الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: خصائص وسمات الأدلة العقلية:
العقل حجة مستقلة في وجوب التوحيد والبراءة من الشرك، ولا أُبعد النجعة إن زعمت: أنه من أعظم وأجل آيات ودلائل الرسل على أقوامهم.
فالكتب الربانية دلالتها على المطالب الإلهية نوعان:
أحدهما: الخبر المحض.
الثاني: الأدلة العقلية والبراهين اليقينية والعلوم الضرورية الدالة على صحة مقتضى الأخبار، وبذلك تكون دلالتها شرعية عقلية؛ شرعية: لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها؛ وعقلية: لأن بالعقل يُعلم صحتها، ويُستقل بإدراكها، وليس لمجرد الخبر.
"فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بالحق، ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته، كالأقيسة العقلية، وهي الأمثال المضروبة"(1).
مثال ذلك: قوله تعالى (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(2).
فهذا خبر محض يدل على وجوب إفراد الله بالعبادة، والبراءة من عبودية ما سواه؛ فإذا طعن المشركون في صحته محتجين بقولهم (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(3) فعند ذلك تنتصب الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية؛ والعلوم الضرورية - التي لا ينفك عن بداهة مدلولها اثنان من العقلاء - حكماً فصلاً بين: الموحدين والمشركين. فنقول لهم: من المعلوم ضرورة: أن الإله لا بد أن يكون مالكاً لجلب النفع، وقادراً على دفع الضر عن عابديه، والعقل قاطع بأن الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً يكون أعجز عن ملكه لغيره. وهذا برهان ضروري يقيني ينسف به تأله كافة الآلهة المزعوم
(1) درء تعارض العقل والنقل (3/ 305).
(2)
ورد هذا الجزء وتكرر في كثير من الآيات.
(3)
سورة ص، الآية:7.
عبادتها دون الله، ويعلو به برهان تأله الله الواحد القهار.
مثال آخر: قوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2)، فهذا الخبر يدل على بعث الناس من قبورهم لوقوفهم بين يدي ربهم للحساب والقصاص.
فإذا احتج المشركون بقولهم مثلاً: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (3)
فالجواب: من المعلوم ببداهة العقول: أن الذي يقول على حمل القنطار، يكون على حمل أوقية أقوى وأقدر. قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (4)، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} (5).
فقد يرد أحدهم متبجحًا: هذا دليل على الجواز، فأين الدليل على وجوب البعث؟
فالجواب: إن أفعال الله المتقنة، وصنعته الباهرة، وخلقه المحكم دلّ على حكمته، وحكمته دلت على إرادته، وإرادته مستلزمة لعلمه، وتلك صفاته الأزلية التي لم تفارق ذاته؛ فدل ذلك على أنه لا يفعل إلا بعلم ولحكمة مراده.
والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، والجمع بين المتماثلين والتفريق بين المتناقضين.
(1) سورة الفرقان، الآية:3.
(2)
سورة الحج، الآية:7.
(3)
سورة المؤمنون، الآية 82 - 83.
(4)
سورة غافر، الآية:57.
(5)
سورة الإسراء، الآية:99.
وإعطاء الله لعباده القدرة والإرادة والجوارح، دون تكليف، وضوابط، ومآل إليه لتجزى كل نفس بما تسعى، يقتضي كونه راضيًا: بسيء الأعمال وقبيح الأفعال!!! ومن ثم لا يوجد أدنى فرق بين المعروف والمنكر، ولا بين الطيبات والخبائث
…
ومن هنا استحال في هذه العقول الصحيحة والفطر المستقيمة: أن يترك الله الناس سدى: يتهارجون بينهم كتهارج الحمر، وينزو بعضهم كنزو الوحوش والذئاب على ضحاياها دون تكليف وشرع وضوابط وحدود، ثم مآل إليه للفصل بينهم حتى تعود الحقوق لأصحابها، ويفرق بين أوليائه وأعدائه.
