، والتوفيق في الإعانة، وإن زاد زدت، وإن أتإني يمشي ويسرع في طاعتي أتيته هرولة، أي صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلي المشي الكثير في الوصول إلي المقصود، والمراد أن جزاءه يكون تضعيفه علي حساب تقربه.
((تو)): الهرولة ضرب من التسرع في السير، وهو فوق المشي ودون العدو، وهذه أمثال يقرب بها المعنى المراد منها إلي أفهام السامعين. والمراد منها: أن الله تعالي يكافئ العبد ويجازيه في معاملاته التي يقع بها التقرب إلي الله بأضعاف ما يتقرب العبد به إلي الله. وسمي الثواب تقربًا مشاكلة وتحسينًا، ولأنه من أجله وبسببه، كقوله تعالي ((وجزاء سيئة سيئة مثلها)). وقيل: تقرب الباري سبحانه إليه بالهداية، وشرح صدره لما تقرب به، وكأن المعنى: إذا قصد ذلك وعمله أعنته عليه وسهلته له. والقراب ما يقارب ملاءها وهو مصدر قارب. ((شف)): قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا، فإنه صلى الله عليه وسلم رتب قوله:((لقيته بمثلها مغفرة)) علي عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة.
((مظ)): لا يجوز لأحد أن يغتر بهذا الحديث ويقول: إذا كان كذلك، فأكثر الخطيئة حتى يكثر الله مغفرتي، وإنما قال ذلك كيلا ييأس المذنبون من رحمته، ولا شك أن لله مغفرة وعقوبة، ومغفرته أكثر، ولكن لا يعلم أحد أنه من المغفورين أو من المعاقبين، فإذن ينبغي للمرء أن يكون بين الخوف والرجاء.
وأقول: هذا الحديث عام خص بحسب الأحوال والأوقات. فإن جانب الخوف في ابتداء الأحوال ينبغي أن يكون راجحا علي الرجاء، وفي أواخرها يكون مرجوحا، أو مطلق محمول علي المقيد بالمشيئة كما في قوله تعالي:((ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) أو بالعمل الصالح مع الإيمان كما في قوله تعالي: ((إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)) فدل ((أولئك)) أن ما بعدها جدير بمن ذكر قبلها، بسبب ما اختص به من الصفات.
ــ
والمذكور في الآية التائب الذي آمن بالله وعمل عملا صالحًا. والتمثيل مركب من عدة أمور متوهمة، مثلت صورة تقرب العبد إلي الله بالطاعة والإخلاص فيها مع معاونة الله تعالي بتيسير الطاعة وتسهيل السلوك إليه، بصورة تقرب من يعنى بحالة من الخواص إلي بعض العظماء فإنه يستقبله، ويخطو خطوات نحوه تقليلا للمسافة إكراما له، وهذا المعنى يقرب من الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ التوربشتي، ويكشف عن هذا المعنى في الحديث الذي يليه كشفًا يتحقق به مغزى الكلام.
فإن قلت: ما معنى التعريف في ((الحسنة والسيئة))، ولم خصت القرينة الثانية أعني ((من جاء بالسيئة)) بلفظ الجزاء، ولم وضعت ((سيئة)) موضع الضمير الراجع إلي المذكور في الشرط ونكرت؟ ولم قيل في القرينة الأولي ((وأزيد)) بالواو، وفي الثانية أغفر ((أو أغفر))؟ وما وجه النظم بين قوله:((ومن تقرب إلي)) إلي آخر الحديث، وبين الكلام السابق؟ قلت- وبالله التوفيق-: أما التعريف فيهما فللعهد الذهني، كقولك: دخلت السوق في بلد كذا أي سوقًا من الأسواق، ويعرف كل أحد أن السوق ما هو، فالمعنى: أية حسنة كانت، وأية سيئة كانت. وأما اختصاص ذكر الجزاء بالثانية، فلأن ما يقابل العمل الصالح من الثواب، كله إفضال وإكرام من الله تعالي، وما يقابل السيئة هو عدل وقصاص، فلا يكون مقصودا بالذات كالثواب، فنص بالجزاء. وأما إعادة السيئة نكرة، فلتنصيص معنى الوحدة المبهم في السيئة، والمعرفة المطلقة وتقريرها. وأما معنى واو العطف في ((وأزيد)) فلمطلق الجمع، إن أريد بالزيادة الرؤية كقوله تعالي:((للذين أحسنوا الحسنى وزيادة))، وإن أريد بها الأضعاف كما في قوله تعالي:((كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة)) الآية، فالواو بمعنى أو التنويعية، كما هي في قوله:((أو أغفر)) في الحديث.
وأما وجه النظم، فإن تركيب الحديث من باب اللف والنشر؛ لأن قوله:((من تقرب مني- إلي قوله- هرولة)) مناسب للقرينة الأولي، وقوله:((ومن لقيني)) إلي آخر الحديث مناسب للقرينة الأولي أن القرب إلي الله تعالي إنما يحصل بواسطة الطاعة المقارنة بالإخلاص، وقمع هوى النفس الأمارة بالسوء، والفناء عن الأوصاف البشرية المانعة عن الوصول إلي حظيرة القدس، فكلما زاد الإخلاص في الطاعة والتوغل فيه، وبعد عن هوى النفس وشهواتها ولذاتها، ازداد قربا إلي الله تعالي. ومراتب القرب لا تحصى، فذكر منها في الحديث ثلاثا تقريبا.
