الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال:
نبتت تلك المسألة في مباحث كتب الأصول، وقام المتكلمون بعرضها بطريقة سقيمة بناء على شبه أدلة وبراهين مفتراه افترض فيها مفتروها أنها موافقة ومستمدة من العقل الصريح، وقدمت بطريقة أشبه بالألغاز والأحاجي بدلا من طرحها بطريقة قويمة منبثقة من المعقول المستقيم الموافق للمنقول الصحيح.
ونظرا لمسيس الحاجة لتلك المسألة الفارقة بين تنزيه الله والتنقص به، وبين توحيده والشرك به، وبين صحة الرسالات وبطلان الافتراءات، مع شدة الصلة واستحالة الانفصال بينها وبين القضية محل البحث رأيتني مضطراً للحديث عنها، إلا أني قد أخذت على نفسي عهداً أن أنقيها - بمشيئة الله وعونه - مما علق بها من أوزار المتكلمين، مع إقامة الفرقان عليها من نصوص الوحيين بفهم سلف الأمة وأئمتها، وكذلك كشف العورات والسوءات والمخازي الشنيعة التي تلزم كل من انحرف عن الصراط المستقيم فيها، مع تقديمها بسهولة ويسر قدر المستطاع، والله المستعان وعليه التكلان.
هل الأفعال توصف بالحسن والقبح الذاتي مع إدراك العقل لهما أم لا؟.
قالت طائفة: إن التوحيد والصدق والعدل والطيبات
…
تتصف بالحسن الذاتي في العقل، وإن الشرك والظلم والكذب والخبائث توصف بالقبح الذاتي فيه وهو - أي العقل - متعلق التكليف، وبه يستحق العقاب وإن لم يرد بذلك سمع.
وحملوا قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1) على الواجبات العملية دون العلمية، ومنه من حملها على العذاب الدنيوي دون الأخروي، ومنهم من قال: العقل هو الرسول المتوقف عليه العذاب
…
إلى غير ذلك من التأويلات المستكرهة التي هي أقرب للتحريف منها للتأويل مع
(1) سورة الإسراء، الآية:15.
مصادمتها لمحكمات الكتاب وكليات الشريعة وقواعد الملة وأصول العلم الضروري (1).
وقد غالت تلك الطائفة في حجية العقل، وأرخصت من حجية السمع - وهو غال لا رخص فيه - وساعة التعارض بينهما يقدم العقل على النقل لأنه أصله الذي به تقرر، وإلا لزم إبطالهما والعود عليها بالفساد بزعمهم (2).
وأرباب هذا القول هم: المعتزلة.
وقابل هؤلاء: آخرون جردوا الأفعال من الأوصاف الذاتية لها وقالوا بتماثلها، وعدم المرجحات بينهما بحال إلا بمطلق المشيئة ومجيء الخبر. فلا فرق بين: التوحيد والشرك، ولا بين: العدل والظلم، ولا بين: الصدق والكذب،
(1) أخي القارئ: يجب التفريق بين ما قررته في هذا المقام، وبين من أوجب العذاب على أهل الفترة استمساكاً بعمومات من القرآن والسنة لا بالعقل أو بسبب قيام الحجة عليهم عنده ببقايا من الملة السابقة. فانتبه للفرق.
(2)
قال ابن القيم في دحض هذه المقولة المفتراه: إن العقل مع الوحي كالعامي المقلد مع المفتي العالم بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تحصى، فإن المقلد يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف المقلد عالماً فدل عليه مقلداً آخر، ثم اختلف المفتي والدال فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون المقلد الذي دله وعرفه بالمفتي.
فلو قال له الدال: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت فلزم القدح في فرعه. فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت على ذلك، شهدت بوجوب تقليده، دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله، وإن أصبت في الاجتهاد والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله، وإن أصبت في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه مفت مجتهد يجب عليك تقليده، هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله ولا يجوز عليه الخطأ. أ. هـ. الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (3/ 808: 809) وقال محقق الكتاب: هذا النص في درء تعارض العقل والنقل (1/ 138، 139) ونقله شارح الطحاوية /219.
وكذا الطيبات والخبائث .. إلا بالسمع وكان من الممكن أن يأتي محرماً لكل ما أحل ومحلاً لكل ما حرم، بل وقد تأتي الشرائع مفرقة بين المتماثلين من كل وجه، ومسوية بين المتناقضين من كل وجه. فقد تحرم السجود على وجه التعبد للشمس وتحله للقمر، وقد تحرم الزنا بالعمة الأولى وتحله بالثانية .. !!!
والعقل ليس فيه إلا الإقرار بالصانع والتهيؤ والقبول لما تأتي به الشرائع على أي وجه كانت. وجوزوا على الحكيم العليم فعل كل شيء ولم ينزهوه عن فعل شيء ألبتة بناء على استواء الأفعال ونفي المرجحات. فالمقدور كله جائز على الله، والمحرم عليه - من قبل نفسه - هو: المحال لذاته الخارج عن نطاق القدرة، أو المستلزم لعجزها ونقصانها.
"فحكموا بأنه تعالى لو عكس الحكم في جميع أوامره العادلة المصلحة الحكيمة في شرائعه وأحكامه في الدنيا، وكذلك في يوم القيامة، أو عذاب الأنبياء والأولياء وأهانهم وأخزاهم بذنوب غيرهم ثم أدخل أعداءه وأعداءهم الجنة بحسناتهم وأكرهم وعظمهم؛ ما كان هذا - المحال عليه - بأبعد عن حكمته ومحامده في العقل والسمع مما هو فاعله سبحانه وتعالى، مما تمدح به وسماه حقاً وعدلاً وحكمة وصواباً، وتمدح لذلك بأنه لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته، وبأنه إذا بدل آية مكان آية لا يبدلها إلا بما هو خير منها أو مثلها.
فزعموا أن التسوية بين أحكامه وأضدادها هو مقتضى العقول والشرائع. لكن الشرائع وردت بالخبر عن وقوع أحد الجائزين المتماثلين في الحكمة مثل تماثلهما في القدرة، بل المتماثلين في القدرة بلا حكمة عندهم، إلا الصدق في الخبر فواجب وحده.
