الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الميثاق حجة مستقلة في الإشراك، وتلك علة أخذه:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(1)، ذكر لهم حجتين، يدفعهما هذا الإشهاد.
إحداهما: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)(2). فبين أن هذا علم فطري ضروري، لا بد لكل بشر من معرفته. وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ)، فهذا حجة لدفع الشرك، كما أن الأول حجة لدفع التعطيل. فالتعطيل: مثل كفر فرعون ونحوه، والشرك: مثل شرك المشركين من جميع الأمم.
وقوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ): وهم آباؤنا المشركون، وتعاقبنا بذنوب غيرنا؟ وذلك لأنه لو قدر أنه لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين، وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمظاعم، إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية، ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون، وآباؤنا هم الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة، ولم يكن عندنا ما يبيّن خطأهم.
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به: من أن الله وحده هو ربهم، كان
(1) سورة الأعراف، الآية:173.
(2)
سورة الأعراف، الآية:172.
معهم ما يبين بطلان هذا الشرك، وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء، كان الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية.
كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"، فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها. وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد، حجة في بطلان الشرك، لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
وهذا لا يناقض قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1)
(1) سورة الإسراء، الآية:15.
فإن الرسول يدعو إلى التوحيد. لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم. فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم، ومعرفتهم بذلك، وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله، فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني، لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له، فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله - سبحانه - بكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا" (1) أ. هـ.
(1) درء تعارض العقل والنقل/ تحقيق محمد رشاد سالم - مكتبة ابن تيمية الطبعة الأولى (8/ 490 - 492).
وقال الإمام ابن القيم: (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
فذكر سبحانه لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد:
إحداهما أن يقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين؛ فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته، وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل، وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل.
والثاني أن يقولوا: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) وهم آباؤنا المشركون: أي أفتعاقبنا بذنوب غيرنا؟
فإنه لو قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم، ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم، ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذي الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم؛ إذ كان هو الذي رباه، ولهذا كان أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإذا كان هذا مقتضى العادة والطبيعة، ولم يكن في فطرهم وعقولهم ما يناقض ذلك، قالوا: نحن معذورون وآباؤنا الذين أشركوا، ونحن كنا ذرية لهم بعدهم، ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم. فإذا كان في فطرهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم، كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم، فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية الفعلية السابقة لهذه العادة الطارئة، وكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها.
وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا.
وهذا لا يناقض قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(1). فإن الرسول يدعوإلى التوحيد ولكن الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع (2) لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم.
فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن بأن الله ربهم، ومعرفتهم أمر لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله في تصديق رسله؛ فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة: إني كنت عن هذا غافلا، ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني؛ لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له؛ فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله - سبحانه - لكمال رحمته وإحسانه - لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه - وإن كان فاعلاً لما يستحق به الذم والعقاب - فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما: إحداهما: ما فطره وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم. والثاني: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله؛ فيقوم عليه شاهد الفطرة والشرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا كما قال تعالى:(وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)(3). فلم ينفذ عليه الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين، وهذا غاية العدل" (4) أ. هـ.
وقال ابن كثير: في معرض التدليل على أن المراد بالإشهاد هو فطر العباد على التوحيد:
"قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا (5) هذا (6)، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا (7) - كما قاله من قال - لكان
(1) سورة الإسراء، الآية:15.
(2)
بياض في الأصل، والسياق يقتضي وضع "وإلا".
(3)
سورة الأنعام، الآية:130.
(4)
أحكام أهل الذمة (2/ 563 - 564) - تحقيق: الدكتور صبحي الصالح.
(5)
أي: "بالإشهاد".
(6)
أي: "فطرهم على التوحيد".
(7)
أي: "الإشهاد الحقيقي، والخروج من صلب آدم عليه السلام حقيقة - لأخذ الميثاق".
كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل: إخبار الرسول به كاف في وجوده فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءت به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال:(أَنْ تَقُولُوا) أي: لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، أي: عن التوحيد غافلين. (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا) الآية" (1) أ. هـ.
