الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
مناقشة هادئة:
وكأني الآن ببعض الإخوة المخالفين في هذه المسألة يقول: يا أخي إن كل ما ذكرته خارج عن محل النزاع، والرسالة لم تحرر بعد موضع الخلاف. فمحل الخلاف بيننا ليس في الكافر الأصلي، وإنما هو فيمن نطق بالشهادتين مريداً للإسلام، ثم ألمت به مصيبة ما، فأراد الخلاص منها، فغرر به بعض أحبار الصوفية فوقع في علم من أعلام الشرك الأكبر جاهلاً بحرمته، وقاصداً للتقرب زلفى بين يدي الإله ..
والجواب:
أولاً: أرى من تحريركم موضع النزاع: موافقتكم، وإقراراكم لنا بأن من عبد غير الله جاهلاً من أهل الفترات الفاقدة للحجة والبرهان يكون مشركاً، ولا يعذر بجهله، وتخلف قصده. وهذا أمر مجمع عليه بين سلف الأمة وجمهرة العلماء.
قال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة، والقرآن، وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم"(1).
وقال ابن تيمية: "فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول"(2)
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: "اعلم أولاً أن من لم يأته نذير في دار الدنيا؛ وكان كافراً حتى مات، اختلف العلماء فيه هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟."(3).
(1) عقيدة الموحدين - الرسالة السادسة /151.
(2)
مجموع الفتاوى (20/ 37: 38).
(3)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب/ 180.
ثانيا: وبعد ثبوت هذا الحكم المجمع عليه نكون بين احتمالين لا ثالث لهما:
إما أن تكون هناك حجج ومواثيق أخذت على العباد من ربهم، وفاطرهم توجب عليهم: التوحيد، والبراءة من الشرك، فمن خرقها، ولم يؤد حقوقها منهم ثبت له بها وصف الشرك وحكمه.
وإما أن يكون المولى جل في علاه قد كلف عباده بما لا يطاق، وأوجب عليهم ما ليس في وسعهم. وهذا ظلم تنزه ربنا عنه.
ولا شك أن أي إنسان صاحب دين لا يجد لنفسه خياراً إلا الاحتمال الأول.
إذاً فقد ثبت بإقراركم وجود حجج وبينات تفرض على العباد: الكفر بالطواغيت والأنداد، مع الإيمان بوحدانية الخالق الفاطر في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
فلو لم تؤخذ تلك الحجج والمواثيق (1)،
لساغ الاحتجاج للمشركين، وعنهم: بالغفلة والجهل، وبالتقليد واتباع الآباء.
إلا أن هذه الحجج والمواثيق الموجبة للتوحيد، والانخلاع من الشرك، سابقة لكافة الحجج الداحضة، والعلل الواهية التي يتشبث بها المشركون والملاحدة.
وقد مرت علينا الآيات والأحاديث الدالة على تلك العهود والمواثيق بفهم الصحابة، والتابعين، وتابعيهم بإحسان من أهل العلم العاملين قاضية وحاكمة: بعموم تلك الحجج لسائر البشر، وكافة القرون، ولم يوجد الاستثناء فيها ألبتة لأي واحد من الذرية، فضلاً عن أي أمة من الأمم.
ثالثاً: ثم أعود فأقول أريد منكم: وصفاً مناسباً منضبطا مؤثراً في التفريق
(1) وفي هذا المقام أود التنبيه على أمر مهم: وهو أنه حتى لو لم تؤخذ حجج على العباد توجب عليهم التوحيد، والانخلاع من الشرك، لاستحال أيضا أن يوصف العبد الذي وقع في عبادة غير الله جاهلاً - في وقت فترت فيه الرسالات - بالإسلام. لأن للإسلام حقيقة واضحة وهي: الانخلاع من الشرك والبراءة من أهله.
أما الذين يرفضون أن يكون للإسلام حقيقية واضحة واحداً فاصلاً، بل يريدونه شيئاً متميعاً ولفظاً لا معنى له، فهذا شأنهم وما ارتضوه لأنفسهم، وليس من الإسلام في شيء.
بين حال ما ذكرتموه، وبين حال الكافر الأصلي.
