الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون:
ومن آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد: الحكم على المشركين بالافتراء والإفك، وعلى فعلتهم النكراء المتمثلة في اتخاذ آلهة من دون الله تقربهم إليه زلفى بأنها ذنب عظيم وسيئة قبيحة ويجب - أي: الوجوب المستوجب للعقاب لتاركه - على أصحابها التوبة منها، والمآب إلى التوحيد بعد البيان.
قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ، يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)(1).
قال ابن تيمية: "فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر.
فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أنداداً قبل الرسول" (2) أ. هـ.
وقال الإمام الطبري: القول في تأويل قوله تعالى (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ).
يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا فقال لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان، ما لكم من إله غيره يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره؛ فأخلصوا له العبادة، وأفردوه بالألوهة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل قرية مكذبون تختلقون الباطل لأنه لا إله سواه
…
(1) سورة هود، الآيات: 50 - 52.
(2)
مجموعة الفتاوى (20/ 37 - 38).
القول في تأويل قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: ويا قوم استغفروا ربكم يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. والاستغفار هو الإيمان بالله في هذا الموضع لأن هودا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم كما قال نوح لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) وقوله (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) يقول ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً) يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به أرسل قطر السماء عليكم يدر لكم الغيث في وقت حاجتكم إليه، وتحيا بلادكم من الجدب والقحط" (1) أ. هـ.
وقال الإمام البغوي: "قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ) أي: وأرسلنا إلى عاد (أَخَاهُمْ هُوداً)، في النسب لا في الدين، (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ): "وحدوا الله"، (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ): ما أنتم في إشراككم إلا كاذبون.
(يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ)، أي: على تبليغ الرسالة، (أَجْراً) جُعْلا، (إِنْ أَجْرِيَ): ما ثوابي (إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي)، خلقني، (أَفَلا تَعْقِلُونَ).
(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، أي: آمنوا به، والاستغفار ها هنا بمعنى الإيمان، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، من عبادة غيره ومن سالف ذنوبكم" (2) أ. هـ.
وقال تعالى في حق خليله إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا
(1) جامع البيان: (12/ 35).
(2)
معالم التنزيل (4/ 182). ويراجع تفاسير القرطبي وابن كثير والشوكاني وغيرهم فيها.
يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً).
قال ابن تيمية: "فهذا توبيخ على فعله قبل النهي"(1) أ. هـ.
وقال الشوكاني: (لم تعبد) للإنكار والتوبيخ (2) أ. هـ.
وقال عبد الرحمن السعدي: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ) مهجناً له عبادة الأوثان (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي: لم تعبد أصناماً ناقصة في ذاتها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تملك لعابدها نفعاً ولا ضراً، بل لا تملك لأنفسها شيئاً من النفع، ولا تقدر على شيء من الضر.
فهذا برهان جلي دال: على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلا وشرعاً" (3) أ. هـ.
فانظر إلى قول الخليل عليه السلام وأمعن النظر فيه (لِمَ تَعْبُدُ) ولم يقل (لا تعبد). فثبت بهذا التوبيخ والذم للمشركين قبل البيان. فهل يكون هذا على فعل مباح، أو على فعل لا حكم له قبل الخبر؟!!!
هذا مع قول الخليل لأبيه (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً).
قال ابن كثير: "يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك فاعلم: أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد"(4). أ. هـ.
وقال ابن تيمية: وكذلك قول الخليل لقومه أيضاً: (مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً
(1) مجموع الفتاوى (11/ 681).
(2)
فتح القدير (3/ 335).
(3)
تيسير الكريم الرحمن (5/ 110).
(4)
تفسير القرآن العظيم: (5/ 229).
آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) - إلى قوله - (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال:(أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي: وخلق ما تنحتون، فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم؟ وتدعون رب العالمين.
فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحاً بالنهي، ومعنى قبحه: كونه منهياً عنه، لا لمعنى فيه؛ كما تقوله المجبرة" (1) أ. هـ.
وقال القاسمي: (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) أي: أتريدون بطريق الكذب، آلهة دون الله؟
القول في تأويل قوله تعالى: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
"فما ظنكم برب العالمين" أي: بمن هو الحقيق بالعبادة، لكونه ربا للعالمين، حتى تركتم عبادته وأشركتم به غيره. والمعنى: لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصد عن عبادته. لأن استحقاقه للعبادة أظهر من أن يختلج عرق شبهة فيه. فأنكر ظنهم الكائن في بيان استحقاقه للعبادة. وهو الذي حملهم على عبادة غيره. أو المعنى: فما ظنكم به؟ ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره؟ وعلى كل، فالاستفهام إنكاري. والمراد من إنكار الظن إنكار ما يقتضيه" (2) أ. هـ.
* * *
(1) مجموع الفتاوى (11/ 681: 682).
(2)
محاسن التأويل: (14/ 5046).