وقوله: ((أمثالها)) من إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، أي عشر حسنات أمثالها. وقوله:((شبرًا، وذراعًا، وباعًا)) في الشرط والجزاء منصوبات علي الظرفية، أي من تقرب إلي
2266 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالي قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي
ــ
مقدار شبر. وقوله: ((يمشي)) و ((هرولة)) حالان. وقوله: ((خطيئة)) و ((مغفرة)) تمييزان، و ((هرولة)) يجوز أن تكون مفعولا مطلقا؛ لأنه نوع من الإتيان نحو رجعت القهقرى، لكن الحمل علي الحال أولي؛ لأن قرينته ((يمشي)) حال لا محالة.
((تو)): الحديث علي الوجه الذي ورد في المصابيح من رواية أبي ذر: ((من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا)) هكذا مخرج في كتاب ابن ماجة، وفي كتاب مسلم ((تقربت إليه ذراعًا، تقربت إليه باعًا)). ولما ذكر الحديث في قسم الصحاح لم يكن له أن يأتي فيه بما لا يوجد في الكتابين - كتاب البخاري وكتاب مسلم، وذلك من التجوز الذي لا يتدين به المحدثون. أقول: هذا الحديث من أفراد مسلم، ذكره الحميدي في كتابه كما في المصابيح والمشكاة. وكذا في نسخة معتمدة لمسلم، وعلي هذا شرحه الشيخ محيي الدين النواوي، ولعل الشيخ وجد نسخة علي ما نقله فأخذ يطعن علي مؤلف المصابيح، ولا يسعه ذلك.
الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله ((من عادى لي وليا)) ((نه)): الولي: هو الناصر. وقيل: المتولي للأمور. ((شف)): الولي له معنيان: أحدهما أنه فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولي الله تعالي أمره فلا يكله إلي نفسه لحظة، قال الله تعالي:((وهو يتولي الصالحين))، وثإنيهما أنه فعيل بمعنى فاعل مبالغة، وهو الذي يتولي عبادة الله تعالي وطاعته. وكلا الوصفين شرط في ولاية الولي، فيجب قيامه بحقوق الله تعالي علي الاستقصاء والاستبقاء؛ ليدوم حفظ الله تعالي وتولي أموره إياه في السراء والضراء. و ((آذنته)) أعلمته، أي فقد أعلمت معادي وليي بمحاربتي معه وليي. وفي قوله:((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) إرشاد إلي أن باب [المحبة] * إلي الله تعالي للعبد هو التقرب إلي الله تعالي بالنوافل الزائدة علي الفرائض فلا يزال العبد يتقرب إلي الله تعالي بأنواع الطاعات، ويرتقي من مقام إلي آخر بأصناف الرياضات، حتى يحبه الله، فيستغرق بملاحظة جناب قدسه بحيث ما لاحظ شيئا إلا رأي الله تعالي فيه، وهو آخر درجات السالكين وأول درجات الواصلين.
قول: ((فكنت سمعه)) ((حس)): سئل أبو عثمان الخيري عن معنى هذا الخبر، فقال: كنت أسرع إلي قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وبصره في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، [((خط))]: هذه أمثال ضربها، والمعنى- والله أعلم- توفيقه في الأعمال التي
يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه)). رواه البخاري
ــ
يباشرها بهذه الأعضاء، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه، ويعصمه عن مواقعة ما يكره من إصغاء إلي اللهو يسمعه، ونظر إلي ما نهي عنه ببصره، وبطش ما لا يحل بيده، وسعي في الباطل. وقد يكون معناه سرعة إجابة في الدعاء والإنجاح في الطلبة، وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربع.
((تو)): معنى قوله: ((كنت سمعه)) إلي تمام الفصل، أجعل سلطان حبي غالبًا عليه، حتى يسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقربه إلي، فيصير متخلفا عن الشهوات، ذاهلا عن الحظوظ واللذات، حيثما تقلب وأينما توجه لقي الله تعالي بمرأي منه وبمستمع، لا تطور حالته الغفلة، ولا تحول دون شهوده الحجبة، ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان، يأخذ بمجامع قلبه حب الله، فلا يرى ولا يسمع ولا يفعل إلا ما يحبه، ويكون الله سبحانه في ذلك له يدا ومؤيدا وعونا ووكيلا يحمي سمعه، وبصره، ويده، ورجله عما لا يرضاه. وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله تعالي، وحسن رعاية الله له، وذلك علي سبيل الاتساع، فإنهم إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع منه، والاهتمام به، والعناية والاستغراق فيه، والفناء والوله إليه، والنزوع له، سلكوا هذا الطريق، قال:
جنوني فيك لا يخفي وناري فيك لا تخبو
فأنت السمع والنظر والمهجة والقلب
ولسلفنا من مشايخ الصوفية في هذا الباب فتوحات غيبية، وإشارات ذوقية، تهتز منها العظام البالية، غير أنها لا تصلح إلا لمن سلك سبيلهم، فعلم مشربهم، وأما غيرهم فلا يؤمن عليه عن سماعها من الأغاليط التي تهوى بصاحبها إلي مهواة الحلول والاتحاد. وتعالي الله الملك الحق عن صفات المخلوقين، ونعوت المربوبين. وحسب ذوي الألباب من شواهد هذا الباب، أن الله تبارك وتعالي لما أراد أن يقرر في قلوب السامعين عنه الواقفين معه أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده معه، أضاف المبايعة معه إلي نفسه بآكد الألفاظ وأخص المعإني، فقال:((إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)).
قوله: ((وأنا أكره مساءته)) هذا آخر الحديث في كتاب البخاري والحميدي وجامع الأصول وشرح السنة وليس فيها ((فإذا أحببته)) كما في بعض نسخ المصابيح، ولا زيادة لفظة ((قبض)) عند قوله:((عن قبض نفس المؤمن))، ولا قول:((ولابد له منه)) في آخر الحديث، والمذكورات وردت في حديث روى أنس نحوه في شرح السنة.
