المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(6) باب فضل الصدقة - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٥

[الطيبي]

الفصل: ‌(6) باب فضل الصدقة

1887 -

وعن علي [رضي الله عنه]، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالصدقةِ، فإنَّ البلاءَ لا يتخطَّاها)). رواه رزين [1887].

(6) باب فضل الصدقة

الفصل الأول

1888 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصدَّقَ بعدل تَمرةٍ من كَسبٍ طَيِّبٍ، ولا يقبلُ اللهُ إِلا الطَّيبَ، فإِنَّ اللهَ يُتقبَّلُها بيمينهِ، ثمَّ يربِّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم فَلُوَّهُ، حتى تكونَ مثلَ الجبلِ)). متفق عليه.

ــ

ويحتمل أن يكون من باب الادعاء كقوله تعالي: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} في وجه جعل بالادعاء جنس الشجرة الدنيوية نوعين متعارفًا وغير متعارف. وهي شجرة السخاء الثابت أصلها في الجنة وفرعها في الدنيا، فمن أخذ بغصن منها، فلا محالة أن يوصله إلي ما هو منه. وحكم شجرة الشح علي عكس ذلك، وإلي هذا المعنى يلمح قوله:((السخى قريب من الجنة بعيد عن النار والبخيل قريب من النار بعيد عن الجنة)).

الحديت الثالث عشر عن علي رضي الله عنه: قوله: ((فإن البلاء لا يتخطاها)) تعليل للأمر بالمبادرة، وهو تمثيل، جعلت الصدقة والبلاء كفرسى رهان، فأيهما سبق لم يلحقه الآخر ولم يتخطه، والتخطى تفعل من الخطر.

باب فضل الصدقة

((غب)): الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله علي وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب. وقيل: يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبه الصدق في فعله.

الحديت الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((بعدل تمرة)) ((خط)): يريد قيمة تمرة، يقال: هذا عدل هذا - بفتح العين - أي مثله في القيمة، وعدله - بكسرها - أي مثله في المنظر. وقال الفراء: العدل - بالفتح - ما عادل الشيء من غير جنسه، و- بالكسر- المثل من عين جنسه. ((تو)): المراد من التقبل باليمين حسن القبول من الله، ووقوع الصدقة منه موقع الرضي ((الفلوّ)) - بتشديد الواو - المهر، إنما ضرب المثل به، لأن الصدقة نتاج عمله، ولأن صاحبه

ص: 1539

1889 -

وعنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصَتْ صدقةٌ من مالٍ [شيئًا]، وما زادَ الله عبدًا بعفوٍ إِلا عِزًا، وما تواضعَ أحدٌ للهِ إِلا رفعَهُ اللهُ)). رواه مسلم [1889].

ــ

لايزال يتعاهده ويتولي تربيته. ثم إن النتاج أحوج ما يكون إلي الترَّبية فطيما، وإذا أحسن القيام به وأصلحه، انتهي إلي حد الكمال. وكذلك عمل ابن آدم لاسيما الصدقة التي يجاذبها الشح، ويتشبث بها الهوى، ويقتفيها الرياء، فلا تكاد تخلص إلي الله إلا موسومة بنقائص لايجبرها إلا نظر الرحمن، فإذا تصدق العبد من كسب طيب، مستعد للقبول، فتح دونها باب الرحمة، فلا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال، ويوفيها حصة الصواب، حتى تنتهي بالتضعيف إلي نصاب تقع المناسبة بينه وبين ما قدم من العمل، وقوع المناسبة بين التمرق والجبل.

أقول: قوله: ((من كسب طيب)) صفة مميزة لعدل تمرة ليمتاز الكسب الخبيث الحرام. وقوله: ((ولا يقبل الله إلا الطيب)) جملة معترضة واردة علي سبيل الحصر بين الشرط والجزاء، تأكيدا، ومقرًا للمطلوب من النفقة، ولما قيد الكسب بالطيب أتبعه اليمين لمناسبة بينهما في الشرف، ومن ثم كانت يده اليمنى للطهور. وضرب المثل بالفلوّ الذي هو من كرائم النتاج، وأنه يفتلي، أي يفطم، وأنه أقبل للتربية من سائر النتاج؛ لأن الكسب الطيب من أفضل أكساب الإنسان، وأنه أقبل للمزيد، والمضاعفة. والخبيت الذي هو الحرام علي عكسه. قال الله تعالي:{يمحق الله الربا ويربى الصدقات} والله أعلم.

الحديت الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مانقصت صدقة من مال)) ((من)) هذه يحتمل أن تكون زائدة، أي ما نقصت صدقة مالا، ويحتمل أن تكون صلة لـ ((نقصت)) والمفعول الأول محذوف، أي ما نقصت شيئًا من مال. ((مح)): ذكر فيه وجهان: أحدهما أن يبارك فيه، ويدفع عنه المفسدات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا مدرك بالحس والعادة. والثانى: أنه وإن نقص صورة كان في الثواب المرتب علي نقصه زيادة إلي أضعاف كثيرة. وكذا في قوله: ((وما زاد الله عبدًا بعفو)) وجهان: أحدهما أنه علي ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه وكرامته. والثانى: المراد أجره في الآخرة، وعزه هناك. وكذا في قوله:((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) وجهان: أحدهما يرفعه في الدنيا ويثبت له في القلوب بتواضعه منزلة، ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه. والثانى: المراد به ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا. قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة. وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعهما في الدنيا والآخرة.

ص: 1540

1890 -

وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من أَنفقَ زوجينَ من شيءٍ من الأشياءِ في سبيل الله؛ دُعيَ من أبوابِ الجنَّةِ، وللجنَّةِ أبوابٌ. فَمَنْ كانً من أهل الصلاةِ دُعيَ من باب الصلاةِ، ومن كانَ من أهلِ الجهادِ دُعيَ من بابِ الجهاد، ومن كان من أهلِ الصَّدَقة دُعِي من باب الصدقةِ، ومن كانَ من أهلِ الصيامَ دُعيَ من بابِ الرَّيان)) فقال أبو بكرٍ: ما علي من دُعِيَ من تلكَ الأبواب من ضَرورةٍ، فهل يُدعى أحدٌ من تلكَ الأبوابِ كلَها؟ قال:((نعم، وأرجو أن تَكون منهُم)). متفق عليه.

ــ

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ((من أنفق زوجين)) ((تو)): فسر بدرهمين، أو دينارين، أو مدين من طعام، وما يضاهي تلك الأشياء. ويحتمل أن يراد به تكرار الإنفاق مرة بعد أخرى، أي يتعود ذلك ويتخذه دأبًا، نحو قوله تعالي:{فارجع البصر كرتين} )). وفي الغريبين عن أبي ذر: ((من أنفق من ماله زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة. قيل: وما زوجان؟ قال: فرسان، أو عبدان، أو بعيران من إبله)).

أقول: هذا هو الوجه إذا حملت التثنية علي التكرير؛ لأن القصد من الإنفاق التثبيت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال والمواظبة عليه، كما قال تعالي:{مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتًا من أنفسهم} أي ليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق شيء علي النفس من سائر العبادات الشاقة. قوله:((في سبيل الله)) ((مح)): قال القاضي عياض: قيل: هو علي العموم في جميع وجوه الخير، وقيل: هو مخصوص بالجهاد، والأول أصح وأظهر.

قوله: ((ما علي من دعى)) ((مظ)): ((ما)) نفي و ((من)) في ((من ضرورة)) زائدة، أي ليس ضرورة علي من دعى من تلك الأبواب، إذ لو دعى من باب واحد يحصل مراده، وهو دخول الجنة، ومع أنه لا ضرورة عليه في أن يدعى من جميع الأبواب، فهل أحد يدعى من جميع الأبواب؟ وذكر الشيخ التوربشتى هذا الوجه، وقال: وفي رواية: قال أبو بكر: ((يا رسول الله! ذلك الذي لاتوى عليه))، أي لاضياع عليه ولا خسارة. ((مح)):((لاتوى)) - بفتح المثناة فوق مقصورًا - أي لا هلاك.

أقول: هذه الرواية تستدعى أن يؤول قوله: ((من ضرورة)) إلي ضررٍ، والمقام أيضًا لا يقتضيه؛ لأن قوله:((وللجنة أبواب)) وارد علي سبيل الاستطراد لقوله: ((دعى من أبواب الجنة)) فخص كل باب بمن أكثر نوعًا من العبادة، فلما سمع الصديق رضي الله عنه، رغب في أن يدعى من كل الأبواب، وقال: ليس علي من دعى من تلك الأبواب ضرر وتوى، بل له تكرمة

ص: 1541

1891 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليومَ صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قالَ: ((فمنْ تبعَ منكم اليومَ جَنازة؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمَنْ أطعَمَ منكم اليومَ مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا. قال: ((فمن عادَ منكمِ اليومَ مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمَعْنَ في امرِىءٍ، إلا دخلَ الجنَّة)). رواه مسلم.