فإلهيته سبحانه وربوبيته وحكمته وآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى تأبى أن يكون مآل المسلمين كالمجرمين، والظالمين كالمظلومين، والطائعين كالعاصين، بل وقد استقر في قرارة العقول قبح ترك الناس سدى؛ ولذا قال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (1)
قال ابن القيم: "أي: مهملاً معطلاً لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وهذا يدل على أن هذا مناف لكمال حكمته، وأن ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذلك؛ لهذا خرج الكلام مخرج الإنكار على من زعم ذلك، وهو يدل على أن حسنه مستقر في الفطر والعقول، وقبح تركه سدى معطلاً أيضًا مستقر في الفطر. فكيف ينسب إلى الرب ما قُبحه مستقر في فطركم وعقولكم؟! "(2)
وبذلك يجزم الموحدون بأن الله جلّ في علاه قد أقام الأدلة العقلية والبراهين اليقينية على صحة كافة الأخبار الدالة على أصول الدين، تلك
(1) سورة القيامة، الآية 36.
(2)
بدائع التفسير: (5/ 89).
الأصول التي أخذ عليها الميثاق، وفطر عليها العباد، وركز في العقول أدلة صحتها، وبراهين استقامتها، وقامت الآيات الكونية ناطقة بمدلولها. وقد سجل القرآن على المشركين مخالفتهم للمعقول والمنقول، وضرب لهم الأمثال الدالة على حسن التوحيد، وعلى بطلان الشرك. فحصحصت بذلك حجة العقل في الدلالة على المطالب الإلهية، وسطع برهانه على بطلان الجريمة الكبرى والخيانة العظمى المتمثلة في الوقوع في عبادة غير الله العلي الكبير. والمستلزمة للتنقص به، وبربوبيته، وألوهيته، وأسمائه الحسنى وصفاته العلى - شاء المشرك ذلك أم أبى -. فإن لم يكن كذلك بطلت دلالة تلك الأمثال، وعادت أخباراً محضة، ومن المعلوم ضرورة أن الخبر لا يقيم صحة الخبر وبهذا تكون حجج التوحيد قد علت وسطع نورها، وأبادت ظلمات الشرك، وأحرقت زيفها، وقضت على أباطيلها.
فالموحدون عبدوا ربهم: بداعي العقل، وداعي الفطرة، وداعي الشرع، ووافقوا مقتضى الآيات الكونية. والمشركون: خرجوا عن كافة دواعي الهدى وخالفوا المعقول والمنقول، وغدوا صفر اليدين من كافة الحجج والبراهين.
قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)(1).
ومن هنا ندرك: أن الدليل الشرعي لا يقابل: بالدليل العقلي، بل بالدليل البدعي. فالبدعة ضد: الشرعة، والمعقول برهان المنقول وميزانه.
قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(2).
قال ابن كثير: (وَالْمِيزَانَ) هو: العدل: قاله: مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو
(1) سورة الملك، الآية:10.
(2)
سورة الحديد، الآية:5.
الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة". (1) أ. هـ.
وقال ابن تيمية: "والميزان" التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوي بين المتماثلين، وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف.
فإذا قيل: إن كان هذا مما يعرف بالعقل؛ فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل؟
قيل: لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف. فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية. فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علماً وعملاً، وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليها وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه، أو كانت الفطرة قد فسدت - بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة - فأزالت ذلك الفساد.
والقرآن والحديث مملوءان من هذا، يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة. ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين. وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآية وقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي هذا حكم جائر لا عادل، فإن فيه تسوية بين المختلفين. ومن التسوية بين المتماثلين قوله:(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية". (2) أ. هـ.
(1) تفسير القرآن العظيم: (8/ 53).
(2)
مجموع الفتاوى (9/ 242: 243).
ولست أعني بالأدلة العقلية: منطق اليونان، أو قوانين الفلاسفة، أو سراب حجج المتكلمين والمتهوكين
…
بل الميزان العقلي الصحيح العادل - لا العائل - الذي منّ الله به على الإنسان، والذي به سما على كافة المخلوقات، وعلا في أحسن تقويم، والذي بفقده يرد صاحبه إلى أسفل سافلين.
علة تكريم الإنسان بالعقل:
لقد منّ المنان الكريم على الإنسان الضعيف بنعمة العقل؛ ليدرك به الآثار الربانية والمطالب الإلهية، ومن ثم جعل حجة مستقلة عليه في بطلان الشرك، وكذا جعل مستنداً من مستندات السمع، وبهما قامت حجة الله على خلقه.
