المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان: - آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌تقديمفضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين - حفظه الله

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأولحجية الميثاق

- ‌بين يدي حجية الميثاق

- ‌تنبيهات

- ‌المبحث الأول: الميثاق في إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك:

- ‌المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك، وتلك علة أخذه:

- ‌أهم نتائج الفصل الأول

- ‌الفصل الثانيحجية الفطرة

- ‌المبحث الأول: الفطرة في الإقرار لله بالإلهية والبراءة من الشرك:

- ‌المبحث الثاني: الفطرة تقتضي بذاتها الإسلام والخروج عنه خلاف مقتضاها:

- ‌المبحث الثالث: الفطرة حجة مستقلة في وجوب عبادة لله والبراءة من الشرك:

- ‌أهم نتائج هذا الفصل

- ‌الفصل الثالثحجية العقل

- ‌المبحث الأول: العقل فيه وجوب التوحيد والبراءة من الشرك:

- ‌المبحث الثاني: العقل حجة مستقلة في بطلان الشرك:

- ‌المبحث الثالث: خصائص وسمات الأدلة العقلية:

- ‌المبحث الرابع: الشريعة جاءت بخلاصة الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين وهي أول ما أنزل من التشريع:

- ‌المبحث الخامس: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال:

- ‌المبحث السادس: اللوازم الشنيعة والمخازي المخزية التي تلزم النفاة:

- ‌أهم نتائج الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابعآثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد

- ‌المبحث الأول: بعث الرسل إزاحة لعلل الكفار:

- ‌المبحث الثاني: الشرك قبل البيان افتراء على الله وأصحابه مذمومون:

- ‌المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان:

- ‌أهم نتائج الفصل الرابع

- ‌تلخيص دقيق للبحث

- ‌ حجية الميثاق:

- ‌ حجية الفطرة:

- ‌ حجية العقل:

- ‌ آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد:

- ‌ مناقشة هادئة:

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان:

‌المبحث الثالث: وجوب التوبة من فعل السيئات الواقعة قبل البيان:

وهذا أيضا من آثار حجج التوحيد في مؤاخذة العبيد. لا جرم أن الذي يواقع الفاحشة يستشعر قبحها وسوء منقلبها. دليل ذلك استخفاؤه بها، ونقمته على من يهم بفعلها في أهله وذويه.

وكذلك الذين يطففون الميزان يعلمون يقينا جرم فعلتهم النكراء، وبرهانه أنهم: إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.

وكذلك الذي يغتصب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والورق، يأبى ويأنف أنه يُغتصب درهم منه بغير وجه حق .. وبذلك ندرك علة اقتران الأمر بالاستغفار مع دعوة التوحيد على ألسنة الرسل الكرام لأقوامهم المشركين العصاة.

قال ابن تيمية: "و"أيضاً" أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه (1)، فلو كان كالمباح المستوي الطرفين والمعفو عنه، وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة، وهذا كقوله تعالى:(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ). وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وقال: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). فدل على أنها كانت: ذنوباً

(1) أي" قبل إقامة الحجة عليهم.

ص: 184

قبل إنذاره إياهم (1)

وقال عن هود: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ، يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ، وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)[هود: 50 - 52].

فأخبر في أول خطابه: أنهم مفترون. بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى:(أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(2).

وكذلك قال صالح: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(3).

وكذلك قال لوط لقومه: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)(4). فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم. بخلاف قول من يقول: ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها؛ ولهذا قال لهم:(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)(5). وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب.

وكذلك قول شعيب: (أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(6). بين أن ما فعلوه كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم؛ بخلاف

(1) قال الشوكاني: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) هذا جواب الأمر، ومن للتبعيض، أي: بعض ذنوبكم وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته. أ. هـ. فتح القدير (5/ 297). ويراجع في ذات المعنى: الطبري والقرطبي والبغوي ومحاسن التأويل ونظم الدر .. وغيرهم ..

(2)

سورة الأعراف، الآية:71.

(3)

سورة هود، الآية:61.

(4)

سورة الأعراف، الآية:80.

(5)

سورة العنكبوت، الآية:29.

(6)

سورة هود، الآية:85.

ص: 185

قول "المجبرة" أن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك. كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من: الشرك والظلم والفواحش

وقد قال سبحانه: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1)(2)

وقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)(3)(4) وقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(5)(6).

فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون: إن كل عاص فهو جاهل. كما قد بسط في موضع آخر، فهو متناول لمن يكون (7) علم التحريم أيضاً.

فدل على أنه يكون عاملاً سوءاً، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي

(1) سورة الأنعام، الآية:54.

(2)

قال القرطبي: قال مجاهد: لا يعلم حلالاً من حرام، ومن جهالته ركب الأمر. فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل. أ. هـ. الجامع لأحكام القرآن (6/ 436).