ــ

وإعزاز، فهل أحد منا يختص بتلك الكرامة؟ فأجيب: نعم إلي آخره. وقريب منه ما روى: أن أبا الدرداء كان يغرس غرسًا وهو شيخ، فقيل له فأجاب: وما علي أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيرى. هكذا ينبغى أن يؤول؛ لأن سؤاله رضي الله عنه:((فهل يدعى أحد من تلك الأبواب)) بعد ما سمع قوله: ((من أنفق زوجين دعى من أبواب الجنة)) لا يستقيم إلا بهذا التأويل؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه علم من ذلك أن أحدًا قد يدعى من جميع الأبواب. ولما كان السؤال عن الاختصاص، طابقه الجواب بقوله:((أرجو أن تكون منهم)).

فإن قلت: لم خص كل باب باسم العبادة المختصة به، وكنى عن الصيام بالريان؟ قلت: بما يدلي الصوم إلي النسبة إلي الله في قوله: ((الصوم لي))، وعلله بقوله:((يترك طعامه وشرابه)) وخص الشراب بالذكر؛ لكونه أهم حينئذ. وفيه إشارة إلي قوله تعالي: {وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا} وقال الحربى: إن كان الريان اسمًا للباب فلا كلام فيه، وإلا فهو من الرواء الذي يروى، يقال: روى يروى فهو ريان. والمعنى: أن الصائم بتعطيشه نفسه في الدنيا، يدخل من باب الريان ليأمن من العطش.

الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((قال أبو بكر: أنا)) ((تو)): ذهب طائفة من أهل العلم وفرقة من الصوفية إلي كراهة إخبار الرجل عن نفسه بقوله: ((أنا))، حتى قال بعض الصوفية: كلمة أنا لم تزل مشيءومة علي أصحابها، وأشار هذا القائل إلي أن إبليس إنما لعن لقوله:((أنا)) وليس الأمر علي ما قدر، بل الذي نقض عليه أمره: هو النظر إلي نفسه بالخيرية، ونحن لاننكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم وإشاراتهم في التبرى عن الدعاوى الوجودية. ولكنا نقول: إن الذي أشاروا إليه بهذا القول راجع إلي معان تعلقت بأحوالهم دون ما فيه من التعلق بالقول، كيف وقد ناقض ظاهر قولهم هذا نصوصًا كثيرة، وهم أشد الناس فرارًا عن جميع ما يخالف الكتاب والسنة، ولم يأت القوم في الكرامة بمتمسك إلا بحديث جابر رضي الله عنه ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان علي أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا أنا، كأنه كرهها)) وهو حديث صحيح. وقد أورده مؤلفه هذا الكتاب في باب الاستئذان، ولو أخذنا بظاهر الحديث كنا كمن حفظ بابًا وضيع أبوابًا كثيرة، وأنى يصح

ص: 1542

1892 -

وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يانساءَ المسلماتِ! لا تحقِرَنَّ جارةً لجارَتِها ولو فِرْسَنَ شاةٍ)). منفق عليه.

ــ

القول بظاهر هذا الحديث؟ وقد وجدنا فيما حكى عن أنبياء الله في كتابه أنهم كانوا يستعملونها في كتابة كلامهم، ولا سيما فيما أمر الله به رسوله، نحو قوله تعالي:{إنما أنا بشر مثلكم} . وقوله: ((وأنا أول المسلمين))، وقوله:{وما أنا من المتكلفين} وقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم} ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((أنا سيد ولد آدم، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي، وأنا المقفي)) إلي غير ذلك من الآيات والأحاديث. وقد تلفظ بها السابق بالخيرات صديق هذه الأمة رضي الله عنه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة بعد أخرى، فلم ينكر عليه؛ فلا وجه إذًا للذهاب إلي كراهة ذلك، ونظرنا إلي حديث جابر، فوجدناه قد ذكر الكراهة علي سبيل الحسبان، ثم إنه لم يصرح بالأمر المكروه، فالوجه أن نقول: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم استعمله ليخبر عن نفسه، فيعرف من الوارد عليه، فيرتفع الإبهام، فلما قال: أنا، لم يأت بجواب تفيده المعرفة، بل بقى الإبهام علي حاله، فكره ذلك للمعنى الذي ذكرناه لا لتلفظه بتلك الكلمة. فلو قال: أنا جابر، لم يكن صلى الله عليه وسلم ليكره قوله، أو ينكر عليه.

وأقول: لعل ذلك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمقامات، فمن كان مترددًا في الأحوال، ومتحولاً في الفناء والتلوين، ينافي حاله أن يقول:((أنا)) وأما إذا ترقى إلي مقامات البقاء بالله تعالي وتصاعد إلي درجات التمكين، فلا يضره أن يقول:((أنا))، ومقامات الأنبياء والصديقين مقامات تمكين، وتكميل للناقصين، والله أعلم.

الحديت الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((يا نساء المسلمات)) ((مح)): في إعرابه ثلاثة أوجه: أصحها نصب النساء وجر المسلمات علي الإضافة، وهو من إضافة الموصوف إلي صفته، والعام إلي الخاص، كمسجد الجامع، وجانب الغربي، ولدار الآخرة. يجوزه الكوفيون، والبصريون يقدرون محذوفًا، أي مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربى، ولدار الحياة الآخرة، ويقدر هنا: يا نساء الطوائف المسلمات. وقيل: تقديره: يا فاضلات المسلمات، كما يقال: هؤلاء رجال القوم، أي ساداتهم. والوجه الثانى: رفعهما، قال الباجى: هكذا يروى أهل بلدنا. الثالث: رفع نساء وكسر المسلمات علي أنه منصوب علي الصفة علي المحل، كما يقال: يا زيد العاقل والعاقل.

قوله: ((لا تحقرن جارة)) ((تو)): هذا اختصار لمعرفة المخاطين بالمراد منه؛ أي لا تحقرن أن

ص: 1543

1893 -

وعن جابرٍ وحُذْيفةَ، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ معروفٍ صدَقةٌ)). متفق عليه.

1894 -

وعن أبي ذَرِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرنَّ منَ المعروفِ شيئًا، ولوْ أنْ تَلقى أخاكَ بوَجْهٍ طَليقٍ)). رواه مسلم.

1895 -

وعن أبي موسى الأشعري، قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((علي كلِّ مسلمٍ صدَقةٌ)). قالوا: فإِنْ لم يجدْ؟ قال: ((فلْيعمَلْ بيديهِ فينفَعُ نفسهَ، ويتصدَّقُ)). قالوا: فإنْ لم يستَطعْ؟ - أو لمْ يفعَلْ؟ - قال: ((فيُعينُ ذا الحاجةِ الملهوفَ)). قالوا: فإنْ لم يفعلْ؟ قال: ((فيأمرُ بالخَيرِ)). قالوا: فإِنْ لم يفعلْ؟ قال: ((فيُمسِكُ عنِ الشَّرِّ، فإِنَّه له صدقةٌ)). متفق عليه.

1896 -

وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ سُلامى منَ النَّاسِ

ــ

تهدى إلي جارتها، ولو أن تهدى فرسن شاة والفرسن وإن كان مما لا ينتفع به، استعمل هنا للمبالغة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:((من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة)) ومقدار المفحص لايمكن أن يتخذ مسجدًا، وإنما هو علي سبيل المبالغة.

أقول: ويمكن أن يقال: إنه من النهي عن الشيء، والأمر بضده، وهو كناية عن التحاب والتواد، كأنه قيل: لتحاب جارة جارتها بإرسال هدية ولو كانت حقيرة، ويتساوى فيه الفقير والغنى، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم:((لو أهدى إلي ذرع لقبلت)) وخص النهي بالنساء؛ لأنهن مواد الشنآن، والمحبة. والفرسن عظم قليل اللحم، وهو خف البعير، كالحافر للدابة، وقد يستعار للشاة فيقال: فرسن شاة، والذي للشاة: هو الظلف، والنون زائدة، وقيل أصلية.

الحديث السادس والسابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((كل معروف صدقة)) ((نه)): المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلي الناس، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لاينكرونه، ومن المعروف: النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم، وتلقى الناس بوجه طلق وبشاشة.

