الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي حجية الميثاق
قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(1)، يخبر المولى جل في علاه عن استخراجه ولد آدم، من صلبه، ومن أصلاب آبائهم، وإقرارهم بتوحيده بالألوهية، وبطلان ألوهية ما سواه.
وجعل الحكيم الخبير أثر هذا الميثاق ومقتضاه من لوازم النفوس وحقائقها التي لا انفكاك لها عنها ألبتة ما دامت باقية على استقامة خلقتها.
"فالعلم الإلهي فطري ضروري وهو أشد رسوخاً في النفس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تُعرض عنها أكثر الفطر وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة"(2).
ولهذا كان علم التوحيد هو الحقيقة البديهة التي انبثقت منها كافة العلوم، وسائر القواعد والأصول، وعامة المعارف والأدلة.
ومن ثم أصبج الشك في هذا العلم الشريف - فضلا من جحده وإنكاره - تشككا في أصل ذات الإنسان، وعلة وجوده وتكريمه وتشريفه على سائر المخلوقات، بل - والذي نفسي بيده - إنه ليؤول إلى التشكك في سائر حقائق الوجود بأسرها.
وقد علل المولى تبارك وتعالى هذا الأخذ والميثاق، وذاك العلم الفطري
(1) سورة الأعراف، الآيات: 172 - 174.
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 15: 16) بتصرف بسيط.
الضروري بقوله (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
فدل ذلك على احتجاج المشركين الغافلين والمقلدين بتلك الحجتين الساقطتين، وتعللهم بذينك العلتين الباطلتين، إن لم يؤخذ عليهم ذلك الميثاق مع وجود أثره ومقتضاه في فطرهم وعقولهم.
وعليه أستطيع الجزم والحزم بأن: الميثاق، والفطرة، والعقل، حجج مستقلة في دفع وبطلان حجتين هما ركيزتا وساقا الشرك والمشركين على اختلاف نحلهم، وعقائدهم، ومشاربهم دائماً وأبداً: -
الأولى: الجهل والغفلة. وتلك حجة علية القوم والملأ والسادة الذين أخذوا على عاتقهم سن المعتقدات، وتقويم السبل - بزعمهم -، وإحداث النظم والدساتير، وحد الحدود ونسبتها إلى الله افتراء عليه. قال تعالى في حقهم:(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(1).
الثانية: الاتباع والتقليد (2) وتلك حجة الخلوف والأتباع فاقدي البصائر والعاجزين عن تحديد المصائر، القائلين بلا حياء ولا استخزاء:(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(3).
(1) سورة ص، الآيتان: 6 - 7.
(2)
التقليد المحض الفاقد للبرهان والحجج مذموم على أية حال، فالمشركون عبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع، بل وفي الفطر السليمة خلاف ذلك.
أما الموحدون فقد عبدوا ربهم ببراهين نقية، وحجج بهية منبثقة من: الميثاق والفطرة والعقل والنقل التي خرجت جميعا من مشكاة واحدة قال تعالى (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)[هود: 17] وقال سبحانه (نُورٌ عَلَى نُورٍ)[النور: 35] أي: نور الوحي المطابق لنور الفطرة والعقل، والأخير هو البينة من الله في نفس الموحدين.
(3)
سورة الزخرف، الآية:23.
وبهذا تكون حقيقة الميثاق وعلته قد بدت جلية لذوي العقول، وحصحصت لذوي الأبصار، فهو حجة مستقلة لدحض ومحق مرضي التعطيل والشرك.
فالقول بإثبات الصانع: علم فطري ضروري لا تنفك عنه أي نفس، وهذا العلم الفطري الضروري يبين بطلان الشرك في التأله، وهو التوحيد الذي شهدت به الذرية. ومن المعلوم أن مقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه في كل شيء؛ إذ كان هو الذي أنشأه ورباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه. فإذا احتج المشركون بهذا، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقضه ويبطل تقوله، لقالوا: إنما الذنب ذنب آبائنا المشركين ونحن ذرية لهم بعدهم اتبعناهم على جهل منا بسوء طريقتهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم
…
فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به: من وحدانية الله في ربوبيته وألوهيته، وقامت عقولهم شاهدة بصحته، وناطقة بجرم ضده، كان معهم: ما يبين بطلان الشرك.
فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء؛ كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية السابقة لهذه العادة الأبوية.
وهذا يقتضي أن العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك؛ لا يحتاج ذلك إلى بلوغ الرسالة وإقامة الحجة، فإن الله جعل ما تقدم حجة عليهم بدونها.
وبنقض الميثاق يكون قد قام بصاحبه ما يستوجب العذاب، إلا أن الله لكمال رحمته، وسمو إحسانه قضى أن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وإن كان قد قام بناقضه ما يستحق به الذم والعقاب.
فلله على عباده حجتان قد أعدهما عليه، لا يعذبه إلا بعد قيامهما:
إحداهما: ما فطره وجبله عليه، وصبغ عقله بصحته وبرهانه من أن: الله وحده هو ربه ومعبوده، وحقه عليه لازم.
ثانيتهما: إرسال رسله إليه للتذكير بذلك وتفصيله وتقريره: فيقوم عليه شاهدا الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان من الكافرين: قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)(1).
وهذا هو فصل الخطاب في تلك المسألة التي صال وجال حولها كثير من اللغط والمنازعات، وإلى الله المآب للفصل بين العباد بميزان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والله المستعان.
قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(2).
أي: "إلى الحق، ويتركون ما هم عليه من الباطل، وقيل: يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه، والمآل واحد."(3).
وقوله تعالى (يَرْجِعُونَ) دل على أن مرض الشرك محدث وطارئ على الفطرة ودخيل عليها، وليس بمحل للعبد لكي يحط رحله فيه؛ بل محل العبد وقراره في تجريد العبودية لفاطره ومالكه. فأولى وأحرى بكم أيها المشركون أن تحلوا في محلكم، وتقطعوا غربتكم، وتقروا في قراركم.
* * *
(1) سورة الأنعام، الآية: 130
(2)
سورة الأعراف، من الآية: 174
(3)
فتح البيان في مقاصد القرآن للسيد صديق حسن خان. (3/ 458).