الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) باب من لا تحل له الصدقة
الفصل الأول
1821 -
عن أنسِ، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتمرةٍ في الطريق، فقال:((لولا إني أخافُ أن تكونَ من الصدقةِ لأكلتُها)) متفق عليه.
1822 -
وعن أبي هريرةَ، قال: أخذَ الحسنُ بنُ علي تمرةً من تمرِ الصدقةِ فجعلَها في فيهِ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:((كِخْ كِخْ)) ليطرحهَا، ثمَّ قال:((أما شعرتَ أنَّا لا نأكلُ الصدقةَ؟!)) متفق عليه.
1823 -
وعن عبد المطلبِ بنِ ربيعة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ هذهِ الصدقاتِ إِنَّما هي أوساخُ النَّاسِ، وإنَّها لا تحلُّ لمحمِّدٍ ولا لآلِ محمَّد)) رواه مسلم.
ــ
الغنى التطهير من الإمساك، ولحال الفقير التنمية فيما أبقاه من القوت، هذا علي أن يكون الفقير من يملك قوته.
باب من لاتحل له الصدقة
الفصل الأول
الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((لولا أنى أخاف)) ((خط)): الصدقة حرام علي النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كانت تطوعًا أو فرضًا، وأما بنو هاشم وبنو المطلب فيحرم عليهم الواجب دون التطوع. وفي الحديث دليل علي جواز أكل ما وجد في الطريق من الطعام القليل الذي لا يطلبه مالكه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امتنع من أكلها خشية كونها من الصدقة. وأقول: فيه تنبيه للمؤمن أن يجتنب عما فيه تردد واشتباه؛ لئلا يقع في الحرام.
الحديث الثانى عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((كخ كخ)) ((مح)): هو بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء، وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات يقال: كخ، أي اترك، وارم. وهي معربة، وقد أشار البخاري إلي هذا في ترجمة باب من تكلم بالفارسية. وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار، ويمنعون من تعاطيه، فهذا واجب علي الولي.
الحديث الثالث عن عبد المطلب بن ربيعة: قوله: ((إنما هي أوساخ الناس)) وقع في حيز خبر ((إن)) وهي مكسورة كما وقع ((إن)) المكسورة في قوله تعالي: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع} . ذهب أبو البقاء إلي أن ((إن)) جاءت مقحمة مؤكدة للأولي.
1824 -
وعن أبي هريرةَ، قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتيَ بطعامٍ سألَ عنُه ((أهديَّةٌ أم صدقة؟)) فإِنْ قيلَ: صدقةٌ؛ قالَ لأصحابهِ: ((كُلوا)) ولم يأكُلْ، وإِنْ قيلَ: هديَّةٌ، ضربَ بيدهِ فأكلَ معهم. متفق عليه.
1825 -
وعن عائشةَ، قالت: كانَ في بريرةَ ثلاثُ سنن: إِحدى السُّنَنِ أنها عتقَتْ فخُيّرتْ في زوجها، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:((الوَلاءُ لمنْ أعتقَ)). ودخلَ رسولُ
ــ
والتقدير: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لانضيع. وذهب صاحب الكشاف إلي أن الخبر ((أولئك))، و {إنا لانضيع أجر من أحسن عملا} معترض. وكذلك ما نحن فيه؛ فإن خبر ((إن)) ((لا تحل لمحمد))، و ((إنما هي أوساخ الناس)) معترضة، و ((إن)) مقحمة للتأكيد، وحمل ((أوساخ)) علي ضمير الصدقات وارد علي التشبيه، كقولك: زيد أسد. وفيه من المبالغة ما لا يخفي. وقد اجتمع في هذا التركيب مبالغات شتى لاسيما جعل المشبه به ((أوساخ الناس)) للتهجين والتقبيح، تنفيرًا واستقذارًا. وجل حضرة الرسالة ومنبع الطهارة أن ينسب إلي ذلك، ولذلك جرد عن نفسه الطاهرة من يسمى محمدًا، كأنه غيره، وهو هو، فإن الطيبات للطيبين.