قال ابن القيم: "فإن الله سبحانه ركب العقول في عباده ليعرفوا بها: صدقه وصدق رسله، ويعرفوه بها، ويعرفوا: كماله وصفاته، وعظمته وجلاله، وربوبيته وتوحيده، وأنه الإله الحق وما سواه باطل. فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول، وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون عوناً لهم على ما خلقوا لأجله، وأعطوا العقول له، فأعظم ثمرة العقل: معرفته لخالقه وفاطره، ومعرفة صفات كماله، ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله والخضوع والذل والتعبد له"(1) أ. هـ.
وقال رحمه الله: "إن السمع حجة الله على خلقه، وكذلك العقل، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركب فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من السمع. والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه، وكذلك العقل مع السمع، فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض، ولكن تتوافق وتتعاضد، وأنت لا تجد سمعاً صحيحاً عارضه معقول مقبول عند
(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (4/ 1236).
كافة العقلاء أو أكثرهم، ولا تجده ما دام الحق حقاً والباطل باطلاً، بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ويشهد ببطلانه" (1) أ. هـ.
موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول:
لا جرم أن العقل الصحيح موافق للنقل الصريح، وأن من خالف صريح المعقول لم تقم له حجة عقلية ولا سمعية لتطابقهما وتصادقهما وخروجهما من مشكاة واحدة؛ ومن ثم كان العقل شاهداً للنقل، ومحامياً دونه، وبرهاناً على صدقه، وآية من آيات طمأنينة الصدور والقلوب به.
قال ابن القيم في معرض التصدي للذين يزعمون وقوع التعارض بين النقل والعقل: "إن تجويز معارضة العقل للوحي يوجب وصف الوحي بضد ما وصفه الله به؛ فإن الله سبحانه وصفه بكونه هدى في غير موضع، وأخبر أنه يهدي للتي هي أقوم الطرق: وهي أقربها إلى الحق. فإن الطريق المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين، وكلما تعوج بعد.
وأخبر سبحانه أنه شفاء لما في الصدور، وهذا يتضمن أنه يشفي ما فيها من الجهل والشك والحيرة والريب، كما أن الهدى يتضمن أنه موصل إلى المقصود. فالهدى يوصلها إلى الحق المقصود من أقرب الطرق، والشفاء يزيل عنها أمراضها المانعة لها من معرفة الحق وطلبه، فهذا [يزيل] الجهل المقتضي، وهذا يزيل المانع، ومن المحال أن تكون هذه صفة كلام مخالف للعقل ومعارض له.
وكذلك أخبر أنه نور كما قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(2).
وقال: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)(3).
(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة: (3/ 1187).
(2)
سورة الأعراف، الآية:157.
(3)
سورة الشورى، الآية:52.
فهو نور البصائر من العمى، كما هو شفاء الصدور من الجهل والشك، ومحال أن تتنور البصائر بما يخالف صريح العقل؛ فإن ما يخالف العقل موجب الظلمة.
وأخبر سبحانه أنه برهان فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)(1). ومحال أن يكون ما يخالف صريح العقل برهاناً.
وأخبر سبحانه أنه علم كما قال: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)(2). وما يخالف العقل الصريح لا يكون علماً.
وأخبر أنه حق، والعقل الصريح لا يخالف الحق فقال تعالى:(الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)(3).
وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)(4).
وقال: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(5).
وقال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)(6).
وحينئذ فكونه حقاً يدل على أن ما خلافه مما يسمى معقول باطل، فإن كان ما خالفه حقاً لزم أن يكون باطلاً، وإن كان هو الحق فما خلافه باطل قطعاً.
وأخبر أنه آيات بينات، وما يخالف صريح العقل لا يكون كذلك.
وأخبر أنه أحسن القصص وأحسن الحديث، ولو خالف صريح العقل لكان موصوفاً بضد ذلك.
وأخبر أنه أصدق الكلام فقال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(7) (وَمَنْ
(1) سورة النساء، الآية:174.