وقال الفخر الرازي: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) قال المفسرون: المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار: إنما اشركنا لأن آباءنا أشركوا، فقلدناهم في ذلك الشرك، وهو المراد من قوله (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) والحاصل: أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا العذر. وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل، قالوا: معنى الآية أنا نصبنا هذه الدلائل، وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، فما نبهنا عليه منبه، أو كراهة أن يقولوا: إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء" (2).أ. هـ.
وقال القرطبي: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)، بمعنى لست تفعل هذا، ولا عذر للمقلد في التوحيد" (3) أ. هـ.
وقال القاسمي: "تنبيهات - الثاني - تدل الآية على فساد التقليد في
(1) تفسير القرآن العظيم (3/ 506).
(2)
التفسير الكبير (15/ 44).
(3)
الجامع لأحكام القرآن، (14/ 30).
الدين، وتدل على أنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة، وبعدها لا يعذر أحد. ذكره: الجشمي" (1) أ. هـ.
وقال الإمام الطبري: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).
يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم كيلا تقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) إنا كنا لا نعلم ذلك، وكنا في غفلة منه.
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) اتبعنا منهاجهم. أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا، واتباعنا منهاجهم على جهل منا بالحق". (2) أ. هـ.
وقال الإمام الشوكاني: "والمعنى: كراهة: أن يقولوا، أو لئلا يقولوا: أي فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن يقولوا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له. قوله (أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) معطوف على (تَقُولُوا) الأول. أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة؛ أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم، و (أَوْ) لمنع الخلو دون الجمع، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين (مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل زماننا. (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) لا نهتدي إلى الحق، ولا نعرف الصواب (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر، واقتفائنا آثار سلفنا.
بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم. وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذا المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة. (وَكَذَلِكَ) أي:
(1) محاسن التأويل (7/ 2901).
(2)
جامع البيان (9/ 81).
ومثل ذلك التفصيل (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل" (1) أ. هـ.
وقال ابن الوزير اليماني: "ومن ذلك (2) قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(3). وقوله في غير آية: (وأنتم تعقلون)(4)!، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)(5).
فإنها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم: قبح ما هم عليه وبطلانه معاً. إذ لو عرفوا بطلانه بها دون قبحه لم تقم عليهم الحجة، وإنما أرسلت الرسل لقطع عذرهم لكيلا يقولوا: ما حكى الله تعالى عنهم، وذلك لزيادة الإعذار، لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، لا لأنه لا حجة عليهم قبل الرسل أصلاً.
ولذلك صح عند أهل السنة: أن تقوم حجة الله بالخلق الأول في عالم الذر على ما سيأتي بيانه، وذلك قبل الرسل ولم يختلفوا في صحته، وإنما اختلفوا في وقوعه (6) ". (7) أ. هـ.
اللهم منك، البيان. وعلى رسولك، البلاغ. ومنا: التسليم والقبول.
* * *
(1) فتح القدير (2/ 263).
(2)
جاء ذلك في سياق الأدلة الدالة على مقتضى حكمة الرب تعالى، وكذلك حكم التحسين والتقبيح العقلي.
(3)
سورة الملك، الآية:20.
(4)
(وأنتم تعقلون) كذا! والآيات التي وردت فيها كلمة (تعقلون) كثيرة، ولكن لا يوجد في الآيات (وأنتم تعقلون)! فلزم التنبيه.
(5)
سورة الأنفال، الآية:20.
(6)
أي "في كيفية وقوعه".
(7)
إيثار الحق على الخلق/ 193.
المبحث الثالث: عموم حجية الميثاق على كافة البشر:
في بداية هذا المبحث أذكر القارئ مرة أخرى بأثر أبي بن كعب رضي الله عنه والذي جاء فيه: "قال جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم، ثم استنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى: قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: إنا لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي. قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك؛ فأقروا
…
(1).
قال الإمام السيوطي: "وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردوية والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة؛ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه كالنذر، ثم كلمهم قبلا قال:(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا - إلى قوله - الْمُبْطِلُونَ) " (2).
وقال الإمام الطبري: "حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن علية، عن
(1) قد مر تخريجه في المبحث الأول فليراجع هناك.