فإن قلت: فكيف أباحها لبعض أمته، فإن من كمال إيمان المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ قلت: ما أباحها لهم عزيمة، بل اضطرارًا، وكم أحاديث تراها ناهية عن السؤال، فعلي الحازم أن يراها كالميتة، {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} . وفي إتيان ((لا)) المؤكدة للنفي، وتكرير اللام في ((لا)) إشعار باستقلال كل بهذا الحكم.
الحديت الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ضرب بيده)) أي مد يده إليه من غير تحام عنه، تشبيهًا للمد بالذهاب سريعًا في الأرض، فعداه بالباء، كما يقال: ذهب به، بخلاف إذا كانت صدقة، فإنه صلى الله عليه وسلم يتحاماه ويمتنع منه.
((قض)): وذلك لأن الصدقة منحة لثواب الآخرة، والهدية تمليك الغير شيئًا تقربًا إليه وإكرامًا له؛ ففي الصدقة نوع ترحم وذلك للآخذ، فلذلك حرمت الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم دون الهدية. وقيل: لأن الهدية يثاب عليها في الدنيا، فتزول المنة، والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فتبقى المنة عليه، ولا ينبغى لنبى أن يمن عليه أحد غير الله.
الحديت الخامس والسادس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((كان في بريرة تلاث سنن)) جعلها مكانًا ومقرًا لمسائل تلاث؛ لأنها وجدت بسببها. قوله: ((البرمة)) ((نه)): هي القدر مطلقًا، وجمعها برام، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن قوله:((ألم أر)) الهمزة فيه للتقرير والتعجب، أي كيف تقدمون إلي هذا الأدم وهذه البرمة تفور باللحم؟ ويجوز أن يكون إنكارًا.
الله صلى الله عليه وسلم والبُرمةُ تفورُ بلحمٍ، فقُرِّب إليهِ خبزٌ وأُدْمٌ من أدمِ البيتِ، فقال:((أَلَمْ أرَ برمةً فيها لحمٌ؟)) قالوا: بلي، ولكنِ ذلكَ لحمٌ تُصدِّقَ بهِ علي بريرَة، وأنتَ لا تأكل الصدقةَ. قال:((هو عليها صدقةٌ، ولنا هديةٌ)) متفق عليه.
1826 -
وعنها، قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقبلُ الهديةَ ويُثيبُ عليها رواه البخاري.
1827 -
وعن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لو دُعيتُ إِلي كُراع لأجبتُ، ولو أهدِيَ إليَّ ذِراعٌ لقبلتُ)) رواه البخاري.
1828 -
وعنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسَ المسكينُ الذي يطوفُ علي الناسِ تردُّه اللُّقمة واللقمتان والتمرةُ والتمرتان؛ ولكنَّ المسكينَ الذي لايجدُ غنى يُغنيهِ ولا يُفطنُ به فيتصدَّقَ عليه، ولا يقومُ فيسألُ النَّاس)) متفق عليه.
ــ
قوله: ((هو لها صدقة ولسنا هدية)) قال المالكى: يجوز في ((صدقة)) الرفع علي أنه خبر ((هو)) و ((لها)) صفة قدمت، فصارت حالا كقوله:
والصالحات عليها مغلقًا باب
فلو قصد بقاء الوصفية، لقيل: والصالحات عليها باب مغلق، وكذا الحديث، ولو قصدت فيه الوصفية، بـ ((لها)) لقيل: هو صدقة لها. ويجوز النصب فيها علي الحال، ويجعل الخبر ((لها)). ((قض)): إذا تصدق علي المحتاج بشىء ملكه، وصار له كسائر ما يملكه ويستكسبه، فله أن يهدى به غيره، كما له أن يهدى بسائر أمواله بلا فرق.
الحديث السابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((إلي كراع)) ((نه)): الكراع اسم موضع بين مكة والمدينة. وفي الحديث ((حتى بلغ كراع الغميم)) والغميم – بالفتح - واد في الحجاز، والكراع: جانب مستطيل من الحرة تشبيهًا بالكراع، وهو ما دون الركبة من الساق. ((مظ)): يعنى لو دعانى أحد إلي ضيافة كراع غنم لأجبته. هذا إظهار للتواضع، وتحريض عليه. وأقول: يحتمل أن يراد بالكراع الموضع، فيكون مبالغة لإجابة الدعوة.