فإنا لله إن كانت ذهبت العقول فأين الحياء من الله تعالى، وكتبه ورسوله والمؤمنين؟! " (1).
(1) إيثار الحق على الخلق /184.
وصرحوا بأن الشرائع لا يستدل بها على صحة الرسالات، ولا تصلح أن تكون فرقاناً بين النبيين والمتنبئين، بل يطلب الدليل عليها من غيرها. وما ذلك إلى لجواز أن يأتي رسول بشريعة تضاد وتناقض كافة شرائع النبيين الذين قد خلوا من قبله.
ونصوا على أن الله لا يفعل شيئا: لشيء، ونفوا مقتضى الحكمة الربانية والعدالة الإلهية انطلاقاً من أصولهم الفاسدة المستمدة من نفي الصفات. وأرباب تلك الترهات والأباطيل هم: الأشاعرة.
وما أعوز القوم إلى تلك الأصول الباطلة هم ومن قبلهم إلا بسبب قياسهم الفاسد - للخالق على المخلوق، واعتمدوا في المطالب الإلهية على قياسي الشمول والتمثيل. ومن المعلوم ضرورة: أن الرب جل في علاه لا يدخل تحت قضية كلية يستوي فيها أفرادها، ولا يدخل تحت قياس تمثيل يستوي فيه الأصل مع الفرع. بل لا يستعمل في حق الخالق إلا قياس الأولى لقوله تعالى:(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)(1).
فكل كمال ثبت للمخلوق فهو ثابت للخالق على وجه يليق به سبحانه من باب الأولى، وكل نقص تنزّه عنه المخلوق، فالخالق يتنزه عنه ويتعالى عليه من باب أولى.
وأما جمهرة العلماء من أهل السنة وعلوم سلف الأمة الذين قام الكتاب بهم وبه قاموا، والذين نطق الكتاب بهم وبه نطقوا، والذين أعلوا راية التوحيد وبها علوا.
فقالوا: إن الأفعال - معقولة المعنى - تتصف بالحسن والقبح الذاتي، وصفاتها ذاتية وليست إضافية.
(1) سورة النحل، الآية:60.
وبذلك يستحيل على الله - من قبل نفسه - حل الشرك والظلم والفواحش لمنافاة ذلك لتألهه وربوبيته وكمال ملكه وحمده وحكمته، وحتى لا يقع العباد أسرى التناقض بين: آيات الله العقلية والكونية، وبين آياته السمعية.
فإن الله جل في علاه قد جبل الفطر وصبغ العقول على العلم ببطلانها وقبحها، وعلى كون العقول والفطر من أعظم الآيات وأجل البراهين المفرقة بين وحي الرحمن وأهله، ووحي الشيطان وأهله.
وبهذا انتصبت الأعلام، وبانت الطرق، وعلا الفرقان، ودحر البطلان.
ونصوا: على أن الله أوجب الواجبات فوجبت، وحرم المحرمات فحرمت. فها هنا شيئان: إيجاب وتحريم وذلك حكم الله وخطابه المنوط بالبلاغ. والثاني: وجوب وحرمة وذلك صفة للفعل ثابتة له بدون الخطاب لمعقول المعنى منها.
وثبت: أن من وقع في الشرك وفعل الخبائث فقد اقترف ذنوباً عظيمة وأتى سيئات شنيعة لمخالفته مقتضى الفطر والعقول ولخروجه عن موجبهما، ولو كان صاحبها جاهلاً بالرسالة ولم تقم عليه حجة البلاغ؛ ويجب عليه التوبة منها بعد البلاغ وظهور البرهان. - أي: الوجوب المستوجب للعقاب - إلا أن الله لكمال رحمته وحبه العذر وقف العقوبة على ذلك حتى تقام الحجة ويتقطع العذر. وانتفاء العقوبة لانتفاء شرطها، لا لانتفاء سببها. فسببها قائم قبل البلاغ لمخالفة المشركين لكافة العهود والمواثيق الموجبة لإفراد الله بالعبادة والبراءة من عبادة ما سواه.
وهذا الحكم - برفع العقوبة حتى تقوم حجة البلاغ - عام في الأصول والفروع، وفي الكليات والجزئيات، وهو ضابط مستقيم مطر منعكس في كافة التكاليف، واستحال على الخصم الظفر بضابط محكم غير معوج دونه. لعموم قوله تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1).
(1) سورة الإسراء، الآية:15.
وقرروا أن الفواحش فواحش في نفسها لم تكتسب فحشها فقط بالخطاب، وقد أخبر الحكيم الخبير في سياق الإنكار على المشركين: بأنه لا يأمر بالفحشاء، فدل ذلك على تنزهه عنه، فلو كان جائزاً عليه الأمر بها ما تنزه عنه. وبذلك استحال على أحكم الحاكمين من قبل نفسه - أن تأتي شريعته على خلاف مجيئها، وبهذا ظهر بهت النفاة (1) ولاح إفكهم.
قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(2).
قال ابن تيمية: "والفاحشة أريد بها: كشف السوءات، فيستدل به على أن في الأفعال السيئة من الصفات ما يمنع أمر الشرع بها، فإنه أخبر عن نفسه في سياق الإنكار عليهم أنه لا يأمر بالفحشاء، فدل ذلك على أنه منزه عنه، فلو كان جائزاً عليه لم يتنزه عنه.
فعلم أنه لا يجوز عليه الأمر بالفحشاء؛ وذلك لا يكون إلا إذا كان ال الفعل في نفسه سيئاً، فعلم أن كلما كان في نفسه فاحشة فإن الله لا يجور عليه الأمر به، وهذا قول من يثبت للأفعال في نفسها صفات الحسن والسوء، كما يقوله أكثر العلماء كالتميميين وأبي الخطاب؛ خلاف قول من يقول: إن ذلك لا يثبت قط إلا بخطاب.
وكذلك قوله (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)(3) علل النهي عنه بما اشتمل عليه أنه فاحشة، وأنه ساء سبيلاً، فلو كان إنما صار فاحشة وساء سبيلا بالنهي لما صح ذلك، لأن العلة تسبق المعلول لا تتبعه. ومثل ذلك كثير في القرآن" (4).
(1) المقصود عندي في هذه الرسالة بهذا المصطلح: نفاة التحسين والتقبيح العقلي للأفعال.