- فمنهم من يقول: لقد نطق بالشهادتين مريداً للإسلام، فثبت له عقده، ثم وقع في فعل مكفر لم يقصد به المروق، ولا الخروج من الملة ..
والجواب: نعم إن النطق بالشهادتين مع عدم التلبس بناقض حال التلفظ بها يكون دلالة على عصمة الدم، والمال، والحكم على صاحبها بالإسلام، مع افتراض توفر شروط عصمة الدم والمال لديه دون امتحان أو سؤال.
لكن هل التعويل في ذلك على النطق بألفاظ مبهمة، خفية الحقائق، والمعاني، واللوازم؛ أم المقصود إرادة المعاني، والمقاصد التي جعلت الألفاظ دلالة عليها، وعلى إرادة موجبها، حتى يتطابق ويتحقق المعنى الخارجي للألفاظ مع مراد المتكلم ومقصوده.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها، وإنما هي مقصود للمعاني، والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم."(1).
وقال أيضاً: "والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم"(2).
وقال أيضاً: "وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصداً لها، مريداً لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصداً للتكلم باللفظ مريداً له، فلا بد من إرادتين:
إرادة التكلم باللفظ اختياراً، وإرادة موجبه ومقتضاه؛ بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصود واللفظ وسيلة، هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام" (3).
وقال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام: "إذا نطق الأعجمي بكلمة
(1) أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 279).
(2)
المصدر السابق (1/ 280).
(3)
المصدر السابق (3/ 84).
كفر، أو إيمان، أو طلاق، أو إعتاق، أو بيع، أو شراء، أو صلح، أو إبراء لم يؤاخذ بشيء من ذلك لأنه لم يلتزم مقتضاه، ولم يقصد إليه، وكذلك إذا نطق بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك لأنه لم يرده. فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم، مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه." (1).
وقال الإمام الطحاوي معلقاً على حديث الحبريّن اللذين شهدا بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، دون الإقرار بفرضية اتباعه. قال رحمه الله:
"ففي هذا الحديث أن اليهود قد كانوا أقروا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توحيدهم لله، فلم يقاتلهم - أي لامتناعهم عن طاعته بعد الإقرار بصحة رسالته - رسولا لله صلى الله عليه وسلم حتى يقروا: بجميع ما يقر به المسلمون.
فدل ذلك أنهم لم يكونوا بذلك القول مسلمين: وثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي تدل على الدخول في الإسلام، وترك سائر الملل" (2).
نعم إن المقصود من أعظم وأجل شهادة في الوجود هو: القيام بمعانيها، وإرادة موجباتها، وتحقيق مقتضياتها، مع حتمية النطق بألفاظها، إلا أن القيام بشروطها، وتحقيق أركانها، لا يقل بحال من الأحوال عن النطق بألفاظها.
فالعبد الذي يعلم معانيها، ويدرك مقتضياتها، إلا أنه يأبى مختاراً التلفظ بها فليس بمسلم باتفاق، وكذلك الذي ينطق بها، دون معرفة موجباتها، أو عدم القيام بأركانها لا يكون مسلماً سواء بسواء. وهذا أمر معلوم بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والميزان.
قال عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "أما النطق بها - أي الشهادتين - من غير معرفة لمعناها، ولا يقين، ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فعير
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 120: 121).
(2)
شرح معاني الآثار (3/ 215).
نافع بالإجماع." (1).
وقال محمد بن إبراهيم: "فإن كثيراً من الناس ينتسبون إلى الإسلام، وينطقون بالشهادتين، ويؤدون أركان الإسلام الظاهرة، ولا يكتفي بذلك في الحكم بإسلامهم، ولا تحل ذكاتهم لشركهم بالله في العبادة بدعاء الأنبياء والصالحين ولاستغاثة بهم، وغير ذلك من أسباب الردة عن الإسلام"(2).
كيف وقد جاءت الأدلة متواترة من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها حاكمة، ومصرحة:
بشروط عصمة الدم والمال، والحكم بالإسلام مثل: النطق، والعلم، والانخلاع من الشرك، والكفر بالطواغيت، مع الانقياد والقبول لكافة أحكام الله
…
قال تعالى (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)(3). والتوبة باتفاق المفسرين تتمثل في: الانخلاع من الشرك، وقال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (4) وقال تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (5) وقال تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(6) وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(7).
