الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأسروا نساءهم، فلما بلغ ذلك المعتصم انزعج لذلك جدا وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلاثة صدقة وثلاثة لولده وثلاثة لِمَوَالِيهِ. وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فَعَسْكَرَ غَرْبَيْ دِجْلَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَوَجَّهَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُجَيْفًا وَطَائِفَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زيطرة، فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ فَوَجَدُوا مَلِكَ الرُّومِ قَدْ فَعَلَ ما فعل وانشمر راجعا إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لا علامة بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ، فَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ: أَيُّ بِلَادِ الرُّومِ أَمْنَعُ؟ قَالُوا: عَمُّورِيَةُ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا أَحَدٌ مُنْذُ كَانَ الْإِسْلَامُ، وَهِيَ أَشْرَفُ عندهم من القسطنطينية.
ذِكْرُ فَتْحِ عَمُّورِيَةَ عَلَى يَدِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا تفرغ المعتصم من بابك وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ بِلَادَهُ اسْتَدْعَى بِالْجُيُوشِ إِلَى بَيْنِ يديه وتجهز جهازا لم يجهزه أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَأَخَذَ مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْأَحْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْقِرَبِ وَالدَّوَابِّ وَالنِّفْطِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وسار إلى عمّورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سروج، وعبى جيوشه تَعْبِئَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأُمَرَاءَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحَرْبِ، فَانْتَهَى فِي سَيْرِهِ إِلَى نهر اللسى وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ طَرَسُوسَ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ من هذه السنة. وَقَدْ رَكِبَ مَلِكُ الرُّومِ فِي جَيْشِهِ فَقَصَدَ نَحْوَ الْمُعْتَصِمِ فَتَقَارَبَا حَتَّى كَانَ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ، وَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَ الروم من ناحية أخرى، فجاءوا في أثره وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِنْ هُوَ نَاجَزَ الْخَلِيفَةَ جَاءَهُ الْأَفْشِينُ مِنْ خَلْفِهِ فَالْتَقَيَا عَلَيْهِ فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه. ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنْهُ الْأَفْشِينُ فَسَارَ إِلَيْهِ مَلِكُ الروم في شرذمة من جيشه واستخلف على بقية جيشه قريبا له فالتقيا هُوَ وَالْأَفْشِينُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ من شعبان منها، فَثَبَتَ الْأَفْشِينُ فِي ثَانِي الْحَالِ وَقَتَلَ مِنَ الروم خلقا وجرح آخرين، وتغلب على مَلِكِ الرُّومِ وَبَلَغَهُ أَنَّ بَقِيَّةَ الْجَيْشِ قَدْ شَرَدُوا عَنْ قَرَابَتِهِ وَذَهَبُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ فَإِذَا نِظَامُ الْجَيْشِ قَدِ انْحَلَّ، فَغَضِبَ عَلَى قَرَابَتِهِ وَضَرَبَ عُنُقَهُ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بذلك كله إلى المعتصم فسره ذلك وركب مِنْ فَوْرِهِ وَجَاءَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَوَافَاهُ الْأَفْشِينُ بمن معه إلى هناك، فوجدوا أهلها قد هربوا منه فتقووا منها بما وجدوا من طعام وغيره، ثُمَّ فَرَّقَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ فَالْمَيْمَنَةُ عَلَيْهَا الْأَفْشِينُ، وَالْمَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أَشْنَاسُ، وَالْمُعْتَصِمُ فِي الْقَلْبِ، وَبَيْنَ كُلِّ عَسْكَرَيْنِ فَرْسَخَانِ، وَأَمَرَ كُلَّ أَمِيرٍ مِنَ الْأَفْشِينِ وَأَشْنَاسَ أَنْ يَجْعَلَ لِجَيْشِهِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَمُقَدِّمَةً وَسَاقَةً، وَأَنَّهُمْ مَهْمَا مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا، وَسَارَ بِهِمْ كَذَلِكَ قَاصِدًا إِلَى عمّورية، وكان بينهما وبين مدينة أَنْقِرَةَ سَبْعُ مَرَاحِلَ، فَأَوَّلُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا من الجيش أَشْنَاسُ أَمِيرُ الْمَيْسَرَةِ ضَحْوَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً ثُمَّ نَزَلَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْمُعْتَصِمُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهُ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُهَا تحصنا شديدا وَمَلَئُوا أَبْرَاجَهَا بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا ذَاتُ سُورٍ مَنِيعٍ وَأَبْرَاجٍ عَالِيَةٍ كبار كثيرة. وَقَسَّمَ الْمُعْتَصِمُ الْأَبْرَاجَ عَلَى الْأُمَرَاءِ فَنَزَلَ كُلُّ أَمِيرٍ تُجَاهَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَقْطَعُهُ وَعَيَّنَهُ لَهُ، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المسلمين، وكان قد تنصر عنده وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَخَرَجَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَأَسْلَمَ وَأَعْلَمَهُ بِمَكَانٍ فِي السُّورِ كَانَ قَدْ هَدَمَهُ السيل وبنى بناء ضعيفا بِلَا أَسَاسٍ، فَنَصبَ الْمُعْتَصِمُ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ عَمُّورِيَةَ فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الّذي دلهم عليه ذَلِكَ الْأَسِيرُ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ فَسَدُّوهُ بِالْخَشَبِ الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تُغْنِ شَيْئًا، وَانْهَدَمَ السُّورُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ وَتَفَسَّخَ. فَكَتَبَ نَائِبُ الْبَلَدِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ ذَلِكَ مَعَ غُلَامَيْنِ مِنْ قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمون أَمْرَهُمَا فَسَأَلُوهُمَا مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَا: مِنْ أَصْحَابِ فلان- لأمير سموه من أمراء الْمُسْلِمِينَ- فَحُمِلَا إِلَى الْمُعْتَصِمِ فَقَرَّرَهُمَا فَإِذَا مَعَهُمَا كتاب مناطس نَائِبِ عَمُّورِيَةَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْحِصَارِ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِ الْبَلَدِ بِمَنْ مَعَهُ بَغْتَةً على المسلمين ومناجزهم القتال كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا كَانَ. فَلَمَّا وَقَفَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ بِالْغُلَامَيْنِ فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وأن يعطى كل غلام مِنْهُمَا بِدُرَّةٍ، فَأَسْلَمَا مِنْ فَوْرِهِمَا فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُطَافَ بِهِمَا حَوْلَ الْبَلَدِ وَعَلَيْهِمَا الْخُلَعُ، وأن يوقفا تحت حصن مناطس فَيُنْثَرَ عَلَيْهِمَا الدَّرَاهِمُ وَالْخُلَعُ، وَمَعَهُمَا الْكِتَابُ الَّذِي كتب به مناطس إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فَجَعَلَتْ الرُّومُ تَلْعَنُهُمَا وَتَسُبُّهُمَا. وثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ مِنْ خُرُوجِ الرُّومِ بَغْتَةً، فَضَاقَتْ الرُّومُ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْحِصَارِ، وَقَدْ زاد المعتصم في المجانيق والد بابات وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا رَأَى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وَكَانَ قَدْ غَنِمَ فِي الطَّرِيقِ غَنَمًا كَثِيرًا جدا ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأسا ويجيء بِمِلْءِ جِلْدِهِ تُرَابًا فَيَطْرَحُهُ فِي الْخَنْدَقِ، فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ فَتَسَاوَى الْخَنْدَقُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ مَا طُرِحَ فِيهِ مِنَ الْأَغْنَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالتُّرَابِ فَوُضِعَ فَوْقَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا مُمَهَّدًا، وَأَمَرَ بِالدَّبَّابَاتِ أَنْ تُوضَعَ فَوْقَهُ فَلَمْ يُحْوِجِ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ. وَبَيْنَمَا النَّاسُ في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فَلَمَّا سَقَطَ مَا بَيْنَ الْبُرْجَيْنِ سَمِعَ النَّاسُ هَدَّةً عَظِيمَةً فَظَنَّهَا مَنْ لَمْ يَرَهَا أَنَّ الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى فِي النَّاسِ: إِنَّمَا ذَلِكَ سُقُوطُ السُّورِ. فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا. وقوى الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه،