المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة: - آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌تقديمفضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - حفظه الله

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأولحجية الميثاق

- ‌بين يدي حجية الميثاق

- ‌تنبيهات

- ‌المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك:

- ‌المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك، وتلك علة أخذه:

- ‌أهم نتائج الفصل الأول

- ‌الفصل الثانيحجية الفطرة

- ‌المبحث الأول: الفطرة في الإقرار لله بالإلهية والبراءة من الشرك:

- ‌المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنه خلاف مقتضاها:

- ‌المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة لله والبراءة من الشرك:

- ‌أهم نتائج هذا الفصل

- ‌الفصل الثالثحجية العقل

- ‌المبحث الأول: العقل فيه وجوب التوحيد والبراءة من الشرك:

- ‌المبحث الثاني: العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك:

- ‌المبحث الثالث: خصائص وسمات الأدلة العقلية:

- ‌المبحث الرابع: الشريعة جاءت بخلاصة الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين وهي أول ما أنزل من التشريع:

- ‌المبحث الخامس: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال:

- ‌المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة:

- ‌أهم نتائج الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابعآثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

- ‌المبحث الأول: بعث الرسل إزاحة لعلل الكفار:

- ‌المبحث الثاني: الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون:

- ‌المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان:

- ‌أهم نتائج الفصل الرابع

- ‌تلخيص دقيق للبحث

- ‌ حجية الميثاق:

- ‌ حجية الفطرة:

- ‌ حجية العقل:

- ‌ آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد:

- ‌ مناقشة هادئة:

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة:

‌المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة:

إن من أدق وأحد الأمور المفرقة بين السنة والبدعة: النظر في لوازمها وتتبع مآلاتها.

فالسنة مستقاة من صلب النصوص الصحيحة الصريحة لذلك فهي تسير وفق قواعدها ودلالاتها بسهولة ويسر بلا تمانع ولا تعارض ومن ثم استحال تضاربها مع بقية المقررات الشرعية، أو استلزامها للوازم باطلة. قال تعالى:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً)(1) أي: يشبه ويصدق بعضه بعضاً.

وأما البدعة فهي مستقاة من نصوص صحيحة غير صريحة، أو من نصوص صريحة غير صحيحة. لذلك فهي أجنبية عن الشريعة ودائمة التصادم مع قواعدها ومقرراتها، ومن ثم كان التضارب والتدافع والتعارض وعدم التجانس سمتها الأساسية مع الشريعة الربانية، وأصولها يبطل بعضها بعضاً لقيامها على شفا جرف هار. قال تعالى:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(2) وقد أصل النفاة أصولاً سترى وتلمس - بمشيئة الله - عاقبة شؤمها، ومخازي لوازمها التي تؤول بأصحابها إلى: التنقص بالرحمن، والجهل به، وعدم تقرير أصول دينه. إلا أن القواعد الكلية والمقررات الشرعية قضت: بأن كفر المآل ليس بكفر في الحال، ولازم المذهب ليس بمذهب حتى يلتزمه صاحبه.

أصول النفاة:

* قالوا: إن الله لا يفعل شيئاً لشيء، نفياً لمقتضى حكمته وعدله، ويجوز عليه فعل كل شيء.

(1) سورة الزمر، الآية:23.

(2)

سورة النساء: الآية: 82.

ص: 153

* قرروا: أن الأفعال متساوية بلا مرجحات بينها قط إلا السمع.

ونفوا متعلق صفتي الحب والبغض لله تعالى المفرق بين ذوات الأفعال وكنه الأشياء انطلاقاً من أصولهم الفاسدة القائمة على: نفي الصفات.

* نصوا على أن: الظلم المنزه عنه الرب والذي حرمه على نفسه هو: المحال لذاته الخارج عن نطاق. القدرة: كالجمع بين النقيضين، ووجود الإنسان في مكانين وما دون ذلك فجائز عليه فعله، ولا ينزه عن شيء منه ..