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد /35.
(2)
عقيدة الموحدين/ 392.
(3)
سورة التوبة، الآية:5.
(4)
سورة الأنفال، الآية:39.
(5)
سورة البقرة، الآية:256.
(6)
سورة آل عمران، الآية:64.
(7)
سورة النحل، الآية:36.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"(1) وفي رواية: "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به"(2).وفي رواية "ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"(3) وفي رواية "من وحد الله"(4) وفي رواية: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله"(5)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: "وهذا من أعظم ما يبين معنى "لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع"(6)
- ومنهم من يقول: لا نستطيع تكفيره لأن ما اقترفه كفر عملي، لا اعتقادي
…
وتلك سوءة المرجئة الذين هم أضر على الأمة من الخوارج - لقصرهم الإيمان على مجرد التصديق والاعتقاد، مع التلفظ بالشهادتين دون أعمال القلب والجوارح التي هي المعركة الكبرى بينهم، وبين أهل السنة في تلك القضية.
ومنهم من يقول: لا نجرؤ على التكفير حتى نعلم انشراح القلب بما صدر من الجوارح من دلالات الكفر، وأعلام الشرك، إذ الظاهر وحده لا تتكيف به الأحكام، ولا يصلح أن يكون بمفرده مناطاً لها.
وتلك سوءة التجهم التي جوزت - ظلماً وزوراً - إتيان كافة أبواب الكفر،
(1) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي".
(2)
أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي".
(3)
أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي".
(4)
أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي".
(5)
أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
…
وإن شئت أخي القارئ فراجع الفصل الثاني من الباب الثاني لكتابي: "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي".
(6)
فتح المجيد/ 35: 36.
مع طمأنية القلب بالإيمان لعدم ارتباط الظاهر بالباطن لديهم، انطلاقاً من قولهم الفاسد في الإيمان أنه: مجرد الاعتقاد والتصديق دون الإقرار والقبول والانقياد المتمثل في: قول اللسان، وعمل القلب والجوارح، ومن ثم أصبحت كافة دلالات الكفر لديهم غير مؤثرة سلباً في الإيمان، ولا حتى التصريح بالكفر والإلحاد لأن اللسان قد يخبر بغير ما انطوى القلب عليه، إلا أن الشرع إذا حكم بالكفر على: قول، أو فعل، أو ترك حكموا بكفر من قام به في الظاهر دون الباطن، وفوضوا أمره في الآخرة إلى علام الغيوب، فلو كان مصدقا في الباطن نجا، وإلا هلك.
وأما الذين قد تبنوا قول الجهمية اليوم في هذا الأمر - وورثوه وورّثوه - فقد قطعوا بالنجاة لفاعل الشرك الأكبر جاهلاً في الظاهر والباطن، وفي الدنيا والآخرة!! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- وهناك من يقول: ليس لدينا باب إلى التكفير ألبتة، حتى نعلم القصد إليه وإرادة موجبة.
والجواب: لا بد في هذا المقام من التفريق بين إرادتين وقصدين:
فمن قال لا نحكم بالكفر حتى يقوم بصاحبه إرادة المعنى المؤثر فيه، مع قصد التلفظ به، أو فعله اختياراً. فهذا حق لا ريب فيه.
مثال لذلك: من قال: نحن نؤمن بالديمقراطية ظناً منه أنها مرادفة للشورى ومساوية لها. فهذا لا يكفر لعدم علمه بالمعنى المؤثر في الكفر لتلك اللفظة، ومن ثم عدم إرادة موجبه المتمثل في: حكم الشعب نفسه بنفسه وتنحية شرع الله، ورفض حكمه وقضائه.
وأما من قالها مع إدراكه لمعناها فهذا يكفر، ولو لم يقصد الكفر لإرادته المعنى المؤثر فيه مع قصده للتلفظ بلفظه اختياراً.
قال ابن تيمية: "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا. إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله"(1).