(2)
سورة الأعراف، الآية:28.
(3)
سورة الإسراء، الآية:32.
(4)
مجموع الفتاوى (15/ 8: 9).
وقال ابن القيم: "فقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) دليل على أنها في نفسها فحشاء، وأن الله لا يأمر بما يكون كذلك، وأنه يتعالى ويتقدس عنه، ولو كان كونه فاحشة إنما علم بالنهي خاصة كان بمنزلة أن يقال: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه. وهذا كلام يصان عنه آحاد العقلاء فكيف بكلام رب العالمين.
ثم أكد سبحانه هذا الإنكار بقوله: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(1)، فأخبر أنه يتعالى عن الأمر بالفحشاء. بل أوامره كله حسنة في العقول، مقبولة في الفطر، فإنه أمر بالقسط لا بالجور، وبإقامة الوجوه له عند مساجده لا لغيره، وبدعوته وحده مخلصين له الدين لا بالشرك. فهذا هو الذي يأمر به تعالى لا بالفحشاء.
أفلا تراه كيف يخبر بحسن ما يأمر به ويحسنه وينزه نفسه عن الأمر بضده وأنه لا يليق به تعالى" (2) أ. هـ.
* * *
(1) سورة الأعراف، الآية:29.
(2)
مفتاح دار السعادة /327.
أصول أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح:
لأهل السنة في هذه المسألة أصول وقواعد تقررت من استقراء النصوص، وكليات الأدلة التي جاءت متعاضدة متضافرة يصدق بعضها بعضاً، حتى أصبحت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
وانطلق القوم من تلك الأصول المحررة والقواعد المقررة حاكمين: بأن العقل فيه حسن التوحيد ووجوبه، وحل الطيبات، وفيه بغض الشرك والخبائث وحرمتها، وأنه يستحيل على الله أن تأتي شرائعه على خلاف مقتضى العقول والفطر. وذلك لما يلي:
* من المستحيل في أدنى العقول تعقلاً: أن يأخذ الله من البشرية جميعا قبل الخلق وهم في عالم الذر ميثاقا وثيقاً وعهداً غليظاً على أن يعبدوه وحده لا شريك له، ويجعل أثر هذا الميثاق في فطرهم، ويركز في عقولهم البراهين الباهرة على محتواه ومقتضاه، ويجعل المولى جل في علاه أخذه إقامة الحجة على من لم يوف به، ثم يرسل رسله وينزل كتبه آمرة بنقض كافة العهود وسائر المواثيق!!! أليس هذا سوء ظن بالله وبربوبيته وغناه؟!.
* مقتضى الحكمة والإرادة، ومعنى الظلم يجعلنا نحكم: باستحالة التكليف بالشرك وحل الخبائث، واستواء الأفعال.
فـ "الحكمة: وضع الأشياء في مواضعها، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه"(1).
"والحكيم إذا أمر بأمر كان المأمور به حسناً في نفسه، وإذا نهى عن شيء كان المنهي عنه قبيحاً في نفسه، وإذا أخبر بخبر كان صدقا، وإذا فعل فعلاً كان صواباً، وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره. وهذا الوصف على
(1) النبوات/ 145.
الكمال لا يكون إلا لله وحده" (1).
"قد ثبت أنه مريد - أي الله تبارك وتعالى وأن الإرادة تخصص المراد عن غيره، وهذا إنما يكون إذا كان التخصيص لرجحان المراد، إما لكونه أحب إلى المريد وأفضل عنده، فأما إذا ساوى غيره من كل وجه امتنع ترجيح الإرادة له"(2).
فمقتضى الحكمة والإرادة، ومعنى الظلم يوجب تباين الأفعال وثبوت المرجحات، وظهر بهذا أن للأفعال حقائق ومواضع. فللتوحيد والطيبات مواضع. وللشرك والخبائث مواضع أخر.
والإرادة: تخصص المراد عن غيره لمرجح فيه، فالآمر بالتوحيد وحل الطيبات، والنهي عن الشرك وحرمة الخبائث يوجب الفروق بينها، واختلاف حقائقها، وتباين مواضعها، وبذلك علا الفرقان على بطلان استواء الأفعال.
* مقتضى الآيات الكونية يأبى التكليف بالشرك واستواء الأفعال.
عندما نزل قول الله تعال (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)(3).
ضج المشركون وثارت ثائرتهم وقالوا: أين البرهان؟ فنزل قوله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(4).
قال ابن كثير: "قال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة،
(1) بدائع التفسير (1/ 463).
(2)
النبوات/ 358.
(3)
سورة البقرة، الآية:163.
(4)
سورة البقرة، الآية:164.
حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ). فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - إلى قوله - لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
فبهذا يعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء" (1) أ. هـ.
فالآيات الكونية من أعظم وأجل الحجج والبراهين الدالة دلالة باهرة: على معرفة الخالق وتفرده بالألوهة، وعلى بطلان تأله المخلوقين المربوبين المحدثين، العاجزين عن الخلق والتكوين.
ولذلك أمر الله عز وجل بالنظر إليها والتدبر والإمعان في دلالتها. قال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(2)، وأنكر على من أعرض عنها ولم يع برهانها بقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)(3).
قال الإمام الطبري: "يقول جل وعز: كم من آية في السموات والأرض لله، وعبرة وحجة، وذلك كالشمس والقمر والنجوم، ونحو ذلك من آيات السموات، وكالجبال والبحار والنبات والأشجار وغير ذلك من آيات الأرض. (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا) يقول: يعاينونها فيمرون بها معرضين عنها لا يعتبرون بها، ولا يفكرون فيها، وفيما دلت عليه من توحيد ربها، وأن الألوهة لا تنبغي إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء"(4) أ. هـ.
(1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 290).
(2)
سورة يونس، الآية:101.
(3)
سورة يوسف، الآية:105.
(4)
جامع البيان: (13/ 51).
"ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة بذلك، بل شهادتها أتم من شهادة الخبر المجرد؛ لأنها شهادة حال لا يقبل كذباً فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله إلا وجده دالاً على فاطره وبارئه وعلى وحدانيته، وعلى كمال صفاته، وعلى صدق رسله، وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه.
