الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4) باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له
الفصل الأول
1837 -
عن قبيصةَ بنِ مخارقٍ، قال: تحمَّلتُ حَمالة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألهُ فيها: فقال: ((أقِم حتى تأتينا الصدقةُ: فنأمُرَ لكَ بها))، ثمَّ قال: ((ياقبيصةُ! إنَّ المسألةَ لاتحِلُّ إِلَاّ لأحد ثلاثة: رجلٌ تحمَّلَ حمَالة فحلَّتْ لهُ المسألةُ حتى يُصيبَها ثمَّ يُمسِك. ورجلٌ أصابتهُ جائحةٌ اجتاحَتْ مالَه فحلَّتْ لهُ المسألةُ حتى يُصيبَ قوامًا من عيشٍ، أو قال: سِدادًا من عيشٍ، ورجلٌ أصابتهُ فاقةٌ حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي
ــ
باب من لاتحل له المسألة ومن تحل له
الفصل الأول
الحديت الأول عن قبيصة: قوله: ((تحملت حمالة)) أي تكفلت دينًا. ((مح)): الحمالة - بفتح الحاء - المال الذي يتحمله الإنسان، أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين، وإنما تحل له المسألة ويعطى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية.
قوله: ((حتى يصيبها)) الضمير ليس براجع إلي ((المسألة))، ولا إلي ((الحمالة)) نفسها بل إلي معناهما، أي يصيب ما حصل له من المسألة، أو ما أدى من الحمالة، وهي الصدقة. قوله:((جائحة)) ((نه)): الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال، وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة، وفتنة مثيرة. ((جائحة)) اسم فاعل من جاحته تجوحه إذا استأصلته.
قوله: ((قوامًا)): أي ما يقوم بحاجته الضرورية ((مح)): القوام والسداد - بكسر القاف والسين - وهما بمعنى ها هنا، وهو ما يغنى من الشيء، وما تسد به الحاجة، وكل شىء يسد به شىء فهو سداد بكسر السين.
أقول: بالغ في الكف عن المسألة، حتى شبه السائل بالمضطر الذي تحل له أكل الميتة إلي أن يسد رمقه، وأبلغ منه قوله:((حتى يقوم ثلاثة من ذوى الحجى)) حيث ((يقوم)) وضع موضع ((يقول))؛ لأن قوله: ((لقد أصابت فلانًا فاقة)) مقول للقول، فلا يناسب أن يقال: يقوم لقد أصابت فلانًا فاقة؛ لكن لاهتمام الشأن وضع ((يقوم)) بدل ((يقول))، جاعلا المقول حالا، أي يقوم تلاثة قائلين هذا القول. ولمزيد الاهتمام أبرزه في معرض القسم، وقيدهم بذوى العقول، حتى لايشهدوا عن تخمين، وجعلهم من قومه؛ لأنهم أعلم بحاله. وقال الشارحون: هذا ليس من باب الشهادة، ولا يريد به التنصيص علي أن الفاقة لا تثبت إلا بثلاثة شهود، إذ لم يسمع أن أحدًا من الأئمة قال به، ولم نجد لهذا العدد من الرجال مدخلا في شيء من الشهادات، بل
الحجى من قومه: لقد أصابَتْ فُلانًا فاقةٌ فحلَّتْ لهُ المسألةُ، حتى يُصيبَ قواما من عيشٍ، أو قالَ: سِدادًا من عَيشٍ. فما سِواهنَّ من المسألةِ يا قبيصةُ سحتٌ يأكلُها صاحبُها سُحتًا)). رواه مسلم.
ــ
لعله ذكره علي وجه الاستحباب وطريقة الاحتياط؛ ليكون أدل علي براءة السائل عن التهمة وأدعى للناس إلي سد حاجته.
((مح)): ((حتى يقوم)) هكذا في جميع نسخ مسلم، وهو صحيح. قال الصنعانى: كذا وقع في كتاب مسلم، والصواب ((يقول)) باللام، وكذا اخرجه أبو داود. أقول: قد سبق أن ((يقوم)) أبلغ، والمقام له أدعى، وحذف القول في الكلام الفصيح شائع، قال تعالي {وعرضوا علي ربك صفًا لقد جئتمونا} أي قلنا لقد جئتمونا.
قوله: ((سحت)) ((نه)): السحت هو الحرام الذي لايحل كسبه؛ لأنه يسحت البركة، أي يذهبها. ويقال: مال فلان سحت، أي لا شىء علي من استهلكه، ودمه سحت، أي لا شىء علي من سفكه. واشتقاقه من السحت، وهو الإهلاك، والاستئصال.
أقول: قوله: ((يأكلها صاحبها سحتًا)) صفة لـ ((سحت)) والضمير الراجع إلي الموصوف مؤنث علي تأويل الصدقة. وفائدة الصفة أن أكل السحت لايجد للسحت الذي يأكله شبهة تجعلها مباحًا علي نفسه، بل يأكلها من جهة السحت، كما في قوله تعالي:{ويقتلون النبيين بغير حق} أي يقتلونهم علي اعتقاد أن قتلهم مباح، وليس حق لهم عليهم. والتعريف في ((المسألة)) إما للعهد، فيكون الكلام في الزكاة، وإما للجنس، فيشمل التطوع والفرض. وقرينة الأولي التفصيل، لأن تحمل الحمالة لا يكون إلا للغارم، وإصابة الجائحة للثمار إنما يتصور في المساكين، وإصابة الفاقة للفقير. فإن قلت: ما وجه تخصيص ((من أصابته الجائحة)) بالمساكين، و ((من أصابته الفاقة)) بالفقير، وقد عقب كل بقوله ((حتى يقيم* قوامًا من عيش))؟ قلنا: الفرق ظاهر، فإن من أصابته الآفة السماوية، واستأصلت ثماره قد تبقى له الأرض والزرع، فيعطى ما يتقوم به من العيش، ولا يؤمر ببيع ما بقى وإنفاقه علي نفسه ولا يعنى بالمسكين إلا هذا. ومن ثم لم تطلب البينة في إصابة الجائحة لظهورها كما تطلب في إصابة الفاقة. وتبين من هذا الفرق بين الفقير والمسكين، فلما خصصت المسألة بالزكاة المفروضة، علم أن حكم التطوع غير هذا. فإن قلت: فلم خص هؤلاء بالذكر دون سائرهم؟ قلت: لاندراج البقية فيهم، فإذ الغارم، والغازى، والعامل، والمؤلفة قلوبهم يجمعهم معنى السعى في مصالح المسلمين، وأن الرقاب وابن السبيل من جنس الفقير والمسكين.
1838 -
وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سألَ النَّاسَ أموالهم تكثُّرًا، فإِنَّما يسألُ جَمْرًا، فليستَقِلَّ أو ليستكثِر)) رواه مسلم.
1839 -
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزالُ الرجلُ يسألُ النَّاسَ حتى يأتيَ يومَ القيامةِ ليس في وجهِهِ مُزعةُ لحمٍ)) متفق عليه.
ــ
((مظ)): من لم يقدر علي كسب لزمانة ونحوها جاز له السؤال بقدر قوت يومه، ومن قدر علي الكسب، وتركه لاشتغاله بتعلم العلم، تجوز له الزكاة والصدقة، ومن تركه للتطوع من الصلاة والصيام ونحوهما فلا تجوز الزكاة، ويكره له صدقة التطوع. وأما من تخلي في نحو رباط، واشتغل بالطاعة والرياضة، وتصفية الباطن، فيستحب لواحد منهم أن يسأل صدقة التطوع، وكسرات الخبز، واللباس لهم. وينبغى للسائل أن ينوى الكفاف لهم لا لنفسه إن لم يكن منهم، لكن لايكره أن يأكل معهم، وأن يترك الإلحاح بل يقول: من يعطى شيئًا لرضي الله، ولا يواجه أحدًا بعينه، فإن أعطى دعا، وإن لم يعط لم يسخط، ومن لم يقم بهذه الشرائط كان إثمه أكثر من أجره، ولا يجوز للسائل أن يأخذ لهم الزكاة لاقتدارهم علي الكسر.
الحديت الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أموالهم)) بدل اشتمال من ((الناس))، وقوله:((تكثيرًا)) مفعول له، وقد تقرر عند العلماء: أن البدل هو المقصود بالذات، وأن الكلام سيق لأجله، فيكون القصد من سؤال هذا السائل نفس المال، والإكثار منه، لا دفع الحاجة، فيكون مثل هذا المال كنزًا يترتب عليه قوله:((فإنما يسأل جمرًا)) ونحوه قوله تعالي: {والذين يكنزون الذهب والفضة - إلي قوله - يوم يحمى عليها} سمى التكثر جمرا؛ لأنه مسبب عنه، كقوله تعالي:{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارًا} .
قوله: ((فليستقل أو ليستكثر)) أي فليستقل الجمر أو ليستكثره، فيكون تهديدًا علي سبيل التهكم، أو فليستقل المسألة، فيكون تهديدًا محضًا كقوله:((فهن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)). ((مظ)): معنى التكثر الإكثار من قدر قوته. وقوله: ((فإنما يسأل جمرًا)) يعنى لايجوز له أن يأخذ الزكاة والصدقة أكثر من قوته، فإن أخذها يكون ذلك سببًا لنار جهنم. وقلت: وما ذهبنا إليه أشمل؛ لأنه يتناول الأصناف الثمإنية.
الحديت الثالث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((مزعة لحم)) أي قطعة يسيرة من اللحم. ((خط)): هذا يحتمل معنيين: أحدهما أنه يأتى يوم القيامة ساقطًا ذليلا، لا جاه له،
184، - * وعن معاويةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُلحِفوا في المسألة، فوالله لايسألُني أحدٌ منكم شيئًا فتُخرجُ له مسألتهُ منى شيئًا وأنا له كارهٌ؛ فيُبارَكَ لهُ فيما أَعطيتُه)). رواه مسلم.
ــ
ولا قدر، من قولهم: لفلان وجه في الناس، أي قدر ومنزلة. والثانى: أن يكون وجهه الذي يتلقى به الناس عظما لا لحم عليه، إما أن يكون لعقوبة نالت موضع الجناية، واما أن يكون علامة وشعارًا يعرف، لا لعقوبة مسته. وحقق المعنى الأول الشيخ التوربشتى حيث قال: عرفنا الله سبحانه أن الصور في الدار الآخرة تختلف باختلاف المعإني، قال الله تعالي:{يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فالذي يبذل وجهه لغير الله في الدنيا من غير ما بأس وضرورة، بل للتوسع والتكثر نصيبه شين في الوجه بإذهاب اللحم عنه؛ ليظهر للناس صورة المعنى الذي خفي عليهم منه. وأقول: يمكن أن يحقق المعنى الثانى، فإن كثرة اللحم في الوجه ونتوه يدل علي صفاقة الوجه ووقاحته، وهو أمارة الإلحاح، فيعاقب بنزعه عنه.
الحديث الرابع عن معاوية: قوله: ((لا تلحفوا)) ((نه)): أي لا تبالغوا فيها، يقال: ألحف في المسألة يلحف إلحافًا، إذا ألح فيها ولزمها. قوله:((فيبارك له)) ((شف)): بالنصب بعد الفاء علي معنى الجمعية، أي لا يجمع إعطائى أحدًا شيئًا وأنا كاره في ذلك الإعطاء، ويبارك الله في ذلك الذي أعطيته إياه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار)) بالنصب. وأقول: الحديث نظير قوله تعالي: {ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم} في وجه الإعراب لا في المعنى؛ لأن معناه الطرد المسبب عن الحساب منفي عنك، فكيف تطردهم؟ فالمنفي الفعل المعلل. وفي الحديث المعلل هو المنفي أي عدم السؤال الملح المخرج سبب البركة، فيفهم منه أن السؤال الملح سبب لعدم البركة، ولو روى بالرفع لم يفتقر إلي هذا التكلف، وجعله سببًا ومسببًا، بل يكون رفعًا علي الإشراك، كقوله تعالي:{ولايؤذن لهم فيعتذرون} .