ــ
قوله: ((وما ترددت عن شيء)) ((قض)): التردد تعارض الرأيين، وترادف الخاطرين، وهو وإن كان محالا في حقه تعالي إلا أنه أسند إليه باعتبار غايته ومنتهاه الذي هو التوقف والتإني في الأمر، كذلك سائر ما يسند إلي الله تعالي من صفات المخلوقين كالغضب والحياء والمكر، فالمعنى: ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن، أتوقف فيه حتى يسهل عليه، ويمل قلبه إليه شوقا إلي أن ينخرط في سلك المقربين، ويتبوأ في أعلي عليين.
وأقول: تفسير الولي علي ما نقلناه يستلزم المحبة، وأن يكون الولي محبوبا، وإلي المحبة ألإشارة بقوله:((حتى أحبه)) وإلي معنى تولي الأمور لمح قوله: ((فكنت سمعه الذي يسمع به)) إلي آخر الفصل. وقوله ((أحب إلي مما افترضت عليه)) يقتضي أن تكون وسائل التقرب كثيرة، وأحبها إلي الله تعالي أداء الفرائض، فتندرج فيها النوافل. وقوله:((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)) إلي آخره بيان أن حكم بعض المفضل عليه الذي هو النافلة بهذه المثابة، فما الظن بالمفضل الذي هو الفرائض؟ فالتقرب المذكور في هذا الحديث وما رتب عليه من قوله:((فكنت سمعه)) إلي آخره تفسير للمبهم، وتفصيل للمجمل في الحديث السابق. قال فيه:((من تقرب إلي شبرًا)) ولم يبين المتقرب به، وفسر هنا بأداء الفرائض والنوافل، وقال هناك:((تقربت إليه ذراعا)) ولم يبين بماذا تقرب، فبين هنا بقوله:((فكنت سمعه)) دلالة علي التأييد، والتوفيق، وتسهيل سلوك الطريق المستقيم، وإليه يلمح ترتب قوله:((اهدنا الصراط المستقيم)) إلي آخره علي قوله: ((إياك نعبد وإياك نستعين))، فلما بنى افتتاح الكلام علي ذكر الولاية والمحبة تكرما وتفضلا، ونبه أنه تعالي لا يحوج وليه إلي انتقام من يعاديه، بل هو بذاته ينتصر منه، ويتولي حربه، وأنه سبحانه يتلقاه في التقرب منه بما تقر به عينه، وينشرح به صدره بقوله:((فكنت سمعه وبصر)) إلي آخره، ختمه بالتأخير عما يسوء المحبة ويكرهه تلطفًا وتعطفًا.
وقوله: ((وما ترددت في شيء أنا فاعله)) مرتب عليه قوله: ((هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته)) من باب التمثيل، سبه صورة توقف الله تعالي وتأخيره العبد عما يسوءه من الموت الذي في الظاهر مضرة، وتنبؤ عنه بشرية العبد، وفي ضمنه المنافع والوصول إلي غاية المطالب حتى تزول تلك الكراهة بلطائف يحدثها الله تعالي، ويظهرها عليه، فيشتاق إليه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله تعالي وكرامته، بصورة أب مشفق بولده متعطف له، يريد إيصاله إلي ما يتم به كمال نفسه من العلم والأدب، ولا يتم ذلك إلا بنصب التكرار وتعب السهر، والولد يكرهه، وهو لا يريد مساءته، ولا أن يترك ما هو صلاحه فيه، فيتوخى لطائف الحيل، حتى يميل إليه قلب الولد، وينزع إليه. ثم أدخل صورة المشبه في جنس المشبه به مبالغة، ثم استعمل في المشبه اللفظ الذي كان مستعملا في المشبه اللفظ الذي كان مستعملا في المشبه به من التردد، وهذا التأويل موافق
2267 -
وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكروا الله تنادوا: هلموا إلي حاجتكم)) قال: ((فيحفونهم بأجنحتهم إلي السماء الدنيا)) قال: ((فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟)) قال: ((يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك)) قال: ((فيقول: هل رأوني؟)) قال: ((فيقولون: لا والله ما رأوك)) قال: ((فيقول: كيف لو
ــ
للحديث المتفق علي صحته ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، والموت قبل لقاء الله)) قالت عائشة: ((إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بضر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه)) هذان الحديثان توأمان بلغا غايتهما في دقة المعنى ورقة الألفاظ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أهل الذكر)) المراد بالذكر التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتمجيد، ولم يذكر التهليل؛ لدلالة التمجيد عليه، وينصره رواية مسلم ((التهليل)) بدل التمجيد. قوله:((هلموا)) ((نه)): معناه تعالوا، وفيه لغتان: أهل الحجاز يطلقونه علي الواحد، والجمع، والاثنين، والمؤنث بلفظ واحد مبني علي الفتح، وبنو تميم يثنى، ويجمع ويؤنث. قوله:((فيحفونهم بأجنحتهم)) [((تو))]: أي يطوفون بهم ويدورون حولهم؟ ((مظ)): الباء للتعدية، يعني يديرون أجنحتهم حول الذاكرين. أقول: الظاهر أن الباء للاستعانة كما في قولك: كتبت بالقلم؛ لأن حفهم الذي ينتهي إلي السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة كما في العرف.
