الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة لله والبراءة من الشرك:
النفس فقيرة بالذات ومريدة ضرورة، وفطرت على تأله إله ليسدّ فقرها ويلبي مرادها. فلا بد لكل أحد من إله يألهه ومعبود يعبده، وصمد يصمد إليه في: الرغبات والرهبات. فإن كان المعبود ميتاً فالحي أكمل منه؛ والنفس مفطورة على عبادة الكامل الذي لا نقص فيه. وإن كان المعبود من دون الله حيا لزم فقره وحاجته لغيره، وذلك طعن في تألهه.
فلزم - منعاً للتسلسل الممتنع - تأله الناس لإله لا يأله، وصمد لا يصمد لغيره، ومعبود لا يعبد، غني بالذات، كامل الكمال المطلق الذي لا نقص فيه.
ومن هنا لو تركت الفطر على صبغتها لتألهت الله وحده - ضرورة - وكفرت بكل معبود سواه. وهذا برهان قطعي وعلم ضروري ودليل كلي، وضده مكابرة وسفسطة لا يؤبه لها.
قال ابن القيم: "فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها، وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها؛ فإنها حية، وكل حي شاعر متحرك بالإرادة؛ وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد: إما أن يكون مراداً لنفسه أو لغيره، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه قطعا للتسلسل في العلل الغائية فإنه محال كالتسلسل في العلل الفاعلة. وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا إله إلا هو: الذي تألهه النفوس، وتحبه القلوب، وتعرفه الفطر، وتقرّ به العقول، وتشهد بأنه ربها ومليكها وفاطرها. فلا بد لكل أحد من إله يأله، وصمد يصمد إليه، والعباد مفطورون على محبة الإله الحق، ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تأله غيره؛ فإذاً إنما فطروا على تألهه وعبادته وحده؛ فلو خُلّوا وفطرهم لما عبدوا غيره، ولا تألهوا سواه؛ يوضحه. الوجه الخامس عشر: أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التأله
والمحبة، ويستحيل أن يكون فيها تأله غير الله لوجوه منها:
أن ذلك خلاف الواقع. ومنها: أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلها لكل الخلق من المخلوق الآخر، ومنها: أن المشركين لم ينفقوا على إله واحد بل كل طائفة تعبد ما تستحسنه. ومنها: أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل منه؛ فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت، وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله تألهه؛ وحينئذ فلزم الدور الممتنع، أو التسلسل الممتنع، فلا بد للخلق كلهم من إله يألهوه، ولا يأله هو غيره. وهذا برهان قطعي ضروري" (1) أ. هـ.
وقال ابن تيمية في معرض الاحتجاج على المشركين الجاهلين بالفطرة:
"وذلك لأنه لو قدر أنهم - أي المشركين - لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية: أن يحتذي الرجل حذو أبيه في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم.
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية. كما قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على
(1) شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل/ ص:306.
الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه". فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها"(1) أ. هـ.
وقال ابن القيم في ذات المعنى: "فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم؛ ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم؛ إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندما ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم. فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم: الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها (2) " أ. هـ.
وقال ابن كثير: "وهذا جعل حجة مستقلة عليهم - أي الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك - فدل على أنه: الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد"(3) أ. هـ.
وقال رحمه الله في تأويل قوله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)(4): (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي: لأكثر الأمم.
(مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) أي: لقد وجدنا أكثرهم
(1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 490).
(2)
أحكام أهل الذمة (2/ 563).
(3)
تفسير القرآن العظيم (3/ 506) أثناء تأويله لآية الميثاق.
(4)
سورة الأعراف، الآية:102.
فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هو: ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه "لا إله إلا هو" وأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة: خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" وفي الصحيحين "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث، وقال تعالى في كتابه العزيز (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)(1). وقوله تعالى (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(2) وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(3) إلى غير ذلك من الآيات". (4) أ. هـ.
الفطر والإيجاد يقتضي العبودية للفاطر:
قال ابن القيم: قوله تعالى: حاكياً عن صاحب ياسين أنه قال لقومه محتجاً عليهم بما تقر به فطرهم وعقولهم: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(5).
فتأمل هذا الخطاب كيف تجد تحته أشرف معنى وأجله، وهو أن كونه سبحانه فاطراً لعباده يقتضي عبادتهم له، وأن من كان مفطوراً مخلوقاً فحقيق به
(1) سورة الأنبياء، الآية:25.