وسئل محمد بن عبد الوهاب عمن: نطق بكلمة كفر ولم يعلم معناها فلا يكفر بذلك. هل المعنى: نطق بها ولم يعرف شرحها، أو نطق بها ولم يعلم أنها تكفره؟
فأجاب: "إذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه، وأما كونه أنه لا يعرف أنها تكفره فيكفي فيه قوله تعالى: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (2). فهم يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لا تكفرهم؛ والعجب ممن يحملها على هذا - أي أن الكفر لا يكون إلا مع العلم - وهو يسمع قوله تعالى (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (3) و (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (4) و (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (5). أيظن أن هؤلاء ليسوا كفاراً؟ لكن لا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لأجل غربتها"(6).
فلو لم يكن ذلك كذلك لوجدنا أنفسنا مضطرين أن نلتزم بعدم تكفير عوام أهل الكتاب الذين ما زالوا في ظنهم على الجادة والصواب، وأكبر دليل على ذلك: الحرب الدينية التي يخوضونها مع المسلمين في كافة بقاع الأرض.
- وهنا قد يقول أحدهم: قدسية الكلمة - أي: "لا إله إلا الله" -
(1) الصارم المسلول على شاتم الرسول /154.
(2)
سورة التوبة، الآية:66.
(3)
سورة الكهف، الآية:104.
(4)
سورة الأعراف، الآية:30.
(5)
سورة الزخرف، الآية:37.
(6)
تاريخ نجد - المسألة (16) / 452 بتصرف بسيط.
تشفع لمن قالها أياً كان حاله.
والجواب: هل النطق بالشهادتين وحده يكفي لتحقق النحاة؟
فمن قال: نعم فقد سوغ إيمان المنافقين، ومن شهد بها من أهل الكتاب مع إقامتهم على شركهم وتبديلهم.
ومن قال: لا. نقول له: لِمَ؟
والجواب المعلوم قبل إجابته: أنهم فقدوا شرطاً من شروطها.
إذاً فقد ثبت بإقراركم أن للشهادتين شروطاً لا تتحقق بالنجاة إلا بوجودها حال التلفظ بها.
قال الشوكاني: وأما من تكلم بكلمة التوحيد، وفعل أفعالاً تخالف التوحيد كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم: خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد.
ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجباً للدخول في الإسلام والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو ما يخالفه، لكانت نافعة لليهود مع أنهم يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون: بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذا الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد" (1).
- ومنهم من يقول: لا نستطيع أن نكفر من هذا شأنه لسبق عقد الإسلام له.
والجواب: أو ليس قد ثبت عقد الإسلام يوماً لجماهير أهل الكتاب، ثم مرقت العامة منهم من الملة - بسبب افتراء وتبديل أحبارهم ورهبانهم - مع اعتقادهم وجزمهم بأنهم ما زالوا على الجادة والصواب.
قال تعالى في حقهم: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ
(1) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد /42.
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) (1) وقال تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)(2).
وهنا قد يصيح أحد الإخوة المخالفين قائلاً: لقد كفر هؤلاء لعدم إيمانهم بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وعدم قبولهم لشرائعه.
والجواب: فماذا كان حكمهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن؟
- وقد يقول بعضهم: أنى لنا بتكفير من آمن بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، مع إتيانه بعلم من أعلام الشرك الأكبر جاهلاً ومتأولاً؟
والجواب: إن الذي يسوغ الإيمان لعبد من هذه الأمة بتلك الأصول الاعتقادية، مع تلبسه بعلم من أعلام الشرك الأكبر، يلزمه: الحكم بالإيمان لعوام اليهود والنصارى بتلك الأصول ذاتها لادعائهم الإيمان بها مع تلبسهم بعلم من أعلام الشرك الأكبر سواء بسواء.
- فقد يدلي أحدهم بوصف مفرّق - بزعمه - فيقول: الفرق بينهما يظهر في إيمان الأول بكافة النبيين والمرسلين، وفي كفر الثاني بخاتمهم أجمعين صلى الله عليه وسلم. والجواب: أن عامة جمهور الثاني قد كفروا بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من باب الجهل والتأويل فقد افترى لهم أحبارهم ورهبانهم - الذين هم محل الثقة الدينية لديهم: أنه كاهن، أو ساحر، أو كاذب، وقومه وعشيرته وأقرب الناس به نسباً، وأقرهم به عيناً هم الذين قاتلوه وأخرجوه، وهم أعلم حالاً به، أو يزعمون الإيمان بنبوته للعرب خاصة إلا أن أتباعه حرفوا تراثه، وادعوا عموم رسالته، ويقولون: بيننا وبينهم كتابه الناطق بـ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
(1) سورة البقرة، الآية:111.