الحديث الثامن عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ليس المسكين)) ((مظ)): يعنى ليس المسكين من يتردد علي الأبواب ويأخذ لقمة، فإن من فعل هذا ليس بمسكين؛ لأنه يقدر علي تحصيل قوته، وليس المراد من هذا أن من فعل هذا لايستحق الزكاة، ولكن المراد ذم من فعله إذا لم يكن مضطراً، واظهار فضل مسكين لم يسأل الناس علي من يسألهم. أقول: فعلي هذا لا
الفصل الثاني
1829 -
وعن أبي رافعٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ رجُلاً من بنى مخزومٍ علي الصدقةِ، فقال لأبي رافعٍ: اصحبنى كيما تُصيبَ منها. فقال: لا، حتى آتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأَلَهُ. فانطلق إلي النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال:((إنَّ الصدقةَ لاتحلُّ لنا، وإنَّ مواليَ القومِ من أنفُسهِمِ)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. [1829]
183، - * وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحِلُّ الصدقةُ لغنيّ ولا لذي مِرَّةٍ سويّ)) رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. [183،]
ــ
وجه لإيراد هذا الحديت في باب من لاتحل له الصدقة؛ لأنه حينئذ نفي حقيقة شىء لم يوجد فيه ما هو لأجله وإثبات ما يخالفها، نحو هذا ليس بإنسان بل هو حيوان لمن لم يوجد فيه الإنسإنية. فتقوى به مذهب أبي حنيفة؛ لأن المسكين عنده من لاشيء له. وجوابه عندنا: المسكين من لا كفاية له، وهو أعم من أن لا يكون عنده شىء أو يكون عنده شيء، ولكن لا يكفي. وما نحن فيه من القسم الأول، وإليه أشار الخطأبي بقوله: في الحديت دليل علي أن المسكين في الظاهر عندهم، والمتعارف لديهم هو السائل الطواف. وإنما نفي صلى الله عليه وسلم المسكنة عنه؛ لأنه تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزيادة عليها فتزول حاجته، ويسقط اسم المسكنة، وإنما تدوم الحاجة والمسكنة فيمن لايسأل ويعطف عليه فيعطى. ويؤيد هذا التأويل إيقاع الخبر موصولا، وجعل ((ترده)) حالا من الضمير في ((يطوف)) فيفيد الانحصار، ورد علي من زعم خلاف ذلك، أي ليس المسكين المتعارف شرعًا من هو متعارف عندكم؛ لأنه ذو كفاية تأتيه الزيادة عليها.
الفصل الثاني
الحديت الأول عن أبي رافع: قوله: ((إن موالي القوم من أنفسهم)) ((مظ)): يعنى أنت عتيقنا، فكما لا تحل الزكاة لنا، فكذلك لا تحل لمن أعتقناه. هذا ظاهر الحديث، ولكن قال الخطأبي: فأما موالي بنى هاشم؛ فإنه لاحظ لهم في سهم ذوى القربى، فلا يجوز أن تحرم الصدقة. ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيهًا له، وقال:((موالي القوم من أنفسهم)) علي سبيل التشبيه في الاستنان بهم، والاقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هي أوساخ الناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفي مثونته، فنهاه عن أخذ الزكاة.
الحديث الثانى عن عبد الله بن عمرو: قوله: ((ولا لذى مرة سوى)) ((نه)): المرة القوة والشدة، والسوى: صحيح الأعضاء. وفي الغريبين: أي ذى عقل وشدة. ((حس)): أصل المرة من قولهم: أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. واختلفوا في القوى القادر علي الكسب، هل تحل
1831 -
ورواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة. [1831]
1832 -
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: أخبرَني رجُلان أنَّهُما أتيَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في حجَّة الوَداعِ، وهو يقسم الصدقة، فسألاهُ منها، فرفعَ فينا النظَر وخفضَه فرآنا جلْدَين، فقال:((إن شئتُما أعطيتكُما، ولاحظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسبٍ)). رواه أبو داود. والنسائي [1832].