الحديث الثامن عن أبي موسى رضي الله عنه: قوله: ((الملهوف)) نصب نعت ((لذا)) ((نه)): ((الملهوف واللهفان)) المكروب.

الحديث التاسع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((سلامى)) ((نه)): السلامى جمع سلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع علي سلاميات،

ص: 1544

عليه صدقةٌ كل يومٍ تَطلُع فيه الشَّمسُ: يَعْدِلُ بينَ الاثنَينِ صدقةٌ، ويُعينُ الرَّجلَ علي دابَّته فيَحملُ علَيها أو يَرفعُ عليَها متَاعَه صدقةٌ، والكلمَةُ الطيِّبةُ صدقةٌ، وكلُّ خُطوَةٍ يَخطُوها إِلي الصَّلاةِ صدقةٌ، ويُميطُ الأذى عنِ الطريقِ صدقةٌ)). متفق عليه.

1897 -

وعن عائشةَ، قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((خُلِقَ كلُّ إِنسان منْ بني آدَم علي ستيِنَ وثلثماثة مَفصِلٍ: فمنْ كبَّرَ اللهَ، وحمدَ اللهَ، وهَللَ اللهَ، وسَبَّحَ

ــ

وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان. وقيل: السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام. ((مظ)): المعنى علي كل أحد بعدد كل مفصل في أعضائه صدقة، شكرًا لله تعالي بأن جعل في عظامه مفاصل تقدر علي القبض والبسط؛ فإن ذلك نعم عظيمة، إذ لو جعل أعضاءه بغير مفصل، كانت كالخشبة.

وأقول: لعل تخصيص ((السلامى)) - وهي المفاصل من الأصابع – بالذكر؛ لما في أعمالها من دقائق الصنائع التي تتحير الأوهام فيها؟ ولذلك قال تعالي: {بلي قادرين علي أن نسوى بنانه} . أي نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية شيئًا واحدًا، كخف البعير وحافر الحمار، فلا يمكن أن يعمل بها شيئًا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل من فنون الأعمال دقها وجلها. ولهذا السر غلب الصغار من العظام علي الكبار. وقوله:((كل سلامى)) مبتدأ و ((من الناس)) صفته، و ((عليه صدقة)) الجملة خبر، والراجع إلي المبتدأ الضمير المجرور في الخبر. قال المالكى: وحق الراجع إلي كل مضاف إلي نكرة أن يجىء علي وفق المضاف إليه، كقوله تعالي:{كل نفس ذائقة الموت} و {إن كل نفس لما عليها حافظ} وقد يجئ علي وفق ((كل)) كما في الحديث، فذكر الضمير موافقة ((لكل)).

وقوله: ((كل يوم)) استئناف؛ فإنه لما قيل: ((علي كل سلامى صدقة)) توجه لسائل أن يسأل عمن يقدر علي هذا، وبأي شىء يتصدق؟ قيل:((كل يوم)) إلي آخره. وقوله: ((يعدل)) أي يصلح بين الخصمين، ويدفع ظلم الظالم، مبتدأ و ((صدقة)) خبره علي تأويل ((أن يعدل)) فحذف ((أن)) فارتفع الفعل، كما في قوله تعالي:{ومن آياته يريكم البرق} ، وينصره عطف قوله:((عليه)) و ((الكلمة الطيبة صدقة)) وكذا ((كل خطوة)) عطف عليه، وكل من هذه الجمل أخبار لقوله:((كل يوم تطلع فيه الشمس))، والرواجع من الأخبار المحذوفة، أي يعدل فيه مثلا.

الحديث العاشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((الثلثمائة.)) ((مح)): أضيف ((الثلاث)) وهي معرفة إلي ((مائة)) وهي نكرة. قيل في الاعتذار: إنه لا اعتداد باللام؟ لأنها زائدة. أقول: ولو

ص: 1545

اللهَ، واستغفَرَ اللهَ، وعزَلَ حجرًا عنْ طريقِ النَّاسِ، أو شوكةً، أو عظمًا، أو أمرَ بمعروفٍ، أو نهي عنْ مُنكرٍ، عَدَدَ تلكَ الستينَ والثلثماثة، فإِنَّه يمشي يومَئذٍ وقدْ زحْزحَ نفسَه عن النَّارِ)). رواه مسلم.

1898 -

وعن أبي ذَرٍّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ بكلِّ تسبيحةٍ صدقةً، وكلِّ تكبيرةٍ صدقةً، وكلِّ تحميِدَةٍ صدقةَ، وكلِّ تهليلَةٍ صدقةً، وأمرٍ بالمعروفِ صدقةً، ونهي عن المنكر صدقةً، وفي بُضعِ أحدكم صدقةً)). قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوَتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: ((أرأيتُم لوْ وضعَها في حرامٍ، أكانَ عليه فيهِ وِزرٌ؟! فكذلك إذا وضعَها في الحَلالِ كانَ له أجرٌ)). رواه مسلم.

ــ

ذهب إلي أن التعريف بعد الإضافة، كما في الخمسة عشر بعد التركيب، لكان وجهًا حسنًا.

قوله: ((وقد زحزح نفسه)) ((نه)): أي باعدها عن النار، يقال: زحزحه، أي نحاه عن مكانه وباعده منه. أقول: قيد الفعل بالظرف دلالة علي إيجاب الشكر في كل يوم، وبالحال إشعارًا. بأن غير الشاكر كائن في النار، ومنغمس فيها، وبالصدقة يتخلص منها، ويمضى وما عليه تبعة من ذلك. ((فيمشى)) تمثيل لبراءة ساحته وفوزه.

الحديث الحادى عشر عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله:، ((وكل تكبيرة صدقة)) ((مح)): روى ((صدقة)) بالرفع والنصب، أما الرفع، فعلي [الاستئناف]، والنصب عطف علي اسم ((إن)) فعلي هذا ((وكل تكبيرة)) مجرور فيكون من باب العطف علي عاملين مختلفين، فإن الواو نائب مناب ((إن))، و ((الباء)). وقال القاضى عياض: جعل التسبيح والتكبير والتهليل صدقة، تشبيهًا لها بالمال في إثبات الأجر، أو سميت بها علي سبيل المشاكلة. وقيل: معناه: أنها صدقة علي نفسه.

قوله: ((وأمر بالمعروف)) أسقط المضاف هنا إما اعتمادًا. علي السابق، ويدل عليه رواية الجر، أو قطعًا له عن ذلك الحكم. وأن قليلا من هذا النوع يقوم مقام تلك الأمور السابقة، فكيف بالكثير. وذهب الشيخ النواوى إلي أن التنكير فيه للإفراد، حيث قال: فيه إشارة إلي ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولهذا نكره، والثواب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أكثر منه بالتسبيح والتحميد؛ لأنهما فرضا كفاية، وتلك نوافل، فكم بين الفرض والنافلة! وروى إمام الحرمين عن بعضهم أن ثواب الفرض يزيد علي ثواب النافلة سبعين درجة.

قوله: ((وفي بضع أحدكم)) ((نه)): البضع الجماع، والاستبضاع نوع من نكاح الجاهلية، وذلك: أن تطلب المرأة جماع الرجل، تسأل منه الولد فقط.

ص: 1546

1899 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمَ الصَّدقةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنحةً، والشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنحةً تغدو بإناءٍ وتروحُ بآخرَ)). متفقٌ عليه.

1900 -

وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مامِنْ مُسلمٍ يَغرِسُ غرسًا، أو يُزرَعُ زَرْعًا فيأكلُ منه إِنسانٌ أوْ طيرٌ أوْ بَهيمَةٌ؛ إِلَاّ كانتْ له صدقةٌ)). متفق عليه.

ــ

أقول: و ((في)) إعادة، دلالة علي أن الباء في قوله:((إن بكل تسبيحة صدقة)) ثابتة، وهي بمعنى ((في)) وإن نزعت عن بعض النسخ، وأن هذا النوع من الصدقة أغرب من الكل حيث جعل قضاء الشهوة بهذا الطريق مكانًا للصدقة ومقرها.

قوله: ((أكان)) أقحم همزة الاستفهام علي سبيل التقرير بين ((لو)) وجوابها تأكيدًا للاستخبار في قوله: ((أرأيتم)).

الحديث الثانى عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((اللقحة)) ((نه)): - بالكسر والفتح - الناقة القريبة العهد بالنتاج، والجمع لقح. والصفي الناقة الغزيرة اللبن. والمنحة العطية، وقد يقع علي الهبة مطلقًا، لا قرضًا ولا عارية.