(2)
سورة الزخرف، الآية:45.
(3)
سورة النحل، الآية:36.
(4)
تفسير القرآن العظيم (3/ 449).
(5)
سورة يس، الآية:22.
أن يعبد فاطره وخالقه، ولا سيما إذا كان مردّه إليه، فمبدأه منه، ومصيره إليه، وهذا يوجب عليه التفرغ لعبادته. ثم احتج عليهم بما تقر به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره فقال:(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(1).
أفلا تراه كيف لم يحتج عليهم بمجرد الأمر بل احتج عليهم بالعقل الصحيح ومقتضى الفطرة (2).
وقال القرطبي: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) قال قتادة: قال له قومه: أنت على دينهم؟ فقال: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي: خلقني. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهذا احتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة إلى نفسه، لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث (3) إليهم، لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكراً، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثراً". (4) أ. هـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي:
" (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) فأمرهم باتباعهم، ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة.
ثم ذكر تأييداً لما شهد به ودعا إليه، فقال:(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً) أي: اتبعوا من نصحكم نصحا، يعود عليكم بالخير، وليس يريد منكم أموالكم، ولا أجراً على نصحه لكم، وإرشاده إياكم، فهذا موجب لاتباع من
(1) سورة يس، الآية: 23 - 24.
(2)
بدائع التفسير (3/ 478).
(3)
أي قوله تعالى (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
(4)
الجامع لأحكام القرآن (15/ 18).
هذا وصفه. بقي أن يقال: فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة، ولكنه ليس على الحق.
فدفع هذا الاحتراز بقوله: (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا عما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا عما يشهد العقل الصحيح بقبحه. فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له، على اتباع الرسل، وإخلاص الدين لله وحده فقال:(وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي: وما المانع لي، من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم. فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد، في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجّد، دون من لا يملك نفعاً ولا ضراً، ولا عطاء ولا منعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشوراً" (1). أ. هـ.
وقال الإمام الشنقيطي: "قوله (فَطَرَنِي) معناه: خلقني وابتدعني، كما تقدم إيضاحه في أول سورة فاطر. والمعنى: أي شيء ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني، وابتدعني، وأبرزني من العدم إلى الوجود، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده هو الذي يستحق أن يعبد وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله"(2) أ. هـ.
وبذلك جلت حجة الموحدين، وعلت رايتهم على رؤوس الأشهاد، ودحض برهانهم كافة الافتراءات والأباطيل التي أسس المشركون بنيانهم عليها.
فكل من كان مفطوراً مخلوقاً، فحقيق به أن يعبد فاطره وخالقه ويتفرغ لعبادته. فتلك بينة الفطر السليمة التي فطر الله عباده عليها وصبغهم بها.
الشرك تنقص بالخالق ويستحيل جوازه في الفطر والعقول:
قال ابن القيم: "وقال تعالى: عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (مَاذَا
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (4/ 233).
(2)
أضواء البيان (6/ 658).
تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (1).
أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج إلى رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء؛ فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم إلى قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم.
فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، والعالم بكل شيء الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح.
يوضح هذا: أن العابد معظم لمعبوده، متأله له، خاضع ذليل له، والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل، وهذا خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه، ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه عو عبده ومملوكه (2) أ. هـ.
وقال عبد الرحمن السعدي: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: وما الذي
(1) سورة الصافات، الآيات: 85 - 87.
(2)
بدائع التفسير (4/ 16 - 17).
ظننتم برب العالمين من النقص حتى جعلتم له أنداداً وشركاء" (1) أ. هـ.
وقال ابن القيم: "قال تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(2).
"يحتج" سبحانه عليهم بما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكاً له، فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه، ولا يرضى بذلك؛ فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي!؟.
وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر، والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك" (3).
وقال القرطبي: قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض ونفيها عن الله سبحانه، وذلك أنه لما قال جل وعز:(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)(4)، فيجب أن يقولوا: ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا فيقال لهم: فكيف يُتصور أن تنزهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركائي في خلقي، فهذا حكم فاسد، وقلة نظر، وعمى قلب! فإذا بطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة - والخلق كلهم عبيد الله تعالى - فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله تعالى في شيء من أفعاله، فلم يبق إلا أنه واحد يستحيل أن يكون له شريك، إذ الشركة تقتضي المعاونة، ونحن مفتقرون إلى معاونة بعضنا بعضا بالمال والعمل، والقديم الأزلي منزة عن ذلك جل وعز.