(2)
سورة البقرة، الآية:78.
رَسُولاً مِنْهُمْ) (1) ولقوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ). ونحن قد أنذر آباؤنا
…
والذي يعذر بالجهل في الكفر بالإله يلزمه لا محالة قبوله في الكفر بالرسالة من باب أولى.
- وقد يقول بعضهم نحن لا يلزمنا شيء من تلك اللوازم لأننا لا نعذر بالجهل في الشرك الأكبر لدى الأمم السابقة إلا أننا نقول به لهذه الأمة خاصة، دون من سبقها من الأمم.
والجواب: قد مرت علينا عموم حجج التوحيد لكافة البشر، وسائر العبيد، ولم يأت فيها الاستثناء لأي واحد من الذرية كان محلاً لإبرام تلك الحجج والمواثيق.
والرخص التي يتمتع بها أهل القبلة، لا تكون إلا لعبد موحد، متحنف، تارك للشرك على بصيرة وقصد، ومنخلع منه إلى توحيد ربه في ربوبيته وألوهيته، مع إيمانه برسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقبوله واتباعه لكافة أحكامه.
قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)(2).
قال القرطبي: (فَإِنْ تَابُوا) أي: عن الشرك، والتزموا أحكام الإسلام قال ابن عباس رضي الله عنهما حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة" (3).
فهذا وصف أهل القبلة: الانخلاع من الشرك مع التزام الشرائع، فهذا هو الذي يترخص برخص أهل القبلة، أما المشرك فقد بان عن وصف أهل القبلة فلا يتمتع برخصها.
قال ابن تيمية في قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها
(1) سورة الجمعة، الآية:2.
(2)
سورة التوبة، الآية:11.
(3)
الجامع لأحكام القرآن: (8/ 81).
أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به". والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان. فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث، لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله. وهذا فرق بيّن يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية. وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان كما دل عليه الكتاب والسنة. فمن صح إيمانه عفي له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان، فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه"(1). أ. هـ.
ثم أتى لقلب واحد أن يجمع بين النقيضين: الإسلام والشرك في آن واحد؟!!
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "اعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين؛ ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر. وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة.
مثال ذلك: أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ والجهل
(1) مجموع الفتاوى (10/ 760).
بالحقيقتين أو إحداهما أوقع كثيراً من الناس في الشرك، وعبادة الصالحين لعدم معرفة الحقائق وتصورها" (1).
وقال يحيى بن معاذ الرازي "اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية"(2). أ. هـ.
وأرى الآن أن المقام سيحتم على البعض الهرولة إلى قضايا الأعيان والجواب: من المعلوم جلياً لدى المنصفين والمخلصين، الين تجردوا من حظوظ النفس وأهوائها ونجوا من تلبيس الشياطين: أن قضايا الأعيان لا تنهض على معارضة القواعد العامة، والأصول الكلية المقررة من استقراء أدلة كثيرة تفوت الحصر - قد ساقها الشارع متضافرة لبناء قاعدة كلية تحفظ بها دعائم الدين، ويفرق بها بين أهل السنة والمبتدعين في مناهج النظر، ويلجأ إليها الفقيه لاستنباط الأحكام، وتفريع الفروع، واستخراج العلل، وتنقيح المناطات، ورد الجزئيات لكلياتها. فالشارع الحكيم لم ينص على قضايا الأعيان إلا مع الحفاظ على القواعد الكلية، وعدم نقضها بإلغاء ما تقرر من مقاصدها.
قال الشاطبي: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان، ولا حكايات الأحوال. والدليل على ذلك أمور
…
(الثالث) أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات، ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات.
ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص" (3). أ. هـ.
(1) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس /12.
(2)
الاعتصام للإمام الشاطبي (1/ 91).
(3)
الموافقات: (3/ 262).