أقول: ((اللقحة)) مخصومة بالمدح، و ((منحة)) تمييز، و ((تغدو)) صفة لـ ((منحة)) إما مميزة ليتميز عن الهبة المطلقة، أو صفة مادحة، وهي أرجح الوجهين؛ لقوله:((نعم)).

وقوله: ((بإناء)) إما خبر أو حال، إذا كانت ناقصة، أي تغدو ملتبسة بملء إناه. قال المالكى: وقع في الحديث التمييز بعد فاعل ((نعم)) ظاهرًا، وهو مما منعه سيبويه، ويجيزه إذا وقع مضمرًا كقوله تعالي:{بئس للظالمين بدلا} ؛ لأن التمييز فائدته رفع الإبهام، ولا إبهام إلا بعد الإضمار. وأجاز المبرد وقوعه بعد الفاعل الظاهر، وهو الصحيح؛ لأن التمييز بعد الفاعل الظاهر إنما يكون للتوكيد كالحال المؤكدة، نحو قوله تعالي:{ولي مدبرًا} ، و {يوم أبعث حيًا} مع أن الأصل فيها أن يبين بها كيفية مجهولة، فكذا التمييز أصله أن يرفع به إبهام، وقد يجاء به بعد ارتفاع الإبهام قصدًا للتوكيد، كقوله تعالي:{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا} وكقول أبي طالب:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا

الحديت الثالث عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ما من مسلم يغرس غرسًا)) ((مظ)): بأي سبب يؤكل مال الرجل يحصل له الثواب. أقول: نكر مسلمًا، وأوقعه في سياق النفي،

ص: 1547

1901 -

وفي رواية لمسلمٍ عن جابرٍ: ((وما سُرِقَ منه له صدقةٌ)).

1902 -

وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ((غُفِرَ لامرأةٍ مُومِسَةٍ مرت بكلب علي رأس ركيٍّ، يلْهَثُ كادَ يقتُلُه العَطشُ، فنزَعتْ خُفَّها فأوثقَتْ بخمِارِها، فنزعَتْ له منَ الماءِ، فغُفِرَ لها بذلك)). قيلَ: إِنَّ لنا في البهائِمِ أجرًا، قال:((في كل ذاتِ كَبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ)). متفق عليه.

ــ

وزاد ((من)) الاستغراقية، وخص الغرس والزرع، وعم الحيوان؛ ليدل علي سبيل الكناية الإيمائية علي أن أي مسلم كان سواء حرًا أو عبدًا، مطيعًا أو عاصيًا، يعمل أي عمل من المباح، ينتفع بما عمله أي حيوان - كان - يرجع نفعه اليه ويتاب عليه.

((حس)): روى أن رجلاً مر بأبي الدرداء وهو يغرس جوزة، فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، تموت غدًا أو بعد غد، وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عامًا! فقال: وما علي أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيرى. وذكر أبو الوفاء البغدادى في كتاب المقامات: أنه مر أنوشروان علي شيخ يغرس شجر الزيتون، فقال له: ليس هذا أوان غرسك شجر الزيتون، وهو شجر بطئ الإثمار وأنت شيخ هرم. فأجاب: غرس من قبلنا وأكلنا، ونغرس ليأكل من بعدنا، فقال أنوشروان: زه - أي أحسنت - وكان إذا قال: ((زه)) يعطى من قيلت له أربعة آلاف درهم فقال: أيها الملك! كيف تتعجب من غراسى، واستبطاء ثمره، فما أسرع ما أثمرت! فقال: زه، فزيد أربعة آلاف أخرى، فقال: أيها الملك؟ كل شجرة تثمر في العام مرة، وقد أثمرت شجرتى في ساعة مرتين، فقال: زه، فزيد مثلها، ومضى أنوشروان، وقال: إن وقفنا عليه لم يكفه ما في خزائننا.

قوله: ((إلا كانت له صدقة)) الرواية برفع الصدقة علي أن ((كانت)) تامة.

الحديت الرابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((مومسة)) ((تو)): هي الفاجرة المجاهرة. قيل: الومس تحكك الشيء بالشيء حتى يتجرد، ولعلها منه ((الركى))، البئر الذي لم يطو، وجمعه الركايا. لهث الكلب يلهت: إذا أخرج لسانه من العطش والتعب.

قوله: ((ذات كبد رطبة)) ((تو)): قيل: إن الكبد إذا ظمئت ترطبت، وكذا إذا ألقيت علي النار. وقيل: هو من باب وصف الشىء باعتبار ما يؤول إليه، فمعناه في كل كبد حرَّى لمن سقاها حتى تصير رطبة أجر، والأول أوجه؛ لأن الرطبة قد وردت في الحديث بدل الحارة، فيجب أن يكون بمعناها. وفي حديت سراقة ومخول ((أو حارة)) بدل ((رطبة)) واللفظان معًا - أعنى حرَّى ورطبة - لم يجمعهما رواية.

أقول: التركيب وارد علي سبيل المبالغة، وذلك أنه لما سمعوا حديث سقى المومسة

ص: 1548

1903 -

وعن ابن عمرَ، وأبي هريرةَ، قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((عُذبتِ امرأةٌ في هرَّةٍ أمسكتْها حتى ماتتْ منَ الجوع، فلمْ تكنْ تُطعمها، ولا ترسلُها فتأكلَ منْ خشاشِ الأرضِ)). متفق عليه.

1904 -

وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ علي ظهرِ طريقٍ، فقال: لأنَحينَّ هذا عن طريق المسلمين لا يُؤذيهِمْ، فأدخِلَ الجنَّةَ)). متفق عليه.

1905 -

وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لقدْ رأيتُ رجلاً يتقلبُ في الجنَّةِ في شجرةٍ قَطعَها من ظهر الطريقِ كانت تُؤذِي النَّاسَ)). رواه مسلم.

ــ

وغفران الله. لها، فتعجبوا من ذلك، وقالوا:((إن لنا)) أي أئن لنا، أتوا بالاستفهام المؤكد للتعجب، وأكدوا بـ ((أن)) بالغ صلوات الله عليه في الجواب، حيث عم أجناس الحيوان كلها، وقيد الكبد بالرطبة؛ ليدل علي أن الكبد الحرَّى أولي وأحرى. ((خط)): في إطعام كل حيوان وسقيه أجر، بشرط أن لا يكون مأمورًا بقتله كالحية وغيرها.

الحديث الخامس عشر عن ابن عمر رضي الله عنه: قوله: ((في هرة)) قال المالكى: تضمن ((في)) في الحديث معنى التعليل، وهو مما خفي علي أكثر النحويين. وفي التنزيل قوله:{لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} . أقول: إنهم يقدرون المضاف، أي في شأن الهرة وأمرها. و ((الفاء)) في ((فلم تكن)) تفصيل وتفسير للإمساك والجوع، وفي ((فتأكل)) ناصبة للفعل جوابًا للنفي.

قوله: ((خشاش الأرض)) ((تو)): الخشاش – بالكسر – الحشرات، وقد يفتح. أقول: ذكر الأرض هنا كذكرها في قوله تعالي: {وما من دابة في الأرض} للإحاطة والشمول.

الحديث السادس والسابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: وقوله: ((علي ظهر طريق)) أي علي ظاهره وفوقه. ((شف)): يمكن أن يدخل هذا الرجل الجنة بالنية الصالحة وإن لم ينحه، ويمكن أن يكون قد نحاه. أقول:((الفاء)) علي الوجه الأول سببية، والسبب مذكور، وعلي الثانى فصيحة تدل علي محذوف هو سبب لما بعد الفاء، والتقدير: أقسم بالله أن أبعد الغصن من طريق المارة، فأبر قسمه حتى سهل للمارة العبور، فقبل منه وأدخل الجنة.

وقوله: ((لا يؤذيهم)) جملة مستأنفة، بيان لعلة التنحية. وقيل:((غصن شجرة)) ولم يقل: ((بغصن)) ليشعر بأنه لم يكن مقطوعًا عنها. وقيل: ((لأنحين))، ولم يقل: لأقطعن ليؤذن بأن

ص: 1549

1906 -

وعن أبي بَرزةَ، قال: قلتُ: يانبيَّ اللهِ! علّمني شيئًا أنتفعُ به. قال: ((اعْزِلِ الأذى عن طريق المسلمينَ)). رواه مسلم.

وسنذكرُ حديث عَديِّ بنِ حاتمٍ: ((اتقوا النَّارَ)) في ((باب علاماتِ النُّبوَّة)) إِن شاءَ اللهُ تعالي.