قوله: ((وهو أعلم بهم)) حال؛ والأحسن أن تكون معترضة، أو تتميما صيانة عن التوهم، وفائدة السؤال مع العلم بالمسئول التعريض بالملائكة، وبقولهم في بني آدم:((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)) وفي قوله: ((هل رأوني، وهل رأوا جنتي، وهل رأوا ناري)) تقريع للملائكة وتنبيه علي أن تسبيح بنى آدم وتقديسهم أعلي وأشرف من تقديسهم، لحصول هذا في عالم الغيب مع وجود الموانع والصوارف، وحصول ذلك في عالم المشهادة من غير صارف. وقد ورد ((أفضل العبادة أحمزها)). قوله:((عبد خطاء)) بدل من ((فلان)) وفي الرواية الأولي ((فلان ليس منهم)) فـ ((ليس منهم)) حال من المستتر في الخبر يعني فيهم.
قوله: ((هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)) يعني أن مجالستهم مؤثرة في الجليس، فإذا لم يكن للجليس نصيب مما أصابهم كان محرومًا فيشقى. فإذًا لا يستقيم وصف القوم بهذه الصفة. ولو
رأوني؟)) قال: ((فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحًا)) قال: ((فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة)) قال: ((يقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يارب ما رأوها)) قال: ((فيقول: فكيف لو رأوها؟)) قال: ((يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة)) ((قال: فمم يتعوذون؟)) قال: ((يقولون: من النار)) قال: ((يقول: فهل رأوها؟)) قال: ((يقولون: لا والله يارب ما رأوها)) قال: ((يقول فكيف لو رأوها؟)) قال: ((يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافةً)) قال: ((فيقول فأشهدكم إني قد غفرت لهم)) قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)). رواه البخاري
وفي وراية مسلم، قال: ((إن لله ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلي السماء، قال: فيسألهم الله، وهو أعلم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك، [ويمجدونك]، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي ربِّ! قال:
ــ
قيل: هم قوم يسعد بهم جليسهم لم يكن بهذه الحيثية. وأما علي رواية مسلم فتعريف الخبر يدل علي الكمال، أي هم القوم، أي القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة، فيكون قوله:((لا يشقى بهم جليسهم)) استئنافًا لبيان الموجب. ويجوز أن يكون صفة؛ لأن المعرف بلام الجنس كالنكرة.
قوله: ((فضلا)) بإسكان الضاد جمع فاضل، صفة بعد صفة للملائكة كبزل وبازل. قوله:((فإذا تفرقوا عرجوا)) الضمير في فعل الشرط للقوم، وفي الجزاء للملائكة، فكما كان اجتماع القوم سببا لنزول الملائكة وحفهم، كان تفرقهم سببًا لعروجهم وقربهم إلي الله تعالي ومكالمتهم مع الله تعالي.
قوله: ((وكيف لو رأوا جنتي)) جواب ((لو)) ما دل عليه ((كيف)) لأنه سؤال عن الحال، أي لو رأوا جنتي ما يكون حالهم في الذكر؟ فإن قلت: ما الفرق بين مجيء جواب الملائكة في رواية
وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يارب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك)). قال: ((فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا)) قال: ((فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم)) قال: ((فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)).
2268 -
وعن حنظله بن الربيع الأسيدي، قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قلتُ: نكونُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا
ــ
البخاري: ((لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا)) وبين ذكر الجواب في رواية مسلم؟ قلت: ((كيف)) في رواية البخاري لمجرد السؤال عن الحال، وفي رواية مسلم للتعجيب والتعجب مثلا قوله:((إنما مر)) فإن قلت: ((إنما مر)) مشكل، لأن ((إنما)) توجب حصر ما بعده في آخر الكلام، كما تقول: إنما يجيء زيد أو إنما زيد يجيء، ولم يصرح هنا، غير كلمة واحدة، وكذلك قوله ((وله غفرت)) يقتضي تقديم الظرف علي عامله اختصاص الغفران بالمار دون غيره، وليس كذلك. قلت: في التركيب الأول تقديم وتأخير، أي إنما فلان مر، أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقيبه، يعني ما ذكر الله تعالي.
فإن قلت: لِمَ لَمْ يجعل الضمير في ((مر)) بارزًا ليكون الحصر فيه؟ قلت: لو أريد هذا، لوجب الإبراز، ولئن سلم لأدى إلي خلاف المقصود، وأن المرور منحصر في ((فلان))، ولا يتعدى إلي غيره، وهو خلف. وفي التركيب الثاني الواو للعطف، وهو يقتضي معطوفًا عليه، أي قد غفرت لهم وله. ثم أتبع ((غفرت)) تأكيدًا وتقريرًا، نحوه قوله تعالي:((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب)) ((الكشاف)): أحد المفعولين ((الذين يفرحون)) والثاني ((بمفازة)) وقوله: ((فلا تحسبنهم)) تأكيد، أي لا تحسبنهم فائزين.
الحديث الثامن عن حنظلة: قول: ((كيف أنت يا حنظلة)) ((كيف)) سؤال عن الحال، أي أمستقيم علي الطريق أم لا؟ فأجاب: نافق حنظلة. وفيه تجريد؛ لأن أصل الكلام: نافقت، فجرد من نفسه شخصا آخر مثله، فهو يخبر عنه لما رأي من نفسه ما لا يرضي لمخالفة السر العلن، والحضور الغيبة. قوله:((سبحان الله!)) كلمة تعجب، و ((ما)) استفهامية، فقوله:((ما تقول؟)) هو المتعجب منه. قوله: ((رأي عين)) ((فا)): منصوب بإضمار ((نرى)) ومثله ((حمد الله)). قوله: ((عافسنا)) ((فا)): المعافسة: المعالجة، والممارسة، والضيعة: الصناعة والحرفة.
ويقال للرجل: ما ضيعتك؟ ((نه)): ضيعة الرجل ما يكون معاشه به كالتجارة، والزراعة وغير ذلك.
الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: نافق حنظله يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((والذي نفسي بيده، لو تدومون علي ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة علي فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة)) ثلاث مراتٍ. رواه مسلم.
الفصل الثاني
2269 -
وعن أبي الدرداء [رضي الله عنه]، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم؟، وأزكاها عند مليككم؟، وأرفعها في درجاتكم؟، وخيرٍ لكم
ــ
قوله: ((نسينا كثيرًا)) أي نسينا أكثر مما ذكرتنا به، أو نسينا نيسانًا كثيرًا، كأنا ما سمعنا منك شيئًا قط، هذا مناسب لقوله:((رأي عين)) إذا أريد به المصدر في إرادة المبالغة منها. قوله: ((وفي الذكر)) عطف علي خبر ((كان)) الذي هو ((عندي)). قوله: ((علي فرشكم وطريقكم)) يريد به الديمومة في جميع الحالات. ((شف)): أي في حالتي فراغكم وشغلكم، وفي زمإني أيامكم ولياليكم.
أقول: ((لو)) لامتناع الشيء لامتناع غيره، فتنتفي المداومة، علي حالة حاصلة عند الحضور وعلي الذكر بانتفاء مصافحة الملائكة عيانا علي الدوام.
فقوله: ((ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) استدراك عن هذا التعليق، وتقرير علي الحالة التي كان عليها حنظلة، وأنكر عليها، ومن ثم ناداه باسمه تنبيهًا علي أنه كان ثابتًا علي الطريق المستقيم، وما نافق قط.
قوله: ((ثلاث مرات)) أي قال: يكونون ساعة في الحضور في الذكر، وساعة في المعافسة- ثلاث مرات- تأكيدًا لتأثير القول حتى يزيل عنهم ما اتهم به نفسه. ((تو)):((ساعة وساعة)) محتمل للترخيص، وهو أظهر، ومحتمل للحث علي التحفظ به لئلا تسأم النفس عن العبادة. ((مظ)): معنى الحديث لو كنتم في غيبتي مثل ما كنتم في حضوري، من صفاء القلب والخوف من الله تعالي، ولو دمتم علي الذكر، لزارتكم الملائكة وصافحتكم عيانًا. ولابد من هذا القيد؛ لأن الملائكة يصافحون أهل الذكر غير عيان.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن أبي الدرداء رضي الله عنه: قوله: ((وخير لكم من إنفاق الذهب)) مجرور
من إنفاق الذهب والورق؟ وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلي. قال: ((ذكر الله)). رواه مالك، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، إلا أن مالكا وقفه علي أبي الدرداء [2269].
2270 -
وعن عبد الله بن بُسر، قال: جاء أعرابي إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس خير؟ فقال: ((طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله)). قال: يا رسول الله! أي
ــ
عُطف علي ((خير أعمالكم)) من حيث المعنى؛ لأن المعنى ألا أنبئكم بما هو خير لكم من بذل أموالكم، ونفوسكم؟. قال الشيخ ابن عبد السلام في كتاب القواعد: هذا الحديث مما يدل علي أن الثواب لا يترتب علي قدر النصب في جميع العبادات، بل قد يؤجر الله تعالي علي قليل الأعمال أكثر مما يؤجره علي كثيرها، فإن* الثواب يترتب علي تفاوت الرتب في الشرف.
((شف)): لعل الخيرية والأرفعية في الذكر؛ لأجل أن سائر العبادات من إنفاق الذهب، والفضة، ومن ملاقاة العدو، والمقاتلة معهم إنما هي وسائل ووسائط يتقرب العباد بها إلي الله، والذكر إنما هو المقصود الأسني، والمطلوب الأعلي، وناهيك عن فضيلة الذكر قوله تعالي:((فاذكروني أذكركم))، وقوله:((أنا جليس من ذكرني، وأنا معه إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)) - الحديث.
أقول: ولا ارتياب أن أفضل الذكر قول لا إله إلا الله، وهي الكلمة العليا، وهي القطب الذي يدور عليها رحى الإسلام، وهي القاعدة التي بنى عليها أركان الدين، وهي الشعبة التي هي أعلي شعب الإيمان بل هو الكل، وليس غيره، ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)) أي الوحي مقصور علي استئثار الله تعالي بالوحدإنية؛ لأن المقصود الأعظم من الوحي هو التوحيد، وسائر التكاليف متفرع عليه، ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)) ولأمر ما تجد العارفين وأرباب القلوب يستأثرونها علي سائر الأذكار؛ لما رأوا فيها خواص ليس الطريق إلي معرفتها إلا الوجدان والذوق، رزقنا الله وإياكم.
الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((طوبى)) قال الشارحون: لما كان السؤال عما هو غيب لا يعلمه إلا الله تعالي عدل عن الجواب إلي كلام مبتدأ يشعر بأمارات تدل علي المسئول عنه، وهو طول العمر مع حسن العمل، فإنه يدل علي سعادة الدارين والفوز بالحسنين.
الأعمال أفضل؟ قال: ((أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله)). رواه أحمد، والترمذي. [2270]
2271 -
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((حلق الذكر)). رواه الترمذي. [2271]
ــ
وأقول: ((طوبى)) كلمة إنشاء؛ لأنها دعاء معناها أصاب خيرا من طال عمره، وحسن عمله، وكان من الظاهر أن يجاب عنه بقوله:((من طال)) فالجواب من الأسلوب الحكيم، أي غير خاف أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله؛ بل الذي يهمك أن تدعو له فتصيب من بركته. وإنما كان خير الناس من طال عمره، وحسن عمله؛ لأن مثل الإنسان في الدار الدنيا مع عمله الصالح، كمثل تاجر سافر من مقره إلي فرضة* ليتجر فيها ويربح، فيرجع إلي وطنه سالما غانما، فيصيب خيرا، فرأس مال الإنسان عمره، ونقده أنفاسه ومزاولة جوارحه، وربحه الأعمال الصالحة، فكلما زاد رأس المال زاد الربح، ومقره ومستقره الدار الآخرة، فمتى استقر فيها وجد ثواب ما ربح موفي، {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلإنية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} ومن لم ينتبه لذلك، وأضاع رأس ماله فلم يوفق للعمل، {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} .
قوله: ((ولسانك رطب)) رطوبة اللسان عبارة عن سهولة جريانه، كما أن يبسه عبارة عن ضده، ثم أن جريان اللسان حينئذ عبارة عن مداومته الذكر قبل ذلك، فكأنه قيل: وخير الأعمال مداومة الذكر، فهو من أسلوب قوله تعالي:{ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((إذا مررتم برياض الجنة)) هذا الحديث مطلق من وجهين: أن تلك الحلق في أي مكان هي؟ وأن ذلك الذكر ما هو؟ فيحمل علي المقيد في باب المساجد، أن المكان هو المسجد وأن الذكر هو قوله: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقد مر تحقيقه هناك.
2272 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعًا لا يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة)). رواه أبو داود. [2272]
ــ قوله: ((حلق الذكر)) ((نه)): الحلق- بكسر الحاء وفتح اللام- هي جمع حلقة مثل قصعة وقصع، وهي جماعة من الناس يستديرون كحلقة الباب وغيره. وقال الجوهري: جمع الحلقة حلق- بفتح الحاء- علي غير قياس. وحكي ابن عمرو أن الواحد حلقة- بالتحريك- والجمع حلق بالفتح.
((مح)): أعلم أنه كما يستحب الذكر يستحب الجلوس في حلق أهله، وقد تظاهرت الأدلة علي ذلك. والذكر قد يكون بالقلب، وقد يكون باللسان، والأفضل منهما ما كان بالقلب واللسان جميعا، فإن اقتصر علي أحدهما فالقلب أفضل. وينبغي أن لا يترك الذكر باللسان مع القلب بالإخلاص خوفا من أن يظن به الرياء، وقد نقل عن التفضيل رحمه الله: ترك العمل لأجل الناس رياء، وقال: لو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتزاز عن طريق ظنونهم الباطلة، لانسد عليه أكثر أبواب الخير، [وضيع] علي نفسه شيئا عظيما من مهمات الدين، وليس هذا من وظيفة العارفين. وأن يكون علي أكمل الصفات بأن يكون جاسًا مستقبل القبلة، متخشعًا مع سكينة ووقار، مطرقًا رأسه، وأن يكون الموضع خاليًا نظيفًا، فإنه أعظم في احترام الذكر والمذكور.
وينبغي أن يدوم علي الذكر إلا زمان قضاء الحاجة، والجماع، وسماع الخطبة في الجمعة وغيرها، وفي القيام للصلاة، وفي حالة النعاس، ولا يكره في الطريق، ولا في الحمام. وينبغي له أن يحضر قلبه؛ لأنه هو المقصود في الذكر فيتحرى في تحصيله، ويتدبر ما يذكره. والمذهب الصحيح أن أولي الأذكار قول: لا إله إلا الله، وأقوال السلف وأئمة الخلف في هذا مشهورة. وإذا اعترضت للذكر أحوال يستحب له قطع الذكر، ثم الإعادة بعد زوالها، منها رد تسليم الداخل عليه، وتشميت العاطس، وجواب المؤذن في الأذان والإقامة، ورفع المنكر والإرشاد إلي المعروف عند رؤيتهما، وإجابة المسترشد، وما أشبه ذلك كله في الأذكار.
الحديث الرابع إلي السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كانت عليه من الله ترة)) ((تو)): قيل: أي حسرة، والموتر الذي قتل له قتيل، ولم يدرك بدمه. وكذلك وتره حقه، أي نقصه، وكلا الأمرين معقب للحسرة. أقول: قوله: ((من قعد مقعدا)) الحديث ((كانت)) في الموضعين رويت علي التإنيت في أبي داود، وجامع الأصول. وفي الحديثين اللذين يليانه علي
2273 -
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)). رواه أحمد، وأبو داود. [2273]
2274 -
وعنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا علي نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) رواه الترمذي. [2274]
2275 -
وعن أم حبيبة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل ُّكلام ابن آدم عليه لا
ــ
التذكير فيهما، فعلي رواية التإنيث في ((كانت)) ورفع ((ترة)) ينبغي أن يؤول مرجع الضمير من ((كانت)) مؤنثا، أي القعدة أو الاضطجاعة، فيكون ((ترة)) مبتدأ والجار والمجرور خبره، والجملة خبر كان. وأما علي رواية التذكير ونصب ((ترة)) كما هو في المصابيح فظاهر، والجار والمجرور متعلق بـ ((ترة)) ويؤيد هذه الرواية الأحاديث الآتية بعد. وذكر المكإنين هنا لاستيعاب الأمكنة، كذكر الزمإنين بكرة وعشيا لاستيعاب الأزمنة، يعنى من فتر ساعة من الأزمنة، وفي مكان من الأمكنة كان عليه حسرة وندامة؛ لأنه ضيع رأس ماله، وفوت ربحه، كما مر قبيل هذا، وأية حسرة أعظم من هذا!.