وقوله: فكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل عام في جميع العصاة، لأن العاصي لا يخرج عن أحد احتمالين: إما جهلة بالحرمة، وإما علمه بها وجهله بعظم شأن من يعصه تبارك اسمه وتعالى جده وتقدست أسماؤه وعلى كلا الاحتمالين يكون جاهلا.

(3)

سورة النساء، الآية:17.

(4)

قال أبو جعفر الطبري بعد ذكره لأقوال المفسرين: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم، أو جاهلين بما أعد الله لأهلها. أ. هـ. جامع البيان (4/ 203).

(5)

سورة النحل، الآية:119.

(6)

قال القرطبي: قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي: الشرك. قاله ابن عباس. أ. هـ. الجامع لأحكام القرآن (10/ 197).

(7)

هكذا في الأصل وإن كان السياق يقتضي وضع "لمن لم يكن" ودليل ذلك ما جاء بعده.

ص: 186

عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة.

وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيراً من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة، والظلم الظاهر. فأما ما قد يتخذ دينا فلا يعلم أنه ذنب - إلا من علم أنه باطل - كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى. وكذلك البدع كلها (1) أ. هـ.

وقد أطبق أهل العلم بلا خلاف بينهم على سوء أفعال المشركين من أهل الفترات، وعلى وجوب التوبة عليهم منها. إلا أنهم اختلفوا في الكافر منهم إذا أسلم، هل توبته من الشرك تجبه فقط، أم تجبه وسائر عمله السيء من الذنوب والمعاصي؟.

فالكلمة متفقة وملتئمة على قبح أفعالهم ووجوب البراءة منها - وهو محل الاستدلال - ومختلفة في ماهية المكفر وحده، هل هو الانخلاع من الشرك فقط؟ أم الانخلاع منه ومن سائر المعاصي؟.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء أخذ بالأول والآخر) (2) أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري.

قال ابن تيمية معلقاً عليه: "وحسن الإسلام" أن يلتزم فعل ما أمر الله به،

(1) مجموع الفتاوى (11/ 679: 684).

(2)

البخاري كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم - باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة برقم /6921، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم /190 وابن ماجه في الزهد برقم /29.

ص: 187

وترك ما نهى عنه. وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها.

وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله" فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن.

وقوله: "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر" أي: إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب فإنه يؤاخذ بالأول والآخر. وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره.

والمسلم تائب من الكفر، كما قال تعالى:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)(1) وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)(2) أي: إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف.

فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه. من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه. وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر. والله أعلم (3) أ. هـ.

وقال الحافظ: قوله: (ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر) قال الخطابي: ظاهره خلاف ما أجمعت عليه الأمة أن الإسلام يجب ما قبله، وقال

(1) سورة التوبة، الآية:5.

(2)

سورة الأنفال، الآية:38.

(3)

مجموع الفتاوى (11/ 701: 702) ويراجع (10/ 323 - 325). فهو في ذات المعنى.

ص: 188

تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)(1) قال: ووجه هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم لم يؤاخذ بما مضى، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة وركب أشد المعاصي وهو مستمر الإسلام فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام ويبكت بما كان منه في الكفر كأنه يقال له: ألست فعلت كذا وأنت كافر فهلا منعك إسلامك عن معاودة مثله؟ انتى ملخصا.

وحاصله أنه أول المؤاخذة في الأول بالتبكيت وفي الآخر بالعقوبة، والأولى قول غيره: إن المراد بالإساءة الكفر لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث "أكبر الكبائر الشرك" وأورد كلا في أبوب المرتدين، ونقل ابن بطال عن المهلب قال: معنى حديث الباب من أحسن في الإسلام بالتمادي على محافظته والقيام بشرائطه لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أي في عقده بترك التوحيد أخذ بكل ما أسلفه، قال ابن بطال: فعرضته على جماعة من العلماء فقالوا لا معنى لهذا الحديث غير هذا، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية.

قلت: وبه جزم المحب الطبري. ونقل ابن التين عن الداودي معنى: من أحسن مات على الإسلام، ومن أساء مات على غير الإسلام. وعن أبي عبد الملك البوني: معنى من أحسن في الإسلام أي: أسلم إسلاماً صحيحاً لا نفاق فيه ولا شك، ومن أساء في الإسلام أي: أسلم رياء وسمعة، وبهذا جزم القرطبي، ولغيره معنى الإحسان: الإخلاص حين دخل فيه، ودوامه عليه إلى موته، والإساءة: بضد ذلك، فإنه إن لم يخلص إسلامه كان منافقاً فلا ينهدم

(1) سورة الأنفال، الآية:38.

ص: 189

عنه ما عمل في الجاهلية، فيضاف نفاقه المتأخر إلى كفره الماضي فيعاقب على جميع ذلك.

قلت: وحاصله أن الخطابي حمل قوله: "في الإسلام" على صفة خارجة عن ماهية الإسلام، وحمله غيره على صفة في نفس الإسلام وهو أوجه.