ويلزم من تلك الأصول الخاوية على عروشها: التنقص بالرحمن وبربوبيته وألوهيته والتعدي على سلطانه، وملكه، ويستعصي على أصحابها إثبات أصول الدين، والتدليل على صحة الرسالات وإليك البيان:

النفاة ليس لديهم فرقان بين النبيين والمتنبئين:

إن الله جل في علاه قد نصب براهين باهرة، وأدلة ساطعة وحججاً دامغة على صحة الرسالات، وصدق النبوات، وجعلها حداً فاصلاً وفرقاناً فارقاً بين: وحي الرحمن، ووحي الشيطان. منها:

حال النبي قبل الرسالة:

لا شك أن من كان حاله الصدق والصلة والعفاف والبر، والحياء من سفاسف الأمور فضلاً عن جليلها، مع اجتناب المعايب والرائل والمنكرات التي تنكرها الفطر وتأباها الشيم المستقيمة. فهذا الحال يكون من القرائن الدالة على صدقه.

ومن هنا ندرك: علة تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لقومه بصدقه من قبل أن يعرض دعوته عليهم عندما نزل عليه قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فجمع صلى الله عليه وسلم بطون قريش وقال لهم: "

أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً.

ص: 154

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" (1).

قال الحافظ: "أرأيتم لو أخبرتكم" أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب (2) أ. هـ.

فلو لم تكن صفة الصدق قبل النبوة والوحي تدل وتبرهن على صدق صاحبها عند ادعائه الرسالة، ما احتج بها النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، ولا قررهم بصدقه قبل عرض دعوته.

قال ابن القيم: "وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه يصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه، ولا يسلط عليه الشيطان. وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه، فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى، وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه ومجازاته بإحسانه، وأنه لا يضيع أجر المحسنين"(3) أ. هـ.

وقال ابن تيمية رحمه الله: "وما زال العقلاء يستدلون بما علموه من صفات الرب على ما يفعله كقول خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لها: "لقد خشيت على نفسي" فقالت: "كلا والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".

فاستدلت بما فيه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال على أن الله لا

(1) أخرجه البخاري في صحيحه/ كتاب التفسير/ باب وأنذر عشيرتك الأقربين.

(2)

فتح الباري (8/ 360).

(3)

أعلام الموقعين عن رب العالمين: (1/ 282).

ص: 155

يخزيه. ومنه قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(1) فإن الشيطان إنما ينزل على ما يناسبه ويطلبه وهو يريد الكذب والإثم، فينزل على من يكون كذلك، وبسط هذا له موضع آخر" (2) أ. هـ.

والنفاة قد أحكموا غلق هذا الباب دونهم في الاستدلال به على صحة الرسالات وصدق النبوات.

فالمقرر لديهم أنهم لا فرق بين فعل وفعل إلا بالخبر، ويجوز على الله فعل كل ممكن مقدور، وعليه جوزوا من جهة العقل أن يرسل رسولا فاعلاً للكبائر والموبقات، ولا يشترط فيه إلا أن يكون عالماً بالصانع. وهذا احتراز غير محرز، وحد ليس بفاصل لوجوده في عامة الخلق.

قال ابن تيمية: "وجوزوا من جهة العقل: ما ذكره القاضي أبو بكر أن يكون الرسول فاعلاً للكبائر، إلا أنه لا بد أن يكون عالماً بمرسله، لكن ما علم بالخبر أن الرسول لا يتصف به علم من جهة الخبر فقط. لا لأن الله منزه عن إرسال ظالم أو مرتكب للفواحش أو مكاس أو مخنث أو غير ذلك، فإنه لا يعلم نفي شيء من ذلك بالعقل لكن بالخبر، وهم في السمعيات عُمدتهم الإجماع.

وأما الاحتجاج بالكتاب والسنة فأكثر ما يذكرونه تبعاً للعقل أو الإجماع. والعقل والإجماع مقدمان عندهم على الكتاب والسنة فلم يعتمد القاضي أبو بكر وأمثاله في تنزيه الأنبياء لا على دليل عقلي ولا سمعي من الكتاب والسنة، فإن العقل عنده لا يمنع أن يرسل الله من شاء إذ كان يجوز عنده على الله فعل كل ما يقدر عليه. وإنما اعتمد على الإجماع. فما أجمع المسلمون

(1) سورة الشعراء، الآيتان: 221 - 222.

(2)

النبوات/ 353.