وهذه طريقة القرآن في إرشادة الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالهم على: إثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد والنبوات.
فمرة يخبرهم أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا، ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق، ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله حتى يبين لهم: أن الرسل إنما جاءتم بما يشاهدون أدلة صدقه، وبما لو تأملوه لرأوه مركوزاً في فطرهم مستقراً في عقولهم، وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عن: أسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته.
وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة، وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار" (1).
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لأن الواجب على جميع الخلق معرفة الرب سبحانه وتعالى وتوحيده لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه، وسائر ما خلق سبحانه وتعالى"(2) أ. هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها، والاستدلال بها. فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية. وآيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها تعرف لعباده. فبها يعرفون أسماءه وصفاته
(1) بدائع التفسير: (1/ 345: 346).
(2)
بدائع الصنائع (7/ 132).
وتوحيده وأمره ونهيه.
فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية، ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك وهي آياته العيانية.
والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة" (1) أ. هـ.
فهل يجوز بعد هذا أن شرع الحكيم الخبير: عبادة غيره ويحسنها ويأمر بها، ويحرم إفراده بالعبادة ويقبحه وينهى عنه. فيقع العباد أسرى حائرين بين: تعارض مقتضى الآيات الكونية، ومقتضى الآيات السمعية؟!!!
* الشرك سوء ظن بالله وبحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، ومن ثم استحال استحسانه؛ إذ الفطر والعقول تأبى جوازه.
قال ابن القيم: "ووقعت مسألة وهي: أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك.
فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه. وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدلني وتدخلني عليه، فهو المقصود وهذه وسائل وشفعاء، فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى، ومخلداً في النار، وموجباً لسفك دماء أصحابه واستباحة حريتهم (2) وأموالهم؟.
وترتب على هذا سؤال آخر، وهو: أنه هل يجوزأن يشرع لله سبحانه لعبادة التقرب إليه بالشفعاء والوسائط، فيكون تحريم هذا إنما ليستفيد من الشرع، أم ذلك قبح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشرائع بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السر في كونه لا يغفره من بين سائر الذنوب؟ كما قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(3).
(1) بدائع التفسير (1/ 467: 468).
(2)
هكذا في الأصل، ولعلها تكون "حريمهم".
(3)
سورة النساء، الآية:116.
فتأمل هذا السؤال، واجمع قلبك وذهنك على جوابه ولا تستهونه، فإنه به يحصل الفرق بين: المشركين والموحدين، والعالمين بالله والجاهلين به، وأهل الجنة وأهل النار - ثم أخذ يتحدث الشيخ عن أنواع الشرك الأكبر والأصغر ظاهره وباطنه في الربوبية والألوهية إلى أن قال:
"إذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك الجواب عن السؤال المذكور؛ فنقول، ومن الله وحده نستمد الصواب.
حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبه للمخلوق به، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله، فعكس الأمر من نكس الله قلبه، وأعمى بصيرته، وأركسه بكسبه، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية.
فإن من خصائص الإلهية: التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً - فضلاً عن غيره - شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوبة والتوكل والاستعانة. وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون له وحده، ويمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة
أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغبر بمن لا شبيه له ولا مثيل له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أن لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل. هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.
فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه. وهذا من المحال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم. فازدادوا بذلك نوراً على نور (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)(1).
* إذا تبين (2) هذا فها هنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته. ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى:(عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(3). وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4).
قال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً
(1) سورة النور، الآية:35.
(2)
أي: سوء الشرك وشنيع جرمه.
(3)
سورة الفتح، الآية:6.
(4)
سورة فصلت، الآية:23.
دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (1).
أي: فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، الرحمن بذاته، فلا يحتاج لرحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرساء، فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، ويعينهم إلى قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزه وقصور علمهم.
فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، والعالم بكل شيء الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح" (2) أ. هـ.
* تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد دليل على ذاتية الحسن والقبح للأفعال، وعلى بطلان استواء ذواتها.
فالشريعة كلها شاهدة بتعليل الأحكام - ما خلا الأحكام التعبدية - ودالة
(1) سورة الصافات، الآيات: 85 - 87.
(2)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي بتحقيق حسين عبد الحميد 175: 189 دار القبلتين الطبعة الأولى.
عليه، وناطقة به. ولذلك أطبق الفقهاء على تأثير العلل في الأحكام، وأنها تدور معها وجوداً وعدماً، وإلا انسد باب القياس الذي هو أصل أصيل، وركن ركين من أصول وأركان الاستنباط وأدلة الأحكام.
وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين؛ إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر النهي فقط. وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها فيجعل الأول ضابطاً للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل. فلو تساوت الأوصاف في أنفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعاة الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لاتأثير لها" (1).
وأما النفاة فقالوا: "إن الشرع لا يأمر وينهى لحكمة، ولم يعتمدوا المناسبة وقالوا: علل الشرع أمارات، كما قالوا: إن أفعال العباد أمارة على السعادة والشقاء فقط من غير أن يكون في أحد الفعلين معنى يناسب الثواب أو العقاب"(2).
وللك جوزوا أن تأتي شرائع أحكام الحاكمين بحل الشرك والخبائث، وتحريم التوحيد والطيبات. وما هذا إلا لاستواء الأفعال ونفي المرجحات.
ومن تأمل شراع الرحمن وجدها من أولها إلى آخرها شاهدة ببطلان إفكهم، وناطقة بجرمهم، ووجد: الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة بادياً على صفحاتها، وأنه يستحيل على أحكام الحاكمين، ولا يليق بجنابه أن يعدل بها إلى ضدها لما في خلافها من: القبائح والظلم والسفه.
فحكمته، وإرادته وعدله يحولون: دون مجيء شريعته على خلافها،
(1) مفتاح السعادة/ 360.
(2)
النبوات/ 142.
لحبه: الصلاح والعدل، ولبغضه: الفساد والظلم، وصفتي الحب والبغض هما مصدري: الأمر والنهي.
فأهل السنة يؤمنون بأن الله يحب ويبغض على وجه يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأثبتوا متعلق أثرهما في الأفعال التي به تباينت، وقامت المرجحات بينها. وهذا من أجل أصول أهل السنة في تلك المسألة.
وأما النفاة فمن أصولهم الفاسدة لنفي الصفات انطلقوا لتأويل تلك الصفتين ونفي أثرهما المفرق بين ذوات الأفعال وكنه الأشياء، وقالوا: الكل على وتيرة واحدة لا فرق بينها إلا بالخبر.
قال ابن القيم: "وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخاصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فاتت أدناهما؛ وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فساداً باحتمال أدناها.
وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه شاهدة له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم. وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة، وارتضاع من ثديها، وورود من صفو حوضها، وكلما كان تضلعه منها أعظم كان شهوده لمحاسنها ومصالحها أكمل، ولا يمكن أحد من الفقهاء أن يتكلم في مآخذ الأحكام وعللها والأوصاف المؤثرة فيها حقاً وفرقاً إلا على هذه الطريقة. وأما طريقة إنكار الحكم (1) التعليل ونفي الأوصاف المقتضية لحسن ما أمر به، وقبح ما نهى عنه وتأثيرها واقتضائها للحب والبغض الذي هو مصدر الأمر والنهي بطريقة جدلية كلامية لا يتصور بناء الأحكام عليها، ولا يمكن فقيهاً أن يستعملها في باب واحد من أبواب الفقه، كيف والقرآن وسنة
(1) هكذا في الأصل، وإن كان السياق يقتضي: الحكمة والتعليل أو الحكم والتعليل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل (1) الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان. ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة.
فتارة يذكر لام التعليل الصريحة، وتارة يذكر المفعول لأجله الذي هو المقصود بالفعل، وتارة يذكر (من أجل) الصريحة في التعليل، وتارة يذكر أداة (كي)، وتارة يذكر الفاء وإن، وتارة يذكر أداة (لعل) المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارة ينبّه على السبب يذكره صريحاً، وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة ينكر على من زعم أنه خلق خلقه وشرع دينه عبثاً وسدى، وتارة ينكر على من ظن أنه يسوي بين المختلفين اللذين يقتضيان أثرين مختلفين، وتارة يخبر بكمال حكمته وعلمه المقتضي أنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين، وأنه ينزل الأشياء منازلها ويرتبها مراتبها، وتارة يستدعي من عباده التفكر والتأمل والتدبر والتعقل لحسن ما بعث به رسوله وشرعه لعباده، كما يستدعي منهم التفكر والنظر في مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح، وتارة يذكر منافع مخلوقاته منبها بها على ذلك، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وتارة يختم آيات خلقه وأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها.
والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما، وما تضمناه من الآيات الشاهدة الدالة عليه. ولا يمكن من له أدنى اطلاع على معاني القرآن إنكار ذلك.
(1) قال ابن الوزير اليماني: جزم ابن الحاجب في كتابه (مختصر منتهى السؤل والأمل): بإجماع الفقهاء على أن أفعال الله تعالى في الشرائع معللة. أ. هـ. إيثار الحق على الخلق /187.
وهل جعل الله سبحانه في فطر العباد استواء العدل والظلم والصدق والكذب والفجور والعفة والإحسان والإساءة والصبر والعفو والاحتمال والطيش والانتقام والحدة والكرم والسماحة والبذل والبخل والشح والإمساك؟ بل الفطرة على الفرقان بين ذلك كالفطرة على قبول الأغذية النافعة وترك ما لا ينفع ولا يغذي، ولا فرق في الفطرة بينهما أصلاً. وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى آخرها شاهدة بذلك، ناطقة به ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة باديا على صفحاتها منادياً عليها يدعو العقول والألباب إليها، وأنه لا يجوز على أحكم الحاكمين ولا يليق به أن يشرع لعباده ما يضادها. وذلك لأن الذي شرعها علم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظلم والسفه الذي يتعالى عن إرادته وشرعه، وأنه لا يصلح العباد إلا عليها، ولاسعادة لهم بدونها ألبتة" (1) أ. هـ.
* الربوبية تستلزم الألوهية، وبها بطل تأله كل ما سوى الله، واستحال لفقرهم لها.
قال تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(2).
وهذا الدليل من أنصع وأدل البراهين على دحض افتراء المفترين على الله: بجواز تحسين الشرك إن أتى به خبر - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
وهذا الدليل يطفح القرآن بذكره. يقررهم المولى بربوبيته، ثم يلزمهم بلازمه. فلم يحتج سبحانه عليهم بمجرد الخبر، ولكن بما هو مركوز في فطرهم
(1) مفتاح دار السعادة/ 340 - 341.
(2)
سورة يونس، الآيتان: 31 - 32.
وعقولهم: من استحالة عبادة من لا يرزق، ولا يملك السمع والأبصار، ولا يقدر على إخراج الحي من الميت ولا على إخراج الميت من الحي، فلو لم يكن ذلك موجب الفطر والعقول لقالوا: وما لنا لا نعبد من هذا شأنه؟
فلو لم يكن هناك مناسبة بين التقرير والإلزام، فلم يقررهم المولى بشيء هم مقرون به؟ ولم يأمرهم بشيء هم مكذبون به؟ ويجعل الأولة علة للثاني ويحتج به له.
وهذا التعليل يبطل قول الزاعمين: جواز استحسان الشرك في العقول والفطر، والتعبد به لله لو جاء به خبر. لأنه لو كان كذلك لجاز أن يأتي شرع يخبرهم بذات الدليل، ويلزمهم بضد لازمه وهو: الشرك.
فكيف يحتج بدليل واحد على الشيء وضده؟!!!
قال ابن كثير: "يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على: وحدانية الإله. فقال: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) - وقد يعدد ألوان النعم من المنعم عز وجل وقوله: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي: فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو: ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي: فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي: فكيف تصرفون عن عبادة إلى عبادة ما سواه، وأنت تعلمون: أنه الرب الذي خلق كل شيء، والمتصرف في كل شيء؟!! " (1). أ. هـ
وقال تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/ 202 - 203).
فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (1).
لقد نفى المولى جل في علاه عن نفسه الولد، لأنه من المعلوم ضرورة في كل عقل سليم وفطرة مستقيمة أن لهذا الكون خالقا لا ند له ولا نظير. والولد لا يكون إلا من ذاتين متماثلتين، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، ولا نعلم له سميا.