الفصل الثاني

1907 -

عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، جئت، فلمَّا تبينتُ وجههَ، عرَفتُ أنَّ وجهه لسى بوجه كذَّابٍ. فكان أوَّلَ ما قال:((يا أيُّها الناسُ! أفشُوا السَّلامَ، وأطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرْحام، وصلّوا بالليلِ والنَّاسُ نِيامٌ؛ تدخُلوا الجنة بسَلامٍ)). رواه الترمذيُّ، وابنُ ماجه، والدارمي.

1908 -

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((اعبدوا الرَّحمنَ، وأَطعمِوا الطعامَ، أفشُوا السَّلامَ، تدخُلوا الجنة بسَلامٍ)). رواه الترمذيُّ، وابنُ ماجه.

ــ

الشجرة كانت ملكًا للغير، أو كانت مثمرة. ويحتمل أن يكون كل واحد من الحديثين مطلقًا من وجه، ومقيدًا من وجه، فذكر الغصن في الأول قيد لذكره الشجرة المطلقة في الثانى، وذكر القطع في الثانى قيد لذكر التنحية في الأول؛ لأن التنحية أعم من أن تكون بالقطع، أو بالإبعاد من غير قطع. قوله:((يتقلب في الجنة)) التقلب التردد مع التنعم والترفه، قال الله تعالي:{لايغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد} .

الحديت الثامن عشر عن أبي برزة: قوله: ((أنتفع به)) روى مجزومًا جوابًا للأمر، ومرفوعًا صفة لـ ((شيئًا)). فإن قلت: كيف خص الجواب بأدنى شعب الإيمان دون أعلاها وأوسطها؟ قلت: إن أبا برزة كان من أكابر الصحابة، وكان متحليًا بالشعب، وأهمها بالنسبة إليه هذه، أو ذكر أدناها؛ ليدل علي إرادة الأعلي بالطريق الأولي.

الفصل الثاني

الحديت الأول والثانى، عن عبد الله بن سلام: قوله: ((تبينت)) أي تكلفت في البيان، وتأملت إما بعلامات مذكورة في الكتب، أو بالتثبت في النظر والتفرس بأمارات لائحة في السيماء، وينصر هذا قوله:((عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب))، ولو أريد الأول لقيل: عرفت أنه النبي الموعود. وأنشد ابن رواحة في المعنى:

لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تنبئك عن خبره

ص: 1550

1909 -

وعن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنً الصَّدَقَةُ لتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ ((. رواه الترمذي. [1909]

1910 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ)). رواه أحمد، والترمذي. [1910]

1911 -

وعن أبي ذَر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَبَسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ، وأمرُكَ بالمعروفِ صدقة ونَهْيُكَ عن المنكرِ صدقةٌ، وإرشادُك الرجلَ في أرضِ الضلالِ لك صدقةٌ، وبَصَرُكَ الرجلِ الرِّدِيءِ البصرِ لك صدقةٌ، وإماطتُكَ الحَجَرَ

ــ

وكان من مقالته ما هو جامع لمكارم الأخلاق من حسن المعاشرة مع الخلق بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، ومع الحق بالتقرب إليه بالتهجد، قال الله تعالي:((ما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً)) الحديث.

الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ميتة السوء)) ((تو)): الميتة – بالكسر - الحالة التي يكون عليها الإنسان من الموت، وأراد بها ما لا يحمد عاقبته، ولا يؤمن غائلته من الحالات، كالفقر المدقع، والوصب الموجع، والألم المقلق، والأعلال التي تفضي به إلي كفران النعمة، ونسيان الذكر، والأحوال التي تشغله عما له وعليه، ونحوها. ((مظ)): هي ما تعوذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي، ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)).

أقول: ويجوز أن يحمل إطفاء الغضب علي المنع من إنزال المكروه في الدنيا، كما ورد ((لا يرد القضاء إلا الصدقة))، وموت السوء علي سوء الخاتمة؛ ورخامة العاقبة من العذاب في الآخرة كما ورد ((الصدقة تطفئ الخطيئة)) وقد سبق أنه من باب إطلاق السبب علي المسبب. وقد تقرر أن نفي المكروه لإثبات ضده أبلغ من العكس، وكأنه نفي الغضب، وميتة السوء، وأراد الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن في العقبى، وعليه قوله تعالي:} فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون {.

الحديث الرابع والخامس، عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((في أرض الضلال)) أضاف

ص: 1551

والشَّوْكَ والعَظْمَ عن الطريقِ لك صدقةٌ، وإفراغُكَ من دَلْوِكَ في دَلْوِ أخيك لك صدقةٌ)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.

1912 -

وعن أبي سعد بن عبادةَ، قال يا رسول الله! إِنً أمَّ سعدٍ ماتت، فأيُّ الصدقةِ أفضلُ، قال ((الماء)) فحفرَ بئراً، وقال: هذه لأمِّ سعدٍ. رواه أَبو داود، والنسائي [1912].

1913 -

وعن أبي سعيد، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُّما مسلم كسا مُسلماً ثوباً علي عُرْي؛ كساهُ اللهُ من خُضْرِ الجنَّة. وأيُّما مسلمٍ أطعمَ مُسلماً علي جوعٍ؛ أطعمَهُ اللهُ من ثمار الجنَّة. وأيما مسلمٍ سَقا مسلماً علي ظَمأٍ؛ سقاهُ اللهُ منَ الرَّحيقِ المختومِ)). رواه أبو داود، والترمذي. [1913]

ــ

الأرض إلي الضلال مبالغة، كأنه خيل للضلال أرضاً، والضلال للضال، وزيد ((لك)) في هذه القرينة والتي يليها، لمزيد الاختصاص بها. ((مظ)): أرض الضلال هي التي لا علامة فيها للطريق، فيضل فيها الرجل.

قوله: ((رديء البصر)) هو من لا يبصر شيئاً، أو يبصر قليلاً، ووضع البصر موضع القياد مبالغة في الإعانة، كأنه يتضرر من كل شيء ويعثر من كل نتؤ، فيتظلم ويحتاج إلي من يبصِّره.

الحديث السادس عن سعد: قوله: ((الماء)) إنما كان أفضل؛ لأنه أعم نفعاً في الأمور الدينية والدنيوية، ولذلك من الله تعالي بقوله:} وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً {وإنما وصف الماء بالطهور ليشير إلي أن الغرض الأصلي في الإنزال إزالة الموانع من العبادة، وباقي الأغراض تابعة لها.

الحديث السابع عن أبي سعيد: قوله: ((خضر الجنة)) من إقامة الصفة مقام الموصوف أي ثيابها الخضر. قوله: ((الرحيق المختوم)) ((تو)): ((الرحيق)) الشراب الخالص الذي لا غش فيه، و ((المختوم)) الذي يختم أوإنيها، وهو عبارة عن نفاستها وكرامتها. وقيل: إن المراد منه أن آخر ما تجدون منه في الطعم رائحة المسك، من قولهم: ختمت الكتاب، أي انتهيت إلي آخره.

ص: 1552

1914 -

وعن فاطمة بنت قيس، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ في المالِ لَحقاً سوى الزكاةِ)) ثمَّ تلا:} ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وُجوهكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغرِب {الآية. رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي. [1914]

1915 -

وعن بُهَيْسةَ، عن أبيها، قالت: قال: يا رسولَ الله! ما الشيء الذي لا يحلُّ منعُه؟ قال: ((الماءُ)). قال: يا نبيَّ الله! ما الشيء الذي لا يحِلُّ منعُه؟ قال: ((الملحُ)) قال: يا نبيَّ الله! ما الشيء الذي لا يحلُّ منعُه؟ قال: ((أن تفعلَ الخيرَ خير لك)). رواه أبو داود. [1915].

ــ

الحديث الثامن عن فاطمة بنت قيس: قوله: ((إن في المال لحقاً سوى الزكاة)) ((مظ)): حق المال أن لا يحرم السائل، وأن لا يمنع متاع بيته من استعارة، كالقدر والقصعة وغيرهما، ولا يمنع أحداً الماء والملح والنار.