ص: 156

عليه أنه لا يكون في النبي نزه عنه. ثم ذكر ما ظنه إجماعاً كعاداته وعادات أمثاله" (1) أ. هـ.

* شرع النبي من أعلام نبوته وشواهد رسالته:

إن شرائع الأنبياء والمرسلين من أعظم وأجل الآيات والبراهين لدى الكمل من المؤمنين على صدق النبوات وصحة الرسالات فهي موافقة لموجب عقولهم وفطرهم، فالمعروف والمنكر فيها معروف ومنكر لديهما.

فما وجد المؤمنون في تنزيل رب العالمين أمراً قالت عقولهم وفطرهم: ليته ما أمر به، ولا ألفوا نهياً قالت: ليته ما نهى عنه.

وهذه سبيل محجورة على جماهير أهل السنة القائلين بالتحسين والتقبيح العقلي للأفعال، وكونه حجة وبرهانا من حجج وبراهين العليم الخبير على عباده.

وأما النفاة "فهؤلاء يجوزون أن يأمر الله بكل شيء، وأن ينهى عن كل شيء، فلا يبقى عندهم فرق بين النبي الصادق والمتنبي الكاذب، لا من جهة نفسه فإنهم لا يشترطون فيه إلا مجرد كونه في الباطن مقراً بالصانع، وهذا موجود في عامة الخلق، ولا من جهة آياته، ولا من جهة ما يأمر به"(2).

وقال ابن القيم: "وهل ركب الله في فطرة عاقل قط: أن الإحسان والإساءة والصدق والكذب والفجور والعفّة والعدل والظلم وقتل النفوس وإنجاءها بل السجود لله وللصنم سواء في نفس الأمر لا فرق بينهما، وإنما الفرق بينهما الأمر المجرد.

وأي جحد للضروريات أعظم من هذا؛ وهل هذا إلا بمنزلة من يقول: إنه

(1) النبوات: /146.

(2)

النبوات: /213.

ص: 157

لا فرق بين الرجيع والبول والدم والقيء ويبن الخبز واللحم والماء والفاكهة والكل سواء في نفس الأمر وإنما الفرق بالعوائد؟! فأي فرق بين: مدّعي هذا الباطل وبين: مدعي ذلك الباطل. وهل هذا إلا بهت للعقل والحس والضرورة والشرع والحكمة، وإذا كان لا معنى عندهم للمعروف إلا ما أمر به فصار معروفاً بالأمر ولا للمنكر إلا ما نهى عنه فصار منكراً بنهيه، فأي معنى لقوله:(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عا ينهاهم عنه. وهذا كلام ينزه عنه آحاد العقلاء فضلاً عن كلام رب العالمين. وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنه الفطر؟ فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم، ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض على العقول السليمة أنكرته أشد الإنكار كما [أن ما] أمر به إذا عُرض على العقل السليم قبله أعظم قبول وشهد بحسنه. كما قال بعض الأعراب وقد سئل: بما عرفت أنه رسول الله؟ فقال: ما أمر بشيء فقال العقل ليته ينهى عنه، ولا نهى عن شيء. فقال: ليته أمر به. فهذا الأعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به، وقبح ما نهى عنه حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته؛ ولو كان جهة كونه معروفاً ومنكراً هو الأمر المجرد، لم يكن فيه دليل، بل كان يطلب له الدليل من غيره.

ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه. ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه وشواهد نبوته، ومن لم يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول له، ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة وجعلها مستدلاً عليه فقط.

ص: 158

ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(1).

فهذا صريح في أن الحلال كان طيباً قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثاً قبل تحريمه. ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين:

أحدهما: أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ)(2).

فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال: يحل لهم ما يحل، ويحرم عليهم ما يحرم، وهذا أيضاً باطل. فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني.

فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل، فكساه بإحلاله طيباً آخر، فصار منشأ طيبه من الوجهين معاً.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل، يطلعك على أسرار الشريعة، ويشرفك على محاسنها، وكمالها، وبهجتها، وجلالها. وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين: أن تكون بخلاف ما وردت به. وأن الله تعالى منزه عن ذلك، كما يتنزه عن سائر ما لا يليق به" (3) أ. هـ.

* معجزات النبوة:

من المعلوم ضرورة: أن الله خلق المعجزات لتصديق الأنبياء، وجعلها فرقاناً

(1) سورة الأعراف، الآية:157.