ولو كان معه آلهة أخرى - كما يزعمون - لاضطرب نظام الكون، ولعلا بعضهم على بعض من أجل السيطرة والغلبة. والمشاهد أن الكون منتظم متسق في غاية الكمال والارتباط. فدل ذلك على أن مدبره واحد لا إله إلا هو، وعلى بطلان تأله ما سواه.
ثم نزه نفسه جل في علاه عن هذا الظن السيء، وعلا بنفسه الجليلة وعظمها عما يظنه المشركون به. فلو كان يجوز عليه الأمر بعبادة غيره، وقد فطر الفطر، وهيأ العقول على استحسان ذلك لو أمر به، فلم نزه نفسه وعلا بها عن شيء يجوز عليه؟!!!
قال عبد الرحمن السعدي: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) كذب يُعرف بخبر الله، وخبر رسله، ويعرف بالعقل الصحيح.
ولهذا نبه تعالى على الدليل العقلي على امتناع إلهين فقال: (إِذاً) أي: لو كان معه آلهة كما يقولون (لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) أي: لانفرد كل واحد من الإلهين بمخلوقاته واستقل بها، ولحرص على ممانعة الأخر ومغالبته. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فالغالب يكون هو الإله. فمن التمانع لا يمكن وجود العالم، ولا يتصور أن ينتظم هذا الانتظام المدهش للعقول. واعتبر ذلك بالشمس والقمر، والكواكب الثابتة والسيارة. فإنها منذ خلقت وهي تجري
(1) سورة المؤمنون، الآيتان: 91 - 92.
على نظام واحد، وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست مقصورة على أحد دون أحد، ولن ترى فيها خللا، ولا معارضة في أدنى تصرف.
فهل يتصور أن يكون ذلك تقدير إلهين ربين؟!!!
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) قد نطقت بلسان حالها، وأفهمت ببديع أشكالها، أن المدبر لها إله واحد، كامل الأسماء والصفات، قد افتقرت إليه جميع المخلوقات في ربوبيته لها، وفي إلهيته لها. فكما لا وجود لها ولا دوام إلا بربوبيته كذلك لا صلاح لها ولا قوام إلا بعبادته وإفراده بالطاعة" (1) أهـ.
وقال ابن القيم: "تأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين. فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابديه النفع ويدفع عنهم الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى شركة الإله الآخر معه، بل إن قدر على قهره والتفرد بالإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بمماليكهم، إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر، والعلو عليه. وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف، ولا يفسد. من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره
…
فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون له إلهان معبودان" (2) أ. هـ.
وأختم هذه المسألة بنقلين قيمين للإمام ابن القيم يفضح فيهما قول المفترين على الله كذباً بزعمهم: استواء كافة الأفعال وأنها على حد سواء بالنسبة إليه، لا فرق بينها إلا بمحض المشيئة بلا سبب ولا حكمة، مستدلا في ذلك بمقتضى
(1) تيسير الكريم الرحمن (3/ 372: 373).
(2)
التفسير القيم /371.
الفطرة والعقل الذي نزل كلام رب العالمين ليخاطبهما ويقرر موجبهما الذي صبغهما به، ويزيل كافة التغييرات والافتراءات التي نالتهما من قبل شياطين الإنسن والجن.
قال ابن القيم: "ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله: إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلاً، وإما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة.
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلاً بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها، كقوله تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(1) وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(2) وقوله (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(3). فأنكر سبحانه على من ظن به هذا الظن السيء، ونزه نفسه عنه.
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته، لا إله إلا هو، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان، ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة. فإذا وضع العقوة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار، واستهجنته أعظم الاستهجان.
وكلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام،
(1) سورة القلم، الآيتان: 35 - 36.
(2)
سورة الجاثية، الآية:21.
(3)
سورة ص، الآية:28.
كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم، ودمائم، فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه. فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشتهد على سفه من فعله. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها" (1) أ. هـ.
وقال رحمه الله: "وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أمر لحكمة، ولا نهى لحكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة. وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده.
بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات فهما مظهران بحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره. والذي أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه ألبتة، وينهى عما في مصلحة، والجميع بالنسبة إليه سواء، ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه وينهى عن جميع ما أمر به. ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي، ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعطه طرفة عين بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، وينعم على من لم يعصه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول وإلا فهو جائز عليه. وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه" (2) أ. هـ.
تضارب النفاة:
ولما تحررت المسائل وظهرت الدلائل وتقررت الحقائق، وبانت الصراط
(1) بدائع التفسير (5/ 391: 392).
(2)
المصدر السابق (4/ 141).
وتعرت السبل، وظهرت مكابرة النفاة، وحصحص جحدهم للضروريات.
قالوا: نحن سلمنا بالتحسين والتقبيح العقلي للأفعال بمعنى الملاءمة والمنافرة، وبمعنى الكمال والنقصان، ولا ننازع فيه بهذين الاعتبارين، وإنما النزاع في كون العقل متعلق المدح والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً.
وهذا التفصيل لو أعطي حقه، والتزمت لوازمه، رفع النزاع، وعادت المسألة اتفاقية، وأسفر ضوء الشمس عليها، وأدبرت ظلمات الاشتباه من حولها.
فالله جل في علاه يحب الكامل من الأفعال والأقوال، ويبغض الناقص منهما، وهو سبحانه يحب كل ما أمر به ويبغض كل ما نهى عنه، وبذلك ظهر تباين الأفعال وثبوت المرجحات بينها، وجلا بطلان استوائها أمام الحكيم العليم، واستحال مجيء شرعه على ضده وخلافه.
بقي حديث المدح والذم، والثواب والعقاب. فأما المدح والثواب لفاعل الكمال والمتحلي به، والذم والعقاب لفال النقص والمتصف به فهو أمر عقلي ومتعلق فطري، وإنكاره يزاحم المكابرة، وأما وقوع العقاب فمشروط بالسمع يقع به وينتفي بانتفائه، وانتفاؤه لانتفاء شرطه، لا لانتفاء سببه فسببه قائم ومقتضيه موجود قبل بلوغ السمع. وهذا هو فصل الخطاب في هذه المسألة، وهو المنصور لقوته وتدافق الأدلة عليه بلا تمانع ولا تعارض، ولسلامته من الوهن والتضارب.