((مح)): اتفق العلماء علي اللهي عن السؤال من غير ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر علي الكسب بوجهين، أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث، والثانى حلال مع الكرامة بثلاثة شروط: أن لايذل نفسه، ولايلح في السؤال، ولايؤذى المسئول، فإن فقد أحد هذه الشروط فحرام بالاتفاق.
1841 -
وعن الزُّبيرِ بنِ العوَّام، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((لأنْ يأخُذَ أحدُكم حبلَهُ فيأتيَ بحُزمة حطب علي ظهرِه، فيبيعَها، فيكفَّ اللهُ بها وجهَه، خيرٌ له من أن يسألَ النَّاسَ أعطوهُ أو منعوه)). رواه البخاري.
1842 -
وعن حكيمِ بن حزامٍ، قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأعطإني، ثم سألتُهُ فأعطإني، ثمَّ قالَ لي:((ياحكيمُ! إِنَّ هذا المالَ خَضِرٌ حلوٌ، فَمنْ أخذَهُ بسخاوة نفس بورِكَ لهُ فيه، ومن أخذَهُ بإشرافِ نفسٍ لم يُبارَكْ لهُ فيه، وكانَ كالَّذي يأكلُ ولايشبَعُ، واليَد العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفلي)). قال حكيمٌ: فقلتُ: يارسولَ اللهِ! والذي بعثَكَ بالحقِّ لا أرْزَأُ أحدًا بعدكَ شيئًا حتى أُفارقَ الدنيا. متفق عليه.
ــ
الحديث الخامس عن الزبير رضي الله عنه: قوله: {فيكف الله بها وجهه} ((مظ)): يعنى فيمنع الله وجهه علي أن يريق ماءه بالسؤال.
الحديث السادس عن حكيم بن حزام: قوله: ((إن هذا المال خضر حلو)) ((مح)): شبه المال في الرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة، فإن الأخضر مرغوب فيه من حيث النظر، والحلو من حيث الذوق، فإذا اجتمعا زاد في الرغبة. وفيه إشارة إلي عدم بقائه ووخامة عاقبته. قال القاضى عياض: في سخاوة النفس احتمالان: أظهرهما أنه عائد علي الأخذ، ومعناه من أخذه بغير سؤال، ولا إشراف وطمع، بورك له فيه. والثانى: أنه عائد إلي الدفع، ومعناه: من أخذه ممن يدفعه منشرحًا بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا يطيب معه نفس الدافع.
وأقول: لما وصف المال بما تميل إليه النفس الإنسإنية بجبلتها رتب عليها بالفاء أمرين أحدهما: تركها مع ماهي مجبولة عليها من الحرص، والشره، والميل إلي الشهوات. وإليه أشار بقوله:((ومن أخذه بإشراف نفس)). وثإنيهما: كفها عن الرغبة فيها إلي ما عند الله من الثواب، وإليه أشار بقوله ((بسخاوة نفس)) فكنى في الحديث بالسخاوة عن كف النفس من الحرص والشره، كما كنى في الآية بتوقى النفس من الشح والحرص المجبولة عليه عن السخاء؛ لأن من توقى من الشح يكون سخيًا، مفلحًا في الدارين ((ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)).
قوله: ((كان كالذي يأكل)) ((خط)): يريد أن سبيله سبيل من يأكل من ذى سقم وآفة،
1843 -
وعن ابنِ عمرَ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو علي المنبرِ وهو يذكرُ الصدقة والتعفُّفَ عن المسألةِ:((اليدُ العليا خيرٌ من اليد السُّفلي، واليدُ العُليا المُنفِقَة واليد السُّفلي هي السَّائلةُ)). متفق عليه.
ــ
فيزداد سقما، ولايجد شبعًا، فينجع فيه الطعام. قوله:((واليد العليا)) سيجىء البحث مستوفي في الحديث الذي يليه.
قوله: ((لا أرزأ أحدًا بعدك)) ((نه)): أي لا أنقص بعدك مال أحد بالسؤال عنه، والأخذ منه من الرزء، وهو النقصان، يقال: مارزأته ماله، أي ما نقصته. ويمكن أن يكون معناه: بعد سؤالك هذا. ويمكن أن يكون بمعنى غيرك.
أقول: اعلم أن تنزيل الرزء بمعنى النقصان علي اليد العليا، كما فسره صلى الله عليه وسلم تارة باليد المنفقة، وأخرى بالمتعففة في الحديت الذي يليه هو أن يقال: لما سمع أن اليد العليا أي اليد المنفقة التي نقص ما فيها من المال خير، بسبب تجريدها من اليد الآخذة بسبب ما سلب عنها صفة التجريد - قال مقسما بالله: لا أنقص مال أحد حتى يسلب عني صفة التجريد، أو سمع أن اليد المتعففة عن السؤال بسبب استغنائها عزيزة عند الناس {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} وأن اليد السائلة بخلافها ذليلة - قال: لا أنقص من مال أحد حتى تحصل لي صفة المذلة والهوان.
الحديث السابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((والتعفف)) تعفف بمعنى استعف، كتعجل بمعنى استعجل. ((نه)): الاستعفاف: طلب العفاف والتعفف: وهو الكف عن الحرام، والسؤال من الناس. وقيل: الاستعفاف: الصبر والنزاهة عن الشيء.
قوله: ((اليد العليا هي المنفقة والسفلي هي السائلة)) ((مح)): هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم، وكذا ذكره أبو داود عن أكتر الرواة، وفي أخرى له عن ابن عمر:((العليا المتعففة)) من العفة، رجح الخطأبي هذه الرواية قال: لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها. قال النواوى: وقلت: الصحيح الرواية الأولي، ويحتمل صحة الروايتين فالمنفقة أعلي من الأخذة، والمتعففة أعلي من السائلة. وفي هذا الحديث دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة، والمراد بالعلو: علو الفضل والمجد. وقيل: الثواب.
وأقول: تحرير ترجيح الخطأبي رواية ((اليد العليا هي المتعففة)) أن يقال: إن قوله: ((وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة)) كلام مجمل في معنى العفة عن السؤال. وقوله: ((اليد العليا خير من اليد السفلي)) بيان له، وهو أيضًا مبهم، فينبغى أن يفسر بالعفة ليناسب المجمل،
1844 -
وعن أبي سعيد الخدري، قال: إِنَّ أناسًا من الأنصارِ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهُمْ، ثم سألوه فأعطاهُمْ، حتى نَفد ماعندَه. فقال:((ما يكونُ عندي من خيرٍ فلَنْ أدَّخِرهُ عنكم، ومنْ يستَعِفَّ يعِفَّهُ الله، ومن يستَغْنِ يُغنِهِ اللهُ، ومنْ يتصبَّرْ يُصبره الله، وما أعطيَ أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسعُ من الصبر)). متفق عليه.
1845 -
وعن عمرَ بنِ الخطَّاب، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعطيني العطاءَ، فأقولُ: أَعطِهِ أفقرَ إِليه مني. فقال: ((خذهُ فتمولْهُ، وتصدَّق به، فما جاءكَ من هذا المالِ وأنتَ غيرُ مشرفٍ ولا سائِلٍ؛ فخذهُ. ومالا؛ فلا تُتبعْه نفسَك)). متفق عليه.
ــ
وتفسيره باليد المنفقة غير مناسب للمجمل. وتحقيق الجواب: هذا إنما يتم إذا اقتصر علي قوله: ((اليد العليا هي المنفقة))، ولم يعقبه بقوله:((واليد السفلي هي السائلة)) لدلالتهما علي علو المنفقة، وسفالة السائلة ورذالتها، وهي مما يستنكف منها، ويتعفف عن الاتصاف بها، فظهر من هذا أن رواية الشيخين أرجح من إحدى روايتى أبي داود نقلا ودراية؛ لأنها حينتذ من باب الكناية، وهي أبلغ من التصريح، فيكون أرجح.
الحديث الثامن عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((ما يكون عندى)) ((ما)) موصولة متضمنة معنى الشرط؛ فلذا صح دخول الفاء في خبره. فيه من المبالغة ما انتهي غايتها؛ لأنه رتب عدم الادخار علي جمع المال، إذ لا يصدر مثل هذا إلا عن مبذال أريحى لايخاف الفقر.
قوله: ((يعفه الله)) يريد أن من طلب من نفسه العفة عن السؤال، ولم يظهر الاستغناء يعفه الله، أي يصيره عفيفًا. ومن ترقى من هذه المرتبة إلي ماهو أعلي من إظهار الاستغناء من الخلق، لكن إن أعطى شيئًا لم يرده، فيملأ الله قلبه غنى، ومن فاز بالقدح المعلي وتصبر، وإن أعطى لم يقبل فهو هو.
((مح)): ((خير)) مرفوع في جميع نسخ مسلم، وهو صحيح، وتقديره: هو خير كما وقع في رواية البخاري وفي رواية ((خيرًا)). أقول: وقوله: ((عطاءً)) بمعنى معطى أي شيئًا، وقوله:((هو خير)) صفته. وكذلك ((خيرًا)) نصبًا صفة، فالمعنى: إن الله تعالي أعطى كل شىءٍ خلقه، وما أعطى أحدًا شيئًا خيرًا من الصبر، لأنه جامع لمكارم الأخلاق.
الحديث التاسع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((فتموله)) ((مظ)): أي اقبله وأدخله في ملكك ومالك، والإشارة بقوله:((من هذا المال)) إلي جنس المال، أو إلي ذلك المال. والظاهر أنه أجرة عمل عمله في سعى الصدقة، كما ينبئُ عنه حديث ابن الساعدى في الفصل الثالث من
الفصل الثاني
1846 -
عن سَمُرةَ بنِ جندب، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((المسائلُ كُدوحٌ يكدَحُ بها الرجلُ وجهَه، فمن شاء أبقى علي وجههِ، ومن شاء تركه، إِلا أنْ يسألَ الرَّجلُ ذا سُلطانٍ أو في أمرٍ لا يجِدُ منهُ بُدًا)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. [1846]
1847 -
وعن عبد الله بنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من سألَ النَّاسَ ولهُ ما يغنيهِ، جاءَ يومَ القيامةِ ومسألتهُ في وجهِهِ خموشٌ أو خدوشٌ، أو كدوحٌ)).
ــ
هذا الباب، والإشراف علي الشيء: الاطلاع عليه، والتعرض له، والمراد وأنت فير طامع فيه، ولا طالب له. قوله:((وما لا)) أي وما لا يكون علي هذه الصفة بل تكون نفسك تؤثره وتميل إليه فلا تتبعه نفسك، واتركه، فحذف هذه الجملة لدلالة الحال عليها.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن سمرة: قوله: ((المسائل كدوح)) - بالضم - جمع الكدح، كضرب وضروب. ((نه)): الكدوح: الخدوش وكل أثر من خدش أو عض فهو كدحٌ. ويجوز أن يكون مصدرًا سمى به الأثر. والكدح في غير هذا السعى والحرص والعمل. ((مظ)): الكدوح - بفتح الكاف - مبالغة مثل صبور، وهو من الكدح بمعنى الجرح، يكدح بها الرجل، أي يهريق بالسؤال ماء وجهه، فكأنه جرحه.
أقول: ذهب إلي أن حمل الخبر علي المبتدأ من باب الإسناد المجازى؛ فإن الكدوح هو السائل، وعلي الضم الحمل، من باب التشبيه، شبه أثر ذلة السؤال في وجه السائل بأثر الجرح عليه. هذا مستقيم، وعليه مدار التركيب، لكن المطابقة بين المبتدأ والخبر مفقودة للجمع والإفراد. وإنما جمع ((المسائل)) ليفيد اختلاف أنواعها، ومن ثم استثنى بقوله:((إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان)) أي ذا حكم وملك بيده بيت المال؛ فإنه يجوز له أن يسأل حقه من بيت المال. ((خط)): وليس هذا علي استباحة الأموال التي تحويها أيدى بعض السلاطين من غصب أموال المسلمين. ((مح)): اختلفوا في عطية السلطان، فحرمها قوم وأباحها قوم، وكرهها قوم. والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يده، حرمت، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع من استحقاق الأخذ. قوله:((أو في أمر لا يجد منه بدًا)) قيل: أي من حمالة، أو جائحة، أو فاقة علي ماسبق في حديث قبيصة.
الحديث الثانى عن عبدالله: قوله: ((خموش أو خدوش)) ((مظ)): هذه الألفاظ كلها متقاربة المعنى، وشك الراوى في تلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي لفظ من هذه الألفاظ. وذهب التوربشتى
قيل: يارسولَ اللهِ! وما يغنيه؟ قال: ((خمسون درهمًا أو قيمتُها من الذهبِ)). رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه، والدارمي [1847].
1848 -
وعن سهلِ بنِ الحنظليَّة، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سألَ وعندَه ما يُغنيه فإِنَّما يَستكثِرُ منَ النَّارِ)). قال النُّفَيْليُّ، وهوَ أحدُ رُواتِه، في موضعٍ آخرَ: وما الغنِى الذي لا ينبَغي معَه المسألَةُ؟ قال: ((قَدْرَ ما يُغدِّيهِ ويُعشيه)). وقال في موضعٍ آخرَ ((أنْ يكونَ له شبعُ يومٍ، أو لَيلةٍ ويوْمٍ)). رواه أبو داود [1848].
ــ
والقاضى: أن الألفاظ مباينة المغزى، و ((أو)) للتنويع لا للشك. فالخدش: قشر الجلد بعود ونحوه، والخمش: قشره بالأظفار، والكدح: العض. وهي في أصلها مصادر، لكنها لما جعلت أسماء للآثار جوز جمعها. ولما كان السائل علي ثلاثة أصناف: مقل، ومفرط، ومتوسط، ذكر هذه الآثار الثلاثة المتفاوتة بالشدة والضعف، أوردها للتقسيم لا للارتياب.
قوله: ((خمسون درهمًا)) ((قض)) الحديث بظاهره يدل علي أن من ملك خمسين درهمًا أو عدلها أو مثلها من جنس آخر، فهو غنى لايحل له السؤال وأخذ الصدقة. وبه قال ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق رضي الله عنهم. والظاهر أن من وجد قدر ما يغديه ويعشيه علي دائم الأوقات وفي أغلب الأوقات، فهو غنى، كما ذكر في الحديث الذي بعده، سواء حصل له ذلك بكسب يد، أو تجارة، لكن لما كان الغالب عليهم التصرف والتجارة، وكان يكفي هذا القدر أن يكون رأس مال يحصل بالتصرف فيه ما يسد الحاجة في غالب الأمر قدره تخمينًا في هذا الحديث، وقدر في الحديث الثالث ما يقرب منه، وقال:((من سأل منكم وله أوقية أو عدلها)) والأوقية يومئذ أربعون درهمًا. فعلي هذا لا تنافي بينهما، ولا نسخ. وقيل: حديث ((ما يعيشه)) منسوخ بحديث ((الأوقية)) وهو بهذا الحديث، ثم هو منسوخ بما روى مرسلا أنه قال:((ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق، فقد سأل إلحافًا)) وعليه أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله.
((مظ)): من كان له قوت غدائه وعشائه، لايجوز له أن يسأل في ذلك اليوم صدقة التطوع، وأما الزكاة المفروضة فيجوز للمستحق أن يسألها بقدر ما يتم له نفقة سنة لنفسه وعياله وكسوته؛ لأن تفريق الزكاة لا يكون في السنة إلا مرة.
الحديث الثالث إلي الخامس عن حبشى: قوله: ((فقر مدقع)) ((نه)): أي شديد يفضى بصاحبه إلي الدقعاء، وهي التراب. ((تو)): أي لايكون عنده ما ينفي به التراب.
1849 -
وعن عطاء بن يَسارٍ، عن رجلٍ من بنى أسَد، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سألَ منكم وله أوقِيَّةٌ أوْ عِدْلُها؛ فقدْ سألَ إِلحْافًا. رواه مالك، وأبو داود، والنسائي. [1849]
185، - * وعن حُبشيِّ بنِ جنادةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المسألةَ لاتَحِلُّ لِغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ؛ إِلا لذِي فَقْرٍ مُدْقعٍ، أوْ غُرم مُفظِع. ومن سأل النَّاسَ ليُثرِي به مالَه؛ كانَ خموشًا في وجهه يومَ القيامةِ، ورَضْفًا يأكله من جهنَّمَ، فمن شاءَ فليُقِلَّ، ومَنْ شاءَ فلْيُكثِرْ)). رواه الترمذي. [185،]
1851 -
وعن أنسٍ: أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسألُهُ؛ فقال: ((أمَا في بيتِكَ شيءٌ؟)) فقال: بَلي حلْس نلبَسُ بعضَه ونبسطُ بعضَه، وقَعْبٌ نشرَبُ فيهِ منَ الماء. قال:((ائتني بهما))، فأتاهُ بهما، فأخذَهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال ((مَنْ يشتري هذَينِ؟)) قال رجلٌ: أنا آخذُهما بدرهمٍ. قال: ((من يزِيدُ علي درهمٍ؟)) مرَّتينِ أو ثلاثًا، قال رجلٌ: أنا آخذُهما بدرهَمينِ؛ فأعطاهُما إيَّاه. فأخذَ الدَّرهمَينِ فأعطاهُما الأنصارِيَّ، وقال: ((اشترِ بأحدِهما طعامًا فانْبِذْه إِلي أهلكَ، واشتر بالآخَرِ قَدُومَا،
ــ
قوله: ((أو غرم مفظع)) ((نه)): أي شديد شنيع، والمراد بهذا الغرم ما استدان لنفسه ولعياله في مباح. ((الرضف)): الحجر المحمى، فجعل أكل الزكاة بغير استحقاق مبتلعًا، كما جعل مانعها محمى علي جبهته وجنبه وظهره لإعراضه عن حكم الله، وعدم تلقيه بالقبول، واتكاله علي ماله.
الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((حلس)) الحلس: الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب. القعب: قدح من خشب مقعر. قوله: ((فانبذ إلي أهلك)) أي ارم إليهم ليشتغلوا به، لتفرغ إلي مهمك من الكسب بحيت لا أرينك خمسة عشر يومًا، إنه صلى الله عليه وسلم نهي نفسه عن أن يراه هذه المدة، والمراد نهي الرجل عن أن يحضر ويترك ما يهمه من الاكتساب والاحتطاب.
قوله: ((أو لذى دم موجع)) ((نه، فا)): هو أن يتحمل دية فيسعى فيها حتى يؤديها إلي أولياء المقتول، وإن لم يؤدها قتلوا المتحمل عنه، وهو أخوه أو حميمه، فيوجعه قتله.
فإن قلت: كيف طريقته عند علماء البيان؟ قلت: الدم كناية تلويحية عن القاتل؛ لأن من قوله: ((لاتصلح المسألة إلا لذى دم)) علم أن هناك غرامة شرعًا. ودل ذلك علي أنها واردة علي
فأتنِي به))، فأتاهُ به. فشدَّ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيدِه، ثمَّ قال:((اذهبْ فاحتطِبْ وبِعْ، ولا أَرَينَّكَ خمسةَ عشرَ يومًا)) فذهبَ الرجلُ يحتَطِبُ ويَبيعُ، فجاءَه وقد أصابَ عشرةَ دراهَم، فاشترى ببَعضها ثوبًا وببعضها طعامًا. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((هذا خيرٌ لكَ منْ أنْ تجىءَ المسألَةُ نُكتْةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ. إِنَ المسألةَ لا تَصلُحُ إِلا لثلاثةٍ: لذِي فَقرٍ مُدقعٍ، أو لذِي غُرْم مُفظعٍ، أوْ لذي دمٍ مُوجعٍ)) رواه أبو داود، وروى ابن ماجه إلي قوله:((يوم القيامةِ)) [1851].
1852 -
وعن ابنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أصابتْه فاقَةٌ فأنزلَها بالناس؛ لم تُسدَّ فاقتُه. ومَنْ أنزلهَا بالله، أوْشكَ الله له بالغنى، إِمَّا بموتٍ عاجلٍ، أوْ غنى آجلٍ)). رواه أبو داود، والترمذى [1852].
ــ
قاتل متحمل عليه الغرامة، ثم وصفه بالموجع كناية أخرى رمزية عن كون القاتل أخاه، إما من جهة القرابة أو الدين، كقوله تعالي:{فمن عفي له من أخيه شىءٌ} لأن وجع القلب مستلزم لقتل الشقيق.
الحديت السابع عن ابن مسعود: قوله: ((من أنزلها بالله)) قال في أساس البلاغة: نزل بالمكان، ونزل من علو، ومن المجاز نزل به مكروه، وأنزلتُ حاجتى علي كريم.
أقول: ففي الكلام استعارة تمثيلية؛ لأن الفاقة معنى، وقد نسبت إلي الإنزال، والإنزال يستدعي جسما ومكانًا، شبه حال الفاقة واستكفاء معرتها من الله تعالي بالتوكل عليه، والوثوق به بحال من اضطره المكروه إلي نزول مكان يلتجىء إليه، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان مستعملا في المشبه به من الإنزال بالمكان ليكون قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة. وفي معناه قوله تعالي:{ومن يتوكل علي الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره} وبلوغ أمره إما بموت عاجل أو غنى عاجل. ((تو)) المعنى: أوشك الله له بالغنى، أي أسرع غناه. الغناء - بفتح الغين – الكفايةُ، من قولهم: لايغنى غناء - بالمد والهمز - ومن رواه بكسر الغين مقصورًا علي معنى اليسار، فقد حرف المعنى؛ لأنه قال: تأتيه الكفاية عما هو فيه إما بموت عاجل أو غنى عاجل.
أقول: كذا في أكثر نسخ المصابيح، وجامع الأصول، وفي سنن أبي داود، والترمذى ((أو غنى آجل)) وهو أصح دراية كقوله تعالي:{إن يكونوا فقراء يغنهم الله} .
الفصل الثالث
1853 -
عن ابن الفِراسيِّ، أنَّ الفِراسيَّ قال: قلتُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أسْألُ يا رسولَ الله؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا، وإنْ كنتَ لابدَّ فسَلِ الصَّالحينَ)). رواه أبو داود، والنسائي.
1854 -
وعن ابنِ السَّاعديِّ قال: استعملَني عمرُ علي الصدَقةِ، فلمَّا فرَغتُ منها وأدَّيتُها إِليه، أمرَ لي بعُمالةٍ، فقلتُ: إِنّما عَملِتُ للهِ، وأجْري علي اللهِ، قال: خُذْ ما أُعطيِتَ، فإني قدْ عَمِلتُ علي عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعمَّلني، فقلتُ مثلَ قولِكَ، فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((إِذا أُعطيِتَ شيئًا منْ غيرِ أن تسألَهُ فكُلْ وتَصَدَّقْ)) رواه أبو داود. [1854]
1855 -
وعن علي رضي الله عنه، أنَّه سمعَ يومَ عرَفةَ رجلاً يسألُ النَّاسَ. فقال: أفي هذا اليومِ، وفي هذا المكانِ تسألُ منْ غَيرِ اللهِ؟! فخفقَه بالدِّرَّة .. رواه رزين.
ــ
الفصل الثالث
الحديث الأول عن ابن الفراسى: قوله: ((أسأل)) أي أأسأل؟. قوله ((وإن كنت)) عطف علي محذوف، أي لا تسأل الناس وتوكل علي الله تعالي علي كل حال، وإن كان لابد لك من سؤال فاسأل الصلحاء. وخبر ((كان)) محذوف، و ((لابد)) معترضة مؤكدة بين الشرط والجزاء. وفي وضع ((الصالحين)) موضع الكرماء إشارة إلي كل ما يمنحونه، وصون عرض السائل صونا ما؛ لأن الصالح لا يمنح إلا من الحلال، ولا يكون إلا كريمًا، لا يهتك العرض.
الحديث الثانى عن ابن الساعدى: قوله: ((بعمالة)) ((مح)): هي بضم العين: مال يعطى العامل علي عمله، و ((عملنى)) بالتشديد أي أعطانى أجرة عملي. وفي هذا الحديث جواز أخذ العوض علي أعمال المسلمين، سواء كانت لدين أو لدنيا، كالقضاء، والحسبة وغيرهما، واختلف العلماء فيمن جاءه مال، هل يجب قبوله أو يندب علي ثلاثة مذاهب، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه مستحب إذا كان حلالا.
الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه: قوله: ((أفي هذا اليوم)) أدخل همزة الإنكار علي ظرف الزمان، وأتبعه ظرف المكان، وقدمهما علي عاملهما لمزيد الإنكار، المعنى: إن السؤال من غير الله منكر، لاسيما في يوم الحج الأكبر، وفي مكان يجتمع فيه وفد الله وزوار بيته. ونحوه
1856 -
وعن عمرَ رضي الله عنه، قال: تعلَمُنَّ أيُّها الناسُ! أنَّ الطمعَ فقْرٌ، وأنَّ الإياسَ غنى، وأنَّ المرءَ إذا يئِسَ عنْ شيءٍ استَغْنى عنه. رواه رَزين.
1857 -
وعن ثَوبْانَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يكفَلُ لي أنْ لا يَسألَ النَّاسَ شيئًا، فأتكفَّلُ له بالجنَّةِ؟)) فقال ثوبانُ: أنا؛ فكانَ لا يَسألُ أحدًا شيئا. رواه أبو داود، والنسائي [1857].
ــ
قوله تعالي: {أبِا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون} [خطأَهم] موقع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف الإنكار. ويلحق به سؤال المساجد؛ لأن الساجد لم تبن إلا للعبادة. قوله:((فخفقه بالدرة)) الخفق الضرب بالشىء العريض.
الحديث الرابع عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((تعلمن أيها الناس)) أي لتعلمن كقوله: محمد تفقد نفسك. وفيه شذوذان: إيراد اللام في أمر المخاطب المبنى للفاعل، وحذفها مع العمل. ويحتمل أن يقال: إنها جواب قسم، واللام المقدرة هي المفتوحة، أي والله لتعلمن، يعني إذا رجعتم إلي أنفسكم وتأملتم حق التأمل، وجدتم الأمر علي ما أقول. و ((أيها الناس)) نداء عام متناول لجميع الأفراد، وقريب هذا النداء من قولهم إنا نفعل كذا أيتها العصابة، من حيث الاختصاص. والأقرب إلي الذوق أن لا يعمم هذا النداء؛ وأن لا تجعل اللام للاستغراق، بل يصرف الخطاب إلي الإنسان الكامل الحقيقى؛ وعلي هذا يكون حمل قوله ((لتعلمن)) علي جواب القسم ظاهرًا.
قوله ((وإن الإياس غنى)) قال ماحب المغرب: الإياس بمعنى اليأس، والواو في قوله:((وإن المرأ إذا يئس)) إلي آخره داخلة بين المفسِّر والمفسَّر، كقولك: أعجبنى زيد وكرمه. قوله: ((الطمع فقر)) تشبيه بحذف الأداة، والمعنى الجامع: كما أن الفقير لم يزل عنه الاحتياج كذلك الطامع الحريص لا يشبع، وكذا الغنى من اكتفي بما عنده عن الناس، كذلك الآيس القانع.
الحديث الخامس عن ثوبان: قوله: ((من يكفل لي)) أي من يضمن لي، من الكفالة، وهي الضمان. وقوله:((أن لا يسأل)) أن مصدرية، والفعل معها مفعول ((يكفل)) أي من يلتزم لي علي نفسه عدم السؤال. وفيه دلالة علي شدة الاهتمام بشأن الكف عن السؤال.
((حس)): عن معمر عن عائشة أنها كانت تقول: تعاهدوا ثوبان فإنه لا يسأل أحدًا شيئًا، قال: وكانت تسقط منه العصا، أو السوط، فما يسأل أحدًا أن يناوله، حتى ينزل فيأخذه.
1858 -
وعن أبي ذر، قال: دَعإني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوَ يشترطُ عَليَّ: ((أنْ لا تسأل الناسَ شيئًا))، قلتُ: نعمْ. قال: ((ولا سَوْطَكَ إِنْ سقطَ منكَ حتى تنزِلَ إِليه فتأخذَهُ)). رواه أحمد. [1858]
(5)
باب الإنفاق وكراهية الإمساك
الفصل الأول
1859 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لي مثلُ أُحدٍ ذهبًا، لسَرَّني أنْ لا يُمرَّ علي ثلاثُ ليالٍ وعندي منه شيءٌ، إِلا شيءٌ أُرْصِدُه لِدَيْنٍ)). رواه البخاريُّ.
186، - * وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((ما مِنْ يوْمٍ يُصبحُ العبادُ فيهِ؟ إِلا
ــ
الحديث السادس عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وهو يشترط علي)) ((علي)) - بالتشديد، و ((أن)) في قوله:((أن لا يسأل)) مفسرة دالة علي النهي، لما في ((يشترط)) من معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية.
باب الإنفاق وكراهية الإمساك
الفصل الأول
الحديت الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((لسرني)) جواب ((لو)) الامتناعية، فيفيد أنه لم يسره المذكور بعده، لما أنه لم يكن عنده مثل أحد ذهبًا، وفيه مبالغة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يسره كثرة مال ينفعه دينًا ودنيا، فكيف بما لا منفعة فيه؟ وفي التقييد بقوله:((ثلاث ليا)) تتميم ومبالغة في سرعة الإنفاق، فلا تكون ((لا)) في قوله:((أن لا يمر)) زائدة كما في قوله تعالي: {ما منعك أن لا تسجد} علي ما ذهب إليه المالكى في الشواهد والتوضيح.
وقوله: ((إلا شىءٌ أُرصِدُه)) أي أعده وأحفظه، استثناء من قوله:((شىءٌ)) وجاز؛ لأن المستثنى منه مطلق عام، والمستثنى مقيد خاص. ووجه رفعه أن المستثنى منه في سياق النفي؛ لما مر أن جواب ((لو)) هاهنا في تقدير النفي كما في قوله تعالي:{ويأبي الله إلا أن يتم نوره} علي أنه يجوز أن يحمل علي النفي الصريح في ((أن لا يمر)) وعلي حمل - ((إلا)) علي الصفة.
مَلَكانِ يَنزِلانِ، فيقولُ أحدُهما: الهُمَّ أعطِ مُنفِقًا خلفًا، ويقول الآخرُ: اللهُمَّ أعطِ مُمْسِكًا تلَفًا)). متفق عليه.
1861 -
وعن أسماءَ، قالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أنْفقِي ولاتُحْصِي فيُحصى اللهُ عليكِ، ولا تُوعي فيُوعي الله عليكِ، ارْضَخي ما استَطعتِ)). متفق عليه.
1862 -
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال اللهُ تعالي: أَنْفِقْ يا بنَ آدمَ أُنفِقْ علَيكَ)). متفق عليه.
ــ
الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((ما من يوم)) ((ما)) بمعنى ليس، و ((يوم)) اسمه، و ((من)) زائدة، و ((يصبح العباد)) صفة ((يوم))، و ((ملكان)) مستثنى من متعلق محذوف هو خبر ((ما)) المعنى: ليس يوم موصوف بهذا الوصف ينزل فيه أحد إلا ملكان يقولان: كيت وكيت. فحذف المستثنى منه، ودل عليه بوصف الملكين بـ ((ينزلان)). ونظيره في مجئ الموصوف مع العفة بعد إلا في الاستثناء المفرغ قولك: ما اخترت إلا رفيقًا منكم، التقدير: ما اخترت منكم أحدًا إلا رفيقًا، وهو من أمثلة ((كتاب المفتاح)).
قوله ((خلفا)) ((نه)): أي عوضًا، يقال: خلف الله لك خلفًا بخير، وأخلف عليك خيرًا، أي أبدلك بما ذهب منك، وعوضك منه. ((وأعط)) الثاني مشاكلة للأول.
الحديث الثالث عن أسماء: قوله: ((ولا تحصى)) ((تو)): الإحصاء الإحاطة بالشىء حصرًا وتعددًا، والمراد به ها هنا عد الشىء للتبقية، وادخاره للاعتداد به، وترك الإنفاق منه في سبيل الله. وقوله:((فيحصى الله عليك)) محتمل لوجهين: أحدهما أنه يحبس عنده مادة الرزق، ويقلله بقطع البركة حتى يصير كالشىء المعدود، والآخر: أنه يحاسبك عليه في الآخرة.
قوله: ((ولا توعى)) الإيعاء: حفظ الأمتعة بالوعاء، وجعلها فيه. والمراد به أن لا تمنعي فضل الزاد عمن افتقر إليه، فيوعي الله عنك، أي يمنع عنك فضله، ويسد عليك باب المزيد.
أقول: ويمكن أن تنزل هاتان القرينتان أعنى ((لا تحصى فيحصى الله عليك ولا توعى فيوعي الله عليك)) علي نفي تينك القرينتين، أعنى: اللهم أعط منفقًا خلفًا، وممسكًا تلفًا. ويقال: إنه لم يعلم من قوله: ((أعط منفقًا خلفًا)) كمية الإنفاق، فبين بقوله:((لا تحصى)) أن المراد منه الكثرة دون القلة؛ لأن الإيعاء من العبد: الإمساك، ومن الله: التلف إما بالحادثة، أو الوارثة. ففيه المشاكلة بين قوله:((فيحصى الله عليك))، وبين قوله:((فيوعى الله عليك))، لأن الأصل أن يقال: فيوعى الله عنك - كما مر - فلما بين لها حالة الإعسار والإنفاق فيها، أتبعها بحالة الإعسار، أي لا تتركى الإنفاق حالئذ ما استطعت. والرضخ: العطية القليلة.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أنفق)) ((غب)): نفق الشيء مضى ونفد، ونفقت الدابة نفوقًا إذا ماتت، ونفقت الدراهم: إذا فنيت. أقول: فقوله: ((أنفق عليك))
1863 -
وعن أبي أُمامةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بنَ آدمَ! إنْ تبذُلِ الفَضْلَ خيرٌ لكَ، وإنْ تُمْسِكهُ شرٌّ لكَ، ولا تُلامُ علي كفَافٍ، وابدأْ بمنْ تَعُولُ)). رواه مسلم.
1864 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ البَخيلِ والمتصدِّقِ، كمثَلِ رجُلينِ عليهِما جُنَّتانِ من حديدٍ، قد اضطُرَّت أيديهما إلي ثُديِّهما وتراقيهما، فجعلَ المتصدِّقُ كلما تصدَّقَ بصدقةٍ انبسَطتْ عنه، والبخيلُ كلما همَّ بصدقةٍ قَلصَتْ، وأخذَتْ كلُّ حلْقة بمكانها)). متفق عليه.
ــ
مشاكلة؛ لأن إنفاق الله تعالي لا ينقص من خزانته شيئًا. قال: ((يد الله ملأي، لا تغيضها نفقة سحا الليل والنهار))، وإليه يلمح قوله تعالي:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} .
الحديث الخامس عن أبي أمامة: قوله: ((إن تبذل الفضل)) مبتدأ و ((خير)) خبر، أي بذل الزيادة علي قدر الحاجة خير لك، وإمساكه شر لك، وإن حفظت من مالك قدر حاجتك لا لوم عليك، وإن حفظت ما فضل علي قدر حاجتك، فأنت بخيل، والبخيل ملوم.
قوله: ((وابدأ بمن تعول)) ((نه)): يقال: عال الرجل عياله يعولهم: إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما. فإن قلت: قوله: ((ابدأ بمن تعول)) إن تعلق بقدر حاجة العيال وكفافهم، لا يستقيم؛ لأن البدءَ يقتضى الترتيب، والانتهاء إلي غير العيال، وكذا إن تعلق بالفضل عن كفافهم؛ لما يلزم منه أن ما يفضل عنهم ينفق عليهم. قلت: الوجه أن يفسر الفضل بما يزيد علي ما يحصل منه الكفاف، فحينئذ يبدأ بالأهم فالأهم. ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة ((خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول)) وعلي هذا يحسن قوله: ((ولا تلام علي كفاف)) أي لا تذم إن حفظت رأس مال تنفق من ربحه، فكأنه صلى الله عليه وسلم رخص هذا القدر من المال، لمن لاقوة له في التوكل التام. وإنما سمى كفافًا؛ لأنك تكف به وجهك عن الناس، قاله في الفائق. وقيل: الكفاف: ما لا يفضل عن الشىء، ويكون بقدر الحاجة إليه.
الحديث السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((جنتان)) ((نه)): أي وقايتان. ويروى بالباء الموحدة، تثنية جبة اللباس، وكذا في شرح السنة روى بهما. ((مح)):((جنتان)) بالنون في هذا الموضع بلا شك ولاخلاف. أقول: وهو أنسب؛ لأن الدرع لا يسمى جبة بالباء بل بالنون، وأنشد الأعشى:
1865 -
وعن جابرٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظُّلْمَ؛ فإِنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يومَ القيامةِ. واتقوا الشُّحَّ؛ فإِنَّ الشُّحَّ أهلَك مَنْ كانَ قبلكم: حمَلهم علي أنْ سَفكوا دِماءَهم، واستَحلُّوا محارِمهُم)). رواه مسلم.
ــ
كذت المقدم غير لابس جنة بالسيف تضرب معلما أبطالها
((خط)): وحقيقة المعنى: أن الجواد إذا هم بالنفقة، اتسع لذلك صدره وطاوعته يداه، فامتدتا بالعطاء والبذل، والبخيل يضيق صدره وتُقْبَض يده عن الإنفاق في المعروف.
أقول: ومن هذا ظهر أن ((جعل)) بمعنى طفق. ودل علي خبره قوله: ((كلما)) أي جعل السخى يتسع صدره كلما أراد التصدق، وأوقع المتصدق مقابلا للبخيل، والمقابل الحقيقى السخى: إيذانًا بأن السخاوة هي ما أمر به الشرع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاناه المبذرون، وخص المشبه بهما بلبس الجنتين من الحديد، إعلامًا بأن القبض والشح من جملة الإنسان وخلقته، ومن ثم أضاف الشح إليه في قوله تعالي:{ومن يوق شح نفسه} . وأن السخاوة من عطاء الله وتوفيقه يمنحها من يشاء من عباده المخلصين، وخص اليد بالذكر؛ لأن السخى والبخيل يوصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل، قيل: يده مغلولة إلي عنقه، وثديه وتراقيه. وإنما عدل من الغل إلي الدرع لتصوير معنى الانبساط والتقلص، والأسلوب من التشببه المفرق، شبه السخى الموفق إذا قصد التصدق يسهل عليه ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع ويده تحت الدرع، فإذا أراد أن يخرجها منها وينزعها يسهل عليه، والبخيل علي عكسه، والله أعلم.
الحديث السابع عن جابر: قوله: ((اتقوا الظلم)) ((مح)): عن القاضى عياض: هو علي ظاهره، فيكون ظلمات علي صاحبه لا يهتدى يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، كما أن المؤمن يسعى بنور هو مسبب عن إيمانه في الدنيا. قال الله تعالي:{نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} . ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد، وبه فسر قوله تعالي {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} أي شدائدهما.
وأقول: أفرد المبتدأ وجمع الخبر دلالة علي إرادة الجنس، واختلاف أنواع الظلم الذي هو سبب لأنوع الشدائد، في القيامة من الوقوف في العرصات، والحساب، والمرور علي الصراط، وأنواع العقاب في النار، ثم عطف الشح الذي هو نوع من أنواع الظلم علي الظلم ليشعر أن الشح أعظم أنواعه؛ لأنه من نتيجة حب الدنيا وشهواتها، ومن ثم علله بقوله:((فإن الشح أهلك من كان قبلكم)) ثم علله بقوله: ((حملهم علي أن سفكوا الدماء)) علي سبيل الاستئناف؛ فإن
1866 -
وعن حارثةَ بنِ وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدَّقوا فإِنَّه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرَّجلُ بصدَقتِه فلا يجدُ مَنْ يقبلُها، يقولُ الرَّجلُ: لو جئتَ بها بالأمس لقبِلتُها، فأمَّا اليوْمَ فلا حاجةَ لي بها)). متفق عليه.
1867 -
وعن أبي هريرةَ، قال: قال رجلٌ: يارسولَ الله! أيُّ الصَّدَقةِ أعظمُ أجرًا؟ قال: ((أنْ تصدَّقَ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفَقْرَ، وتأمُلُ الغِنى، ولاتُمهِلْ؛ حتى إذا بلغتِ الحُلقومَ قلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا وقدْ كانَ لفُلانٍ)). متفق عليه.
ــ
استحلال المحارم جامع لجميع أنواع الظلم من الكفر والمعاصى، وعطفه علي سفك الدماء من عطف العام علي الخاص عكس الأول. وإنما كان الشح سبب سفك الدماء واستحلال المحارم؛ لأن في بذل الأموال ومواساة الإخوان التحاب والتواصل، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع، وذلك يؤدى إلي التشاجر والتغاور من سفك الدماء، واستباحة المحارم، فظهر منها أن السياق وارد في الشح، وذكر الظلم توطئة وتمهيدًا لذكره، فكان إيراد هذا الحديث في هذا الباب أحرى وأولي من ذكره في باب الظلم.
الحديت الثامن عن حارثة: قوله: ((يأتى عليكم زمان)) الخطاب لجنس الأمة، والمراد بعضهم، كما في قوله تعالي:{ويقول الإنسان أإذا مامت لسوف أخرج حيَّا} ، ((الكشاف)) لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلي جميعهم، كما يقولون: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل رجل منهم. ولعل ذلك الزمان زمن ظهور أشراط الساعة، كما ورد في الصحيح:((لاتقوم الساعة حتى يكثر المال فيفيض حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه)).
الحديت التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وأنت صحيح شحيح)) أي تصدق في حال صحتك، واختصاص المال بك، وتشح نفسك بأن تقول: لا تتلف مالك كيلا تصير فقيرًا؛ فإن الصدقة في هذه الحالة أشد مراغمة للنفس. و ((فلان)) كناية عن الموصى له. وقوله: ((ولا تمهل)) عطف علي ((تصدق)) وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي أفضل الصدقة أن تتصدق حال حياتك، وصحتك مع احتياجك إليه، واختصاصك به، لا في حال سقمك، وسياق موتك، لأن المال حينئذ خرج منك، وتعلق بغيرك. ويشهد لهذا التأويل حديث أبي سعيد في الفصل الثانى من هذا الباب ((لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق بمائة عند موته)).
1868 -
وعن أبي ذرٍّ، قال: انتهيت إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهوَ جالسٌ في ظلِّ الكعبةِ، فلمَّا رإني قال:((هُمُ الأخسَرونَ وربِّ الكعبةِ)). فقلتُ: فِداكَ أبي وأُمي، مَنْ هُمْ؟ قال:((هم الأكثرونَ أموالاً، إلا مَنْ قالَ: هكذا وهكذا وهكذا، من بينِ يديهِ ومِنْ خَلفِهِ وعنْ يَمينهِ وعنْ شِمالِهِ، وقليلٌ ما هُمْ)). متفق عليه.
الفصل الثاني
1869 -
عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السخِيُّ قريبٌ من اللهِ، قريبٌ من الجنَّةِ، قريبٌ من النَّاسِ، بعيدٌ من النَّار. والبخيلُ بعيدٌ من الله، بعيدٌ من
ــ
الحديث العاشر عن أبي ذر: قوله: ((هم الأخسرون)) ((هم)) ضمير مبهم يفسره ما بعده من الخبر، كقولك: هي العرب تقول ما شاءت. و ((الأخسرون)) فيه نوع إبهام، فبين بقوله:((هم الأكثرون)) ونحُوه في الإبهام والتبيين - اللهم إلا أن يحمل علي التغليظ - قولهُ تعالي: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} فالمكثوون هم المنهمكون في الدنيا، المتهالكون فيها، الذين {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} ، واسثنى منه من يستفرغ جهده في الإنفاق ويبذل طاقته فيه.
قوله: ((قال هكذا)) ((نه)): العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه علي غير الكلام، فيقول: قال بيده، أي أخذ، وقال برجله، أي مشى، وقال بالماء علي يده، أي قلب، وقال بثوبه، أي رفعه، كل ذلك علي المجاز والاتساع. و ((قال)) في الحديث بمعنى أشار، و ((هكذا)) صفة مصدر محذوف، أي أشار بيده إشارة مثل هذه الإشارة. وقوله:((من بين يديه)) بيان للإشارة، والأظهر أن يتعلق بالفعل لمجىء ((وعن يمينه)) وأنها للمجاورة والبعد. وخص ((عن)) باليمين والشمال؛ لأن الغالب في الإعطاء صدوره عن اليدين. وقوله:((وقليل ما هم)) ((ما)) زائدة مؤكدة للقلة ((وهم)) مبتدأ و ((قليل)) خبره مقدم عليه، قدم اختصاصًا، وأن الأكثر من المكثرين ليسوا علي هذه الصفة، والله أعلم.
الفصل الثاني
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((السخى قريب من الله)) التعريف في السخى والبخيل للعهد الذهنى، وهو ما عرف شرعًا أن السخى من هو؟ والبخيل من هو؟ وذلك أن من أدى زكاة ماله، فقد امتثل أمر الله وعظمه، وأظهر الشفقة علي خلق الله وواساهم بماله،
الجنَّةِ، بعيدٌ من النَّاسِ، قريب من النَّار. ولجاهِلٌ سخيٌّ أحبُّ إِلي الله من عابدٍ بخيلٍ)). رواه الترمذي [1869].
187، - * وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأنْ يتصدَّقَ المرءُ في حياتهِ بدرهم خيرٌ لهُ من أن يتَصدَّقَ بمائةٍ عندَ موته)). رواه أبو داود. [187،]
1871 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ((مثلُ الذي يتَصدَّقُ عندَ موتهِ أو يُعتِقُ، كالذي يُهْديِ إِذا شَبِع)). رواه أحمد، والنسائي، والدارمي، والترمذي وصححه. [1871]
1872 -
وعن أبي سعيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (خَصلتانِ لا تجتمعانِ
ــ
فهو قريب من الله وقريب من الناس، فلا يكون منزله إلا الجنة، ومن لم يؤدها فأمره علي عكس ذلك، ولذلك كان العابد البخيل أحط مرتبة من الجاهل السخي، وكان يقتضي التطابق بين القرينتين أن يقال:((ولجاهل سخي أحب إلي الله من عالم بخيل))، أو ((عابد سخي أحب إلي الله من عابد بخيل)) فخولف ليفيد أن الجاهل غير العابد السخيِّ أحبُّ إلي الله من العالم العابد البخيل، فيا لها من حسنة غطت علي عيبين عظيمين، ويا لها من سيئة عفت حسنتين خطرتين!.
الحديث الثانى عن أبي سعيد: قوله: ((عند موته)) أي عند احتضاره الموت، أوقع هذه الحياة مقابلا لقوله:((في حياته)) إشارة إلي أن الحياة الحقيقية التي يعتد فيها بالتصدق هي أن يكون المرءُ صحيحًا شحيحًا، يخشى الفقر، الحديث كما مر. وقوله:((بمائة)) يريد بها الكثرة، كما يراد بدرهم القلة، ويشهد له ما جاء في بعض النسخ ((بماله)) بدل ((بمائة)) أي بجميع ماله.
الحديث الثالث عن أبي الدرداء قوله ((كالذي يهدى إذا شبع)) شبه ترك تأخير الصدقة عن أوانه بمن تفرد بالأكل واستأثر لنفسه، ثم إذا شبع يؤثره علي غيره، وإنما يحمد إذا كان عن إيثار، كما قال تعالي {ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وما أحسن موقع ((يهدى)) في هذا المقام، ودلالتها علي الاستهزاء والسخرية بالمهدى.
الحديث الرابع عن أبي سعيد: قوله ((خصلتان لا تجتمعان)) مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أي فيما أحدثكم به خصلتان لا تجتمعان، كقوله تعالي:{سورة أنزلناها} أي فيما أوحينا
في مؤمنٍ: البخلُ، وسوء الخُلُقِ)). رواه الترمذي. [1872]
1873 -
وعن أبي بكرِ الصدِّيقِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخلُ الجنَّةَ خِبٌّ ولابخيلٌ ولا منَّانٌ)). رواه الترمذي. [1873]
ــ
إليك و ((البخل وسوء الخلق)) خبر مبتدأ محذوف، والجملة مبينة. ويجوز أن يكون خبرًا، والبخل وسوء الخلق مبتدأ ((تو)): المراد من ذلك اجتماع الخصلتين فيه مع بلوغ النهاية فيهما بحيث لا ينفك عنهما ولا ينفكان عنه. فأما من فيه بعض هذا، أو بعض ذلك، أو ينفك عنه في بعض الأوقات، فإنه بمعزل عن ذلك.
وأقول: ويمكن أن يحمل ((سوء الخلق)) علي ما يخاف الإيمان؛ فإن الخلق الحسن هو ما يمتثل به العبد أوامر الشرع، ويجتنب عن نواهيه، لا ما يتعارف بين الناس؛ لما ورد عن عائشة رضي الله عنها ((وكان خلقه القرآن)). فإفراد ((البخل من سوء الخلق وهو بعضه، وجعله معطوفًا عليه، يدل علي أنه أسوؤها وأشنعها؛ لأن ((البخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس)). الحديث، ويؤيد هذا التأويل حديث أبي هريرة ((لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا)) رواه النسائي.
الحديث الخامس عن أبي بكر: قوله: ((خب)) ((نه)): الخب - بالفتح - الخداع، وهو الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد، وقد تكسر خاؤه. وأما المصدر فبالكسر. قيل:(المنان)) يتأول علي وجهين: أحدهما من المنة التي هي الاعتداد بالصنيعة، وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة. وثإنيهما: من المن وهو القطع والنقص من الحق، والخيانة، والقطع من التواد والمحبة.
((خط)): أي لا يدخل الجنة مع هذه الخصلة حتى يجعل طاهرًا منها، إما بالتوبة في الدنيا أو بأن يعفو الله عنه. أو بأن يعذبه ثم يدخله الجنة. ((تو)): أي لا يدخل الجنة مع الداخلين في الرعيل الأول، من غير ما بأس، بل يصاب منه بالعذاب. هذا هو السبيل في تأويل أمثال هذه الأحاديث لتوافق أصول الدين. وقد هلك في التمسك بظواهر أمثال هذه النصوص الجم الغفير من المبتدعة، ومن عرف وجوه القول، وأساليب البيان من كلام العرب هان عليه التخلص بعون الله عن تلك الشبهة.
أقول: ويؤيد التأويل بالعفو قوله تعالي: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخوانًا علي سرر
1874 -
وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((شَرُّ ما في الرجلِ شُحٌّ هَالعٌ، وجُبنٌ خالعٌ)) رواه أبو داود. [1874]
وسنذكر حديث أبي هريرة: ((لا يجتمعُ الشحُّ والإِيمان)). في ((كتابِ الجهادِ)) إِن شاء اللهُ تعالي.
ــ
متقابلين} فإنه وارد علي سبيل الامتنان عليهم، ولذلك جمع ضمير الواحد المعظم؛ ليدل علي فخامة شأن النزع، يعنى مثل هذا النزع مختص بنا، ولا يصدر إلا عنا.
الحديت السادس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((شح هالع)) ((تو)): الشح: بخل مع حرص، فهو أبلغ في المنع من البخل، فالبخل يستعمل في الضنة بالمال، والشح في ساتر ما تمتنع النفس عن الاسترسال فيه من بذل مال، أو معروف، أو طاعة. الهلع: أفحش الجزع. وهلع – بالكسر - فهو هلع وهلوع، ومعناه: أنه يجزع في شحه أشد الجزع علي استخراج الحق منه. وقوله: ((شح هالع)) أي ذو هلع، كما يقال: يوم عاصف، وليل نائم، ويحتمل أيضًا أن يقول: هالع لمكان خالع للازدواج.
وأقول: يحتمل أن يحمل علي الإسناد المجازى، فيسند إلي الشح ماهو مسند إلي صاحبه مبالغة، وعلي الاستعارة المكنية. بأن يشبه الشح بإنسان ثم يوصف بما يلازم الإنسان من الهلع. والهلع: ما فسره الله تعالي، سئل أحمد بن يحيى عن الهلوع، فما زاد علي ما فسره الله تعالي من قوله:{إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا} .
قوله: ((وجبن خالع)) ((نه)): أي شديد، كأنه يخلع فؤاده من شدة خوفه، وهو مجاز عن الخلع والمراد به: ما يعرض من أنواع الأفكار، وضعف القلب عند الخوف.
أقول: الفرق بين وصف الشح بالهلع، والجبن بالخلع، هو أن الهلع في الحقيقة لصاحب الشح، فأسند إليه مجازًا، فهما حقيقتان، لكن الإسناد مجازى، وليس كذلك الخلع؛ إذ ليس مختصًا لصاحب الجبن حتى يسند إليه مجازًا، بل هو وصف للجبن، لكن علي المجاز حيث أطلق وأريد به الشدة، وإلي هذا المعنى ينظر قول الشيخ التوربشتى ويحتمل أن يقال هالع لمكان خالع؛ للازدواج أي المشاكلة. ((تو)): وإنما قال: ((شر ما في الرجل)) ولم يقل في الإنسان لأحد الوجهين: إما لأن الشح والجبن مما تحمد عليه المرأة ويذم به الرجل، أو لأن الخصلتين تقعان موقع الذم من الرجال فوق ما تقعان من النساء.
الفصل الثالث
1875 -
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ بعضَ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قلنَ للنبي صلى الله عليه وسلم أينا أسرعُ بكَ لُحوقًا؟ قال: أطولُكُنَّ يدًا، فأخذوا قصبةً يذرعونها، وكانت سودةُ أطوَلهُنَّ يدًا، فعلما بعدُ أنما كانَ طولُ يدِها الصدقةَ، وكانت أسرَعنَا لحوقًا بهِ زينبُ، وكانت تحبُّ الصدقة. رواه البخاري. وفي روايةِ مسلم، قالت: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((أسرعُكُنَّ لحوقًا بي أطولُكنَّ يدًا)). قالت: وكانت يتطاولْنَ أيَّتهُنَّ أطولُ يدًا؟ قالت: فكانت أطولَنا يدًا زينب؛ لأنَّها كانت تعملُ بيدِها وتتصدَّق.
ــ
الفصل الثالث
الحديت الأول عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((أينا أسرع بك لحوقًا؟)) أي تدركك بالموت من بعض الأزواج، ومنه حديث فاطمة رضي الله عنها ((إنك أول أهلي لحوقًا بى فضحكت)). قوله:((فأخذوا قصبة)) والظاهر فأخذن، وإنما عدل إلي ضمير المذكر تعظيمًا لشأنهن، كقوله تعالي:((وكانت من القانتين)) وقول الشاعر.
وإن شئت حرمت النساء سواكم
قوله: ((فعلمنا بعد)) تعنى فهمنا من قوله: ((أطولكن يدًا)) ابتداءً ظاهره، فأخذنا لذلك قصبة نذرع بها يدًا يدًا لننظر أينا أطول يدًا، فلما فطنا بمحبتها الصدقة، وعلمنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد باليد العضو، وبالطول طولها، بل أراد العطاء وكثرته، أجريناه علي الصدقة، فاليد هنا استعارة للصدقة والطول ترشيح لها؛ لأنه ملاتم للمستعار منه. ولو قيل: أكبركن لكان تجريدًا لها.
قوله: ((أيتهن)) في موضع نصب، إما حال أو مفعول له، أي كانت تتطاولن أيديهن ناظرات، أو لينظرن أيتهن أطول يدًا. قوله:((فكانت أطولنا يدًا زينب)). فإن قلت: لم قدم ((أطولنا)) وجعله اسمًا، وآخر ((زينب)) وجعلها خبرًا، وعكس في رواية البخاري، وجعل ((سودة)) اسمًا و ((أطولهن)) خبرًا؟ قلت لاختلاف الحالتين، ولذلك ذكر في إحدى الروايتين ((سودة))، وفي أخراهما ((زينب))، فقدم الطول هنا، لما كان الاهتمام بشأنه في المباراة التي تلوح من قوله ((يتطاولن)). ومثل هذا التقديم قوله تعالي:{إن خير من استأجرت القوى الأمين} . ((الكشاف)): فإن قلت: كيف جعل ((خير من استاجرت)) اسمًا، ((والقوى الأمين)) خبرًا؟ قلت هو مثل قوله:
1876 -
وعن أبي هريرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال:((قال رجل: لأتَصدَّقنَّ بصدقَةٍ، فخرجَ بصدقتهِ فوضعَها في يدِ سارقٍ، فأصبحوا يَتحدَّثون: تُصُدِّقَ الليلةَ علي سارقٍ، فقال: اللهمَّ لك الحمدُ، علي سارقٍ؟! لأتصَدَّقنَّ بصدقةٍ، فخرجَ بصدقتهِ فوضعَها في يدِ زإنيةٍ، فأصبحوا يَتحدَّثون: تُصُدِّقَ الليلةَ علي زإنيةٍ. فقال: اللهمَّ لكَ الحمدُ، علي زإنيةٍ؟! لأتَصدَّقنَّ بصدقةٍ، فخرجَ بصدقةٍ فوضعهًا في يدِ غَنيٍّ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّقَ الليلةَ علي غنيٍّ. قال: اللهمَّ لكَ الحمدُ، علي سارقٍ وزإنيةٍ وغنيٍّ؟ فأتيَ، فقيلَ له: أمَّا صَدَقتُكَ علي سارقٍ فلعلَّه أن يستعِفَّ عن سرقتهِ، وأمَّا الزإنيةُ فلعلَّها أن تَستَعِفَّ عن زِناها، وأما الغَنيُّ فلعلَّهُ يعتبرُ فينفق مِمَّا أعطاهُ اللهُ)) متفق عليه، ولفظه للبخاري.
ــ
ألا إن خير الناس حيا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
في أن العناية هي سبب التقديم. وقد صدقت، حتى جعل لها ماهو أحق بأن يكون خبرًا اسمًا. وعلم من هذا أن في رواية البخاري الحاضرات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعضهن؛ لأن سودة توفيت قبل عائشة، وبعد غيرها رضي الله عنهن في سنة أربع وخمسين من الهجرة، وعائشة في سنة سبع أو ثمان وخمسين من الهجرة. وإن ما رواه مسلم كانت الحاضرات كلهن؛ لأن زينب بنت جحش توفيت قبل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين.
قوله: ((لأنها كانت تعمل)) تعليل كالبيان لقوله: ((يتطاولون))؛ لأنه يحتمل أن يكون التطاول هنا حسيًا بأن تقول كل واحدة منهن: أنا أطول منك يدًا، أو معنويًا بأن تقول كل واحدة أنا أكثر منك عطاء. فبين بالتعليل أنه كان معنويًا.
الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((تصدق الليلة علي سارق)) إخبار في معنى التعجب، أو الإنكار. وقوله:((اللهم لك الحمد علي سارق)) أي علي تصدقى علي سارق، إما وارد شكرًا أو تعجبًا، أما الأول: فأن يجري الحمد علي الشكر. وذلك أنه لما جزم علي أن يتصدق علي مستحق ليس بعده بدلالة التنكير في ((صدقة))، وأبرز كلامه في معرض القسمية تأكيدًا وقطعًا للقول به، فلما جوزى بوضعه علي يد سارق حمد الله، بأنه لم يقدر أن يتصدق علي من هو أسوأ حالا من السارق. وأما الثانى فأن يجرى الحمد علي غير الشكر، وأن يعظم الله تعالي عند رؤية العجب، كما يقال: سبحان الله عند مشاهدة ما يتعجب منه، وللتعظيم قرن به لفظة ((للهم))، فكما تعجبوا من فعله، قالوا:((تصدق الليلة علي سارق)).
1877 -
وعنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:((بينا رجلٌ بفلاةٍ من الأرضِ فسمعَ صوتًا في سحابةٍ: اسقِ حديقة فلان: فتنحَّى ذلك السَّحابُ فأفرغَ ماءهُ في حَرَّة، فإذا شَرْجةٌ من تلك الشراجِ قد استوعبَت ذلك الماءَ كلَّه، فتتبع الماء فإذا رَجلٌ قائمٌ في حديقتهِ، يُحوِّلُ الماء بمسِحاتهِ، فقالَ له: يا عبد الله ما اسمُك؟ قال: فُلان؟ الاسمُ الذي سمعَ في السَّحابةِ، فقال له: يا عبدَ اللهِ! لمَ تسألُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعتُ صوتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ، يقول: اسقِ حديقةَ فُلانِ لاسمكَ، فما تصنعُ فيها؟ قال: أمَّا إذا قُلتَ هذا؛ فإني أنظُرُ إلي ما يخرُجُ منها فأتصدَّقُ بثلُثِه وآكلُ أنا وعيالي ثُلُثًا، وأَرُدَّ فيها ثُلُثَه)). رواه مسلم.
1878 -
وعنه، أنَّهُ سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إِنَّ ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرَصَ، وأقرَعَ، وأعمى. فأراد الله أن يبتَلِيَهُمْ؛ فبعثَ إليهم مَلَكًا، فأتى الأبرصَ فقال:
ــ
تعجب من فعل نفسه، وقال:((الحمد لله علي سارق)) أي أتصدقت علي سارق، ولذلك سلي بقوله:((أما صدقتك علي سارق فلعله يستعف عن سرقته)).
قوله: ((فأتى)) أي فأرى في المام. قوله: ((يعتبر)) ((غب)): أصل العبر: تجاوز من حال إلي حال، والاعتبار والعبرة بالحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلي ما ليس بمشاهد، يريد أن الغنى إذا نظر إلي تصدقه، اقتدى به وتجاوز عما كان فيه من صفة البخل إلي صفة السماحة.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((حديقة)) وهي البستان الذي يدور عليه الحائط. و ((الحرة)) الأرض ذات الحجارة السود، و ((الشرجة)) - بإسكان الراء - مسيل الماء إلي السهل من الأرض:((المسحاة)) المجرفة من الحديد.
قوله: ((فلان)) الاسم الذي سمع فلان ليس مقولا لصاحب الحديقة؛ لأنه صرح باسمه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنى عن اسمه بفلان، ثم فسره بقوله:((الاسم الذي سمع))، والقائل في قوله:((اسق حديقة فلان لاسمك)) هو ذلك السامع، ولابد من إضمار القول، التقدير: قال الهاتف: اسق حديق زيد مثلا، وقلت: أنا فلان لأجل اسمك أي بدله. قوله: ((أرد فيها ثلثه)) أي أرد في الحديقة الأصل الذي زرعته فيها؛ ليكون قنية للبذر بعد تصدقى الثلث، وأكلي الثلث الآخر.
الحديت الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((فأراد الله أن يبتليهم)) من جوز دخول الفاء في خبر ((إن)) فلا إشكال في أنه خبر ((إن))، ومن لم يجوزه يقدر الخبر، أي إن فيما أقص عليكم قصة ثلاثة نفر، فالفاء لتعقيب المفسر المجمل، كما في قوله تعالي: {فإن فاءوا فإن الله
أيُّ شىءٍ أحبُّ إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، ويَذهبُ عني الذي قد قَذَرَني الناسُ)) قال:((فمسحَه فذهبَ عنهُ قذَرُهُ، وأُعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الإِبلُ - أو قال: البقرُ -)) شك إسحق ((إلا أنَّ الأبرصَ والأقرعَ، قال أحدُهما: الإبلُ، وقال الآخرُ: البقرُ. قال: فأعطِيَ ناقةً عشراءَ، فقالَ: باركَ اللهُ لك فيها)). قال: ((فأتى الأقرعَ، فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليكَ؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويَذهبُ غني هذا الذي قدْ قذَرني الناسُ)). قال: ((فمسحَه؛ فذهبَ عنه))، قال:((وأُعطِيَ شَعْرًا حسنًا. قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليكَ؟ قال: البقرُ. فأُعطِيَ بقرةً حاملاً، قال: باركَ اللهُ لك َفيها)). قال: ((فأتى الأعمى، فقال: أيُّ شىءٍ أحبُّ إِليكَ؟ قال: أنْ يَرُدَّ اللهُ إِليَّ بصري، فأبصرُ به الناسَ))، قال: ((فمسَحه؛ فرَدَّ اللهُ إِليه بَصره.
ــ
غفور رحيم} ولو رفع ((أبرص)) وما عطف عليه بالخبرية تعين للتفسير وقوله: ((يذهب عنى)) عطف علي قوله: ((لون حسن)) علي تقدير ((أن)) كقوله: أحضر الوغى.
قوله ((قذرنى)) أي كرهنى، يقال: قذرت الشىء أقذره إذا كرهته واجتنبته.
قوله: ((فذهب عنه قذره وأعطى لونًا حسنًا)) قدم هنا ذهاب القذر علي إعطاء الحسن علي الترتيب في الوجود؛ لأن إعطاء الحسن مسبوق بذهاب القذر، وقدم الحسن علي ذهاب القذر؛ لأن الحسن هو المقصود بالذات والأهم بالطلب؟ ولأنه إذا جاء الحسن ذهب القذر لا محالة، بخلافه إذا ذهب القذر فقد يتخلف عنه الحسن، فلذا عقب الذهاب بالحسن في الثاني.
قوله: ((شك إسحاق)) وهو إسحاق بن عبد الله، أحد رواة هذا الحديث. وقوله:((إلا أن الأبرص)) استثناء من قوله: ((شك)) أي شك إسحاق في ذلك، لكن لم يكن يشك في أن الأبرص أو الأقرع انفرد كل واحد منهما في طلب الإبل، أو البقر. ثم بنى علي هذا الاحتمال قوله:((فأعطى ناقة)) أي الأبرص.
قوله: ((العشراء)) - بالضم وفتح الشين والمد - التي أتى علي حملها عشرة أشهر، ثم اتسع فيه، فقيل لكل حامل: عشراء. قوله: ((شاة والدًا)) وهي التي قد عرف منها كثرة الولد. وقوله: ((فأُنتج هذان)) هكذا هو الرواية، وهي قليلة الاستعمال، والمشهور نتج، ومعناه: تولي الولادة، وهي النتج والانتاج. ومعنى ((ولدَّها)) بتشديد اللام انتج، والناتج للإبل كالقابلة للنساء.
قوله: ((هذان)) أي الأبرص والأقرع. و ((هذا)) أي الأعمى. قوله: ((في صورته)) أي الملك جاء في صورته التي جاء الأبرص أول مرة.
قال: فأيُّ المال أحبُّ إِليكَ؟ قال: الغنمُ. فأعطيَ شاةً والدًا. فأنتجَ هذانِ، وولَّد هذا؛ فكانَ لهذا وادٍ من الإِبلِ، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا واد من الغنم)). قال:((ثمَّ إنَّه أتى الأبرص في صورته وهَيئتهِ، فقال: رجلٌ مسكينٌ قد انقطعتْ بيَ الحبالُ في سفَري، فلا بلاغَ لي اليومَ إلا بالله ثمَّ بكَ. أسألُكَ بالذي أعطاكَ اللونَ الحسنَ والجلدَ الحسنَ والمالَ، بعيرًا أتبلغُ بهِ ني سفَري. فقال: الحقوقُ كثيرةٌ. فقال: إنَّه كإني أعرِفُكَ، ألم تكنْ أبرصَ يقذَرُكَ الناسُ، فقيرًا فأعطاكَ الله مالاً؟ فقال: إنَّما ورِثتُ هذا المالَ كابرًا عن كابرٍ، فقال: إِنْ كنتَ كاذِبًا، فصيَّركَ اللهُ إلي ما كنتَ)). قال: ((وأتى الأقرعَ في صورته، فقال له مثلَ ما قال لهذا، وردَّ عليه مثلَ ماردَّ علي هذا، فقال: إنْ كنتَ كاذِبًا فصيَّركَ الله إلي ماكنتَ)). قال: ((وأتى الأعمى في صورته وهيئِتِه، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابنُ سبيلٍ، انقطعت بي الحِبالُ في سفَري، فلا بلاغَ ليَ اليومَ إلا بالله ثمَّ بكَ. أسألُكَ بالذي ردَّ عليكَ بصركَ، شاةٌ أتبلغُ بها ني سفري. فقال: قد ْكنتُ أعمى فردَّ اللهُ إِليَّ بصري، فخُذْ ما شئتَ ودعْ ماشئتَ؛ فو الله لا أجهدُكَ اليوم بشيءٍ أخذتَه لله. فقال: أمسِكْ مالَكَ، فإِنَّما ابتُليتُم؛ فقدْ رُضِيَ عنكَ. وسخِطَ علي صاحِبيكَ)). متفق عليه.
ــ
قوله: ((انقطعت بى الحبال)) الباء للتعدية. ((الحبال)) جمع حبل، وهو العهد، والأمان، والوسيلة، وكل ما يرجو منه خيرًا وفرجًا، أو يستدفع به ضررًا. والحبل هنا السبب، فكأنه قال: انقطعت بى الأسباب. والبلاغ: الكفاية، قال الله تعالي:{إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} . والباء في ((بالله)) متصل بـ ((بلاغ)) أي ليس ما ما أبلغ به غرضي إلا بالله، و ((ثم)) في قوله:((ثم بك)) للمرتبة في التنزل لا للترقى. وهذا وأمثاله من الملائكة معاريض في الكلام لا إخبار كما في قول إبراهيم: ((هذا ربى، وإنى سقيم، وهي أختى)) وقول الملائكة لداود {إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة} والباء في قوله: ((بالذي)) للقسم، والاستعطاف، أي أسالك بحق الذي، أو متوسلا بالذي، و ((بعيرًا)) مفعول ((أسالك)). قوله:((كابرًا عن كابر)) حال، يقال: هو كبر قومه، أكبرهم في السن والرياسة، أو في النسب، وورثوا المجد كابرًا عن كابر.
قوله: ((إن كنت كاذبًا)) هذا الشرط ليس علي حقيقته؛ لأن الملك لم يشك في كذبه بل هو مثل قول العامل إذا تسوف في عمالته: إن كنت عملت فأعطنى حقى. فعلي هذا تصييره علي ما
1879 -
وعن أمِّ بُجيد، قالتْ: قلتُ: يا رسولُ الله! إذنَّ المسكينَ ليَقفُ علي بابي حتى استحييَ، فلا أجدُ في بيتي ما أدفعُ في يدِهِ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((ادفعى في يدِه ولو ظْلفًا مُحرَّقًا)). رواه أحمدُ، وأبو داود، والترمذيُّ، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. [1879]
1880 -
وعن مولي لعثمانَ [رضي الله عنه]، قال: أُهدِيَ لأمِّ سلمةَ بَضعةٌ منْ لحمٍ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعجبُه اللحمُ، فقالتْ للخادم: ضَعيهِ في البيتِ لعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأكلهُ، فوَضعَتْهُ في كُوَّةِ البيتِ. وجاءَ سائلٌ فقام علي الباب، فقال: تصدَّقوا، باركَ اللهُ فيكم. فقالوا: باركَ اللهُ فيكَ. فذهبَ السَّائلُ، فدخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:((يا أمَّ سلَمةَ! هلْ عندكم شيءٌ أطْعَمُه؟)) فقالتْ نعم، قالتْ للخادم: اذهبي فأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلكَ اللحمِ. فذهبتْ، فلم تجدْ في الكُوَّةِ إِلَاّ قطعةَ مَرْوةٍ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:((فإنَّ ذلكَ اللحمَ عادَ مَروةً لمَّا لمْ تُعطوهُ السائلَ)). رواه البيهقىُّ في ((دلائل النبوَّة)). [1880]
1881 -
وعن ابن عبَّاسٍ [رضي الله عنهما]، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أَلا أُخبرُكم بشرِّ النَّاسِ مَنزِلاً؟)) قيلَ: نعمْ، قال:((الذي يُسأَلُ باللهِ ولا يُعطي به)). رواه أحمد. [1881]
ــ
كان عليه مقطوع حصوله، ويؤيده قوله:((وسخط علي صاحبيك)). قوله: ((وأتى الأقرع في صورته)) لم يذكر هنا الهيئة اختصارًا، أو سقط من الراوى، قوله:((لا أجهدك اليوم)) أي لا أستفرغ طاقتى بمنع شىء أخذته لله، هذا علي عكس ما قال الأبرص والأقرع: الحقوق كتيرة، أي الموانع في الإعطاء كثيرة، فلا يتأتى لي أن أعطيك شيئًا.
الحديث الخامس عن أم بجيد اسمها حواء بنت يزيد بن السكن: قوله: ((محرقًا)) تتميم لإرادة المبالغة في ظلف، كقولها: كأنه علم في رأسه نار.
الحديث السادس عن مولي لعثمان: قوله: ((وكان النبي صلى الله عليه وسلم) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، أي من عادته أن يعجبه اللحم، والخادم هو أحد الخدام، ويقع علي الذكر والأنثى؛ لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال كحائض وطالق، ويدل علي أنها أنثى قوله:((ضعيه)). ((المروة)): حجر أبيض براق. وقيل: هي التي يقدح منها النار.
الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بالله)) الباء تحتمل أن تكون كالباء في كتبت بالقلم، أي يسأل بواسطة ذكر اسم الله، أو القسم والاستعطاف، يعنى قول السائل: أعطونى شيئًا بحق الله. وهذا مشكل، اللهم إلا أن يُتَّهم السائل بعدم الاستحقاق.
1882 -
وعن أبي ذَرٍّ، أنَّه استأذنَ علي عُثمانَ، فأذنَ له وبيده عصاهُ، فقال عُثمانُ: يا كعبُ! إنَّ عبدَ الرَّحمنِ توُفي وتركَ مالاً، فما ترى فيه؟ فقال: إنْ كانَ يصلُ فيه حقَّ الله، فلا بأسَ عليه. فرفع أبو ذرٍّ عصاهُ فضربَ كعبًا، وقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((ما أُحبُّ لو أَنَّ لي هذا الجبلَ ذهبًا أُنفِقُه ويُتقبَّلُ مني أَذَرُ خلفي منه ست أَواقِيَّ))، أنشدُكَ باللهِ يا عثمانُ! أسمعته؟! ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: نعم. رواه أحمد [1882].
1883 -
وعن عُقبةَ بن الحارِثِ، قال: صلّيتُ وراء النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصرَ، فسلَّم، ثمَّ قامَ مُسرعًا، فتخطَّى رقِابَ النَّاسِ إلي بعض حُجَرِ نسائه، فَفزعَ الناس منْ سُرعتِه، فخرجَ عليهِمْ، فرأي أنَّهم قدْ عجِبوا من سُرعتِه؛ قال:((ذَكَرتُ شيئًا من تبر عندنا فكرهتُ أنْ يحبِسنَي، فأمرتُ بقسمته)). رواه البخاريُّ. وفي روايةٍ له، قال:((كنتُ خَلّقتُ في البيتِ تبرًا من الصَّدَقةِ، فكرِهتُ أنْ أُبيته)).
1884 -
وعن عائشة [رضي الله عنها]، أنَّها قالت: كانَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندي في مرضه ستَّةُ دنإنير أو سبعةٌ، فأمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أفرقَها، فشغلَني وجَعُ نبيُ الله صلى الله عليه وسلم ثم سألني عنها ((ما فَعَلتِ الستةُ أو السَّبعةُ؟)) قلتُ: لا واللهِ، لقدْ كانَ شغلَني
ــ
الحديث الثامن عن أبي ذر: قوله: ((فضرب كعبًا)) فإن قلت: لم ضربه، وقد قيد ما ترك من المال بقوله:((إن كان يصل فيه حق الله)) وقد ورد ((ما أدى زكاته فليس بكنز))؟ قلت: إنما ضربه؛ لأنه نفي البأس علي سبيل الاستغراق حيث جعله مدخولا لـ ((لا)) التي لنفي الجنس، وكم من بأس، وأقله أنه يدخل الجنة بعد فقراء المهاجرين بزمان طويل، ويوقف للحساب، وما أشبهه. وقوله:((ويتقبل منى)) تتميم لإرادة المبالغة في عدم المحبة. قوله: (أذر)) مفعول ((أحب)) علي حذف ((أن)) ورفع الفعل، كقوله: أحضر الوغى.
الحديث التاسع عن عقبة: قوله: ((كرهت أن يحبسنى)) أي يلهينى عن الله، ويحبسنى عن مقام الزلفي، كما قال في حديث انبجإنية أبي جهم.
الحديث العاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ما فعلت الستة)) يجوز أن يروى بالنصب والرفع، والرفع أفصح كما جاء: ما فعل أبوأي، وما فعل النغير. ولا بد من محذوف أي ما فعلت بها؟ أأنفقت أم لا؟ فأجابت بلا، ثم اعتذرت مقسمة بالله. وفي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجعُكَ. فدَعا بها، ثمَّ وضعَها في كفِه، فقال:((مَاظنُّ نبيٍّ لوْ لقيَ اللهَ عز وجل وهذِه عندَهُ؟!)). رواه أحمد. [1884]
1885 -
وعن أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ علي بِلالٍ، وعندَه صُبْرةٌ منْ تمرٍ، فقال:((ما هذا يا بلالُ؟)) قال: شىءٌ ادَّخرْتُه لغَدٍ. فقال: ((أما تخشى أنْ ترى له غدًا بُخارًا في نارِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ؛ أنفِقْ بلالُ! ولا تخشَ من ذي العَرْشِ إقْلالأ)) [1885].
1886 -
وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((السَّخاءُ شَجرةٌ في الجنَّةِ، فمنْ كانَ سَخيًا أخذَ بغُصْنِ منها فلمْ يتركهُ الغُصْنُ حتى يُدخلَهُ الجنَّةَ. والشُّحُّ شجرةٌ في النَّارِ، فَمنْ كان شحيحًا أخذَ بغُصنٍ منها، فلم يتركهُ الغُصْنُ حتى يُدخِلَهُ النارَ)). رواهما البيهقي في ((شعب الإيمان)) [1886].
ــ
الدنإنير في كفه، ووضع المظهر موضع المضمر، وتخصيص ذكر نبى الله، ثم الإشارة بقوله:((هذه)) تصوير لتلك الحالة الشنيعة، واستهجان بها، وإيذان بأن حال النبوة منافية لأن يلقى الله ومعه هذا الدنيا الحقيرة، فالظن مضاف إلي الفاعل. وقوله:((لو لقى الله عز وجل) حال من الفاعل.
الحديث الحادى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بخارًا في نار جهنم)) أي أثره يصل إليك. فهو كناية عن قربه منها، كما أن قوله تعالي:{لا يسمعون حسيسها} كناية عن بعدها. وقوله: ((وأنفق بلال)) جملة مستأنفة مرتبة علي الأولي، فوض الترتيب إلي الذهن، أي فإن كان علي ما ذكر، فانفق يا بلال. والذي يقتضيه مراعاة السجع أن يوقف علي ((إقلالا)) وإن كتب بالألف، أو تغير إلي ((بلالاً)) ليزدوجا، كما في قولك: آتيك بالغدايا والعشايا. وقوله: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات)) وما أحسن موقع ذى العرش في هذا المقام أي أتخشى أن يضيع مثلك من هو يدبر الأمر من السماء إلي الأرض؟ كلا.
الحديث الثانى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قوله:((شجرة في الجنة)) أي كالشجرة في الجنة. والتنكير للتعظيم. شبه السخاء بالشجرة في عظمها، وإنها ذات أغصان وشعب كثيرة، ثم حذفت أداة التشبيه، وجعلت نفس الشجرة، ثم زيد في المبالغة، ففرع علي السخاء المشبه ما يفرع علي المشبه به من التمسك، والأخذ بالغصن منها يؤديه إلي منبتها وأصلها. ويحتمل أن