(2)

سورة الأعراف: الآية 157.

(3)

فتاح دار السعادة /323: 324.

ص: 159

فارقاً بينهم، وبين المتقولين عليه.

- وهذا يبطل ما أصله النفاة: من أن الله لا يخلق شيئاً لشيء - ويلزم من هذا أن تكون معجزات رسله: خارجة عن مقدور الثقلين، وما دونها في مقدورهم ووسعهم، وإلا بطل فرقانها واختلطت الأعلام، ولزم القدح في صحة الدلالة.

قال ابن تيمية: "إن ما يأتي به السحرة والكهان، والمشركون وأهل البدع من أهل الملل، لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن. وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها لا الإنس ولا الجن، كما قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) "(1) أ. هـ.

فمعجزات النبوة ودلائل الرسالة التي نصبها الله أعلاماً على صدق أصحابها، استحال ظهورها على أيدي غيرهم، وإلا انتفى أخص خصائص الدليل.

"والدليل يجب أن يكون مختصاً بالمدلول عليه لا يوجد مع عدمه، لا يتحقق الدليل إلا مع تحقق المدلول"(2) أ. هـ.

ومن ثم استحال خلق تلك المعجزات على أيد المتقولين على الله لموجب حكمته ورحمته وعدله، وهو مقدور له سبحانه إلا أنه منزه عن فعله.

والنفاة يجوزون حلقها على أيدي السحرة والكهان، ولا ينزهون ربهم عن فعلها إلا أن يأتي بذلك خبر.

وبذلك يلزم الدور. فبرهان المعجزات متوقف على الخبر، والخبر متوقف على برهانها.

قال ابن تيمية: "والجهمية المجبرة الذين قالوا: إن الله قد يفعل كل ممكن

(1) النبوات /425.

(2)

النبوات /161.

ص: 160

مقدور لا ينزهونه عن فعل شيء، ويقولون: إنه يفعل بلا سبب ولا حكمة، وهو الخالق لجميع الحوادث، لم يفرقوا بين ما تأتي به الملائكة، ولا ما تأتي به الشياطين، بل الجميع يضيفونه إلى الله على حد واحد، ليس في ذلك حسن ولا قبيح عندهم، حتى يأتي الرسول. فقبل ثبوت الرسالة لا يميزون بين شيء من الخير والشر، والحسن والقبيح.

فلهذا لم يفرقوا بين: آيات الأنبياء وخوارق السحرة والكهان، بل قالوا: ما يأتي به السحرة والكهان يجوز أن يكون من آيات الأنبياء، وما يأتي به الأنبياء يجوز أن يظهر على أيدي السحرة والكهان. لكن إن دل على انتفاء ذلك نص أو إجماع نفوه مع أنه جائز عندهم أن يفعله الله، لكن بالخبر علموا أنه لم يفعله" (1) أ. هـ.

والكلام في النبوة ودلائلها فرع على إثبات حكمة الرب وتنزيهه عن السوء والسفه؛ والنفاة لا يملكون فرقاناً بين موجب الحكمة، وبين ضدها ونقيضها لاستواء الأفعال ونفي المرجحات مع قبول الفطر والعقول لكافة المقدورات في زعمهم.

لذلك فهم لا ينزهون الله عن فعل مقدور إلا المحال لذاته الذي ليس فيه مدحة ولا تنزيه في نفيه.

وأما أهل السنة فنزهوا معبودهم عن كل سوء ظلم، وعن كل نقيض لحكمته ومستندهم في ذلك موجب فطرهم وعقولهم. وبذلك تحررت لديهم: دلائل النبوة وأعلام الرسالة؛ واستحال تحريرها على أيدي النفاة لأصولهم الخاوية على عروشها.

قال ابن تيمية: "وبيان ذلك أن يقال: ما خلقه على يد الصادق هو قادر على أن يخلقه على يد الكاذب أم لا؟ فإن قلت: (2) ليس بقادر فقد أثبت عجزه، وإن قلت: هو قادر على ذلك، فالمقدور عندك لا ينزه عن شيء منه، وإن قلت: هذا المقدور أنزهه عنه لئلا يلزم عجزه، كان حقيقة قولك: أثبت

(1) النبوات /315: 316.