دليل ذلك قوله تعالى (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(1).
قال ابن القيم: "فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً؛ فقطع هذه الحجة
(1) سورة القصص، الآية:47.
بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا أن يصيبوا بها المصيبة، ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل. وهذا هو فصل الخطاب.
وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم: أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة؛ وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي، وأحسنوا في رد ذلك عليهم. واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة، وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلاً على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها، وأحسنوا في رد هذا عليهم. فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب. وأما من سلك هذا المسك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله، ولا الظفر عليه أصلاً؛ فإنه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له، مخالف لها في باطلها منكر له.
وليس مع النفاة قط دليل واحد صحيح على نفي الحسن والقبح العقليين، وأن الأفعال المتضادة كلها في نفس الأمر سواء لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي، وكل أدلتهم على هذا باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله تعالى.
وليس مع المعتزلة دليل واحد صحيح قط يدل على إثبات العذاب على مجرد القبح العقلي قبل بعثة الرسل، وأدلتهم على ذلك كلها باطلة كما سنذكرها ونذكر بطلانها إن شاء الله" (1) أ. هـ.
(1) مفتاح دار السعادة (324: 325).
وقال رحمه الله: وقد سلّم كثير من النفاة أن كون الفعل حسناً أو قبيحاً بمعنى: الملاءمة والمنافرة والكمال والنقصان عقلي. وقال نحن: لا ننازعكم في الحسن والقبح بهذين الاعتبارين، وإنما النزاع في إثباته عقلاً بمعنى: كونه متعلق المدح والذم عاجلاً، والثواب والعقاب آجلاً، فعندنا لا مدخل للعقل في ذلك، وإنما يعلم بالسمع المجرد.
قال هؤلاء: فيطلق الحسن والقبح بمعنى: الملاءمة والمنافرة، وهو عقلي. وبمعنى: الكمال والنقصان، وهو عقلي. وبمعنى: استلزامه للثواب والعقاب، وهو محل النزاع.
وهذا التفصيل لو أعطي حقه والتزمت لوازمه، رفع النزاع، وأعاد المسألة اتفاقية، وأن كون الفعل صفة كمال أو نقصان يستلزم إثبات تعلق الملاءمة والمنافرة لأن الكمال محبوب للعالم، والنقص مبغوض له. ولا معنى للملاءمة والمنافرة إلا الحب والبغض. فإن الله سبحانه يحب الكامل من الأفعال والأقوال والأعمال، ومحبته لذلك بحسب كماله، ويبغض الناقص منها ويمقته، ومقته له بحسب نقصانه، ولهذا أسلفنا أن من أصول المسألة إثبات صفة الحب والبغض لله فتأمل كيف عادت المسألة إليه وتوقفت عليه.
والله سبحانه يحب كل ما أمر به ويبغض كل ما نهى عنه، ولا يسمى ذلك ملاءمة أو منافرة، بل يطلق عليه الأسماء التي أطلقها على نفسه وأطلقها عليه رسوله: من محبته للفعل الحسن المأمور به، وبغضه للفعل القبيح ومقته له، وما ذلك إلا لكمال الأول ونقصان الثاني. فإذا كان الفعل مستلزماً للكمال والنقصان، واستلزامه له عقلي، والكمال والنقصان يستلزم الحب والبغض الذي سمّيتموه ملاءمة ومنافرة واستلزامه عقلي، فبيان كون الفعل حسناً كاملاً محبوباً مرضياً، وكونه قبيحاً مسخوطاً مبغوضا أمر عقلي. بقي حديث المدح والذم والثواب والعقاب. ومن أحاط علماً بما أسلفناه في ذلك انكشفت
له المسألة، وأسفرت عن وجهها، وزال عنها كل شبهة وإشكال.
فأما المدح والذم فترتّبه على النقصان والكمال والمتصف به، وذمهم لمؤثر النقص والمتصف به أمر عقلي فطري، وإنكاره يزاحم المكابرة، وأما العقاب فقد قررنا أن ترتّبه على فعل القبيح مشروط بالسمع، وأنه إنما انتفى عند انتفاء السمع انتفاء المشروط لانتفاء شرطه، لا انتفاءه لانتفاء سببه، فإنه سببه قائم، ومقتضيه موجود إلا أنه لم يتم لتوقفه على شرطه. وعلى هذا فكونه متعلقا للثواب والعقاب والمدح والذم عقلي، وإن كان وقوع العقاب موقوفاً على شرط وهو ورود السمع.
وهل يقال: إن الاستحقاق ليس بثابت لأن ورود السمع شرط فيه؟ هذا فيه طريقان للناس، ولعل النزاع لفظي، فإن أريد بالاستحقاق: الاستحقاق التام فالحق نفيه، وإن أريد به: قيام السبب والتخلف لفوات شرط أو وجود مانع فالحق إثباته.
فعادت الأقسام الثلاثة أعني: الكمال والنقصان، والملاءمة والمنافرة، والمدح والذم إلى أن عرف واح وهو كون الفعل محبوباً أو مبغوضاً، ويلزم من كونه محبوباً أن يكون كمالاً، وأن يستحق عليه المدح والثواب، ومن كونه مبغوضاً أن يكون نقصاً يستحق به الذم والعقاب.
فظهر أن التزام لوازم هذا التفصيل، وإعطاءه حقه يرفع النزاع ويُعيد المسألة اتفاقية. ولكن أصول الطائفتين تأبى التزام ذلك فلا بد لهما من التناقض إذا طردوا أصولهم. وأما من كان أصله إثبات الحكمة واتصاف الرب تعالى بها، وإثبات الحب والبغض له، وأنهما أمر وراء المشية العامة فأصوله مستلزمة لفروعه، وفروعه دالة على أصوله، فأصوله وفروعه لا تتناقض، وأدلته لا تتمانع ولا تتعارض" (1) أ. هـ.