قوله: ((تم تلا: {ليس البرَّ أن تُوَلُّوا وجوهكم قبَلَ المشرق والمغرب ولكنَّ البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال علي حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة} الآية. وطريق الاستدلال أنه تعالي ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه، ثم قفاه بإيتاء الزكاة، فدل ذلك علي أن في المال حقاً سوى الزكاة. واعلم أن الحق حقان: حق يوجبه الله تعالي علي عباده، وحق يلتزمه العبد علي نفسه الزكية الموقاة عن الشح الذي جبلت عليه، وإليه الإشارة بقوله: ((علي حبه)) أي حب الله، أو حب الإيتاء. وأنشد:

تعود بسط الكف حتى لو انه

ثناها لقبض لم تطعه أنامله

وكان من حق الظاهر وعلي سنن الآيات والأحاديث أن يعطف ((وأقام الصلاة وآتى الزكاة)) علي قوله: ((من آمن بالله واليوم الآخر)) لكن أقحم قوله: ((وآتى المال)) وقيد بالحب في الله، وسلك به مسلك الإيمان بالله تثبيتاً من نفسه للتصديق، كأنه قيل: من آمن بالله حقاً، وأقام الصلاة وآتى الزكاة.

الحديث التاسع عن بهيسة - بالباء الموحدة من تحت علي صيغة التصغير -: قوله: ((أن تفعل الخير)) أن مصدرية، أي فعل الخير خير لك، وتطبيقه علي السؤال ما الشيء الذي لا يحل منعه - أن يقال: هو فعل الخير الذي تدعو إليه نفسك الزكية، فإنه خير لك لا يحل لك منعه.

ص: 1553

1916 -

وعن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيى أرضاً مَيتةً فلهُ فيها أجر، وما أكلتِ العافيةُ منه فهوَ لهُ صدقة)). رواه [النسائي]، والدارمي. [1916]

1917 -

وعن البَراءِ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من منَحَ منحةَ لبنٍ أو وَرِقٍ، أو هَدَى زُقاقاً، كانَ له مِثلُ عِتقِ رقَبَةٍ)). رواه الترمذي [1917].

1918 -

وعن أبي جُري جابرِ بنِ سُليمٍ، قال: أتيتُ المدينةَ، فرأيتُ رجُلاً يُصدُر الناسُ عن رأيهِ، لا يقولُ شيئاً إلا صدروا عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسولُ الله. قال: قلت: عليكَ السَّلامُ يا رسولَ الله! مرتين. قال)):لا تقُلْ عليكَ السَّلام. عليكَ السَّلامُ تحيَّةُ الميت، قُل: السَّلامُ عليك)) قلت: أنتَ رسولُ اللهِ؟

ــ

ومنه ما روى أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الحمر أي زكاته، فقال: ((لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} فالقرينة الأخيرة أعم من الأولين، فهي كالتذييل لهما، فتأمل أيها الناظر في هذا التأويل، وانتظام هذه الأحاديث في سلك هذه المعإني.

الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((العافية)) ((تو)): هي كل طالب رزق من إنسان، أو بهيمة، أو طائر، وعافية الماء: واردته.

الحديث الحادي عشر عن البراء بن عازب: قوله: ((منحة لبن)) ((تو)): منحة اللبن أن تعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها، ويعيدها. وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زماناً، ثم يردها. ومنه الحديث ((المنحة مردودة)). قوله:((أو ورق)) قال الترمذي في جامعة: إنما يعني به قرض الدراهم.

قوله: ((أو هدى زقاقاً)) ((نه)) هو من هداية الطريق، أي عرف ضالاً أو ضريراً. ويروى بتشديد الدال إما للمبالغة من الهداية، أو من الهدية، أي من تصدق بزقاق من النخيل، وهو السكة والصف من أشجاره.

الحديث الثاني عشر عن جابر بن سليم: قوله: ((يصدر الناس عن رأيه)) ((تو)): يقال: صدر عن المكان إذا رجع منه، شبه المنصرفين عنه صلى الله عليه وسلم بعد توجههم إليه لسؤال مصالح معادهم ومعاشهم بالواردة إذا صدروا عن المنهل بعد رى. قوله:((لا تقل: عليك السلام)) في جامع الأصول: هذا يوهم أن السنة في تحية الموتى أن يقال لهم: عليكم السلام، كما تفعله العامة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل علي المقبرة، وقال:((السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)) فقدم ذكر السلام علي ذكر المدعو له مثل تحية الأحياء. وإنما قال له ذلك إشارة منه إلي ما جرت به

ص: 1554

فقال: ((أنا رسولُ الله، الذي إِن أصابكَ ضٌر فدعوتَه كشفَهُ عنك، وإِنْ أصابكَ عامُ سنة، فدعوتَهُ أنبَتَها لك، وإِذا كنتَ بأرضٍ قفر أو فلاةٍ فضلَّتْ راحلتُكَ فدعوتَه ردَّها عليك)). قلت: اعْهَد إِليّ - قال: ((لا تسُبن أحداً)) قال: فما سَبَبْتُ بعدَهُ حراً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة. قال: ((ولا تَحقرَن شيئاً من المعروف، وأنْ تُكلمَ أخاكَ وأنتَ منَبسط إِليه وجْهُك؛ إِن ذلكَ من المعروفِ. وارفَع إِزارَك إِلي نصف الساق، فإِنْ أبيتَ فإِلي الكَعبينِ، وإِياكَ وإِسبالُ الإِزار؛ فإِنَّها منَ المخيلَةِ، وإِنَّ اللهَ لا يحبُّ

ــ

العادة منهم في تحية الأموات، إذ كانوا يقدمن الدعاء علي اسم الميت قال الشاعر:

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحما

وقال آخر

عليك سلام من أمير وباركت

فالسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات. وهو من كلام الخطابي.

((تو)): لم يرد بذلك أن الميت ينبغي أن يسلم عليه علي هذه الصيغة، فإنه كان يسلم علي الموتى فيقول:((السلام عليكم ديار قوم مؤمنين)) وإنما أراد بذلك أن قولك هذا مما يحي به الأموات لا الأحياء؛ لأن الحي شرع له أن يسلم علي صاحبه، وشرع لصاحبه أن يرد عليه، فلا يحسن أن يوضع ما وضع للجواب موضع التحية، ولا ينكر ذلك في الأموات، إذ لا جواب هنالك، فاستوت التحيتان في حقهم. ثم إن السلام شرع لمعان: أحدها المسارعة إلي أمان المسلم عليه مما يتوهم من قبل المسلم من مكروه، وإذا قال: عليك السلام لم يحصل له الأمن حصوله بتقديم السلام، ىشتباه الحال علي المسلم عليه، في الدعاء له والدعاء عليه، حتى يذكر السلام، وإذا قدم السلام تبين له الأمن في أول الوهلة، ولا مدخل لشيء مما ذكرنا في تحية الأموات.

أقول: يفهم من كلام جامع الأصول أن النهي معلل بفعل الجاهلية، فلا يستعمل في الأحياء ولا الأموات، ثم هذا النهي إما نهي تنزيه، أو تحريم. ((مح)): يحتمل أن يكون هذا الحديث وارداً في بيان الأحسن والأكمل، ولا يكون المراد أن هذا ليس بسلام. والمختار أنه يكره الابتداء بهذه الصيغة؛ فإن ابتدأ وجب الجواب؛ لأنه سلام.

أقول: والوجه في الكراهة ما ذكره الخطابي، وما ذهب إليه الشيخ التوربشتى ضعيف؛ لأن قولك:((عليك السلام)) من باب تقديم الخبر علي المبتدأ للاختصاص، كأن المسلم عليه استشعر من المسلم الخوف، فتردد بين السلامة والعطب، فخص بأن ليس عليه إلا السلامة.

قوله: ((أنا رسول الله الذي إن أصابك ضر)) إلي آخره، فإن قلت: كيف طابق هذا الجواب

ص: 1555

المخيلَةَ، وإِنِ امرؤ شتمَكَ وعيَّرك بما يعلَمُ فيك، فلا تعيِّرْه بما تعلمُ فيه، فإِنَّما وبالُ ذلكَ عليه)). رواه أبو داود، وروى الترمذي منه حديث السلام. وفي رواية:((فيكونُ لكَ أجرُ ذلك ووبالُهُ عليه)) [1918].

1919 -

وعن عائشة، أنهم ذبحوا شاةً، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقيَ منها إِلا كَتِفُها، قال:((بقىَ كلُّها غَيْرَ كتِفِها)). رواه الترمذي وصحَّحه. [1919].

ــ

سؤاله ((أنت رسول الله))؟ قلت: هو من الأسلوب الحكيم، أي لا تسأل عن كوني رسول الله، فإن ذلك مقرر ثابت لا شك فيه، ولكن سل عما بعثت له من كوني رحمة للعالمين، ورسول أرحم الراحمين. ونظيره قول قوم صالح لمؤمنيهم:{أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون} .