(2)

أي الذي ينفي التحسين والتقبيح العقلي للأفعال ويجوز على الله فعل كافة المقدورات.

ص: 161

عجزه لأنفي عجزه، فجعلته عاجزاً لئلا تجعله عاجزاً، فجمعت بين النقيضين بين إثبات العجز ونفيه، وإنما لزمه هذا لأنه لا ينزه الرب عن فعل مقدور فاستوت المقدورات كلها في الجواز عليه عنده، ولم يحكم بثبوت مقدور إلا بالعادة (1) أو الخبر، والعادة يجوز انتقاضها عنده، والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر. ولا طريق له إلى ذلك. فتعين أن كل من لم ينزه الرب عن السواء والسفه، ويصفه بالحكمة والعدل لم يمكنه أن يعلم نبوة نبي، ولا المعاد ولا صدق الرب في شيء من الأخبار" (2) أ. هـ.

وقال رحمه الله: "ولما أرادوا إثبات معجزات الأنبياء عليهم السلام. وأن الله سبحانه لا يظهرها على يد كاذب. مع تجويزهم عليه فعل كل شيء فعوا معاً (3). فقالوا لو جاز ذلك؛ لزم أن لا يقدر على تصديق من ادعى النبوة. وما لزم منه نفي القدرة كان ممتنعاً. فهذا هو المشهور عن الأشعري. وعليه اعتمد القاضي أبو بكر. وابن فورك والقاضي أبو يعلى وغيرهم. وهو مبني على مقدمات:

أحدها: أن النبوة لا تثبت إلا بما ذكروه من المعجزات، وأن الرب لا يقدر على إعلام الخلق بأن هذا نبي إلا بهذا الطريق، وأنه لا يجوز أن يعلموا ذلك ضرورة، وأن إعلام الخلق بأن هذا نبي بهذا الطريق ممكن.

فلو قيل لهم: لا نسلم أن هذا ممكن على قولكم فإنكم إذا جوزتم عليه فعل كل شيء، وإرادة كل شيء لم يكن فرق بين: أن يظهرها على يد صادق أو كاذب. ولم يكن إرسال رسول يصدقه بالمعجزات ممكناً على أصلكم. ولم يكن لكم حجة على جواز إرسال الرسول وتصديقه بالمعجزات إذ كان لا طريق عندهم إلا خلق المعجز. وهذا إنما يكون دليلاً إذا علم أنه إنما خلقه لتصديق

(1) أي سنة الله في خلقه التي لا تتبدل، ولا تتغير.

(2)

النبوات /360: 361.

(3)

هكذا في الأصل، وإن كان المعنى يوحي بـ "اضطربوا اضطراباً".

ص: 162

الرسول، وأنتم عندكم لا يفعل شيئاً لشيء، ويجوز عليه فعل كل شيء.

وسلك طائفة منهم طريقاً آخر وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه، وهو أن العلم بتصديقه لمن أظهر على يديه المعجز علم ضروري، وضربوا له مثلاً بالملك (1) وهذا صحيح إذا منعت أصولهم، فإن هذه تعلم إذا كان المعلم بصدق رسوله ممن يفعل شيئاً لحكمة، فأما من لا يفعل شيئاً لشيء، فكيف يعلم أنه خلق هذه المعجزة لتدل على صدقه لا لشيء آخر، ولم لا يجوز أن يخلقها لا لشيء على أصلهم. وقالوا أيضاً ما ذكره الأشعري: المعجز علم الصدق ودليله، فيستحيل وجوده بدون الصدق، فيمتنع وجوده على يد الكاذب وهذا كلام صحيح، لكن كونه علم الصدق مناقض لأصولهم، فإنه إنما يكون علم الصادق إذا كان الرب منزهاً عن أن يفعله على يد الكاذب.

أو علم بالاضطرار أنه إنما فعله لتصديق الصادق، أو أنه لا يفعله على يد كاذب، وذا علم بالاضطرار تنزهه عن بعض الأفعال بطل أصلهم" (2) أ. هـ.

فمآل أصول النفاة وحقيقة قولهم: أن الله يرسل رسولاً ولا يقيم حجة على صدقه، ويلزم الناس باتباعه.

