الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَصَابَ للَّه دَرُّهُ، وَقَدِ ارْتَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ لِيَحْظَى عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ طَاهِرٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ النَّحْوَ فَمَرِضَ هُنَاكَ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فَتَمَثَلَ عِنْدَ الْمَوْتِ:
يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ
…
فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الأمل
يربى فسيلا ليبقى له
…
فَعَاشَ الْفَسِيلُ وَمَاتَ الرَّجُلْ
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ أَخِيهِ فَدَمَعَتْ عين أخيه فاستفاق فَرَآهُ يَبْكِي فَقَالَ:
وَكُنَّا جَمِيعًا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا
…
إِلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى فَمَنْ يَأْمَنُ الدَّهَرَا
قال الخطيب البغدادي: يقال إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ ثِنْتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
تْ:
عُفَيْرَةُ الْعَابِدَةُ
كَانَتْ طَوِيلَةَ الْحُزْنِ كَثِيرَةَ الْبُكَاءِ. قَدِمَ قَرِيبٌ لَهَا مِنْ سَفَرٍ فَجَعَلَتْ تبكى، فقيل لها في ذلك فَقَالَتْ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ القدوم على الله، فمسرور وَمَثْبُورٍ. وَفِيهَا مَاتَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ، كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ لِسُوءِ حِفْظِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إحدى وثمانين ومائة
فيها غزا الرَّشِيدُ بِلَادَ الرُّومِ فَافْتَتَحَ حِصْنًا يُقَالُ لَهُ الصَّفْصَافُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حفصة:
إن أمير المؤمنين المنصفا
…
قَدْ تَرَكَ الصَّفْصَافَ قَاعًا صَفْصَفًا
وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ بِلَادَ الرُّومِ فَبَلَغَ أَنْقَرَةَ وَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ. وَفِيهَا تَغَلَّبَتِ الْمُحَمِّرَةُ عَلَى جُرْجَانَ. وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عز وجل. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ وَتَعَجَّلَ بالنفر، وَسَأَلَهُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ الولاية فأعفاه وأقام يحيى بمكة.
وفيها توفى:
الحسن بن قحطبة
أحد أكابر الأمراء، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، وَخَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ شَيْخُ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ:
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ، كَانَ أَبُوهُ تُرْكِيًّا مَوْلًى لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ مِنْ بنى حنظلة من أهل همذان، وكان ابْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا قَدِمَهَا أَحْسَنَ إِلَى وَلَدِ مولاهم، وكانت أمه خوارزمية، ولد لثمان عشرة ومائة، وسمع إسماعيل بن خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وحميد الطَّوِيلَ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ والعربية والزهد والكرم والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن الْمُتَضَمِّنُ حِكَمًا جَمَّةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ يَدُورُ يَتَّجِرُ بِهِ فِي الْبُلْدَانِ، فَحَيْثُ اجْتَمَعَ بعالم أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرْبُو كَسْبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ يُنْفِقُهَا كُلَّهَا فِي أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله. قال
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ الصحابة فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، وَمَا أَعْلَمُ خَصْلَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي. ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَلِقَدْ حَدَّثَنِي أَصْحَابِي أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَكَّةَ فَكَانَ يُطْعِمُهُمُ الْخَبِيصَ وَهُوَ الدَّهْرَ صَائِمٌ. وقد مرة الرقة وبها هارون الرشيد، فلما دخلها احتفل الناس به وَازْدَحَمَ النَّاسُ حَوْلَهُ، فَأَشْرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِلرَّشِيدِ مِنْ قَصْرٍ هُنَاكَ فَقَالَتْ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقِيلَ لَهَا: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَانْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الْمُلْكُ، لَا مُلْكَ هَارُونَ الرَّشِيدِ الذى يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ.
وَخَرَجَ مَرَّةً إِلَى الْحَجِّ فَاجْتَازَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ فَمَاتَ طَائِرٌ مَعَهُمْ فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وَسَارَ أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَخَلَّفَ هُوَ وَرَاءَهُمْ، فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَزْبَلَةِ إِذَا جَارِيَةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ دَارٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا فَأَخَذَتْ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْمَيِّتَ ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت:
أنا وأخى هنا ليس لنا شيء إلا هذا الازار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فَظُلِمَ وَأُخِذَ مَالُهُ وَقُتِلَ. فَأَمَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِرَدِّ الْأَحْمَالِ وَقَالَ لِوَكِيلِهِ:
كَمْ مَعَكَ مِنَ النفقة؟ قال: أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَالَ: عُدَّ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا تَكْفِينَا إِلَى مَرْوَ وَأَعْطِهَا الْبَاقِيَ. فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ حَجِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ، ثُمَّ رَجَعَ.
وَكَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: من عزم منكم في هذا العام على الحج فليأتني بنفقته حتى أكون أنا أنفق عليه، فكان يأخذ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ، وَيَكْتُبُ عَلَى كُلِّ صُرَّةٍ اسْمَ صَاحِبِهَا وَيَجْمَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي أَوْسَعِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالرُّكُوبِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَضَوْا حَجَّتَهُمْ فيقول لَهُمْ: هَلْ أَوْصَاكُمْ أَهْلُوكُمْ بِهَدِيَّةٍ، فَيَشْتَرِي لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا وَصَّاهُ أَهْلُهُ مِنَ الْهَدَايَا الْمَكِّيَّةِ وَالْيَمَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةَ اشترى لهم منها الهدايا المدنية، فإذا رجعوا إلى بلادهم بَعَثَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَأُصْلِحَتْ وبيضت أبوابها ورمم شعثها، فإذا وصلوا إلى البلد عَمِلَ وَلِيمَةً بَعْدَ قُدُومِهِمْ وَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا وَكَسَاهُمْ، ثُمَّ دَعَا بِذَلِكَ الصُّنْدُوقِ فَفَتَحَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ تِلْكَ الصُّرَرَ ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُهُ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ شَاكِرُونَ نَاشِرُونَ لِوَاءَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ. وَكَانَتْ سُفْرَتُهُ تُحْمَلُ عَلَى بَعِيرٍ وَحْدَهَا، وَفِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ مِنَ اللَّحْمِ والدجاج والحلوى وغير ذلك، ثم يطعم الناس وهو الدهر صائم فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ.
وَسَأَلَهُ مَرَّةً سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يأكلون الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ، وَقَدْ كَانَ يَكْفِيهِ قِطْعَةٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَأْكُلُ إِلَّا الْبَقْلَ والخبز، فأما إذا كان يأكل الفالوذج والشواء فإنه لا يكفيه درهم. ثم أمر بعض غلمانه فقال: رده وادفع إليه عشرة دراهم. وفضائله ومناقبه كثيرة جدا.