قوله: ((أنبتها لك)) أي صيرها ذات نبات، أي بدل بها خصباً. قوله:((بأرض قفر)) قيل: هي الفلاة الخالية من النبات والشجر. والمراد منه المفازة المهلكة. يقال: عهد إليه إذا أوصاه.

قوله: ((وأن تكلم أخاك)) مصدر وعامله محذوف، تقديره: كلم أخاك تكليما، فلما حذف الفعل، أضيف المصدر إلي الفاعل، وهو معطوف علي النهي، نحو قوله تعالي:{وبالوالدين إحساناً} عطفاً علي ((لا تشركوا)) أي لا تشركوا به شيئاً، فأحسنوا بالوالدين إحساناً

قوله: ((من المخيلة)) ((نه)): يقال: اختال الرجل فهو ذو خيلاء، وذو خالٍ، وذو مخيلة، وذو كبر، وإضافة عام إلي سنة ليست من إضافة الشيء إلي نفسه؛ لأن السنة غلبت علي القحط حيث لا يكاد يفهم منها غير القحط، ومن ثم نكرت وأضيف إليها.

الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((بقى كلها غير كتفها)) ولما جعلت المشاهد المحسوس باقياً، والغائب فإنياً علي سبيل الحصر عكس صلوات الله عليه، أي ما تشاهدونه وتختصون به أنفسكم خيال؛ لأنه في معرض الفناء، ووشك الزوال وما تؤثرونه عليها وإن كان غائباً فهو ثابت عند الله، ووعده الصادق كما قال الله تعالي:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} .

ص: 1556

1920 -

وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما مِنْ مُسلمٍ كَسا مُسلماً ثوباً؛ إِلَاّ كانَ في حفظٍ منَ اللهِ ما دامَ عليهِ منهُ خِرقة)). رواه أحمد، والترمذي. [1920].

1921 -

وعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ، يرفعُه، قال:((ثلاثة يُحبُّهمُ اللهُ: رجل قامَ منَ الليلِ يتلو كتابَ اللهِ، ورجل يتصدَّقُ بصدقةٍ بيمنه يُخفيها- أراه قال: منْ شمالهِ-، ورجل كانَ في سريةٍ فانهزَمَ أصحابُه، فاستَقبلَ العدُوَّ)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غيرُ محفوظٍ، أحدُ رُواته أبو بكرِ بنُ عياشٍ، كثيرُ الغلًط.

1922 -

وعن أبي ذرِّ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يُحبهم اللهُ، وثلاثة يَبغُضهم اللهُ؛ فأما الذينَ يُحبُّهم اللهُ: فرجل أتى قوماً فسألَهم باللهِ ولم يسألهم لقَرابة بينَه وبينهم، فمنًعوه، فتخلفَ رجل بأعيانِهم، فأعطاه سراً، لا يعلَمُ بعطِيَّتِه إِلَاّ اللهُ

ــ

الحديث الرابع عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((في حفظ من الله)) لم يقل: في حفظ الله؛ ليدل التنكير علي نوع تفخيم وشيوع، هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فلا حصر ولا عد لثوابه وكلاءته، ومن ثم ترك ذكره. ومنه قوله تعالي:{حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} لم يذكر الجزاء؛ ليدل علي ما لا يدخل تحت الوصف من الكرامة والبشارة، يعنى إذا جاءوها كان كيت وكيت، وفتحت أبوابها.

الحديث الخامس عشر عن ابن مسعود: قوله: ((يرفعه)) أي يرفع الحديث إلي النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يقل هذا لأوهم أن يكون الحديث موقوفاً علي ابن مسعود؛ لقوله بعده:((قال: ثلاثة)) ولم ينسبه إلي النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث السادس عشر عن أبي ذر: قوله: ((فسألهم بالله)) أي مستعطفاً بالله قائلاً: أنشدكم بالله أعطوني كذا. قوله: ((فتخلف رجل بأعيانهم)) ((تو)): كذا رواه النسائي في كتابه، والمعنى أنه ترك القوم المسئول عنهم خلفه، وتقدم فأعطاه. والمراد بالأعيان الأشخاص. ويحتمل أنه أراد بذلك أنه سبقهم بهذا الخير، فجعلهم خلفه، وقد وجدت الطبرإني ذكر في كتابه الموسوم بـ ((المعجم الكبير)) ((فتخلف رجل عن أعيانهم)) وهذا أشبه وأشد من طريق المعنى، وإن كانت الرواية الأولي أوثق من طريق السند، والمعنى أنه تأخر عن أصحابه حتى خلا بالسائل، فأعطاه سراً.

ص: 1557

والذي أعطاهَ. وقومٌ سارُوا ليلتَهم حتى إِذا كانَ. النَّومُ أحبَّ إليهم مما يُعْدَلُ به، فوضَعوا رُؤوسهم، فقامَ يتَملَّقُني ويتلو آياتي. ورجل كانَ في سرية، فلَقَي العدُوَّ، فهُزموا، فأقبلَ بصدره حتى يُقتلَ أو يُفتحَ له. والثلاثةُ الذينَ يَبغُضُهم اللهُ: الشَّيخُ الزَّإني، والفقيرُ المختالُ، والغَنيُّ الظَّلومُ)). رواه الترمذي، والنسائي. [1922].

ــ

أقول: ويمكن أن يقال: إن متعلق الفعل محذوف، والباء حال، أي فتخلف عنهم مستتراً بظللهم وأشخاصهم، بولغ فيه كما بولغ في قوله:((حتى لا يعلم شماله ما تنفق يمينه)).

((مظ)): وإنما أحبه الله؛ لأنه عظم اسم الله تعالي، وتصدق سراً، فحصل له فضيلتان، ولأنه خالف أصحابه حيث اجترؤوا ولم يعظموا اسم الله تعالي، ولم يعطوا السائل شيئاً.

قوله: ((وقوم)) عطف علي قوله: ((رجل أتى قوماً)) علي تقدير صاحب قوم، فيكون فاعل ((قام)) في قوله:((قام يتملقني)) عائداً إلي هذا المقدر. قوله: ((مما يعدل به)) ((مظ)): أي مما يقابل بالنوم، يعنى يغلب عليهم النوم، حتى صار النوم أحب إليهم من كل شيء.

أقول: ولا ارتياب أن سيرهم ذلك وإدلاجهم كان للفوز بمطلوب خطير، فاستأثر لذلك الرقاد علي الهجود، فبلغ الأمر إلي أن رجحوا جانب النوم علي ما استأثروا عليه.

قوله: ((ويتملقني)) ((نه)): التملق تفعل من الملق، وهو – بالتحريك - الزيادة في التودد، والدعاء، والتضرع فوق ما ينبغي. ((شف)): في أول نظم هذا الحديث شيء، وهو أن أوله يرشد إلي أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وآخره وهو قوله:((قام يتملقني)) يؤذن بأنه من كلام الله تعالي.

أقول: لا شك أن هذا المقام مقام مناجاة بين العبد ومولاه، وفي التملق نوع دلال ومناغاة بين المحب والمحبوب، فلابد أن يجري بينهما أسرار، فحكي الله تعالي لنبيه ما جري بين الله تعالي وبين عبده، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى قول الله تعالي وما تلفظ به، لا معناه، إذ لو أراد المعنى لقال: قام يتملق الله ويتلو آياته. وليس هذا من الالتفات في شيء، وفي كل واحدة من الفقرات الثلاث تتميمات ينتهي إليها المعنى إلي النهاية في بابه، ففي إعطاء الرجل السائل بعد منع القوم إياه غاية في الإخلاص والجود، وفي قيام الرجل من بين القوم مع محبة النوم غاية في طلب القرب والزلفي من الله تعالي، وفي استقبال الرجل العدو من بين المنهزمين، ثم إقدامه بصدره غاية في الجرأة، وبذل النفس في سبيل الله تعالي؛ وعلي هذا الفقرات الآتية، فإن الزنى فاحش من كل أحد، ومن الشيخ أفحش، وإن الخيلاء مذمومة من كل أحد، ومن الفقير أذم، وإن الظلم قبيح، ومن الغني أقبح. وأراد بالظلم المطل، لشهرة المثل السائر: مطل الغنى ظلم.

