الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
حجية الفطرة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الفطرة في الإقرار بالإلهية والبراءة من الشرك.
المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنه خلاف مقتضاها.
المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة الله والبراءة من الشرك.
الفصل الثاني
حجية الفطرة
لقد خلق الله جل في علاه عباده حنفاء مسلمين موحدين لرب العالمين بالألوهية، ومتبرئين من تأله ما سواه.
وجعل ذلك من لوازم فطرهم بحيث لو تركوا ودواعيها لما كانوا إلا عارفين بالله، وبتوحيده، وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى القائم عليها والمنيثق منها: وحدانية تألهه.
وبذلك شهدت فطر الموحدين وعقولهم: بأن الله أهل أن يُعبد، ولو لم يرسل بذلك رسولاً، ولم ينزل به كتاباً.
وعليه أصبحت الفطرة بينة التوحيد وشاهده في أنفس الموحدين. فلا جرم أن الفطر يقتضي: عبادة الفاطر، وأن من كان مفطوراً مخلوقاً فحري به أن يتفرغ لعبادة فاطره وخالقه، لا سيما إذا كان أمره بيده ومنتهاه إليه.
قال سبحانه (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(1).
ومن هنا استحال جواز الشرك في الفطر السليمة والعقول المستقيمة ولو لم يرد بذلك خبر، كيف وقد أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في فطر خلقه من: حسن التوحيد وحل الطيبات، ومن قبح الشرك وحرمة الخبائث.
فاطمأنت قلوب الموحدين، وثلجت صدورهم وعلموا: أن الفطرة والعقل والوحي خرجوا جميعا من مشكاة واحدة؛ فعبدوا ربهم ووحدوه وعظموه ومجدوه بداعي الفطرة، وداعي العقل، وداعي النقل.
(1) سورة يس، الآية:22.
وبهذا تكون الفطرة حجة مستقلة في بطلان الشرك. فهي أسبق من
كافة الحجج الواهية، وسائر المعاذير الساقطة التي يتشبث بها المشركون.
فالمشركون خرجوا عن: كافة دواعي الهدى، وتردوا في ظلمات الردى، واستبدلوا الحجج الدامغة بالحجج الداحضة، واستغنوا بالشبه الزائفة عن البينات البينة، واشتروا الأدلة المظلمة بالأدلة الساطعة. إلا أن الله لكمال حكمته وعظيم عفوه حكم: بأن لا يعذب أحداً وقع في عبادة غيره حتى تقوم عليه الحجة برسله، وإن كان قد دقام به ما يستحق به العذاب لنقضه: كافة حجج وعهود التوحيد؛ بتلبسه بالشرك، ولمخالفته العلم الضروري البديهي الذي لا تنفك عنه أي نفس، والمستقر في قرار فطر الخلائق، والذي يقضي: بأن الفاطر الخالق لا بد أن يعبد وحده لا شريك له، ويكفر بكل معبود لا يملك لأوليائه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشوراً.
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(1).
قال الإمام البخاري: حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني: أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"؟
يقول أبو هريرة رضي الله عنه (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) متفق عليه (2).
(1) سورة الروم، الآيتان: 30 - 31.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز برقم: 1359، 1358. وفي كتاب التفسير برقم: 4775 وأخرجه مسلم في كتاب القدر برقم: 2658 وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 315، 346).
وفي رواية للإمام مسلم: "ويشركانه"(1) وفي رواية "إلا على هذه الملة، حتى يبين عنه لسانه". (2) وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا. كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من أهل الكتاب
…
" (3).
* * *
(1) صحيح مسلم، كتاب القدر.
(2)
صحيح مسلم، كتاب القدر.
(3)
المسند (4/ 162) وصحيح مسلم/ كتاب الجنة برقم: 2865.