(1) تيسير الكريم الرحمن (4/ 264).
(2)
سورة الروم، الآية28.
(3)
بدائع التفسير (3/ 391).
(4)
سورة الروم، الآية:28.
وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك". (1) أ. هـ.
وبهذا يظهر أن الفطرة السليمة قد قطعت: كافة الأسباب الداعية لعبادة أي معبود من دون الله؛ فالمشرك إنما يتخذ معبوده ليجلب به النفع، ويدفع به الضر، وشأن هذا لا يكون إلا فيمن اتصف بخصلة من هذه الأربع:
إما أن يكون مالكاً لما يريده عبده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك. فإن لم يكن شريكاً كان معيناً له وظهيرا. فإن لم يكن كذلك كان شفيعا عنده بغير إذنه، ولا ترد شفاعته لديه أبداً. ومن المعلوم أن ثبوت أي خصلة من تلك الخصال - فضلا عن جميعها - في نفس مشرك ما لأي واحد من الخلق يكون ذلك تنقصا بالله وربوبيته وألوهيته وتوحيده، وهضماً لهذه الحقوق جميعاً.
والمولى جل في علاه قد جبل القلوب وفطرها على: محبته والإقرار به وإجلاله وتعظيمه مع ثبوت صفات الكمال له، وتنزيهه عن كافة النقائص والعيوب.
وبذلك تكون الفطرة ينبوع التوحيد، والعقل برهانه، وبهما قطعت مواد الشرك وأصوله، وانهار بنيانه القائم على شفا جرف هار.
قال تعالى (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(2).
قال ابن القيم فيها: "فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع:
إما مالك لما يريده عابده منه.
فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك.
(1) الجامع لأحكام القرآن (14/ 23).
(2)
سورة سبأ، الآيتان: 22 - 23.
فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً.
فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده.
فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مترتباً، متنقلاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك؛ وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً، وبرهاناً ونجاة، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها؛ ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً. وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن" (1) أ. هـ.
وقال ابن تيمية: "فبين سبحانه أن من دُعي من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون: مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للمالك أعوان وظهراء وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفى بذلك وجوه الشرك.
وذلك أن من يدعون من دونه: إما أن يكون مالكا، وإما أن لا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا، وإما أن لا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكاً فإما أن يكون معاوناً، وإما أن يكون سائلاً طالباً.
فالأقسام الأول الثلاثة وهي: الملك، والشركة، والمعاونة منتفية؛ وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه. كما قال تعالى:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(2) وكما قال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)(3) وقال تعالى:
(1) بدائع التفسير (3/ 435).
(2)
سورة البقرة، الآية:255.
(3)
سورة النجم، الآية:26.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(1) وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(2) وقال تعالى (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(3) وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(4) فإذا جعل من أخذ الملائكة والنبيين أربابا كافراً فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أرباباً؟!
وتفصيل القول (5): أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى: مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة، أو نجاته من النار، أو أن يتعلم العلم والقرآن. أو أن يُصلح قلبه، ويحسن خلقه، ويزكي نفسه، وأمثال ذلك: فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ - سواء كان حياً أو ميتاً -: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشف مريضي، ولا عافني أو عاف أهلي أو دابتي وما أشبه ذلك، ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة
(1) سورة الزمر، الآيتان: 43 - 44.
(2)
سورة السجدة، الآية:40.
(3)
سورة الأنعام، الآية:51.
(4)
سورة آل عمران، الآيتان: 79 - 80.
(5)
أي: في سؤال المخلوق.
والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه - ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك إلى أن قال - وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض" (1) أ. هـ.
الفطرة بينة الشرعة والشرائع موافقة لموجبها:
الفطرة نور الله وبينته في قلوب عباده الموحدين، الذين صبغت قلوبهم وجبلت على محبة الله وتوحيده، وعلى الكفر بما يعبد من دونه.
فالموحدون عبدوا ربهم: بداعي العقل، وداعي الفطرة، وعلموا أن أنه لا شيء فيهما أوجب من عبادة الله وحبه؛ ولو لم ترسل بذلك الرسل، وتنزل به الكتب.