ص: 1558

1923 -

وعن أنسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خَلقَ اللهُ الأرضَ جعلَتْ تَميدُ، فخلقَ الجِبالَ، فقال: بها عليها؛ فاستقرَّتْ، فعجِبتِ الملائكةُ منْ شدَّة الجبِالِ. فقالوا: ياربِّ! هلْ منْ خلقكَ شيءٌ أشدُّ من الجبِالِ؟ قال: نعمْ الحديدُ. فقالوا: ياربِّ! هل من خلقك شيءٌ أشدُّ منَ الحديد؟ قال: نعم، النّار. فقالوا: ياربِّ! هل من خلقِك شيءٌ أشدُّ من النَّارِ؟ قال: نعمْ، الماءُ. فقالوا: ياربِّ! هلْ من خَلقكَ شيءٌ أشدُّ منَ الماءِ؟ قال: نعمْ، الرِّيحُ. فقالوا: ياربِّ! هلْ منْ خَلقكَ شيءٌ أشدُّ منَ الرِّيحِ؟ قال: نعمْ، ابنُ آدمَ تصدَّقَ صدَقةً بيميِنه يخُفيها منْ شِماله)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديثٌ غريب.

وٌذِكر حديثُ معاذ: ((الصَّدفةُ تُطفئُ الخطيئةَ)) في ((كتاب الإِيمان)). [1923].

ــ

الحديث السابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((فقال بها عليها)) وقد مر مراراً أن القول يعبر به عن كل فعل، وقرينة اختصاصه اقتضاء المقام، فالتقدير: ألقى بالجبال علي الأرض، كما قال تعالي:{وألقى في الأرض رواسيَ أن تميد بكم} فالباء زائدة في المفعول، كما في قوله تعالي:{ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة} وإيثار القول علي الإلقاء والإرسال؛ لبيان العظمة والكبرياء، وأن مثل هذا الأمر العظيم يتأتى من عظيم قدرته بمجرد القول. وقوله:((جعلت تميد)) أي طفقت تتحرك.

قوله: ((قال: نعم ابن آدم تصدق صدقة)) ((تو)): اعلم أن الصدقة إنما كانت أشد وأقوى؛ لأن نفس الإنسان جبلت علي غرائز لا يلينها شيء من تلك الأجرام الشديدة فهي أشد من كل شديد، ومن طبعها إيثار السمعة الموجبة للشهرة، فإذا سخرها صاحبها، واستولي عليها بحيث رضيت بإخفاء الصدقة - وهي طالبة لشهرتها وإظهارها طبعاً - كان صاحبها أشد من الريح.

((مظ)): كون تصدق بني آدم سراً أشد من الريح، إما لعظم ثوابه، وإما لأنه مخالفة النفس وقهر الشيطان، وهذان الوصفان أعظم أيضاً من هذه الأشياء، وإما لأنه يحصل مرضات الله تعالي. ((شف)): وإنما كان التصدق أشد؛ لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وغضب الله تعالي لا يقابله شيء في الصعوبة والشدة.

وأقول - وبالله التوفيق -: ولأمر ما سمى الله سبحانه وتعالي كلام نبيه وحبيبه صلوات الله وسلامه عليه بالحكمة في قوله تعالي: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} وإن شئت فتأمل في هذا الكلام الجامع الذي لا مطمح وراءه، فإنه صلوات الله عليه ذكر العناصر الأربعة وبين

ص: 1559

الفصل الثالث

1924 -

عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبدٍ مُسلم يُنفِقُ من كل مالٍ لهُ زوجينِ في سبيلِ اللهِ، إِلا استقبلَتْهَ حجَبَةُ الجنةِ، كلُّهم يدعوه إِلي ما عندهَ)). قلت: وكيفَ ذلك؟ قال: ((إِن كانَتْ إِبلاً فبعيرينِ، وإِنْ كانت بقرةً فبقرتين)). رواه النسائي. [1924].

ــ

طبائعها ومقتضيات جبلتها، فإن الأرض طبيعتها الثقل، والرسوب، وإمساك الجبال الأرض ليس يعجب وإن تعجبت الملائكة منه؛ لأنه من طبيعتها وجبلتها. وعلي هذا تأثير النار في الحديد، والحديد في الجبال، وكذا إطفاء الماء النار، وتصرف الريح في السحاب الحامل للماء، وتفريقها في الآفاق، وتموج البحر وهيجانه كلها من طبائعها. وأما الإنسان فمن جبلته القبض والبخل الذي هو من طبيعة الأرض، ومن جبلته الاستعلاء والتفوق علي الغير، وطلب انتشار الصيت في الآفاق، وهما من طبيعتي النار والريح، فإذا خالف راغم طبيعته، وخالف جبلته، كان أشد من الجميع، ومن ثم فضل علي سائر المخلوقات. وما يرى فيه من النقائص كالشهوة والحرص والبخل، فهي مواد الكمال ومبادئها؛ فإن العفة نتيجة الشهوة، والسخاء نتيجة البخل، لأنها بين طرفي الإفراط والتفريط من التبذير والإمساك، والحرص نتيجة الترقي إلي منتهي بغيته. وروى الشيخ المرشد نجم الدين البكري - قدس الله سره - في ((فواتح الجمال)) عن الشيخ أبي الحسن الخرقإني قال: صعدت إلي العرش، فطفته ألف طوفة، ورأيت الملائكة يطوفون مطمئنين، فعجبوا من سرعة طوافي، فقلت: ما هذه البرودة في الطواف؟ فقالوا: نحن ملائكة أنوار لا نقدر أن نجاوزه، فقالوا: وما هذه السرعة؟ فقلت: أنا آدمي، وفيَّ نار ونور، وهذه السرعة من نتائج نار الشوق.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي ذر رضي الله عنه: قوله: ((وكيف ذلك)) فإن قلت: ظاهر السؤال عن حقيقة الزوجين، فيقتضي أن يسأل بما. قلت: بل السؤال عن كيفية الإنفاق مما يتملكه بالعدد المخصوص. وينصره جزاء الشرط؛ لأن التقدير: فينفق بعيرين. وقوله ((كانت إبلاً)) اسم ((كان)) راجع إلي كل مال باعتبار الجماعة، أو باعتبار الخبر، فإن الإبل جنس، كقولهم:((من كانت أمك)).

الحديث الثاني عن مرثد بن عبد الله: قوله: ((إن ظل المؤمن)) هو من التشبيه المقلوب المحذوف

ص: 1560

1925 -

وعن مَرثَدِ بنِ عبد الله، قال: حدَّثني بعضُ أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنهَّ سَمِعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول:((إِنَّ ظِلَّ المؤِمنِ يومَ القيامةِ صَدقَتُهُ)). رواه أحمد. [1925].

1926 -

وعن ابنِ مسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ وَسَّعَ علي عياله في النَّفقةِ يومَ عاشوراءَ؛ وسَّعَ اللهُ عليهِ سائِرَ سنتِه)). قال سفيانُ: إِنَّا قد جرَّبناهُ فوجدناهُ كذلك. رواه رزين. [1926]

1927 -

وروى البيهقي في ((شعب الإِيمان)) عنه، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر، وضعَّفَه. [1927].

1928 -

وعن أبي أُمامةَ، قال: قال أبو ذَرّ: يا نبي اللهِ! أرأيتَ الصدقةَ ماذا هيَ؟ قال: ((أضعافٌ مضاعفةٌ، وعندَ اللهِ المزيدُ)). رواه أحمد.

ــ

المحذوف الأداة؛ لأن الأصل أن الصدقة كالظل في أنه يحميه عن أذى الحر يوم القيامة نحو قوله صلى الله عليه وسلم ((اقرءوا الزهراوين- البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان)) الحديث، ثم قلب التشبيه، فجعل المشبه مشبهاً به مبالغة كقوله:

وبدا الصباح كأن غرته

وجه الخليفة حيت يمتدح

الحديث الثالث والرابع عن أبي أمامة: قوله: ((الصدقة ماذا هي)) ((الصدقة)) مبتدأـ و ((ماذا)) بمعنى أي شيء، والجملة الاستفهامية خبر بالتأويل، أي الصدقة. أقول: فهنا ((ماذا هي)) فالسؤال عن حقيقة الصدقة، لا يطابقه الجواب بقوله:((أضعاف)) أي هي أضعاف، لكنه وارد علي الأسلوب الحكيم، يعني لا تسأل عن حقيقتها، فإنها معلومة، وسل عن ثوابها ليرغبك فيها ويحرضك عليها.

قوله: ((أضعاف مضاعفة)) الضعف من الأسماء المتضايفة، فضعف الشيء هو الذي يثنيه. والمراد في الحديث الكثرة والتوسعة من الثواب الذي يعطي جزاءً للعمل. وقوله: وعند الله المزيد هي الزيادة علي الثواب، كما قال تعالي:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ونظيره قوله تعالي: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} فقوله: ((من لدنه)) أي من عنده تفضلا علي تفضل.

ص: 1561