قوله: ((إلا قاموا)) استثناء مفرغ التقدير: ما يقومون قياما إلا هذا القيام، وضمن ((قاموا)) معنى التجاوز فعدى بـ ((عن)) والمثل يراد به الكلام الذي يجري بين الناس في المجالس من الأمور الدنيوية والهفوات، والسقطات، فإذا لم تجر باسم الله تعالي يكون كجيفة يعافها الناس. وخص الحمار بالذكر ليشعر ببلادة أهل المجلس، وينصر هذا التأويل حديث أبي هريرة ((من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه)). وقوله ((وإن شاء عذبهم)) من باب التشديد، والتغليظ، ويحتمل أن يصدر من أهل المجلس ما يوجب العقوبة من حصائد ألسنتهم، والصلوات علي الرسول في هذا الحديث تلميح إلي معنى قوله تعالي:{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} .
الحديث السابع عن أم حبيبة: قوله: ((عليه لا له)) ((مظ)): قد يكون بعض الكلام لا عليه ولا
له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله)) رواه الترمذي، وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريب.
2276 -
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)) رواه الترمذي [2267].
2277 -
وعن ثوبان، قال: لما نزلت {والذين يكنزون الذهب والفضة}
ــ
له؛ لأن الكلام إما خير أو شر أو مباح، ففي الخير أجر، وفي الشر إثم، وفي المباح عفو لا إثم فيه ولا أجر، والمراد بذكر الله هنا ما فيه رضي الله من الكلام، كالتلاوة، والصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم، والتسبيح، والتهليل، والدعاء للمؤمنين وما أسبه ذلك.
أقول: قوله: ((إلا أمر بمعروف)) استثناء من قوله: ((كل كلام ابن آدم)) فلا يخرج المباح من جملة ما عليه، وأقله أن يحاسب عليه، قال تعالي:((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) ويورث قساوة القلب، كما يشير إليه الحديث الآتي، وقوله الشارح:((وفي المباح عفو)) دليل علي أنه مما عليه؛ لأن العفو يقتضي الجرمية، يعفي عنها تفضلا
والحاصل: أن قوله: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له)) دل علي أن جميع ما ينطق به الإنسان مضرة عليه، ولذلك ورد ((من صمت نجا)) ثم خص هذا العام مرة بما لابد منه للإنسان من الأمور الدينية، كذكر الله وما والاه، وأخرى بالأمور الدنيوية، [وما نظام] أمر المكلف عليه من المباحات، تفضلا من الله تعالي وعفوا منه.
الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((قسوة للقلب)) أي سبب لقسوة القلب، ((مظ)) وهي عبارة عن دعم قبول ذكر الله، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من الخصال الحميدة، وعدم هذه الخلال يبعد الناس عن الله تعالي ولابد في الكلام من التقدير بأن يقال: إن أبعد القلوب من الله القلب القاسي، أو إن أبعد الناس من الله القلب القاسي. أقول: ويمكن أن يعبر بالقلب عن الشخص؛ لأنه به كما قيل: المرء بأصغريه، أي بقلبه ولسانه أو يقدر: ذو القلب، فلا يحتاج إذن إلي حذف الموصول مع بعض الصلة.
الحديث التاسع عن ثوبان: قوله: ((لو علمنا أي المال خير فنتخذه)) ((لو)) للتمني، ولذلك نصب ((فنتخذه)) و ((أي)) رفع بالابتداء، والخبر ((خير))، والجملة سادة مسد المفعولين لـ ((علمنا))
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: نزلت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال ((أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه علي إيمانه)) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
الفصل الثالث
2278 -
عن أبي سعيد، قال: خرج معاوية علي حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلي اله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علي حلقة من أصحابه، فقال:((ما أجلسكم ها هنا؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده علي ما هدانا
ــ
تعليقًا، والضمير في ((أفضله)) راجع إلي ((المال)) علي تأويل النفع، أي لو علمنا أفضل الأشياء نفعا فنقتنيه، ولهذا السر استثنى الله تعالي)) من أتى الله بقلب سليم)) من قوله:((مال ولا بنون)) والقلب إذا سلم من آفاته شكر الله تعالي، فسرى ذلك إلي لسانه، فحمد الله وأثنى عليه، ولا يحصل ذلك إلا بفراغ القلب ومعاونة رفيق يعينه في طاعة الله تعالي.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن أبي سعيد: قوله: ((الله ما أجلسكم؟)) هو بالنصب، أي أتقسمون بالله، فحذف الجار وأوصل الفعل، ثم حذف الفعل، وقولهم:((آلله ما أجلسنا غيره)) تقديره: إي أو نعم نقسم بالله ما أجلسنا غيره، فوضع الهمزة موضعها مشاكلة وتقريرا لذلك. وقوله:((وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلي آخره متصل بقوله: ((إني لم أستحلفكم)) اتصال الاستدراك بالمستدرك يدل عليه قوله: ((ولكنه أتإني)) وقوله: ((وما كان أحد بمنزلتي)) إلي آخره اعتراض وقع تأكيدا بين الاستدراك والمستدرك، وآذن به أنه لم ينسه.
فإن قلت: ما معنى الاستدراك، وانه لم يستحلفه تهمة، وإنما استحلفه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع، وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام؟ قلت: الجملة القسمية إنما وضعت لدفع التهمة، ورفع الإنكار البليغ، فأوجب أن تضمن التأكيد البليغ. وربما تستعمل فيما لا يكون فيه تهمة ولا إنكار، بل يجاء بها لمجرد التأكيد تقريرا له في النفوس وتثبيتا لها، كما تقول لمن بعثته إلي مهم وقد جاءك: والله لقد جئتني، أي نعم ما فعلت، تحسينا له علي
للإسلام، ومن به علينا. قال:((الله ما أجلسكم إلا ذلك؟)) قالوا: الله ما أجلسنا إلا ذلك. قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتإني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) رواه مسلم.