(2)
سورة آل عمران، الآية:61.
(3)
سورة آل عمران، الآيات: 1 - 3.
(4)
سورة النساء، الآية:105.
(5)
سورة يونس: الآية: 94.
(6)
سورة آل عمران، الآية:62.
(7)
سورة النساء، الآية:122.
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (1).
ولو خالف العقل لم يكن كذلك، وكان كلام هؤلاء الضالين المضلين أصدق منه.
وأخبر أن القلوب تطمئن به أي: تسكن إليه من قلق الجهل والريب والشك كما يطمئن القلب إلى الصدق، ويرتاب بالكذب فقال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(2).
وجعل هذا من أعظم الآيات على صدقه وأنه حق من عنده. ولهذا ذكره جواباً لقول الكفار (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فقال: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ). أي: بكتابه الذي أنزله وهو ذكره وكلامه، ولو كان في العقل الصريح ما يخالفه لم تطمئن به قلوب العقلاء.
والعاقل اللبيب إذا تدبر القرآن، وتدبر كلام هؤلاء المعارضين له تبين: أن الريبة كلها في كلامهم، والطمأنينة في كلام لله ورسوله.
وأخبر سبحانه أن التوراة - التي هو (3) أكمل وأجل منها - إمام للناس. فقال تعالى: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً)(4).
والإمام هو: القدوة الذي يؤتم به. وكيف يقتدى بكلام يخالف صريح العقل.
وسماه سبحانه فرقاناً؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، فلو خالف صريح العقل لم يكن فرقاناً. ولكان الفرقان كلام هؤلاء الضالين المضلين.
(1) سورة النساء، الآية:87.
(2)
سورة الرعد، الآية 28.
(3)
أي القرآن.
(4)
سورة الأحقاف، الآية:12.
وأخبر أنه كتاب مبارك، والمبارك: الكثير البركة والخير والهدى والرحمة، وهذا لا يكون فيما يرده العقل ويقضي بخلافه.
وأخبر أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، ولو كان العقل يخالفه لأتاه الباطل من كل جهة.
وأخبر أنه كتاب أحكمت آياته، وأنه حكيم، وأنه فصل؛ وما يخالفه العقل لا يوصف بشيء من ذلك.
وأخبر أنه مهيمن على كل كتاب أي: أمين عليه وحاكم وشاهد وقيم، ولو خالفه العقل لكان مهيمناً عليه، وكانت معقولات هؤلاء الضالين المضلين هي المهيمنة عليه، ولم يكن هو المهيمن عليها.
وأخبر أنه لا عوج فيه، وأنه قيم فقال:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّماً)(1) وأي عوج أعظم من مخالفة صريح العقل له، وقال تعالى:(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)(2).
ومن تدبره وتدبر ما خالفه؛ عرف أن القدح كله فيما خالفه. وعلمه بتعوج ما خالفه يعرف من طريقتين: من جهة الكلام في نفسه وأنه باطل، ومن جهة مخالفته للقرآن.
وجعله سبحانه حجة على خلقه، كما قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ
(1) سورة الكهف/ الآيتان: 1 - 2.
(2)
سورة الزمر، الآية:28.
بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) (1). وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(2).
وكيف تقوم الحجة بكلام يخالف صريح العقل" (3) أ. هـ.
وبذلك نعلم أن في العقل ثوابت ومرتكزات بها يعلم صحة النقل، وبموازينها يخاطب الوحي العباد، ويقيم عليهم حجته. ومن أرسخ وأثبت تلك المرتكزات: معرفة الرب ومحبته وعبادته وحده لا شريك له، وكذا العلم بصحة الرسالات والتصديق بها، وفي العقل كذلك: حب الطيبات، وبغض المنكرات، وفيه الاستمساك بالعدل والنفرة من الظلم
…
ومن ثم جاءت الشرائع موافقة لموجب العقول ومفصلة لمجملاتها، ومبينة لما عجزت عن إدراكه، إلا أنه لم تات شرائع من الرحمن قط بمحالات العقول، وبضد موجبها.
* * *
(1) سورة الأنعام، الآيات: 155 - 157.
(2)
سورة النساء، الآية:165.
(3)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (3/ 1122: 1127).