(2)
الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 155) وقال الشيخ محمود محمد شاكر معلقاً عليه: خبر ابن عباس هذا من حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جيبر، عن ابن عباس، رواه أبو جعفر بخمسة أسانيد: هذا، ورقم: 15339 - 15341، ثم رقم:15350. وهذا الأول هو المرفوع وحده، وسائرها موقوف على ابن عباس. ورواه أبو جعفر بإسناده هذا مرفوعاً في التاريخ 1: 67.
ورواه مرفوعاً احمد في مسنده رقم: 2455، من طريق حسين بن محمد، وهو طريق أبي جعفر. ورواه مرفوعاً أيضاً، الحاكم في المستدرك 1: 27، من طريق إبراهيم بن مرزوق البصري، عن وهب بن جرير بن حازم، عن جرير بن حازم، بمثله، وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد احتج مسلم، بكلثوم بن جبر"، ووافقه الذهبي، ثم رواه في المستدرك 2/ 544 من طريق الحسن بن محمد المروروذي، عن جرير بن حازم، وصححه، ووافقه الذهبي.
وذكره مرفوعاً، الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 25، 7/ 188 - 189، وقال:"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
وأما من رواه موقوفاً فابن جرير بالأسانيد التالية: 15339 - 15341، 15350، وابن سعد في الطبقات 1/ 1/8، من طريق ابن علية، عن كلثوم، ومن طريق حماد بن زيد، عن كلثوم وذكره ابن كثير في تفسيره 3/ 584 - 585، وفي تاريخه 1/ 90، وطال الكلام في تعليله، وجعل كثرة رواه وقفه علة في رد رواية من رفعه، وقال في ص: 589، أنه قد بين أنه موقوف لا مرفوع؛ فقال أخي السيد أحمد في شرح المسند:"وكأن ابن كثير يريد تعليل المرفوع بالموقوف، وما هذه بعلة، والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة صحيحة". وقال أيضاً: "إسناده صحيح". أ. هـ. تفسير الطبري (13/ 222 - 223). وقال الشوكاني: وإسناده لا مطعن فيه. فتح القدير (2/ 263) وقال ابن كثير: رواه أحمد بإسناد جيد قوي على شرط مسلم، ثم رجح وقفه. البداية والنهاية (1/ 83).
وحكم الألباني بأنه على شرط الإمام مسلم وصحح رفعه لسببين:
الأول: أنه في تفسير القرآن، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع
…
الآخر: أن له شواهد مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جمع من الصحابة. أ. هـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/ 158 - 159) حديث رقم / 1623.
شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: "مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة"(1).
وقال الإمام السيوطي:
"وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: إن الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى يوم القيامة فأخرجهم مثل الذر ثم قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) قالت الملائكة: شهدنا. ثم قبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة. ثم قبض قبضة أخرى فقال: هؤلاء في النار ولا أبالي.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) قال: عن الميثاق الذي أخذ عليهم. (أَوْ
(1) تفسير الطبري - بتحقيق محمود وأحمد شاكر - وقال محمود شاكر: صحيح الإسناد (13/ 228).
تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ) فلا يستطيع أحد من خلق الله من الذرية أن يقولوا: إنما أشرك آباؤنا ونقضوا الميثاق، وكنا نحن ذرية من بعدهم أفتهلكنا بذنوب آبائنا، وبما فعل المبطلون" (1). أ. هـ.
قلت: ويراجع أثر أبي بن كعب في قوله تعالى (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(2) الذي قال فيه: "هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقروا كلهم بالعبودية وفطرهم على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين"(3).
وقال ابن كثير:
"قد فطر - أي الله جل ثناءه - الخلق كلهم على: معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم (4) ".
وقال السيد صديق خان: "فأقر الجميع بأنك ربنا، واعترفوا بربوبيته سبحانه فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعبدوا إلا إياه، ولا يعتقدوا أحداً الحاكم والمالك سواه، وأن لا يؤمنوا إلا به. فاعترفت الذرية كلها بذلك"(5).
وبهذا القدر يكون قد تم هذا الفصل بفضل الله وعونه.
* * *
(1) الدر المنثور (3/ 158).
(2)
سورة آل عمران، الآية:106.
(3)
قد مر في المبحث الأول، فليراجع.
(4)
تفسير القرآن العظيم 3/ 401).
(5)
الدين الخالص (1/ 408).