وسوف أسوق مثالاً واحداً من قضايا الأعيان التي هي جل رأس مال المخالفين، ليتبين به بطلان ما أصلوه، وصحة ما ذهبنا إليه وقررناه ولله الحمد والمنة.
حديث القدرة:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه (1) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له".
واستدل الإخوة المخالفون بهذا الحديث على محل النزاع ظناً منهم أن الرجل قد جهل قدرة الله وعذر بجهله.
والرد على هذا الاستدلال الخاطئ من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الدليل من قضايا الأعيان التي ليست بمحل صحيح لاستنباط الأحكام لكثرة وجوه الاحتمال التي تعود بالفساد على دلالتها.
الوجه الثاني: أن هذا الدليل خارج عن محل النزاع، فهو في جهل الصفات، والجهل بالصفات لا يستلزم الجهل بالذات إلا أن يكون تصور الذات متوقفاً على العلم بها.
ونحن الآن بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن نقول: إن الرجل قد جهل صفة يكون العلم بالذات متوقفاً عليها؛ ومن قال بهذا نلزمه بإعذار من جهل صفة الوجود، أو صفة الحياة، أو صفة العلم، أو صفة الإرادة، مع القطع بالنجاة له؛ ويتبع هذا الإلزام سؤال آخر: أيهما أكفر من قال: إن الله ثالث
(1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 70: 74).
ثلاثة، أو أثبت له الولد جاهلاً، أم من قال إن الله ميت، أو غير موجود، أو جاهل، أو منزوع الإرادة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وأترك للمخالفين حرية الاختيار في الرد.
وإما أن يكون الرجل قد وقع في جهل صورة من صور القدرة لا يستلزم الجهل بها الجهل بالذات. وعلى هذا يكون الاستدلال بالحديث خارجاً عن محل النزاع.
الوجه الثالث: أن للحديث تفسير على ظاهره وقد تحتم المصير إليه لدى طائفة من العلماء - فراراً من التأويل0 يخرج به هذا الرجل عن: الجهل بالقدرة، وعن الشك في المعاد.
قال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي بعد أن ذكر تأويلات العلماء لظاهر هذا الحديث:
قلت: والأوجه عندي أنه حسب أن الله عز وجل لو وجده في حاله لعذبه شديداً لكنه إذا وجده محترفاً مفترقا فلعله رحمه، لتحمله تلك المشاق والشدائد كما هو دأب الموالي الكرماء فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض أو شدة رحم عليه، وإن كان قبل ذلك غضبان عليه. ثم رأيت أن الطحاوي ذكر نحوه في مشكله وكذا النووي في شرح مسلم" (1).
الوجه الرابع: تأويل عامة العلماء لظاهر هذا الحديث يدل بيقين على مصادمة ظاهره لقاعدة كلية مقررة لديهم؛ وإلا لقالوا: هذا الرجل شك في قدرة الله، وفي البعث، وكان جاهلاً فعذر بجهله، وكفونا وأنفسهم مؤنة التأويل التي لا يذهبون إليها إلا في حالة الضرورة عندما يستحيل عليهم الجمع بين النصوص.
(1) أوجز المسالك إلى موطأ مالك: (4/ 302).
- وقد يقول قائل: أين مستندك على ما نسبته لجماهير العلماء من فرارهم إلى التأويل لظاهر هذا الحديث.
والجواب: مستندي في هذا مراجعة: صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 70: 74)، وفتح الباري (6/ 604)، والشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 1084)، وشرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي (2/ 27: 38)، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (18/ 40: 47) ....
قال أبو عمر بن عبد البر تعليقاً على حديث القدرة: "روي من حديث أبي رافع، عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: قال رجل لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد. وهذه اللفظة إن صحت. رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل، وإن لم تصح من جهة النقل، فهي صحيحة من جهة المعنى؛ والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها؛ لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون - وهم كفار، (1) لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافراً، وهذ ما لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل القبلة؛ وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث: لم يعمل حسنة قط، أو لم يعمل خيراً قط لم يعذبه - إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير؛ وهذا سائغ في لسان العرب، جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل، والمراد البعض؛ والدليل على أن الرجل كان مؤمناً، قوله حين قيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: من خشيتك يا رب؛ والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق، بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم - كما قال الله عز وجل:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). قالوا: كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، وهذا
(1) فقد يقول قائل: مقصد الشيخ هنا في عدم المغفرة مقصور على الكفار العالمين بكفرهم، دون غيرهم. وهذا التقييد باطل كل البطلان، إذ لو كان كذلك لما اضطر ابن عبد البر إلى تقييد نفي عمل الخير باستثناء التوحيد.