2279 -
وعن عبد الله بن بسر: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيءٍ أتشبث به. قال:((لا يزالُ لسانكَ رطبًا من ذكر الله)) رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ غريب.
2280 -
وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ: أيُّ العباد أفضلُ وأرفع درجة عن الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات)). قيل: يا رسول الله! ومن الغازي في سبيل الله؟ ((قال: ((لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دمًا، فإن الذاكر لله أفضل منه درجة)) رواه أحمد، الترمذي. وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريب.
ــ
فعله، وعلي هذا جل أقسام الله تعالي: وأكثر أقسام الرسول صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، وهو من هذا القبيل.
الحديث الثاني عن عبد الله: قوله: ((إن شرائع الإسلام)) ((نه)): الشريعة مورد الإبل علي الماء الجاري، وفي الشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، أي سنه لهم، وافترضه عليهم، والتنكير في بـ ((شيء)) للتقليل المتضمن لمعنى التعظيم، كقوله تعالي:{ورضوان من الله أكبر} معناه أخبرني بعمل يسير مستجلب لثواب كثير، فألازم عليه، وأعتصم به، ولم يرد بقوله:((كثرت علي)) أنه يترك ذلك رأسا، ويشتغل بغيره فحسب، وإنما أراد أنه بعد أداء ما افترض عليه يتشبث بما يستغنى به عن سائر ما لم يفترض عليه. وعدى ((كثرت)) بـ ((علي)) تضمينا لمعنى غلبتها إياه وعجزه عنها.
الحديث الثالث عن أبي سعيد: قوله: ((ومن الغازي)) فيه معنى التعجب، وهو عطف علي مقدر لأن تقدير السؤال: أي العباد أفضل من غيره؟، وتقرير الجواب الذاكرون الله أفضل من غيرهم، ((ومن الغازي)) عطف علي هذا. وقوله:((في الكفار)) من باب قوله: يجرح في عراقيبها نصلي، حيث جعل المفعول به مفعولا فيه مبالغة أي يوجد فيهم الضرب، ويجعلهم مكانا للضرب بالسيف. قوله:((فإن الذاكر لله أفضل)) تكرير للتأكيد والتقرير. وقوله: ((درجة)) يحتمل الوحدة والنوع، أي درجة عظيمة.
2281 -
وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيطان جاثم علي قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس)) رواه البخاري تعليقًا.
2282 -
وعن مالك، قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولُ: ((ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين، وذاكر الله في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس)) [2282].
2283 -
وفي رواية: ((مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر، وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم، وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حي، وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم)). والفصيح: بنو آدم، والأعجم: البهائم. رواه رزين.
2284 -
وعن معاذ بن جبلٍ، قال: ما عملَ العبدُ عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر اللهِ. رواه مالك، والترمذي، وابن ماجه.
ــ
الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((جاثم)) ((نه)) أصل الجثوم في الطير، والأرانب وما أشبههما مما يجثم بالأرض، أي يلزمها ويلتصق بها، وهو بمنزلة البروك للإبل. ((فا)) ((خنس)) انقبض وتأخر، هو من قوله تعالي:((ومن شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس)) ومعنى التعليق قد سبق.
الحديث الخامس عن مالك: قوله: ((ذاكر الله في الغافلين)) من باب الترديد. كرر ليناط به كل مرة ما لم ينط به أولا. قوله: ((كالمقاتل خلف الفارين)) شبه الذاكر الذي يذكر الله بين جماعة لم يذكروا، بالمجاهد الذي يقاتل الكفار بعد فرار أصحابه منهم، فالذاكر قاهر لجند الشيطان وهازم له، والغافل مقهور ومنهزم منه. ثم شبهه ثإنيا بالغصن الأخضر الذي يعد للإثمار، والغافل باليابس الذي تهيأ للإحراق. ثم شبهه ثالثا بالمصباح في مجرد كونه مضيئا في نفسه والغافل في مجرد الظلمة، كما في قول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها
…
سنن لاح بينهن ابتداع
شبه النجوم بالسنن في مجرد الإشراق، والبدع بالليل في مجرد الظلمة.
2285 -
وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ تعالي يقولُ: أنا معَ عبْدي إذا ذكرني، وتحركتْ بي شفتاهُ)) رواه البخاريُّ [2285].
2286 -
وعن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كانَ يقولُ:((لكل شيء صقالة، وصقالة القلوب ذكر الله، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله)). قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع)) رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)).
ــ
الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنا مع عبدي)) قيل: أي بالرحمة، والإعانة، والتوفيق. أقول: معنى المعية كناية عن القربة، والشرف، لما ورد ((أنا جليس من ذكرني)) كما يقال: فلان جليس السلطان، أي مقرب مشرف عنده والحديث أبلغ حيث لم يقل هو جليسي. وقوله:((وتحركت بي)) أي بذكري، فيه من المبالغة ما ليس في قوله: إذا ذكرني باللسان، هذا إذا كان الواو للحال، وأما إذا كان للعطف فيحتمل الجمع بين الذكر باللسان وبالقلب، وهذا الثاني أولي؛ لأن المؤثر النافع هو الذكر باللسان مع حضور القلب، وأما الذكر باللسان والقلب لاه، فهو قليل الجدوى.
الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((لكل شيء صقالة)) ((كل شيء)) عام خص بقينه العقل، أي لكل شيء مما يصدأ حقيقة ومجازا، فإن صداء القلوب الرين في قوله تعالي:((كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون)) بمتابعة الهوى، المعني بها في قوله تعالي:((أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)) فكلمة ((لا إله)) يخليها و ((إلا الله يحليها، وباقي الحديث مضى شرحه في الفصل الثاني في حديث أبي الدرداء.