تنبيه: حديث ابن مسعود هذا يقابل حديث (1) أبي سعيد الماضي في كتاب الإيمان معلقاً عن مالك، فإن ظاهر هذا أن من ارتكب المعاصي بعد أن أسلم يكتب عليه ما عمله من المعاصي قبل أن يسلم، وظاهر ذلك أن من عمل الحسنات بعد أن أسلم يكتب له ما عمله من الخيرات قبل أن يسلم، وقد مضى القول في توجيه الثاني عند شرحه، ويحتمل أن يجيء هنا بعض ما ذكره هناك كقول من قال: إن معنى كتابة ما عمله من الخير في الكفر: أنه كان سبباً لعمله الخير في الإسلام.

ثم وجدت في "كتاب السنة" لعبد العزيز بن جعفر - وهو من رءوس الحنابلة - ما يدفع دعوى الخطابي وابن بطال الإجماع الذي نقلاه، وهو ما نقل عن الميموني عن أحمد أنه قال: بلغني أن أبا حنيفة يقول: إن من أسلم لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية، ثم رد عليه بحديث ابن مسعود ففيه: أن الذنوب التي كان الكافر يفعلها في جاهليته إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، لأنه بإصراره لا يكون تاب منها وإنما تاب من الكفر فلا يسقط عنه ذنب تلك المعصية لإصراره عليها، وإلى هذا ذهب الحليمي من الشافعية، وتأول بعض الحنابلة قوله:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) على أن المراد: ما سلف مما انتهوا عنه، قال: والاختلاف في هذه المسألة مبني على أن: التوبة هي الندم على الذنب مع الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه.

(1) قال صلى الله عليه وسلم "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها .. " كتاب الإيمان/ باب حسن إسلام المرء (1/ 122) من فتح الباري.

ص: 190

والكافر إذا تاب من الكفر ولم يعزم على عدم العود إلى الفاحشة لا يكون تائبا منها فلا تسقط عنه المطالبة بها. والجواب عن الجمهور أن هذا خاص بالمسلم وأما الكافر فإنه يكون بإسلامه (1) كيوم ولدته أمه، والأخبار دالة على ذلك كحديث أسامة لما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم: قتل الذي قال: لا إله إلا الله حتى قال في آخره "حتى تمنيت أنني كنت أسلمت يومئذ"(2) أ. هـ.

فها هي نقول كبراء أهل العلم وفحول السلف شاهدة بسوء أعمال المشركين وقبح أفعالهم قبل البيان، وأنها معاصي وذنوب، ويجب على أصحابها التوبة منها، والانخلاع من شرها.

وبهذا البيان يمكننا الاهتداء إلى علة مقت الله لأهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: - وقبل نزول القرآن.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "

وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" (3).

قال الإمام النووي: "المقت: أشد البغض؛ والمراد بهذا المقت والنظر: ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليهم وسلم -. والمراد ببقايا أهل الكتاب: الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل (4) أ. هـ.

وهذا المقت والبغض للمشركين، والازدراء على أفعالهم المشينة، ومطالبتهم بوجوب التوبة منها والانخلاع عنها، كان في وقت فترت فيه

(1) يراجع: كلام شيخ الإسلام في ذلك والذي جاء فيه - معناه - أن الإسلام المعهود بين الصحابة - ساعة التحدث بهذا الحديث - هو الإسلام الملزم لصاحبه: بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه.

(2)

فتح الباري: (12/ 278: 279).

(3)

صحيح مسلم - كتاب الجنة برقم /63 وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 162).

(4)

صحيح مسلم بشرح النووي (17/ 197: 198).

ص: 191

الرسالات، وطمست فيه السبل، ولم تكن لديهم بقايا ملة من الملل، أو آثارة من علم تقم بها الحجة عليهم.

قال الإمام الشنقيطي في هذا المعنى:

"قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)[آل عمران: 103]. هذه الآية الكريمة تدل على: أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم كانوا أهل فترة، والله تعالى يقول:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ويقول: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165]، وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة طه:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)[طه: 134].

والآيات بمثل هذا كثيرة، والذي يظهر في الجواب والله تعالى أعلم: أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت.

كما بينه تعالى بقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)[هود: 17]. وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين، تلزمهم بها الحجة فهو جواب باطل، لأن نصوص القرآن مصرحة: بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى: (لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ)[يس:6] وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)[السجدة: 3]. وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)[القصص: 46] وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ)[المائدة: 19] وقوله تعالى:

ص: 192

(وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)[سبأ: 44](1) أ. هـ.

"وبهذا تكون قد تقررت قاعدة من قواعد الأحكام، المستقاة من فهم دلالات النصوص وموجب مقتضى الأصول، ومن استقراء الأدلة. أنه يجب "الاستغفار والتوبة مما فعله وتركه في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة.

فإنه سبحانه قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) " (2) أ. هـ.

* * *

(1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب /66: 67.

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 675).

ص: 193