(1) قال الجويني: والمرضي عندنا أن المعجزة تدل على الصدق من حيث تنزل منزلة التصديق بالقول. وغرضنا يتبين بفرض مثال: فنقول: إذا تصدر ملك الناس، وتصدر لثلج عليه رعيته واحتفل الناس واحتشدوا، وقد أرهق الناس شغل شاغل، فلما أخذ كل مجلسه، وترتب الناس على مراتبهم انتصب واحد من خواص الملك وقال: معاشر الأشهاد، قد حل بكم أمر عظيم وأظلكم خطب جسيم، وأنا رسول الملك إليكم، ومؤتمنه لديكم، ورقيبه عليكم، ودعواي هذه بمرأى من الملك ومسمع، فإن كنت أيها الملك صادقاً في دعواي فخالف عادتك وجانب سجيتك، وانتصب في صدرك وبهوك ثم اقعد، ففعل الملك ذلك على وفق ما ادعاه ومطابقة هواه. فيستيقن الحاضرون على الضرورة: تصديق الملك إياه، وينزل الفعل الصادر منه منزلة القول المصرح بالتصديق. أ. هـ. الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للإمام الجويني تحقيق د. محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم - مطبعة السعادة بمصر - الناشر مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثني ببغداد.

(2)

النبوات /148: 149.

ص: 163

قال ابن تيمية: "ثم إنه لما أثبت النبوة - أي: أبو بكر الباقلاني - قال: إنه يجوز على النبي فعل كل شيء من الكبائر، إلا أن يمنع من ذلك سمع، كما قال: كل ما كان معجزة للأنبياء يجوز أن يأتي به الساحر، إلا أن يمنع منه سمع إذ كان في نفس الأمر لا فرق بين فعل وفعل، بل يجوز من الرب كل شيء، فيجوز أن يبعث كل أحد، ولا يقيم على نبوته دليلاً.

هذا حقيقة قولهم: أنه يجوز أن يبعث كل أحد، وأنه إذا بعثه لا يقيم دليلاً على نبوته، بل يلزم العباد بتصديقه بلا دليل يدلهم على صدقه، فإن غاية هذا تكليف ما لا يطاق، وهم يجوزونه.

وهذا الذي قالوه باطل من وجوه متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع" (1) أ. هـ.

"فينبغي أن يتدبر هذا الموضع وتعرف الفروق الكبيرة بين: آيات الأنبياء، وبين ما يشتبه بها، كما يعرف الفرق بين: النبي وبين المتنبي، وبين ما يجيء به النبي، وما يجيء به المتنبي. فالفرق حاصل في نفس صفات هذا، وصفات هذا، وأفعال هذا، وأفعال هذا، وأمر هذا، وأمر هذا، وخبر هذا وخبر هذا، وآيات هذا، وآيات هذا. إذا الناس محتاجون إلى هذا الفرقان أعظم من حاجتهم إلى غيره، والله تعالى يبينه وييسره"(2) أ. هـ.

ويلزم النفاة في هذه المسألة التنقص بالرحمن، ورفع متعلق التكليف وما ينبني عليه من الثواب والعقاب.

قال ابن تيمية: "فهذه الطريقة وهو أن ما يستحقه المخلوق من الكمال الذي لا نقص فيه، فالخالق أولى به، وما ينزه عنه المخلوق من العيوب المذمومة، فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عن كل عيب وذم، وهو سبحانه القدوس السلام الحميد المجيد من أبلغ الطرق البرهانية وهي مستعملة في القرآن في غير موضع،

(1) النبوات /292.

(2)

النبوات /13.

ص: 164

فلذلك يقال: الواحد من الناس قادر على إرسال رسول، وعلى أن يرسل نشابة وعلامة يعرفه المرسل إليهم بها صدقه، فكيف لا يقدر الرب على ذلك؟