كيف وقد جاءنا مؤكدتان: لمقتضاهما، وآمرتان بموجبهما؟!
فاطمأنت قلوب الموحدين وثلجت صدورهم، وتيقنوا أن: الفطرة، والعقل، والوحي خرجوا جميعاً من مشكاة واحدة! والأخير منهم يستحيل أن يأتي بمجالات الأولين، وإن جاء بما يعجزا عن إدراكه، وهما الفرقان والبرهان بين وحي الرحمن، ووحي الشيطان قال تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(2).
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده، من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو، كما قال تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(3) وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
(1) مجموع الفتاوى (27/ 66 - 68).
(2)
سورة هود، الآية:17.
(3)
سورة الروم، الآية:30.
- صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ". وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم"، وفي المسند والسنن:"كل مولود يولد على هذه الملة، حتى يعرب عنه لسانه .. " الحديث، فالمؤمن باق على هذه الفطرة.
[وقوله: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)، أي]: وجاءه شاهد من الله، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكمّلة المعظمّة المختتمة بشريعة محمد - صلوات الله وسلامه وعليهم أجمعين - ولهذا قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية، والضحاك، وإبراهيم النخعي، والسدي، وغير واحد في قوله تعالى:(وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ): إنه جبريل عليه السلام.
وعن علي، والحسن، وقتادة: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وكلاهما قريب في المعنى، لأن كلا من جبريل ومحمد - صلوات الله عليهما - بلّغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد، ومحمد إلى الأمة.
وقيل: هو "علي". وهو ضعيف لا يثبت له قائل، والأول والثاني هو الحق، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها، ولذا قال تعالى:(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(1)، وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه النبي محمد إلى أمته" (2) أ. هـ.
وقال عبد الرحمن السعدي: "يذكر تعالى حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قام مقامه، من ورثته القائمين بدينه وحججه الموقنين بذلك، وأنهم لا يوصف بهم
(1) سورة هود، الآية:17.
(2)
تفسير القرآن العظيم (4/ 245: 246).
غيرهم ولا يكون أحد مثلهم. فقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة، ودلائلها الظاهرة، فتيقن تلك البية.
(وَيَتْلُوهُ) أي: يتلو هذه البينة والبرهان، برهان آخر (شَاهِدٌ مِنْهُ) وهو: شاهد الفطرة المستقيمة، والعقل الصحيح حين شهد حقيقة ما أوحاه الله وشرعه، وعلم بعقله حسنه، فازداد بذلك إيماناً إلى إيمانه". (1) أ. هـ.
وقال ابن القيم في قوله تعالى (نُورٌ عَلَى نُورٍ)(2).
فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وصدق رسله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع النور المشهود، وأنه نور على نور، نور الوحي ونور العقل؛ نور الشرعة ونور الفطرة؛ نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية" (3). أ. هـ.
وقال ابن تيمية: "الحادي عشر (4)؛ أن النبي هو وسائر المؤمنين لا يخبرون إلا بحق، ولا يأمرون إلا بعدل؛ فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد، لا يأمرن بالفواحش، ولا الظلم، ولا الشرك، ولا القول بغير علم.
فهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها، فلا يأمرون إلا بما يوافق المعروف في العقول الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول، فكما أنهم هم لا يختلفون فلا يناقض بعضهم بعضاً، بل دينهم وملتهم واحد، وإن تنوعت الشرائع فهم أيضاً موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده، موافقون للأدلة العقلية لا يناقضونها قط، بل الأدلة العقلية الصحيحة كلها توافق الأنبياء
(1) تيسير الكريم الرحمن (2/ 358).
(2)
سورة النور، من الآية:35.
(3)
بدائع التفسير (3/ 272).
(4)
أي من الفروق بين الأنبياء، وبين السحرة والكهان.
لا تخالفهم، وآيات الله، السمعية والعقلية والعيانية السماعية كلها متوافقة متصادقة متعاضدة لا يناقض بعضها بعضا" (1) أ. هـ.
وبعد ما حررت مقتضى الفطرة، وموجبها ولوازمها من خلال الأدلة الدالة عليها من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها الذين هم: أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وشموس الفلاح، ونجوم الحيارى، وبر النجاة. وتبين أن عامة السلف وجمهرة العلماء قائلون بأن الله فطر عباده وجبلهم على وجوب عبادته (2)، وعلى الكفر والبراءة من كل معبود سواه.