1833 -
وعن عطاء بن يسار، مُرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تحلُّ الصدقةُ لغنيّ إلا لخمسة: لغازٍ في سبيلِ الله، أو لعاملٍ عليها، أو لغارمٍ، أو لرجل اشتراها بمالهِ، أو لرجلٍ كانَ لهُ جارٌ مسكينٌ فتُصدقَ علي المسكينِ فأهدَى المسكينُ للغني)) رواه مالك، وأبوداود. [1833]
ــ
له الصدقة أم لا؟ فذهب أكثرهم إلي أنه لا تحل، وهو قول الشافعى. وقال أصحاب أبي حنيفة: تحل له إذا لم يملك مائتى درهم.
أقول: وفي ظاهر تفسير صاحب الغريبين: أي ذى عقل وشدة، إشارة إلي أن مجموع قوله:((ذى مرة سوى)) كناية عن كونه كسوبًا؛ فإن من كان ظاهر القوة، غير أنه أخرق لا كسب له فتحل له الزكاة. وفيه أن من له رجاحة في العقل، ومتانة في الجسم لايرضي بهذه الذلة والضعة لنفسه، ولاينبغى له ذلك، فإنه مناف لحال المؤمن المكرم.
الحديت الثالث عن عبيد الله: قوله: ((إن شئتما أعطيتكما)) فإن قلت: كيف يصح هذا جوابأ؛ فإن ظاهر الجواب أن يقول: لا أعطيكما لأنكما جلدان قويان ولاحظ لقوى مكتسب؟ قلت: فيه جوابان: أحدهما لا أعطيكما لأن الصدقة ذلة وهوان فإن رضيتما بذلك أعطيتكما. وثإنيهما: أنها حرام علي الجلد، فإن شئتما تناول الحرام أعطيتكما، قاله توبيخًا وتغليظًا.
الحديت الرابع عن عطاء: قوله: ((أو لغارم)) ((مظ)): هو الذي استدان دينًا ليصلح به بين الطائفتين وقع بينهما التشاجر في دية أو دين، فيستدين رجل يؤدى الدين أو الدية ويصلح بينهما، فيجوز له أخذ الزكاة ليؤدى ذلك الدين أو الدية، وإن كان غنيًا. قال الإمام في التفسير الكبير: الغرم في اللغة لزوم ما يشق، وسمى الدين غرمأ؛ لكونه شاقًا ولازمًا، فالدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية؛ لأنه إعانة علي المعصية وإلا فهو قسمان: قسم حصل بسبب الضروريات كالنفقة، وقسم حصل بسبب حالات وإملاح ذات بين. والقسمان داخلان في الآية.
1834 -
وفي روايةٍ لأبي داود عن أبي سعيد: ((أو ابن السبيل)). [1834]
1835 -
وعن زياد بن الحارث الصُّدائيَّ، قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فبايعتُهُ، فذكرَ حديثًا طويلاً، فأتاهُ رجلٌ فقال: أَعطِني من الصدقةِ. فقالَ لهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ لم يرضَ بحكمِ نبي ولاغيرهِ في الصدَقاتِ، حتى حكم فيها هو فجزَّأها ثمإنيةَ أجزاء؛ فإنْ كُنتَ من تلك الأجزاءِ أعطيتُكَ)) رواه أبو داود. [1835]
ــ
قوله: ((اشتراها بماله)) فإن قلت: ما فاتدة قيد الاشتراء بالمال، وكذا قوله:((جار مسكين)) إلي آخره زيادة في الكلام وكان يكفي أن يقال: اشتراه، أو أهدى إليه؟ قلت: أما الأول فتنبيه علي أن ما يعطى للأضياف يصير ملكًا لهم، ومالا من الأموال، فيجوز إبداله بمثله من المال. وأما الثانى: فإن الغالب في الهدايا التواد والتحاب، والمرء إنما يهدى ليستكثر وينعطف عليه، وهو أحق بالجار لاسيما إذا كان مسكينًا ومن تم أعاده مرارًا.