ثم إذا أرسله إليهم وأمرهم بتصديقه وطاعته ولم يعرفهم أنه رسوله، كان هذا من أقبح الأمور، فكيف يجوز مثل هذا على الله؟ ولو بعثه بعلامة لا تدلهم على صدقه كان ذلك عيباً مذموماً، فكل ما ترك من لوازم الرسالة، إما أن يكون لعدم القدرة، وإما أن يكون للجهل والسفه وعدم الحكمة، والرب أحق بالتنزيه عن هذا وهذا من المخلوق، فإذا أرسل رسولاً فلا بد أن يعرفهم أنه رسوله ويبين ذلك، وما جعله آية وعلامة ودليلاً على صدقه امتنع أن يوجد بدون الصدق فامتنع أن يكون للكاذب المتنبي، فإن ذلك يقدح في الدلالة، فهذا ونحوه مما يعرف به دلالة الآيات من جهة حكمة الرب، فكيف إذا انضم إلى ذلك أن هذه سننه وعادته، وأن هذا مقتضى عدله، وكل ذلك عند التصور التام يوجب: علماً ضرورياً يصدق الرسول الصادق، وأنه لا يجوز أن يسوى بين الصادق والكاذب، فيكون ما يظهره النبي من الآيات يظهر مثله على يد الكاذب، إذ لو فعل هذا لتعذر على الخلق التمييز بين الصادق والكاذب، وحينئذ فلا يجوز أن يؤمروا بتصديق الصادق، ولا يذموا على ترك تصديقه وطاعته، إذ الأمر بذلك بدون دليله تكليف ما لا يطاق، وهذا لا يجوز في عدله وحكمته، ولو قدر أنه جائز عقلاً فإنه غير واقع" (1) أ. هـ.

وبهذا يتبين لك أخي القارئ: عجز النفاة عن إثبات صحة الرسالة وصدق النبوة، وهذا أيضاً يلزم خصومهم من المعتزلة.

قال ابن القيم: "وأما طريق العلم بالنبوة: فإنهم أصلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكن، وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات، وأنه لا فرق بالنسبة إليه

(1) النبوات/ 343: 344.

ص: 165

سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها، فإن العقل لا يقبل ذلك، ولا يحسن هذا، وليس إلا مجرد القدرة والمشيئة، فلما أورد عليهم العقلاء أن هذا يسد طريق العلم بالنبوة، عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة، وقالوا: هذا يلزمنا ويلزمكم، فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم، وإن وجب بالعقل، لكن وجوبه نظري؛ فالمكلف يقول: لا أنظر حتى يجب علي، ولا يجب علي حتى أنظر، فسددتم على أنفسكم طريق إثبات النبوة، فانظر كيف آل أمر الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم، وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين؟ فأبعد الله أصولاً وقواعد هذا حاصلها، ورأس مال أصحابها" (1) أ. هـ.

وأختم هذا الفصل بنقل للإمام ابن القيم يفضح فيه قول النفاة ويعري أصولهم الزائفة، ويهدم قواعدهم الساقطة

قال ابن القيم رحمه الله: "وحسبك بمذهب فساداً استلزامه: جواز ظهور المعجزة على يد الكاذب، وأنه ليس بقبيح، واستلزامه جواز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وأنه لا يقبح منه، واستلزامه التسوية بين: التثليث والتوحيد في العقل، وأنه قبل ورود النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود، ولا شيء من أنواع الكفر، ولا السعي في الأرض بالفساد، ولا تقبيح شيء من القبائح أصلاً.

وقد التزم النفاة ذلك وقالوا: إن هذا الأشياء لم تقبح عقلاً، وإنما جهة قبحها السمع فقط، وأنه لا فرق قبل السمع بين: ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضده، ولا بين الصدق والكذب والعفة والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما، وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين من كل وجه.

وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا

(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (4/ 1437: 1438).

ص: 166

يتكلف رده، ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم، فأطبق اصحاب أبي حنيفة على خلافه، وحكوه عن أبي حنيفة نصاً، واختاره من أصحاب أحمد: أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير، ولم يقل أحد من متقدميهم بخلافه، ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة. واختاره من أئمة الشافعية: الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، وبالغ في إثباته، وبنى كتابه (محاسن الشريعة) عليه، وأحسن فيه ما شاء. وكذلك الإمام سعيد بن علي الزنجاني بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعري القول: بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه أحد. وكذلك أبو القاسم الراغب، وكذلك أبو عبد الله الحليمي وخلائق لا يحصون" (1) أ. هـ.

وبهذا يكون قد تم هذ الفصل ولله الحمد والمنة.

* * *

(1) مفتاح دار السعادة /359: 360.

ص: 167