وبذلك تكون الأدلة قد اتضحت، والأعلام قد انتصبت، ولاح نور الفرقان. وعليه أذكر - على عجالة بمشيئة الله - الأقوال الأخرى في معنى الفطرة وبيان: التعقبات عليها.
قال قوم: المولود على فطرة الإسلام من كان أبواه مسلمين دون غيره ممن نشأ بين أبوين كافرين، والجواب:
قال الحافظ: "قوله (يولد على الفطرة) ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ "ما من مولود إلا يولد على الفطرة"، ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ "ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه"، وفي رواية له من هذا الوجه "ما من مولود إلا وهو على الملة".
وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم، وإنما المراد: أن كل من ولد على الفطرة، وكان له أبوان على غير الإسلام، نقلاه إلى دينهما.
فتقدير الخبر على هذا: كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلاً فإنهما يهودانه ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه.
ويكفي في الرد عليهم: رواية أبي صالح المتقدمة، وأصرح منها رواية
(1) النبوات /43: 431.
(2)
هذا بخلاف الوجوب الشرعي والذي هو محل الثواب والعقاب، وسيأتي مزيد بيان بمشيئة الله لهذه المسألة في فصل حجية العقل.
جعفر بن ربيعة بلفظ "كل بني آدم يولد على الفطرة"(1). أ. هـ.
وقال قوم: ليس المراد بالفطرة: الفطر على التوحيد، وإنما المراد بها التهيئ لقبول الحق. والجواب قد مر فليراجع المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنها خلاف مقتضاها.
ويقال لأرباب هذا القول: هل الفطرة بذاتها تقتضي الإسلام، أم الإسلام متوقف على شيء خارجها؟ فإن كان الأول ثبت المطلوب؛ وإن كان الثاني، لم يبق ثم فرق بين الإسلام، والتهويد، والتنصير، والتمجيس .. بالنسبة إليها، فهي لم تجبل على أي واحد منهم، وحصوله فيها متوقف على شيء دونها. فلما لم يأت ذكر (2) للإسلام ساعة الأحداث والتغيير من قبل الأبوين، دل على أن الفطرة تقتضيه إذا خليت عن المعارض، وأن الكفر خلاف مقتضاها.
وقال الحافظ مبطلاً لقول هؤلاء: "وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (3). ولكن المراد: أن فطرته مقتضيه: لمعرفة دين الإسلام، ومحبته؛ فنفس الفطرة تستلزم: الإقرار والمحبة، وليس المراد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد: أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. والله أعلم"(4) أ. هـ.
(1) فتح الباري: كتاب الجنائز (3/ 292).
(2)
مثل أن يقول صلى الله عليه وسلم بادئاً بالذي هو خير: "فأبواه يسلمانه أو يهودانه
…
الخ".
(3)
سورة النحل، الآية:78.
(4)
فتح الباري: كتاب الجنائز (3/ 293: 294).
وأترك الحافظ رحمه الله يعرض بقية الأقوال والتعقب عليها.
قال رحمه الله: "وفي المسألة أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وغيره.
منها قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام، ومن علم الله أنه يصير كافراً ولد على الكفر، فكأنه أول الفطرة: بالعلم.
وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله "فأبواه يهودانه الخ" معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي في التمثيل بحال البهيمة.
ومنها: أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعاً:(بَلَى)، أما أهل السعادة فقالوها طوعاً، وأما أهل الشقاوة فقالوها: كرهاً: وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه.
وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح. فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند آخر الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيم عن شيخه.
ومنها: أن المراد بالفطرة الخلقة أي: يولد سالماً لا يعرف كفراً ولا إيماناً، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البر وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله (حَنِيفاً) أي على استقامة.
وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى.
ومنها: قول بعضهم إن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه، وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله.
ويؤيد المذهب الصحيح أن قوله "فأبواه يهودانه الخ" ليس فيه لوجود الفطرة شرط، بل ذكر ما يمنع موجبها كحصول اليهودية مثلا متوقف على
أشياء خارجة عن الفطرة. بخلاف الإسلام.
وقال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثة، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله "فأبواه يهودانه الخ" محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث "الله أعلم بما كانوا عاملين"(1) أ. هـ.
وبهذا القدر يكون قد تم هذا الفصل بعون الله وفضله.
* * *
(1) المصدر السابق/294.