واضح لمن فهم وألهم رشده" (1).
- وأختم هذه المناقشة بسؤال محدد المعالم، واللوازم وهو:
هل من نطق الشهادتين بنية الدخول في الإسلام، ثم وقع في عبادة غير الله جاهلاً يكون قد حقق شرط الكفر بما يعبد من دون الله أم لا؟
فمن قال: نعم/ فقد سوغ الشرك بالله، وعليه يصبح التوحيد قضية هلامية غير محددة المعالم والمعاني، وتكون بحسب ما يكيفها كل إنسان في نفسه. فهذا نصراني: أنزلها في قلبه وعقله على أن المسيح ابن الله، وهذا صوفي: كيفها على أن عبادة الأموات قربة إلى الله، وذاك إباحي: فصلها على الانخلاع من ربقة العبودية والتكاليف، لغنى الخالق عن عبادة المخلوقين!! وعدم انتفاعه بإيمان الطائعين، ولا تضرره بكفر العاصين ....
وأما من قال: لا لم يحقق شرط الكفر بما يعبد من دون الله.
فتقول له: تبقى الإجابة على آخر سؤال:
هل يكون هذا العبد من زمرة المسلمين الموحدين؟؛ أم من المسلمين المشركين؟! أم من المشركين المشركين؟!!
وأخيراً: نحب أن نلفت نظر القارئ إلى أننا قد تجاوزنا في هذا المناقشة عن كثير من الشبهات التي لا يزال يثيرها البعض، واعتبرناها نوعاً من الشغب والتهويش، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد. لا بشرع صحيح، ولا بعقل صريح.
فإذا كان البعض لا يزال يصر على أنه لا يصح في الأذهان شيء، وأنه لا فرق في نفس الأمر بين التوحيد والشرك، وبين الطيبات والخبائث - لعدم قيام حجج عليها - إلا بالرسالة والبلاغ.
(1) التمهيد: (18/ 40: 41).
فإننا في المقابل نُصرّ على أن أرباب هذا القول لا يملكون في الحقيقة الفرقان والبرهان على صحة التوحيد، والرسالة، والبعث: إمكاناً ووقوعاً، وأنه يلزمهم إلزاماً لا محيد عنه: التسوية بين الموحدين والمشركين قبل الرسالة، لأن كلاً منهما قد عبد الله بغير برهان، ويلزمهم مساواة التوحيد للتثليث في العقول، وكذا إثابة بعض المشركين على شركهم بعد بلوغ الرسالة.
فهذا عبد يظهر الانتساب إلى: دين سماوي، وكتاب رباني، ورسول إلهي، ثم جاءه بعض خواص أهل العلم - في ظنه - من أهل ملته فأخبره أن التوحيد لديهم يتمثل في: عبادة الأموات، والسجود للنيران، والاستغاثة بالنجوم والكواكب ساعة حلول النقم والكرب
…
ففعل امتثالاً لأمر نبيه كما أوهموه، ومن أجل التقرب زلفى بين يدي ربه.
وبناء على ما تقرر من هذا المعتقد الباطل الساقط يكون هذا الرجل مثاباً لا محالة؛ فهو لم يقع في مخالفة حجة!!!
وكلك فالتوحيد يختلف من شريعة إلى شريعة، ومداره على مجرد الخبر فقد جاءه وامتثله!!!
وإذا بلغ الأمر هذا الحد فإننا نقول لهم:
لا حجة بيننا وبينكم.
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
الله يجمع بيننا وإياكم وإليه المصير
* * *
وبعد:
فليعلم القاصي والداني أن الباعث من وراء هذه الرسالة:
- إزالة الجهالة المضروبة عمداً على الشعوب لتكون مطية لمن يمتطيها من الطواغيت والفراعنة.
- إسقاط اللافتات المزيفة، والطعن في الشهادات المزوة، وكشف النقاب عن الوجوه الخبيثة التي تستتر بالأقنعة الوسيمة، مع إقامة الفرقان، وتعرية البطلان.
- توقيف الناس على الحد المنجي على الحقيقة من قبل لحوق الخسران والمكث في دار البوار.
- جلاء قضية التوحيد، وبيان حججها، مع التحذير والتنبيه من خطر الوقوع في توهينها، والطعن في حججها من أجل البحث والتنقيب عن التماس الأعذار الواهية لتبرير أسلمة المشركين، وتصحيح انتساب مزيف لهم.
- التركيز على رصيد الفطرة لحث الدعاة لإكمال المسيرة، واليقين بأن الجولة الحاسمة ستكون لهذا الدين المنبثق من الرصيد الهائل لفطر الخلائق.
- تذكير الدعاة والمربين بحقيقة أولية يقوم عليها، وينبثق منها: العود المنشود لهذا الدين، ألا وهي: وجوب تجريد العبودية لله، وتحرير الولاء له، مع حتمية الكفر والانخلاع من: كل العلائق والوشائج لكافة الأرباب والطواغيت والأنداد المعبودة من دونه. ويكون هذا هو الطريق الوحيد لإعداد وتربية الأمة عليه، حتى يتسنى لنا إعمار قلوبها بالاستعلاء الإيماني المفقود لدى أبنائها - الذي هو بداية الانخلاع من ربقة الهيمنة الغربية، والكفر بالريادة الصليبية، والتحلل من السيطرة اليهودية، ومن ثم رجوع الثقة والطمأنينة لأبناء هذه الأمة بمنبع عزهم، ومصدر وجودهم المتمثل في: الاعتصام بربهم وكتابهم وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم.
- إعلام الناس بأن الله قد خلق الجنة والنار، وجعل لكل منهم أهلاً وأعمالاً.
فأعمال أهل الجنة تتمثل في: الالتزام بالتوحيد، وفعل الطاعات وفاءاً بالعهود والمواثيق التي كان العباد محلاً لإبرامها. وحجتهم في ذلك تنبثق من: براهين الميثاق، والفطرة، والعقل، والآيات الكونية، والتي جاءت الشرائع لتؤكد صحة دلائلها ومقتضياتها، وتشهد بخروجها جميعاً من مشكاة واحدة.
وأما أعمال أهل النار فتتمثل في: نقض التوحيد بالشرك، تلك الجريمة الكبرى الخارقة لكافة الحجج، وشتى العهود، وسائر المواثيق.
وهذا الطريق المؤدي إلى سخط الرحمن، والخلود في النيران يتميز بالانسلاخ والتعري من كافة الحجج الربانية، وسائر البراهين الإلهية، فرأس مال بضاعته المزجاة: الكذب، والإفك، والبهتان
…
ومن هنا انفتق سر المسألة: فالذي بين صراط أهل الجنة، وسبل أهل النار كالذي ما بين السماء والأرض، والبعد بينهما كبعد المشرقين، لا يلتقيان ولا يتقاربان ما دامت السماوات والأرض.
وبذلك يظهر جلياً: علة عدم مغفرة الشرك إلا بالتوبة والمآب إلى التوحيد والإخلاص من براثن الشرك ومخالب الإلحاد.
فلو لم يكن كذلك لاختلطت أعلام الطريقين، واشتبهت منارات السبيلين، وبطل الفرقان بينهما، وذابت حدودهما، ولزم المساواة بين نهايتهما.
والآن قد آن لنا أن نلجم القلم عن الاسترسال، فقد ظهر الصبح لذي عينين. وعلى الناصح لنفسه أن ينظر الراجح من المرجوح في كل مسألة من المسائل بعد أن يخلع الهوى الذي يعمي ويصم، وألا يعبأ بصوت المهاترات - الفاقدة للحجة والبرهان - وإن علا ضجيجها أياً كان الفم المهاتر بها،
والأيدي المصفقة لها، وأن يجعل نصب عينيه الدليل الصحيح الصريح من الكتاب والسنة، ثم يتفطن لوجه الاستدلال - المقرر بضوابطه - من كلام أهل العلم، ثم عليه بعد ذلك أن ينطرح بنفسه بين يدي ربه داعيا:
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فراج.