الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيهات
* للعلماء في تفسير هذه الآية - آية الميثاق - مذهبان:
أحدهما: وهو مذهب جمهور المفسرين وعامة أهل الأثر: أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر، وركب فيهم عقولاً تعقل بها ما يعرض عليها، وأخذ عليهم الميثاق بأنه ربهم المعبود، وحقه عليهم لازم، وأنهم عبيده المربوبون؛ فأقروا بذلك، ووقعت الشهادة عليهم به، ثم أخرجهم إلى الدنيا بفطرة مجبولة على مقتضى الميثاق ولازمه، وبعقل يقيم برهانه، ويجاهد دونه. وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه لمجيء الآثار الصحيحة عن الصحابة مرفوعة وموقوفة عليه. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
الثاني: أن المراد بهذا الإشهاد: هو فطر ذرية بني آدم على التوحيد مع الشهادة به - حالاً، لا مقالاً - بما ركب الله فيهم من العقول، وبما نصب لهم من عظيم خلقه، وغرائب صنعه، ودلائل وحدانيته التي تضطرهم اضطرار إلى العلم بأن للكون خالقاً لا يعبد إلا إياه.
قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي تعليقا على التفسيرين:
"قلت: ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة، فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة.
الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام، وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)(1)، وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات، وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما.
(1) سورة الأعراف، الآية: 172
الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة، وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول كما قال تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)(1). وهو الثابت في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار والأسود بن سريع رضي الله عنهم وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما.
الميثاق الثالث: هو ما جاءت به الرسل، وأنزل به الكتب تجديداً للميثاق الأول وتذكيراً به (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(2). فمن أدرك هذا الميثاق وهو باق على فطرته - التي هي شاهدة بما ثبت في الميثاق الأول - فإنه يقبل ذلك من أول مرة ولا يتوقف؛ لأنه جاء موافقا لما في فطرته وما جبله الله عليه، فيزداد بذلك يقينه، ويقوى إيمانه فلا يتلعثم ولا يتردد.
ومن أدركه وقد تغيرت فطرته عما جبله الله عليه من الإقرار بما ثبت في الميثاق الأول؛ بأن كان قد اجتالته الشياطين عن دينه، وهوّده أبواه، أو نصراه، أو مجساه؛ فهذا إن تداركه الله تعالى برحمته: فرجع إلى فطرته، وصدق بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب؛ نفعه الميثاق الأول والثاني، وإن كذب بهذا الميثاق كان مكذبا بالأول فلم ينفعه إقراره به يوم أخذه الله عليه حيث قال:(بَلَى) جوابا: لقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وقامت عليه حجة الله، وغلبت عليه الشقوة، وحق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء" (3) أ. هـ.
* يذكر كثير من العلماء ساعة التحدث في تأويل هذه الآية: حجية
(1) سورة الروم، الآية:30.
(2)
سورة النساء، الآية: 165
(3)
معارج القبول (1/ 92: 93).
الرسالة، وما ترتب عليها من تذكير العباد بمقتضى ما أخذ عليهم من الميثاق، ثم يتبعون هذا بانقطاع الحجة وحلول النقمة واستحقاق العذاب. وعليه ظن البعض: أن الميثاق لا يستقل بحجة في بطلان الشرك.
وفي هذا الظن الخاطئ من الفساد ما الله به عليم. إذ يلزم من هذا:
أن كل من مات مشركاً قبل نزولها لم تقم عليه حجتها، وكذا كل من عبد غير الله ومات على ذلك دون أن يقرع أذنه خبرها بعد نزولها؛ ولكان لزاماً على النبيين التحدث بها مع أقوامهم توّ تكليفهم بالبلاغ؛ ليقيموا حجتها، ويقطعوا عذر المتلبسين بنقيضها!!!
والحق الذي لا ينبغي العدول عه ولا تعدي حده: أن الميثاق حجة مستقلة في بطلان الشرك، وليس بحجة مستقلة في استحقاق العذاب. والأخير على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو الذي تقتضيه القواعد الكلية والنصوص الشرعية.
* أخذ الميثاق وإرسال الرسل قطعا الاحتجاج وأوجبا العذاب.
* بعض أهل العلم ينص على أن الميثاق كان في الربوبية، ولا يذكر مقام الألوهية؛ وذلك لأن الربوبية تستلزمها، وهي حجتها وبرهانها. فالرب لا بد أن يكون، إلها، ومن فقد الربوبية بطل تألهه واستحال.
قال تعالى مبرهناً على استحقاقه التأله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1)، وقال تعالى مبرهنا على بطلان تأله كل ما يعبد من دونه:(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)(2).
(1) سورة البقرة، الآية:21.
(2)
سورة الفرقان، الآية:3.
وتارة لا يذكرون مقام الألوهية لأن "الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ)(1) وكما يقال: رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك
…
إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله:(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)(2). وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً)(3)، وقوله:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)(4)، فالربوبية في هذا هي الألوهية وليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران، فينبغي التفطن لهذه المسألة" (5).
دليل ما سبق - وهو على سبيل المثال لا الحصر - يراجع قول الإمام القرطبي في آية الميثاق، وقوله في قوله تعالى (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(6).
تجده في الأولى ذكر أن الميثاق في الربوبية، وفي الثانية نص على أنه في الربوبية والألوهية. وسيأتي ذكر ذلك في فصل "حجية الميثاق" بمشيئة الله وعونه.
* اتفق العلماء - بلا خلاف بينهم - على ثبوت حجة مستقلة عن الرسالة توجب وصف الشرك وحكمه لمن عبد غير الله تعالى.
(1) سورة الناس، الآيات: 1 - 3.
(2)
سورة الحج، الآية:40.
(3)
سورة الأنعام، الآية:164.
(4)
سورة فصلت، الآية:30.
(5)
تاريخ نجد/ 259 نقلاً عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
(6)
سورة الروم، الآية:30.
فمنهم من جعلها: الميثاق، ومنهم من جعلها: الفطرة، ومنهم من جعلها: العقل، ومنهم من قال بجميعهم: وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا مجاوزة عَلَمَه.
ودليل ما سلف: إطباقهم على ثبوت وصف الشرك وحكمه لمن تلبس بعبادة غير الله ولو لم يأته نذير في الدنيا ولم يسمع للرسالة بخبر.
قال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:
"بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم" أ. هـ. (1).
وقال الإمام الشنقيطي: "اعلم أولا أن من لم يأذته نذير في دار الدنيا وكان كافراً حتى مات، اختلف العلماء فيه. هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير" أ. هـ (2).
وبهذا وجب ثبوت حجة مستقلة بذاتها عن الرسالة توجب وصف الشرك وحكمه لأهله، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق. وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على عدم وقوع التكليف به لأنه ظلم والله منزه عنه.
وعدم التكليف بما لا يطاق "هو قول الجماهير من جميع طوائف المسلمين وإجماع العترة، والشيعة، والمعتزلة، ورواه ابن بطال في شرح البخاري عن الفقهاء أجمعين"(3).
(1) حكم تكفير المعين - الرسالة السادسة من كتاب: عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين/ 151.
(2)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب/ 180.
(3)
إيثار الحق على الخلق لابن الوزير اليماني/ 325.