الحديت الخامس عن زياد بن الحارث: قوله: ((حكم فيها هو)) فقوله: ((هو)) تأكيد، إذ ليس هنا صفة جرت علي غير من هي له. و ((حتى)) بمعنى إلي أن. قوله:((فجزأها ثمإنية)) ((خط)): فيه دليل علي أنه لايجوز جمح الصدقة كلها في صنف واحد، وأن الواجب تفريقها علي أهل السهام بحصصهم. ولو كان معنى الآية بيان المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزتة معنى يدل علي صحة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((أعطيتك)). قال الإمام في التفسير الكبير في قوله تعالي: {إنما الصدقات للفقراء} الآية: لا دلالة فيها علي قول الشافعى رضي الله عنه في أنها لابد في صرفها إلي الأصناف؛ لأنه إعلام للأئمة بجعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف؛ فأما أن صدقة زيد بعينها توجب توزيعها علي الأصناف كلها فلا، كما أن قوله تعالي:{واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه} الآية توجب تقسيم الخمس علي الطوائف من غير التوزيع بالاتفاق، يعنى لم يقل أحد: إن كل شىء يغنم بعينه يجب تفريق ذلك الشيء، علي الطوائف كلها. وأيضًا إن الحكم الثابت في مجموعه لايوجب ثبوته في كل جزء من أجزائه.
قال محيى السنة في معالم التنزيل: واختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات، فذهب جماعة إلي أنه لايجوز صرف كلها إلي بعضهم مع وجود سائر الأصناف. وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعى رضي الله عنه، وقال: يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله علي الموجودين من الأصناف قسمة علي السواء، ثم حصة كل صنف لاتجوز أن تصرف إلي أقل من ثلاثة منهم،
الفصل الثالث
1836 -
عن زيد بن أسلَم، قال: شربَ عمرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه لبنًا فأعجبَه، فسألَ الذي سقاهُ. من أينَ هذا اللَّبَنُ؟ فأخبره أنَّهُ ورَدَ علي ماءٍ قد سمَّاه، فإذا نَعَمٌ من نعَمِ الصدقة وهم يسقُون، فحلَبوا من ألبانها فجعلْتُه في سقائي فهوَ هذا فأدخلَ عُمرُ يدهَ، فاستَقاءَه. رواه مالك، والبيهقي في ((شعبِ الإيمان)) [1836].
ــ
إن وجد ثلاثة. وذهب جماعة إلي أنه لو صرف الكل إلي صنف زاحد من هذه الأصناف أو إلي شخص واحد منهم جاز. وإنما سمى الله تعالي الأصناف الثمإنية إعلامًا منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف لا إيجابًا لقسمها بينهم جميعًا. يدل عليه إيراد الآية بأداة الحصر، أي إنما الصدقات لهؤلاء الأصناف لا لغيرهم. وهو قول عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري، وأصحاب أبي حنيفة. وقال أحمد: يجوز أن يضعها في صنف واحد، وتفريقها أولي. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولي فالأولي، وإن رأي الحاجة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رأي في عام في صنف آخر حولها إليهم. وكل من دفع إليه صدقته لا يزيد علي قدر الاستحقاق. وقال القاضي: قول الأئمة الثلاثة جواز الصرف إلي صنف واحد، واختاره بعض أصحابنا.
قوله: ((فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك)) ما أحسن هذا الجواب وما ألطفه وما أنصفه! إذ لو قال: ما أعطيتك فإنك لن تستحقها ولا أنت أهل لها، لاشمأز ونفر، ولكن بعثه علي التفكر، وأن يوازن حاله علي حكم الله، فيقف علي أنه لا يستحقها، ففيه إيجاز من وجه، وإطناب من وجه، فليتأمل.
الفصل الثالث
الحديث الأول عن زيد بن أسلم: قوله: ((علي ماء)) أي مكان فيه ماء القوم. قوله: ((فاستقاء)) هذا غاية الورع والتنزه عن الشبه.