وقال ابن الوزير: "حكى الزركشي في شرحه لكتاب السبكي المسمى جمع الجوامع: أن قوماً توسطوا فقالوا: إن القبح واستحقاق الذم عليه ثابت بالعقل،
(1) مفتاح دار السعادة /362: 363.
وأما العقاب فتوقف على الشرع. قال: وهو الذي ذكره أسعد بن علي الزنجاني من أصحابنا الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكرته الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة.
قال: وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض
…
وقول الزركشي أن ذلك هو المنصور لموافقته الفطرة وآيات القرآن المجيد قول صحيح" (1) أ. هـ.
الإجماع على بطلان قول النفاة، وتفصيل جيد لأنواع التحسين والتقبيح.
قال ابن تيمية: "فالناس في مسألة "التحسين والتقبيح" على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط.
(الطرف الأول): قول من يقول: بالحسن والقبح، ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له، ولا يجعل الشرع إلا كاشفاً عن تلك الصفات، لا سبباً لشيء من الصفات، فهذا قول المعتزلة وهو ضعيف
…
وأما الطرف الآخر في "مسألة التحسين والتقبيح" فهو قول من يقول:
إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام، ولا على صفات هي علل للأحكام. بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر، لمحض الإرادة، لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر.
ويقولون: إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله، وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش، وينهى عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفاً عندهم، ولا المنكر في نفسه منكراً عندهم. بل إذا قال:(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) فحقيقة
(1) إيثار الحق على الخلق /343.
ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم، وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، بل الأمر والنهي والتحليل والتحريم ليس في نفس الأمر عندهم لا معروف ولا منكر ولا طيب ولا خبيث، إلا أن يعبر عن ذلك بما يلائم الطباع، وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر.
فهذا القول ولوازمه هو أيضاً قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة. ولإجماع السلف والفقهاء، مع مخالفته أيضاً للمعقول الصريح؛ فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء. فقال:(إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) كما نزه نفسه عن التسوية بين الخير والشر فقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(1) وقال: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(2) وقال: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(3).
وعلى قول النفاة: لا فرق في التسوية بين هؤلاء وهؤلاء، وبين تفضيل بعضهم على بعض، ليس تنزيهه عن أحدهما بأولى من تنزيهه عن الآخر، وهذا خلاف المنصوص والمعقول. وقد قال الله تعالى:(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(4) وعندهم تعلق الإرسال بالرسول كتعلق الخطاب بالأفعال لا يستلزم ثبوت صفة لا قبل التعلق ولا بعده.
والفقهاء وجمهور المسلمين يقولون: الله حرم المحرمات فحرمت، وأوجب الواجبات فوجبت، فمعنا شيئان: إيجاب وتحريم، وذلك كلام الله وخطابه،
(1) سورة الجاثية، الآية:21.
(2)
سورة القلم، الآيتان: 35 - 36.
(3)
سورة ص، الآية:28.
(4)
سورة الأنعام، الآية:124.
والثاني وجوب وحرمة وذلك صفة للفعل. والله تعالى عليم حكيم، علم بما تتضمنه الأحكام من المصالح. فأمر ونهى لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحظور من مصالح العباد ومفاسدهم، وهو أثبت حكم الفعل، وأما صفته فقد تكون ثابتة بدون الخطاب.
وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
(أحدها): أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن؛ لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة، إذا لم يرد شرع بذلك. وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح؛ فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث إليهم رسولاً، وهذا خلاف النص قال تعالى:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1) وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(2) وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)(3) وقال تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(4).
(1) سورة الإسراء، الآية:15.
(2)
سورة النساء، الآية:165.
(3)
سورة القصص، الآية:59.
(4)
سورة الملك، الآيات: 8 - 10.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين" والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة، ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم.
(النوع الثاني): أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
و (النوع الثالث): أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه! ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح، وكذلك حديث الأبرص والأقرع والأعمى، لما بعث الله إليهم من سألهم الصدقة. فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم فرضي عنك، وسخط على صاحبيك.
فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة؛ وزعمت أن الحسن القبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك، بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا، أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع؛ وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب (1) أ. هـ.
وأورد ابن تيمية سؤالاً مهماً في هذا المقام يظهر به أدق الفروق بين مذهب جماهير أهل السنة، وبين مذهب النفاة في تلك المسألة.
قال رحمه الله: "فإن قيل: إذا لم يكن معاقباً عليها - أي: على فعل الشرك والفواحش قبل الرسالة - فلا معنى لقبحها. قيل: بل فيه معنيان:
(1) مجموع الفتاوى (8/ 431 - 436).
أحدهما: أنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط وهو الحجة قال تعالى:(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)(1) فلولا إنقاذه لسقطوا، ومن كان واقفا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان وبعد عن ذلك فقد بعد عن الهلاك. فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب.
الثاني: أنهم مذمومون منقصون معيبون. فدرجتهم منخفضة بذلك ولابد؛ ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم من ذلك من كرامته أيضاً وثوابه. فهذه عقوبة بحرمان خير، وهي إحدى نوعي العقوبة" (2) أ. هـ.
نعم إن من وقع في عبادة غير الله الواحد المتعال قد نقض حججاً وخرق مواثيقاً؛ ومن ثم لا يكون مسلماً ولا يدخل في عداد المسلمين. فإن كان فعله قبل بلوغ الخطاب وقيام الحجة فقد اتفقت كلمة العلماء على عقابه. فمنهم من حكم بخلوده في النيران لمخالفته لحجج الميثاق والفطرة والعقل ومقتضى الآيات الكونية. وهو وقول ضعيف مرجوح منابذ للأصول والنصوص. ومنهم من حكم ببطلان فعله وشنيع جرمه وأوجب عليه التوبة بعد البلاغ والبيان لمناقضته للحجج والمواثيق، وجعل عقوبته متمثلة في خروجه من عداد المسلمين، ولحوقه بعداد المشركين، وأن الجنة عليه حرام طالما ظل على حاله. وهذا الأخير هو المستقيم مع النصوص والأصول، فجماهير علماء الأمة اتفقوا على عقابه واختلفوا في درجته، ولم يقل أحد منهم بإسلامه.
* * *
(1) سورة آل عمران، الآية:103.
(2)
مجموع الفتاوى: (11/ 686).